La tendencia del pensamiento europeo en el siglo XIX
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
Géneros
إنك لن تجد عاملا من تلك العوامل المهدمة المقوضة - على ما بعثت في الأنفس خلال تعاقبها من لذة وفتنة - قد أنبتت متجها حديثا اتجه فيه الفكر، وكل من أراد أن يدرس أوجه التدليل التي تهدمت بها النظامات الاجتماعية، أو نقضت بها المعتقدات التي طالما أعزها الناس، فلا بد من أن يرجع إلى ما كتب مؤلفو القرن الثامن عشر، الذين صبوا براهينهم وأدلتهم في قالب من القوة والسلاسة، ظل المنهل الفائض الذي اعتل منه فوضويو القرن التاسع عشر زمانا طويلا. ولقد نسج على منوالهم من كتاب زماننا فئة خصت بأوسع شهرة وأعظم منزلة.
كذلك ليس من قصدي أن أصف تلك الطرق التي تذرعت بها الحكومات والسياسيون ابتغاء صد الأمم عن مطالبها الشرعية، تلك الطرق التي انتهت في أمريكا بإعلان الاستقلال، وفي فرنسا بصيحة الثورة الكبرى، فإنه لم يتحقق من مجموع الأمثال العليا التي أبرزتها تلك الحركة الكبيرة إلا جزءا ضئيلا في إنكلترا. ولقد صد الانصراف إلى تحقيق الوحدة القومية، أو الصراع ابتغاء الاستقلال السياسي كثيرا من أمم أوروبا عن الانبعاث في سبيل الإصلاح الداخلي.
ولم يتفق النظريون على أي من النظامات الاجتماعية تستطيع الحرية والمساواة أن تقوما لتعيشا في جو واحد، على أن تعاليمهم لا بد من أن تسترعي شطرا من انتباهنا وعنايتنا باعتبارها صورة من صور الفلسفة العديدة التي أنتجها الفكر في القرن التاسع عشر، غير أن هنالك فجوة سحيقة تفصل بين النظريات الاجتماعية والسياسة العملية، سدت فراغها الحروب والمداهنات السياسية، أو قنعت بأن يملأ خلاءها الكائن بين النظر والعمل ضروب من التوفيق مضت عاملة على التأليف بين النظامات التي خلفتها القرون الأولى، وبين مهاترات العصر الحاضر من جهة، وبين هذه وبين صيحة الأمم المطالبة بحقها المشروع في الحرية من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن جزءا كبيرا من الفكر العملي مصحوبا بكثير من الجهد قد أنفق في سبيل الوصول إلى تلك النتائج؛ فإني أعتقد أنها خارجة عن موضوعي الذي رسمته لنفسي، فحيثما خرجت الفلسفة أو العلم عن ذلك الجو الهادئ؛ جو الدرس الجدي، أو تخطيا جدران قاعات المحاضرة ومعامل البحث، إلى خلافات العوام وجدلهم، وحيثما خرج الدين عن أغوار النفس المعتقدة المؤمنة المخلدة لأسرار الغيب؛ ليكون وسيلة لحل معضلات الحياة البشرية، أو آلة لأداء الواجبات اليومية؛ فهنالك أمسك عن النظر فيها، لأنها بذلك تكون قد خرجت عن الحدود التي ألزمت نفسي السكون إليها، والوقوف عند حدودها.
وليس من معنى هذا أني لا أسلم بوجود ذلك الحيز الذي تخضع فيه الروح المادة وتتغلب عليها، والذي يكون الفكر فيه ذا نفع مادي، والذي قد تنقلب فيه الفكرات إلى حقائق ثابتة: حيز الجلاد والجهاد؛ حيز الصبر على العمل والانتصار التدرجي الذي تتم أسبابه حالا بعد حال في هدوء وتسلسل؛ فإنه لحيز أعتقد أنه من أخطر ما يتناوله التاريخ بالإثبات، وأنه الحيز الذي أنبت فيه القرن التاسع عشر ما لم يسعد به عصر من العصور الماضية. لست أقصد شيئا من هذا، بل أقصد أن النظر في هذا الحيز من حياة القرن التاسع عشر لا يأتي تاما مع قصرنا البحث على ثلاثة الأمم الرئيسة التي أخذت من عالم الفكر بضلع وافر. •••
إن ذلك العالم الداخلي ليس بعالم الوداعة والسلام والنشوء الهادئ؛ فإنك لن تقع على عصر أخصبت فيه العقول في إنتاج كثير من النظريات المتناقضة؛ أو كان أكثر تحطيما للآراء والفكرات العتيقة، أو أشد تقويضا للمبادئ التي ظلت قائمة ثابتة دهورا طويلة، من القرن التاسع عشر، على أنني سأظل أمينا على المبدأ الذي اعتنقته، مبدأ أن أنظر في الفكر من ناحية أنه قوة تشييدية، لا كعامل تقويضي.
أريد أن أنظر في عالم الفكرات كشطر مما كسب العقل من قوة اليقين، وليس كظل متحول من ظلال الوجود المادي، وإني لأعتقد اعتقادا حقا بأن العقل الإنساني مهما استعان بالمنبهات الخارجة عن حيزه لينمو وينشأ، ومهما عجز عن التقدم بغير أن يستمد من مصححات القوى الخارجية، فإنه في حياته الفردية والاجتماعية يتضمن نبعا مستقلا عن كل الوجود الخارجي يفيض دائما بالحقائق ذات الآصرة بالأشياء المحسوسة، وبالفكرات على اختلاف ضروبها، وتباين ألوانها.
لذلك سوف أعمل وأجاهد لكي أجعل روايتي في الفكر خلال القرن التاسع عشر دائرة حول النظر في الفكرات التشييدية التي أبرزها العقل خلاله، غير غافل عن الكلام في الأساليب التي احتذاها البحث، ولا صور الفكر التي أدت إليه، ولست أقصد بالفكرات التشييدية إلا أمثال الفكرة في «نشاط» المادة أو «بقاء القوة» وتوزعها، وقانون المتوسطات والإحصاء والتغليب، وفكرات «دروين»
Darwin
و«سبنسر» في النشوء علميا وفلسفيا، ومذاهب «الفردية» و«الذاتية»، ونظرة «لودز» الخاصة في عالم «القيم»، على أن حول هذه الأشياء تتراكم صور النقد التي تحاول نقضها، والمسائل الخلافية التي تنبتها عقول المغالين في المحافظة على القديم.
Página desconocida