حصلت في عهد هشام مجاعة عظيمة؛ فدخل إليه وجوه الناس من الأحياء وفي جملتهم درواس بن حبيب العجلي وعليه جبة صوف، فنظر هشام إلى صاحبه نظرة لائم في دخول درواس إليه، وقال: أيدخل علي كل من أراد الدخول؟ وكان درواس حكيما فعلم أنه عناه، فقال درواس: يا أمير المؤمنين، ما أخل لك دخولي عليك، ولقد شرفني ورفع قدري تمكني من مجلسك، وقد رأيت الناس دخلوا لأمر عدلوا عنه، فإن أذنت في الكلام تكلمت. فقال هشام: لله درك! تكلم؛ فما رأى صاحب القوم غيرك. فقال: يا أمير المؤمنين، تتابعت علينا سنون ثلاث، أما الأولى فأذابت الشحم، وأما الثانية فأكلت اللحم، وأما الثالثة فأتعبت المخ ومصت العظم، ولله في أيديكم أموال، فإن تكن لله فاعطفوا بها على عباد الله، وإن تكن لهم فعلام تحجبونها عنهم، وإن تكن لكم فتصدقوا بها عليهم؛ فإن الله يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين.
فقال هشام: لله أنت! ما تركت واحدة من ثلاث. وأمر بمائة ألف دينار، فقسمت في الناس، وأمر لدرواس بمائة ألف درهم. فقال: يا أمير المؤمنين، ألكل رجل من المسلمين مثلها؟ قال: لا، ولا يقوم بذلك بيت المال. فقال: لا حاجة لي فيما يبعث على ذمك.
فلما عاد إلى داره أمر بذلك، فبعث إليه، فقسم تسعين ألف درهم في تسعة من أحياء العرب وأبقى عشرة آلاف درهم، فبلغ ذلك هشاما، فقال: لله دره! إن صنيع مثله يعلم الناس العدالة. «المساواة في العطاء عنوان العدالة.» (14) إن للعالم خالقا
حكي أن رجلا ينكر وجود الله جاء إلى هارون الرشيد، وقال: يا أمير المؤمنين، قد اتفق علماء عصرك مثل أبي حنيفة، على أن للعالم صانعا، فمن كان فاضلا من هؤلاء فمره أن يحضر ها هنا، حتى أبحث معه بين يديك، وأثبت أنه ليس للعالم صانع.
فأرسل هارون الرشيد إلى أبي حنيفة؛ لأنه كان أفضل العلماء، وقال: يا إمام المسلمين، اعلم أنه قد جاء إلينا كافر وهو يدعي نفي الصانع، ويدعوك إلى المناظرة. فقال أبو حنيفة: أذهب بعد الظهر. فجاء رسول الخليفة وأخبر بما قال أبو حنيفة، فأرسل ثانيا، فقام أبو حنيفة وأتى إلى هارون الرشيد، فاستقبله هارون وجاء به وأجلسه في الصدر، وقد اجتمع الأكابر والأعيان.
فقال الكافر: يا أبا حنيفة، لم أبطأت في مجيئك؟ فقال أبو حنيفة: قد حصل لي أمر عجيب؛ فلذلك أبطأت، وذلك أن بيتي وراء دجلة، فخرجت من منزلي وجئت إلى جنب دجلة حتى أعبرها، فرأيت بجنب دجلة سفينة عتيقة مقطعة قد افترقت ألواحها، فلما وقع بصري عليها اضطربت الألواح وتحركت واجتمعت وتوصل بعضها ببعض، وصارت السفينة صحيحة بلا نجار ولا عمل عامل، فقعدت عليها وعبرت الماء وجئت ها هنا.
فقال الكافر: اسمعوا أيها الأعيان ما يقول إمامكم وأفضل زمانكم، فهل سمعتم كلاما أكذب من هذا؟ كيف تحصل السفينة المكسورة بلا عمل نجار، فهو كذب محض قد ظهر من أفضل علمائكم. فقال أبو حنيفة: أيها الكافر، إذا لم تحصل السفينة بلا صانع ونجار، فكيف يجوز أن يحصل هذا العالم من غير صانع، أم كيف تقول بعدم وجود الصانع؟ فعند ذلك أمر الرشيد بضرب عنق الكافر فقتلوه. «إن عظمة هذا الكون تدل على عظمة صانعه.» (15) الشراهة
حضر أعرابي مع بعض الناس عند الحجاج، فقدم الطعام فأكلوا منه، ثم قدمت الحلوى، فترك الحجاج الأعرابي حتى أكل منها لقمة، فقال: من أكل من الحلوى ضربت عنقه. فامتنعوا عن أكلها، وبقي الأعرابي ينظر تارة إلى الحجاج وتارة إلى الحلوى، ثم قال: أيها الأمير، أوصيك بأولادي خيرا، وابتدأ بالأكل؛ فضحك الحجاج وأنعم عليه. (16) الأعرابي الشاعر والخليفة
استدعى بعض الخلفاء شعراء مصر، فصادفهم شاعر فقير بيده جرة فارغة، ذاهبا بها إلى البحر؛ ليملأها ماء، فتبعهم إلى أن وصلوا إلى دار الخلافة، فبالغ في إكرامهم والإنعام عليهم، ورأى ذلك الرجل والجرة على كتفه، ونظر إلى ثيابه القديمة، وقال: من أنت وما حاجتك؟ فأنشد:
ولما رأيت القوم شدوا رحالهم
Página desconocida