Llamado a la Verdad
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Géneros
إن «الوجود-في» هو أحد «الوجودات» التي قلنا إنها تميز «الموجود الإنساني»، وهو يعني حالة من الإلف، فالشيء الذي آلفه هو الشيء الذي أكون بالقرب منه أو أتريث عنده أو أقيم بجواره، وإذا كنا لا نستطيع أن ننظر إلى «الوجود-في» على أنه نوع من الاحتواء في المكان، فليس معنى هذا أن الموجود الإنساني لا علاقة له بالمكان، بل معناه أن علاقته به لا يمكن أن تفهم على غرار الأشياء المحتواة في المكان، ويجب ألا نتصور أيضا أننا نستطيع أن نتوصل إلى هذا «الوجود-في» عن طريق المعرفة على اختلاف نظرياتها؛ لأن الأمر في الحقيقة على العكس من هذا، فنحن لا نتوصل أبدا إلى هذا الأسلوب النوعي الذي يطلق عليه اسم المعرفة إلا لأننا على الدوام في حالة إلف بالموجود، وهذا الإلف يتجلى في صور شتى من الانشغال به والاهتمام بأمره.
بهذا يكون هيدجر قد غافلنا وقلب التصور السائد الذي درجنا عليه منذ القدم، وجعلنا نعتقد أن المعرفة هي الأساس الأول لكل أسلوب نتخذه في التعامل مع الموجود! فنحن نقيم أولا مع الموجود، نتصرف فيه ونحتاج إليه ونهتم بأمره ونستخدمه في شئون حياتنا، وهذا وحده هو الذي يجعلنا نتخطى كل هذه المواقف التي تتناوله فيها لكي نبتعد قليلا عنه وندخل معه في علاقة تأمل، هذا التأمل المعرفي ليس هو الأصل على كل حال، ومعنى هذا أيضا أن كل بداية من نظرية المعرفة إنما تقفز فوق الأساس الذي تقوم عليه؛ ولهذا فإن الصدارة والتفوق اللذين نميل إلى إعطائهما لفعل المعرفة الخالصة ليسا إلا وهما ينخدع به صاحب نظرية المعرفة نفسه، وليس معنى هذا مرة أخرى أن هيدجر يتخلى عما نسميه نظرية المعرفة، بل معناه أن يرتد بسؤاله إلى الأساس الأصلي الذي تتبنى عليه حتى نتبين أن المعرفة الخالصة تستبعد التعامل المباشر مع الوجود، وأن هذه المعرفة نفسها ليست إلا ضربا من الوجود-مع الأشياء، وإن يكن قد صرف النظر عن التعامل المعتاد مع الموجود، وليس من شك عندي في أن هيدجر قد استفاد في هذا من تأملات من دي بيران (الذي لم يشر إليه)! عن الجهد والمقاومة الإرادية التي تعيننا على الوصول إلى الوعي بالذات، ومن أفكار «دلتاي» فيلسوف الحياة ومؤسس مناهج العلوم الإنسانية عن تجربتنا للواقع من خلال الإرادة و«الدافع» اللذين يقاومهما هذا الواقع، وبحوث «ماكس شيلر» المتأخرة التي تأثر فيها بآراء «دلتاي» وعبر عن نظريته الإرادية عن الوجود والوعي والإنسان، كما أكد فيها أن وجود الموضوعات لا يعطى بصورة مباشرة إلا في علاقتها بالدافع والإرادة، وأن الواقع لا يقدم لنا في الأصل من خلال الفكر والإدراك، حتى لقد ذهب إلى حد القول بأن فعل المعرفة نفسه ليس هو فعل الحكم، وإنما هو «علاقة بالوجود»،
31
وإن كان هيدجر يأخذ على هذه المحاولات جميعا أنها تفتقر إلى التحليلات الأنطولوجية الضرورية عن معنى الوعي والواقع والوجود والعلاقة بينها.
مهما يكن من شيء فإن هذا كله يقودنا إلى صميم المشكلة القديمة التي حيرت الفلاسفة: كيف تخرج «الذات» من عالمها الباطن لكي تصل إلى «الموضوع» الموجود في الخارج؟ يبدو أن هيدجر لا يحاول فك خيوط هذه العقدة الأزلية، ولا يتردد في إزاحتها بضربة «قاضية» يعلن بها أن مشكلة وجود الواقع الخارجي وإثباته وعلاقة الذات به مشكلة زائفة لا تستحق عناء لحظة واحدة من التفكير! لماذا؟ لأن الموجود- الإنساني، باعتباره وجودا-في-العالم، موجود دائما في الخارج، أي في العالم المألوف، لنستمع إليه وهو يقول: «إن الموجود-الإنساني في اتجاهه إلى الموجودات وإدراكه لها لا يحتاج لمغادرة مجاله الداخلي الذي نتصوره حبيسا فيه،
32
وإنما هو دائما بحسب طبيعة وجوده الأولية، موجود دائما «في الخارج»، بالقرب من الموجود الذي يلتقي به في عالم تم اكتشافه بالفعل، ثم إن إدراك الشيء المعروف ليس بمثابة رجوع بالفريسة التي غنمناها من الإدراك الخارجي إلى «بيت» الوعي والشعور، وإنما يظل الموجود-الإنساني العارف - في أفعال الإدراك والاحتفاظ بما يدركه والإبقاء عليه - دائما في الخارج بوصفه موجودا إنسانيا هنا هو هناك في هذا العالم.»
33
إنه إذا ليس بحاجة لما نسميه «بالعلو» أو التخطي والتجاوز، إلى العالم؛ لأنه على الدوام «بالخارج» مع الموجودات التي يصادفها في هذا العالم، كما أنه دائما «بالداخل» باعتباره وجودا-في-العالم يهتم بالأشياء وينشغل بأمرها، والخلاصة أن المعرفة ليست هي التي تمكننا من إقامة العلاقة التي تربطنا بالعالم، بل إنها تفترض هذه العلاقة من قبل؛ بحيث لا تعدو أن تكون مجرد «تحول» لهذه العلاقة نفسها: «في فعل المعرفة يكتسب الموجود الإنساني موقف وجود جديد من العالم الذي سبق اكتشافه فيه»، كما أن المعرفة لا تخلق علاقة «تبادل» بين الذات والعالم، ولا هذه العلاقة تنشأ من تأثير العالم على الذات، إن المعرفة حال من أحوال الوجود الإنساني، يقوم على أساس الوجود-في-العالم،
34
Página desconocida