Teoría del conocimiento y la posición natural del hombre
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Géneros
وتؤدي الصفة السابقة مباشرة إلى صبغ التطور الفلسفي بصبغة تختلف تماما عن التطور العلمي، فالتطور العلمي في أساسه تراكمي، يستفيد فيه الجديد من القديم ويكمله ويدمجه - في معظم الأحيان - في نسق أوسع، ومهما حدث من طفرات في العلم فإنها تكون دائما متأثرة بالتطورات السابقة، وباعثة لسلسلة جديدة من التطورات، أما الفلسفة فإن مسارها ليس تراكميا على الإطلاق، ولا يمكن أن يقال: إن التطور فيها من القديم إلى الجديد يتم بانتظام حسب تسلسل منطقي، وليس معنى ذلك أن التاريخ لا قيمة له في تطور الفلسفة، فتأثر الفيلسوف بعصره وبالتيارات السابقة عليه أمر لا ينكر، ولكن النتائج والحلول التي يتوصل إليها الفلاسفة ليست متكاملة بالضرورة، بل إن أي فيلسوف يستطيع أن يتخلى تماما عن جميع السوابق، ويأتي بحل - أو على الأصح بتحليل - جديد للمشكلة دون أن يلومه أحد على تجاهل الحلول السابقة، كذلك فإن دارس الفلسفة يستطيع أن يرفض رأي أي فيلسوف حديث في مشكلة ما، ويفضل عليه رأي فيلسوف قديم، دون أن يجد أحد في هذا أية غرابة، وهكذا رأينا «هويتهد» مثلا يقول: إن أحدا لم يفق أفلاطون، وهي عبارة لا تطلق بمعنى أن أفلاطون متفوق على غيره نسبيا فحسب، بل قد تستخدم كذلك بمعنى مطلق، أي بمعنى أننا نستطيع أن نجد لدى أفلاطون حلولا للمشاكل الفلسفية تفوق كثيرا من الحلول الحديثة، أو على الأقل استباقا لمعظم المشاكل التي انشغلت بها الفلسفة حتى الآن، وهكذا أيضا كنا نجد في الفلسفة حركات إحياء لاتجاهات فكرية قديمة ينظر إليها على أنها هي التي أتت بالحل الصحيح لمشاكلنا الحالية: فالكانتية الجديدة تظهر بعد قرن من وفاة الفيلسوف الذي انتسبت إليه، بل إن «التومية الجديدة» تظهر بعد «توما الإكويني» بسبع مئة عام، وتتخذ من فلسفته مرجعا، دون أن تضيف إليها سوى بعض التفسيرات أو التفصيلات التي لا تؤدي إلى تغيير جوهري في الأصل.
ولقد كان كانت من الفلاسفة القلائل الذين لم يكتفوا بإدراك هذا الفارق بين تطور الفلسفة وتطور العلم، بل رأوا أنه يمثل نقصا في الفلسفة، وأخذوا على عاتقهم تدارك هذا النقص، ففي مستهل تصدير الطبعة الثانية ل «نقد العقل الخالص» ينعى كانت على الفلسفة افتقارها إلى الدقة العلمية، ويرى أن معيار هذا الافتقار إلى الدقة هو توقف المعرفة بعد جهود متواصلة متكررة، وبعد أن يبدو أنها قد اقتربت من هدفها، ثم اضطرارها إلى الرجوع والبدء من جديد، وعدم اتفاق المشتركين فيها على أية خطة مشتركة للعمل، وهذه الصفات كلها في رأي كانت تتجمع في الميتافيزيقا، وهكذا حدد كانت هدفه منذ البداية بأنه جعل الميتافيزيقا تسير في «طريق العلم المأمون» الذي تستطيع فيه التخلص من عيوبها القديمة هذه وتسير في الطريق الذي تقدمت العلوم بفضل سيرها فيه، أي أن تصبح الميتافيزيقا معرفة يكمل الجديد فيها القديم ويستفيد منه، ولا يحاول الحلول محله وإخراجه تماما من الميدان.
