Teoría del conocimiento y la posición natural del hombre
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Géneros
أما الوجه الثالث لحجة الأحلام، وهو الوجه الذي تغدو فيه الحجة جزءا لا يتجزأ من النظرة المثالية الذاتية إلى العالم، ويعجز فيه الفيلسوف عن إيجاد تمييز قاطع بين الحلم واليقظة، أما هذا الوجه فلا يفيد فيه أي تفنيد نفساني، فمن العبث أن يؤكد المرء أن حالة اليقظة أوضح وأكثر حيوية من الحلم، أو أن من الممكن - عن طريق الاختبار الواعي - التمييز بين ما هو حلم وما هو يقظة، على أساس أن اليقظة وحدها هي التي تصمد لهذا الاختبار؛ ذلك لأنه سيظل من الممكن دائما الإتيان بأمثلة لأحلام لا تقل حيوية ووضوحا عن أي حادث يمر بنا أثناء اليقظة، أما الاختبار الواعي لحياة اليقظة، فلا يمكن أن يحدث إلا بالنسبة إلى «اللحظة الحاضرة» في هذه الحياة، ومن المحال أن يطبق على حادث مضى لكي ندرك أن ذلك الحادث كان حلما أم حقيقة.
أما معيار الارتباط العلي - كما قال به كانت - فلا شك في أنه معيار سليم، بشرط أن يسبقه تفنيد منطقي لفكرة «الحلم المتصل»؛ ذلك لأن الاعتراض الجدي الوحيد على المعيار الذي وضعه كانت، هو ذلك الاعتراض الذي يثير إمكانية كون الحياة بأسرها حلما طويلا متصلا، فإذا أمكن استبعاد هذا الاحتمال منطقيا، أي إذا ثبت منطقيا أن الأحلام تقترن دائما بواقع ولا يمكن أن تكون شاملة أو تشغل وحدها حياة الإنسان، فعندئذ يغدو معيار كانت - وهو معيار الارتباط العلي - هو الأصلح في التمييز بين هذين الوجهين للحياة بعد أن يثبت ضرورة وجودهما معا.
وهكذا يتضح أن مهمتنا الرئيسية - في هذا الصدد - هي الإتيان بتفنيد منطقي للرأي القائل بأن الحياة قد تكون حلما متصلا، أعني إثبات أن هذه الإمكانية لا يمكن أن تثار في أي بحث فلسفي متسق مع ذاته. (1)
وتظهر لدى لوك - مرة أخرى - وسيلة من وسائل تفنيد هذا الوجه للحجة، فإذا كان كل ما حولنا حلما طويلا، فعندئذ تغدو المعرفة والحقيقة مستحيلة، بل إن نفس الشك الذي يعرب عنه من يثير هذا الاحتمال يكون عندئذ حلما، وبالتالي شيئا لا يعول عليه.
16 (2)
وهناك احتمال آخر مضاد لم يشر إليه أحد من قبل، وإن لم يكن أقل إمكانا من الاحتمال القائل بأن كل شيء قد يكون حلما، فلماذا لا نقول - على العكس من ذلك - أن الحياة بأسرها، وضمنها الأحلام، هي سلسلة متصلة من الحوادث «الحقيقية»؟ ولنفرض أنني حلمت بأني أرى رجلا ذا رأسين، فهل هناك استحالة منطقية في القول بأنني رأيت «بالفعل» رجلا كهذا؟ إننا على استعداد للتسليم بجميع الحجج المؤيدة للرأي المضاد: أعني القول باستحالة وجود تمييز منطقي بين الأحلام واليقظة، وبأن الحلم قد تكون له نفس حيوية أية تجربة «حقيقية» ... إلخ، كل هذه الحجج يمكن أن تستخدم - في الواقع - لتأييد الرأي المضاد، القائل: إن كل ما يحدث في الأحلام قد يكون «حقيقيا» شأنه شأن أي شيء آخر، أما عن امتناع هذا القول الأخير، فلست أظنه أكثر امتناعا من الفرض القائل أن كل شيء قد يكون حلما.
وهكذا فإن نفس المقدمات التي تؤدي إلى فكرة «الحلم الشامل» يمكن أن تؤدي أيضا إلى نتيجة مضادة تماما هي «انعدام الحلم» أو «الحقيقة الشاملة»، فإذا ما وجه المثالي بهذا الاحتمال المضاد، فسوف يضطر هو ذاته إلى البحث عن وسيلة للتمييز بين الحلم وبين حياة اليقظة، وبذلك يتخلى عن فكرة الحلم الشامل. (3)
والتفنيد المنطقي الحاسم للفكرة القائلة إن الحياة قد تكون حلما متصلا، أو إنه ليس ثمت تمييز قاطع بين الحلم والواقع، هو أن لفظي الحلم والواقع أو اليقظة لفظان متضايفان لا يتصور أحدهما دون الآخر، فمن المستحيل «لغويا» الكلام عن حلم بلا واقع، ونفس معنى لفظ «الحلم» مستمد من تقابله مع الواقع، ومن المحال تصور الحلم إلا مغلفا بالواقع ومحاطا به.
هذه هي الحقيقة البسيطة التي غابت على «مناطقة» مثل برتراند رسل، فإذا كانت تؤدي بنا إلى استرداد ثقتنا بالعالم - الذي «لا يمكن» أن يكون حلما متصلا - فعندئذ يمكن استخدام معيار الارتباط العلي «بعد» استبعاد إمكانية كون العالم حلما شاملا.
وينبغي أن نذكر ها هنا أن هذا التفنيد المنطقي لا يقتصر أثره على حجة الأحلام وحدها، بل إنه ينطبق على أية حجج تثير إمكانية وجود خداع شامل في المعرفة البشرية، فالتعبير «خداع شامل» شأنه شأن التعبير «حلم متصل» هو تناقض في الألفاظ، ومجرد كوني أستطيع التحدث عن حلم أو خداع، يعني أن لدي المعيار الذي أميزهما به بما هما كذلك، وكوني أدرك الخداع على أنه خداع، أو الحلم على أنه حلم، يعني أن في وسعي تجاوز حالة الخداع أو الحلم، وهذا - في ذاته - تفنيد للحجة.
Página desconocida