وأي الموضوعات أعجب وأغرب، وألذ وأشوق، وأيها أعلق بالنفوس، وألصق بالقلوب؟ بل كنت أرى فأفكر فأكتب فأنشر ما أكتب فأرضي الناس مرة وأسخطهم أخرى من حيث لا أتعمد سخطهم، ولا أتطلب رضاهم.
"وثالثها" أني ما كنت أكتب حقيقة غير مشوبة بخيال، ولا خيالا غير مرتكز على حقيقة؛ لأني كنت أعلم أن الحقيقة المجردة من الخيال لا تأخذ من نفس السامع مأخذا، ولا تترك في قلبه أثرا، وأحسب أن السبب في ذلك أن أكثر ما تشتمل عليه النفوس من العقائد والمذاهب، والآراء والأخلاق، والخواطر والتصورات، إنما هو أثر من آثار الخيالات الذهنية التي تتراءى في سماء الفكر، ثم لا تزال بها الأيام تكسوها طبقة بعد طبقة من غبار القدم حتى تصبح حقيقة من الحقائق الثابتة في الأذهان، وكما أن الحديد لا يفل إلا الحديد، واللون لا يذهب به إلا لون غيره، كذلك الخيال لا يذهب به ولا يزعجه من مكانه إلا الخيال، وللخيال الأثر الأعظم في تكوين هذا المجتمع الإنساني وتكييفه بالصورة التي يريدها، فلولا خيال الشعر ما هاج الوجد في قلب العاشق، ولولا خيال الشرف ما هلك الجندي في ساحة الحرب، ولولا خيال الذكرى ما اخترعت
1 / 48