وإذن، فها هو ذا فيلسوف أدرك بكل وضوح ذلك الفارق الذي أشرنا إليه بين تطور الفلسفة وتطور العلم، وركز جهده في محاولة إزالة ذلك الفارق وجعل الفلسفة تقتدي بالعلم في تطوره، ولكن إلى أي حد نجح ذلك الفيلسوف في تحقيق هذا الهدف؟
إن فلسفة كانت قامت على بضع دعائم أساسية: أولها إمكان الأحكام التركيبية الأولية، ثم رأيه في الزمان والمكان، ولوحة الأحكام وما تؤدي إليها من المقولات، فإذا انهارت هذه الدعائم الأساسية المرتبطة فيما بينها كان في ذلك انهيار للبناء كله، وهذا بالفعل ما حدث بعد فترة وجيزة من وفاة كانت: ففكرة الأحكام التركيبية الأولية ذاتها قد نقدت نقدا عنيفا، ونفى كثير من علماء الطبيعة والرياضة أن أحكامهم من هذا النوع، وكان مجرد ظهور الهندسة اللاإقليدية عاملا على هدم معظم آراء كانت في طبيعة الرياضة، وبالتالي في «الحساسية الترنسندنتالية»، أما لوحة الأحكام التي بنيت عليها آراؤه في التحليل الترنسندنتالي ومعظم تقسيماته وتصنيفاته الفلسفية، فقد كانت لوحة عتيقة سرعان ما ثار عليها المنطق الحديث ولم يعد يربط بينها وبين التركيب الضروري للذهن على الإطلاق.
وهنا يكون من المفيد إلى حد بعيد أن نقارن بين تفكير كانت وتفكير نيوتن: فصحيح أن آراء نيوتن لم تعد هي المسيطرة على العلم اليوم، غير أنها كانت - بلا شك - عاملا ممهدا لكل التطورات التالية التي لا يمكن أن تفهم بدونها، وما زالت فيها إلى اليوم عناصر صالحة في ميادين خاصة، ولا سيما الميكانيكا، أما آراء كانت فإن نقد فكرة القضايا الأولية التركيبية هو وحده كفيل بهدمها من أساسها.
وإذن فمن الممكن أن ينهار المذهب الفلسفي من أساسه دون أن يبقى منه شيء إذا كانت مقدماته باطلة، ويظل التطور الفلسفي يتم عن طريق «الاستبدال»، أي سعي كل مذهب إلى الحلول محل الآخر بدلا من تكملته، وهكذا لم يستطع كانت على الإطلاق أن يوجه الميتافيزيقا في «طريق العلم المأمون»، وظلت الفلسفة من بعده تبدأ على الدوام بدايات جديدة كلما بدا لها أنها اقتربت من هدفها. •••
هكذا كان طابع الفلسفة النظرية منذ بدايتها إلى اليوم: مجموعة من المشاكل التي لا يطرأ عليها تغير أساسي، ومذاهب تأتي بحلول «استبدالية» لا «تراكمية» لهذه المشاكل، وكم تضمن تاريخ الفلسفة من محاولات مستمرة للاقتداء بالعلم، كانت تروح على الدوام هباء نتيجة للاختلاف الأساسي بينها وبين العلم في المنهج والوسائل المتوافرة وطريقة التطور، وكم تضمن كذلك من محاولات للتقريب بينها وبين المبحث الأدبي البحت، ولكن هذه المحاولات كانت تتعثر دائما إزاء ادعاء الفلاسفة أنهم يساهمون إيجابيا في توسيع نطاق «محتوى» المعرفة البشرية.
