ولا ندري كيف لم يعرج الركبي على أصل ذَكَرَه اشتقاقى كبير، كالزجاج، هو أولى بالتقديم من هذا الأخير الذى ذكره، فقد استعرض الزجاج (٩٢) الأصول والمعانى السابقة، ثم قال: وأصل هذا كله عندى من اللزوم، يقال: صلى وأصلى واصطلى: إذا لزم، ومن هذا يصلى في النار، أى أنه يلزم. . . وكذلك الصلاة: إنما هى: لزوم ما فرض الله، والصلاة من أعظم الفرض الذى أمر بلزومه.
وما ذكره في أيام التشريق تابع فيه الجوهري، وكله ثابت ومقرر عن أئمة اللغة كالأصمعي، وابن السكيت وأبي عبيد، وابن الأنباري، والزمخشري، وابن الأثير، وغيرهم (٩٣).
وشرح الركبي ملىء بمثل هذه الاشتقاقات، يذكرها متابعة لأئمة اللغة، أو يستخلصها بحاسته اللغوية فيرد البئر إلى بأر بمعنى حفر، والاحتياط والحائط: من حاطه يحوطه، والاحتراز: من الحرز الذى يمنع وصول ما يكره، والمزادة: من الزيادة التى تزاد فيها من جلد ثالث، والمخمصة: من الخموص، وهو ضمور البطن، والجدرى: من جدر بمعنى نتأ وارتفع، ومنه الجدار، والحمام: من الماء الحميم وهو: الحار، والخمار: من التخمير، وهو التغطية، ومنه الخمر؛ لأنها تغطى العقل، والإزاز: من المؤازرة، وهى: المساعدة والمعاونة، والمحراب: من الحرب؛ لأنه يدافع عنه ويحارب دونه، والمعاركة بمعنى القتال: من عَرَكَت الرحى الحب: إذا طحنته، والجنين: من الجنة، وهو: ما استترت به من سلاح، ومن الجن؛ لاستتارهم، والبر قمح: من قامحت الناقة: إذا رفعت رأسها، وأقمح الرجل: إذا شمخ بأنفه، والسكين: من تسكين الذبيحة، والسحور: من السحر، وهو: آخر الليل. وغير ذلك مما يطالعنا به الركبي في شرحه.
وكنت أحسبه يبعد في المذهب حين جعل اشتقاق المائدة من ماد (٩٤): إذا مال؛ لأن حاملها يميل بها، ومنه قوله تعالى: ﴿أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ (٩٥). حتى رأيت أبا عبيدة (٩٦) يقول في قوله تعالى: ﴿أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ (٩٧).
أصلها: أن تكون مفعولة، فجاءت فاعلة، يقولون: تطليقة بائنة، وعيشة راضية، وإنما مِيدَ صاحبها بما عليها من الطعام، فيقال: مادنى يميدنى. ويعقب عليه الزجاج، قائلا (٩٨): والأصل عندى في مائدة أنها فاعلة من ماد يميد: إذا تحرك، فكأنها تميد بما عليها.
تصريفات الأفعال:
بدت ظاهرة تصريفات الأفعال واضحة في شرح ابن بطال الركبي، بعد ظاهرة الاشتقاق المعنوي والمادي إذ اعتمد إلى حد كبير على تحديد أبواب الأفعال، قاصدا تمييز المعانى، مبينا المعنى المقصود من التعبير وقد استعمل مختلف الطرق المشهورة لدى اللغويين بصدد أشكال الأفعال ودلالاتها، فبين لغات الفعل الماضى من حيث اختلاف حركة عينه، وما يترتب عليه، من اختلاف الدلالة أو اتفاقها، نحو: بَثَر، وبَثِرَ وبثر وجهه، وكذا في الأمر، مثل: زُرَّه؛ وزُرُّه؛ وزرِّه.
_________
(٩٢) في معاني القرآن وإعرابه ١/ ٢١٤، ٢١٥.
(٩٣) انظر غريب الحديث ٣/ ٤٥٢، ٤٥٣ وإصلاح المنطق من ٣٧٨ والزاهر ١/ ٥٢٨ والفائق ٢/ ٣٣٢ والصحاح (شرق) والنهاية ٢/ ٢٦٤ واللسان (شرق ٢٢٤٦).
(٩٤) النظم ص ١٧٩.
(٩٥) سورة النحل آية ١٥.
(٩٦) في إنجاز القرآن ١/ ١٨٢.
(٩٧) سورة المائدة آية ١١٢.
(٩٨) معانى القرآن وإعرابه ٢/ ٢٤٣.
المقدمة / 19