Llamado a la Verdad
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Géneros
لا شك أن محاولة الإنسان تأكيد ذاته تأكيدا مطلقا هي النزعة الغالبة على الفلسفة الحديثة، وهي أم المشكلات التي نبتت من سيطرة الروح «التعالمية»
150
والتقنية، وجذور هذه المحاولة تمتد إلى عبارة «بيكون» التي كتبت على بوابة الزمن الحديث: العلم قوة، كما تبدأ من حيث المبدأ مع توحيد ديكارت بين الحقيقة واليقين، وتقصيره في سؤال نفسه إن كان هذا اليقين هو الأساس النهائي الذي تقوم عليه الحقيقة من حيث هي كذلك.
ولقد بلغت هذه الذاتية الإنسانية ذروة تأكدها على يدي نيتشه وكيركجورد من ناحية، وأيدي العلماء والفلاسفة الوضعيين من ناحية أخرى، كما بلغت ذروة انتصارها وخطرها في النزعة التقنية المعاصرة، وقارئ هيدجر يعلم أنه لا يفصل هذه النزعة الأخيرة عن النزعة الذاتية في فهم الحقيقة بمعنى الصحة أو الصواب والتطابق التي بدأت خطواتها الأولى في تاريخ الميتافيزيقا مع تفكير أفلاطون، فالتقنية هي الانتصار العظيم الذي حققته الميتافيزيقا الغربية، وهي لا تعدو أن تكون طريقة لمد هذه الميتافيزيقا على الموجود بكليته.
ونحن نشهد اليوم كيف تحول هذا الانتصار - الذي يعبر عن نسيان للعلاقة الأصلية التي تجمعه بالسر - إلى ألوان من الحيرة والعجز واليأس والاغتراب في مواجهة أخطار التقنية، ونشهد أيضا كيف انقلب هذا الوليد المعجز (ألقيت بذرته الحية يوم ألقى أول إغريقي متفلسف سؤاله القدري ما الموجود؟) إلى طاغية ينشر ظلام المحنة على العصر الذي نعيش فيه.
الإنسان يحاول أن يستند إلى الموجود، أن يجد الراحة فيه، أن يختصه بعنايته وتفكيره، أي يحاول - بتعبير هيدجر - أن يتداخل ... صحيح أنه بطبيعته يدخل دائما في علاقة بالموجود، ولكنه أصبح الآن يتمسك بهذا الموجود ويستمد منه مقاييسه، دون أن يسأل نفسه عن ماهية هذه المقاييس أو الأساس الذي تقوم عليه؛ ولهذا يقول هيدجر هذه العبارة التي احتاجت منا إلى الوقوف عندها: «إن الموجود الإنساني-بتخارجه-متداخل.» في هذا التخارج المتداخل لم يعد للسر مكان، لقد فقد ماهيته.
هكذا يكون هيدجر قد تبين أهمية السر بالنسبة للموجود الإنساني، وشرح لنا كيف نسي هذا السر والنتائج المترتبة على هذا النسيان في حياة الإنسان المتشبث بذاته وبالموجودات، وبهذا يكون أيضا قد أكد الرابطة التي تؤلف بين الحقيقة واللاحقيقة، وأوضح لنا - على طريقته بالطبع! - أن اللاحقيقة هي الأساس الذي تنهض عليه الحقيقة وتنمو وتتفتح. •••
ويجيء الفصل السابع فيتناول العلاقة بين النسيان والسر، بين انفتاح الموجود الإنساني أو تخارجه في اتجاه الموجود وبين تمسكه بالجانب الشائع المعتاد منه أو تداخله المؤدي إلى الضلال، هذا التداخل مستحيل بغير التخارج، ولهذا يقول هيدجر إن الموجود الإنساني متداخل ومتخارج، أو منفتح ومتواجد معا، إنهما يتحدان ليكونا أسلوب الوجود الذي يمتاز به الوجود الإنساني متداخل ومتخارج، أو منفتح ومتواجد معا، إنهما يتحدان ليكونا أسلوب الوجود الذي يمتاز به الموجود الإنساني، فهو بتخارجه يكون على علاقة بالسر؛ لأن كشف الموجود لا يتم إلا على أساس التحجب الذي ينبثق عنه هذا الكشف، ولكنه بتداخله، أي تمسكه بالموجود وتشبثه بخصائصه وتحديداته، تختلط عليه الرؤية، وينسى علاقته الأصيلة بالتحجب والسر، وتتهدده الحيرة والخطأ والضلال، صحيح أنه يتخذ من الموجود مقياسا لأوجه نشاطه المختلفة، ولكنه ينغمس فيه فينسى الأساس الذي يستند إليه اختيار هذا المقياس، أي ينسى السر، بيد أن الموجود - الجزئي الخاص - لا يستمد أهميته ووجوده نفسه إلا من خلال علاقته الوثيقة بالموجود بكليته (أو إن شئت بالوجود)، وهذه العلاقة الأصلية يحوطها السر، ولهذا فإن الوقوف عند الموجود والاستغراق فيه والتصلب على تحديداته المباشرة واتخاذه مقياسا للأفعال، معناه الوحيد هو الانصراف عن السر وضياع الجذور، ومهما حاولنا أن نستخف بالسر ونرجم من ينبهنا إليه بأحجار الكلمات السهلة والشعارات المحفوظة، مهما نسيناه أو تناسيناه وأنكرناه، فلن يفلح هذا في إلغائه؛ لأن النسيان والتناسي والإنكار لا تزال جميعها تعبيرا عن صورة من صور العلاقة التي تربطنا به، أليس أدل على هذا من لهفة الإنسان وقلقه وتخبطه من موجود إلى آخر، دون أن يجد في واحد منها السلام والراحة التي يرجوها؟ ألا يحق للفيلسوف أن يقول إن لهفة الإنسان بين الهروب من السر واللجوء إلى الواقع المعتاد واندفاعه من موضوع يومي إلى آخر، وغفلته المستمرة عن السر، كل هذا هو «الضلال».
وما هو الضلال؟ ليس سلوكا عرضيا ينجم عن خطأ أو سهو عارض يمكن تصحيحه وتحاشيه، إنما هو الذي يحدده وجود الإنسان تحديدا أوليا؛ ومن ثم يحدد سلوكه، ولا يعني هذا أن الضلال قدر محتوم لا فكاك منه؛ لأنه لا ينفي أننا نملك القدرة على مواجهته، بل ينبغي علينا أن نواجهه: «ليس الضلال الذي يمضي فيه الإنسان شيئا يسعى بجانبه ويحاذي طريقه كأنه حفر يسقط فيها أحيانا، وإنما هو جزء من تكوين الموجود الإنساني الذي خلى بين الإنسان التاريخي وبينه».
من أين تأتي حتمية الضلال؟ من الحقيقة التي عرفناها من قبل، وهي أن الإنسان لا يمكنه أن «يكشف» إلا بقدر ما يحتجب، وأنه هو نفسه يخفي هذا التحجب عن نفسه؛ ولهذا تظل علاقتنا نفسها بالتحجب محتجبة.
Página desconocida