ولو نظرنا إلى أهم المسائل التي كانت موضوعا للبحث الفلسفي حتى اليوم لوجدنا أنها تتعلق بالتساؤل عن أمور يعدها الموقف الطبيعي حقائق مسلما بها، وهو تساؤل كان في معظم الأحيان ينتهي إلى التشكيك في هذه الحقائق أو إنكارها، وهكذا يتساءل الفيلسوف عن وجود الذات أو وجود العالم الخارجي وعن إمكان المعرفة ... إلخ، ولهذا النوع من الأبحاث نتيجتان ممكنتان: فإذا انتهى الفيلسوف من أبحاثه إلى نتيجة إيجابية - وهذا يتمثل في فئة قليلة من الفلاسفة - فكل ما يفعله هو الرجوع إلى النقطة التي يبدأ منها الإنسان العادي، والتي يسلم فيها بأن لديه معرفة، وبأن هناك عالما خارجيا وذوات أخرى ... إلخ، أما إذا انتهى الفيلسوف إلى نتيجة سلبية فإن النتيجة هي التشكيك في أبسط وقائع الموقف الطبيعي، والانتهاء إلى تلك الحالة التي يتناقض فيها التفكير النظري مع السلوك العملي أشد التناقض، وهكذا تنفرد الفلسفة بأنها ذلك المبحث الذي يقضي فيه أناس متخصصون حياتهم كلها في التأمل والتفكير، وينتهون آخر الأمر إلى أن العالم الخارجي غير موجود، أو أن وجود الذوات الأخرى أمر مشكوك فيه، في الوقت الذي لا يكفون فيه عن التعامل مع موضوعات ذلك العالم الخارجي أو مع الذوات الأخرى على نفس النحو الذي يتعامل به معهما من يكتفي بالموقف الطبيعي.
وأعترف هنا في خاتمة هذا البحث - كما اعترفت في مقدمته - بأن دهشة «الإنسان العادي» واستنكاره لمحاولة التشكيك في «وجود العالم أو وجود الذوات الأخرى» لم تفارقني لحظة واحدة طوال دراستي الفلسفية، وإني لأعتقد أن مثل هذا «الإيمان الطبيعي» - بما يتميز به من قوة شديدة، وبفضل عملية التحقيق المستمرة التي يثبت بها سلوكنا العملي أن الموقف الطبيعي هو الوحيد المتسق مع نفسه في مجاله الخاص - كفيل بأن يؤدي بالمرء إلى رفض المواقف المثالية دون أي تأثر بحججها البارعة، ومع ذلك، فإن هذه الحجج قد نوقشت بشيء من التفصيل في هذا البحث الذي لم نلجأ فيه - كما يفعل الكثير من خصوم المثالية - إلى مجرد الإهابة بذلك الإيمان الطبيعي واستنكار المثالية على هذا الأساس وحده؛ ذلك لأن الحجج المثالية قائمة، وكثير منها قوي لا يسهل التخلص منه، ولكن الإيمان الطبيعي كفيل من ناحية أخرى بأن يقنع المرء بضرورة وجود خطأ أو مغالطة في هذه الحجج، وهكذا تبدأ محاولة التفنيد.
إن من العسير إصدار أحكام على المستقبل في ميدان من ميادين المعرفة فريد في بابه كالفلسفة، ولكني أستطيع أن أقول: إن يوما سيأتي على الفلاسفة يكفون فيه عن إثارة مثل هذه المشاكل المتعلقة بالتشكيك في الموقف الطبيعي أو إنكاره، حقا إن الفلسفة ظلت تناقش مثل هذه المشاكل منذ خمسة وعشرين قرنا، غير أن العصر الحاسم الذي نعيش فيه، والذي تتغير فيه وقائع أقدم عهدا من ذلك التاريخ، سيشهد حتما تغييرا مقابلا في ميدان الفلسفة، وسيجيء اليوم الذي ينظر فيه الفلاسفة أنفسهم بدهشة إلى كل من يخطر بباله سؤال مثل: هل الأشياء الخارجية أو الأذهان الأخرى، موجودة؟ أجل، سيجيء اليوم الذي يعرف فيه الفلاسفة حدود الموقف الطبيعي وحدود الموقف العلمي، ولا يخلطون كلا بالآخر، والذي يدركون فيه أن هذا الموقف الطبيعي هو الوحيد الممكن في حدوده الخاصة وبالنسبة إلى أغراضه الخاصة، وعندئذ لن يصبح للفلسفات المثالية - بالمعنى الذي استخدمناه هنا - أي مبرر، ولن يظهر ذلك النمط من المفكرين الذين يقضون حياتهم في سبيل إثبات فكرة يكذبها سلوكهم العملي نفسه في كل لحظة، ولا تؤدي - حتى إذا أخذ بها - إلى أي تغيير في هذا السلوك، أو إلى إضافة أي شيء إلى «محتوى» المعرفة البشرية أو حذف أي شيء منه.
Página desconocida