[مقدمة المحقق]
يعتبر علم أصول الفقه الذي يعرف منه تقرير مطالب الأحكام الشرعية وطرق استنباطها -من العلوم الإسلامية العريقة، المنمة بموضوعاتها ومنهجها، عن خصائص أساسية في الفكر العلمي عند المسلمين، والمعبرة -بصفتها هذه -عن عمق استشفاف هذا الفكر، للمسائل -وشمولية استيعابه لها، وقدرته العبقرية على الغوص والاستنباط والتنظير والتقرير، والتبحر في ذلك، وارتياد أرحب الآفاق في مضماره.
وقد تألق فكر المسلمين في فروع شتى من المعرفة كالرياضيات والطب وسواهما، واجتهدوا في بحوثهم حولها اجتهادات رائدة أدت بهم إلى الإسهام في تطوير محتواها والتمهيد -من ثم -لما أصابته مثل هذه الفروع العلمية في العصور الحديثة من باهر التقدم على الصعيد النظري والعملي سواء، أما فيما يخص العلوم الإسلامية الصرفة -فإنها تعد بطبيعة الحال -ثمرة كاملة للاجتهاد الفكري عند المسلمين، تختلف في هذا عن غيرها من العلوم التي أسهموا فيها مع غيرهم من الأمم، وتنفرد -بالتالي -بما تنطوي عليه من الدلالة على طبيعة تفكيرهم العلمي في إطاره الخاص، واتجاهاتهم الرائدة في بناء النموذج الثقافي المتسمة به حضارتهم المتميزة.
ويستمد علم أصول الفقه -كما قال الشوكاني من ثلاثة أشياء:
الأول علم الكلام لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة الباري ﷾ وصدق المبلغ، وهما مبينان فيه مقررة أدلتها في مباحثه.
الثاني: العربية لأن فهم الكتاب والسنة والاستدلال بهما متوقفان عليها إذ هما عربيان.
الثالث: الأحكام الشرعية من حيث تصورها لأن المقصود إثباتها أو نفيها.
وباعتبار سعة الفنون العلمية التي يتطلب الحال -هكذا -الإلمام بها والتبحر فيها لإمكانية خوض لجج هذا العلم، والغوص على لآلئه، فإنه لم يتصد له في القديم والحديث إلا فطاحل العلماء كفقيه السنة الأكبر محمد بن إدريس الشافعي ومن على شاكلته من الجهابذة الأفذاذ.
1 / 5
وأول من ألف فيه كما هو معلوم الإمام الهاشمي المطلبي محمد بن إدريس رحمه الله تعالى ١٥٠/ ٢٠٤ عندما أشار عليه شيخه عبد الرحمان بن مهدي فجمع بعض القواعد في كتابه المسمى الرسالة وهو مطبوع.
ثم توالت فيه المؤلفات المختلفة ذات المناحي المتعددة فكتب أتباع الشافعي في منحاه. وأصحاب أبي حنيفة في منحاه، كذلك ومثلهم أصحاب الإمام مالك والإمام أحمد، وحاول آخرون الجمع بين الطريقة الشافعية والحنفية، وهما الطريقتان البارزتان في هذا العلم. وكانت الكتب ما بين مختصر، ومتوسط يأخذ اللاحق من السابق، ويناقشه ويرد عليه أحيانًا لاسيما إذا كان من غير مذهبه.
ومن أهم المؤلفات في هذا الميدان، الرسالة للإمام الشافعي، وأحكام الأحكام لابن حزم الأندلسي والمستصفي للغزالي، وأصول البزدوى، وأوصل السرخيسي، وروضة الناظر لابن قدامة المقدسي والأحكام لسيف الدين الأمدي والموافقات لأبي إسحاق الشاطبي، وإرشاد الفحول للشوكاني، وجمع الجوامع لتاج الدين السبكي وغيرها.
والملاحظ بصفة عامة أن كتب المتقدمين أجزل عبارة وأظهر معنى وأسهل موردًا، وغالبًا ما كانت كتب المتأخرين تلخيصًا واختصارًا أو نظمًا أو شرحًا لأعمال من سبقهم أو تعليقًا عليها، ولكل فائدته.
ويعتبر المؤلف الذي بين أيدينا (نشر البنود على مراقي السعود) واحدً من المصنفات القيمة في هذا الفن.
