Llamado a la Verdad
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Géneros
ولكن هل يمكننا أن نسأل عن الوجود ومعناه إن لم نسال قبل ذلك عمن يطرح السؤال ونحلل مقومات وجوده؟ إن الفيلسوف يضعنا منذ البداية في الموقف الذي ينبغي أن نضع أنفسنا فيه، فإذا كان لنا أن نطرح السؤال بصورة واضحة ونحققه عن بصيرة، فإن هذا يقتضي منا أن نفسر طريقة النظر إلى الوجود، ونشرح أسلوب إدراكه وفهم معناه، ونمهد لاختيار الموجود النموذجي الذي يقوم بهذا ونبين المدخل الأصيل إليه، والنظر والفهم والتصور والاختيار كلها من أساليب السؤال؛ ومن ثم فهي نفسها أحوال موجود محدد، هذا الموجود الذي هو نحن أنفسنا الذين نطرح السؤال، معنى هذا أن تناول السؤال عن الوجود ينصرف إلى الكشف عن الموجود الذي يسأل عنه من جهة معناه، هذا الموجود الذي هو نحن أنفسنا والذي يملك إمكانية السؤال هو الذي سنصطلح على تسميته ب «الموجود الإنساني»، وهكذا يتطلب السؤال الصريح الواضح عن معنى الوجود أن يسبقه تفسير مناسب لهذا الموجود الذي نصفه بالدازاين أو الموجود الإنساني من جهة وجوده.
9
لا سبيل إذن لشرح السؤال عن الوجود إن لم نبدأ بتحليل السائل، ولن نستطيع تناول السؤال كله تناولا موضوعيا حتى نمهد له بالبحث عن نوع وجود هذا الذي يضعه، على أنه ينبغي علينا منذ البداية ألا ننسى لحظة واحدة أن الأصل هو السؤال عن معنى الوجود، وأن تحليل «الوجودات» أو مقومات الموجود الإنساني - وهو كما عرفنا الموجود البشري الذي ينفرد بطرح هذا السؤال - هو الطريق الأساسي والمعبر الوحيد إليه، ولا يصح أن يفهم من كلامنا عن الطريق والمعبر أن هذا التحليل مجرد تمهيد لموضوع الوجود أو أنه شيء إضافي يقع على هامشه؛ إذ إن السؤال الأساسي يتطلب هذا التحليل لنوع وجود الموجود الذي اتفقنا على تسميته بالموجود الإنساني تمييزا له عن غيره من الموجودات التي سيأتي الحديث عنها كالموجودات الحاضرة أمامنا أو التي تقع في متناول أيدينا، إن السائل ينفرد عن غيره من الكائنات، فلا يكفي أن نقول عنه إنه يكون وحسب، بل ينبغي أن ننتبه دائما إلى أنه هو الموجود الذي يهتم بوجوده،
10
ولا ينبغي أيضا أن يقع في وهمنا أن تحليل الموجود الإنساني يتصل من قريب أو من بعيد بما نعرفه من تأملات وتحليلات أنثروبولوجية ونفسية واجتماعية، فالهدف الوحيد من هذا التحليل هو التعرف على ماهية ذلك الكائن القادر على السؤال عن الوجود، بل المتميز دون سائر الكائنات بفهم محدد للوجود.
يصف هيدجر السؤال عن معنى الوجود بأنه «أنطولوجيا أساسية»، ولا تريد هذه الأنطولوجيا الأساسية أن تقدم لنا تصورا شاملا عن الوجود بقدر ما تريد أن تحلل أسلوب وجود من يقوم بالسؤال عنه وتبين «البناءات» الرئيسية التي تكون مقومات وجوده أو بالأحرى «وجوداته»، ووجود هذا السائل يفترق عن سائر الموجودات في كونه على علاقة دائمة مع نفسه، هذه القدرة على التعلق بذاته، وفهم إمكانيات وجوده - بل الإمساك بها! - تعبر عن خاصية أساسية في تكوين هذا الموجود الذي يتميز «بالتواجد»،
11
والتواجد مصطلح ينطبق على الإنسان وحده، وتحديداته البنائية، أو وجوداته، تتميز تميزا واضحا عن تحديدات سائر الموجودات غير الإنسانية؛ إذ سنصف هذه التحديدات الأخيرة بأنها تحديدات مقولاتية، وينبغي أن نتنبه إلى هذه التفرقة التي لم تفطن إليها الأنطولوجيا التقليدية، صحيح أن الموجودات غير الإنسانية توجد أيضا أو تكون ولكنها لا تتواجد، ولا تقدر على الدخول في علاقة مع نفسها.
ما هي إذن المهمة المزدوجة في تناول السؤال عن الوجود؟ إنها تقوم من ناحية على تحليل الموجود الإنساني، ومن ناحية أخرى على ما يسميه هيدجر «تحطيم تاريخ الأنطولوجيا».
لنبدأ بالمهمة الأولى، نحن الذين نتواجد، ولهذا يؤثر الفيلسوف - كما قدمنا - أن ينحت لنا مصطلحا يميزنا عن سائر الموجودات، وهو مصطلح الدازاين أو الموجود الإنساني كما تقدم، وأخص خصائص وجودنا هي أننا نعيش ونتحرك دائما من خلال فهم محدد للوجود، يبدو إذن أن من السهل علينا أن نقول شيئا عن هذا الموجود الإنساني، غير أننا نتوهم هذا، فنحن في العادة لا نملك مقاومة الإغراء الذي يحملنا على أن نفهم أنفسنا من خلال الموجود الذي «لا نكونه»، هذا الموجود الذي نتخذ منه على الدوام مسلكا معينا ونصفه بأنه «العالم»، هذا الموجود المختلف تمام الاختلاف عن «موجوديتنا» يغرينا بأن نتخذ منه نموذجا للفهم، أن نتصور أنفسنا على غراره، هكذا يعرف الإنسان ما يتعامل معه بأفضل مما يعرف نفسه! وهذا يفرض علينا أن ننظر إلى الموجود الإنساني في أقرب أحواله وأكثرها حظا من الألفة والتكرار، أي في حياته اليومية، كما يحقق المطلب الفينومينولوجي الذي يحرم علينا أن نبدأ من مشروع مثالي، لكي نتمكن من رؤية الإنسان في أسلوب حياته ووجوده المعتاد، ولكن ليس الهدف من هذه الرؤية أن يستغرقنا وصف هذا الأسلوب في الحياة والوجود، وإنما الهدف منه أن نوضح الأسس التي يقوم عليها، أي «البناءات الماهوية» أو مقومات الوجود أو «الوجودات».
Página desconocida