وقد تفضل مولانا أمير المؤمنين، جلالة الحسن الثاني نصره الله وأيده، فأمر بطبع هذا الأثر العلمي النفيس ونشره، وذلك في إطار اهتمام جلالته الشريفة -حفظه الله روعاه -بإحياء التراث الإسلامي، وإغناء نهضتنا العلمية بكنوزه، وذخائره، ومنح أوسع الفرص للطلبة والباحثين والدارسين، للنهل من موارده، والكرع من حياضه وصلا لماضينا العلمي المجيد، بحاضرنا العلمي الزاهر، وترسيخًا لأصالة النهضة الثقافية العظيمة، التي تشمل مختلف الآفاق في هذا البلد الأمين، تحت ظل قيادة جلالته الحكيمة النيرة.
ومادة الكتاب عبارة عن شرح أرجوزة في هذا الفن، للمؤلف سيدي عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي واضع الأرجوزة والشرح معًا، وكما يلاحظ فقد كان يطل إطلالة العالم المتفتح الواعي على بقية المذاهب فيأخذ منها ويناقش ما أخذ ويرجح ويضعف كما ستراه، ولا ينسى مع كل هذا مالكيته التي ارتضاها واقتنع بها.
ولهذا فقد جاء هذا العمل وسطًا بين الإطناب والاقتضاب، تشعر وأنت تقرؤه أنك تقرأ لعالم ضليع من علماء الملة المتأخرين فتعيش مع أسلوب.
1 / 6
عصره الذي يتميز بالمناقشة وسوق الردود للإحاطة بالنقط التي يتعرض لها من مختلف الجوانب، ومع تمحيصه -بهذه الصورة -للمسائل ومناقشته لها، فهو يشعرك أنك منصف في مناقشته، إيجابي الروح في نظرته إليها، فإذا ما وقف أمام خلاف لفظي، أو جدال جانبي عقيم ترفع عنه قائلًا: لا مساحة في الاصطلاح.
ويستوقف فكرك وأنت تقرأ هذا المصنف الجامع، كثرة نقول المؤلف عن غيره، ولا غرابة في هذا، فقد بين منهجه في ذلك علمًا بتقيده بالنقل عن كبار علماء الإسلام بشكل عام وعلماء المذهب المالكي بشكل خاص، ذلك أن يجلي المسألة، ويقربها إلى القارئ بأسهل وأمتع ما يستطيع.
ومما يتميز به، أمانته في النقل إذا نقل، حيث أنه يعزو كل عبارة إلى صاحبها بكامل النزاهة، وهذا ما كان يتسم به أسلافنا من العلماء رحمهم الله تعالى (يعزون الفضل لأهله والقول لصاحبه).
وقد استعرض المؤلف رحمه الله تعالى في شرحه هذا مباحث الأصول كلها كباقة شهية، فدونكها أيها العالم والباحث والطالب وقد أخرجتها إليك وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في بهاء ورواء وحلة قشيبة وطبعة أنيقة بعد أن نفذت كل نسخ هذا الكتاب التي كانت مطبوعة بفاس بالمطبعة الحجرية، فلم يكن من اليسير الحصول عليه قبل أن يقدم في هذه المطبعة الجديدة المصححة.
حفظ الله مولانا أمير المؤمنين، وأدامه ذخرًا لهذه الأمة يرعى نهضتها، ويصون تراثها، ويبعث مفاخرها العلمية وأمجادها الفكرية، موالاة لمأثرات العرش العلوي، في رعاية العلم والثقافة، ومناقبه الجلي في ترسيخ أصالة هذه البلاد، وإثراء مقومتها الحضارية.
وأقر عين سيدنا الإمام بصاحب السمو الملكي ولي عهده الأمير الجليل سيدي محمد، وصنوه الأمير السعيد مولاي رشيد وكافة أفراد الأسر الملكية الشريفة أنه على ما يشاء قدير، وهو نعم المولى ونعم النصير.
1 / 7
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد ذي الخلق العظيم،
وعلى ءاله الرهط الكريم وأصحابه الذين بهم الدين أقيم.
وبعد فيقول عبد الله بن إبراهيم بن الإمام العلوي أعلاه الله:
لمن من الله تعالى علي بإتمام النظم المسمى مراقي السعود لمبتغى الرقي والصعود، ألهمني الله الاشتغال بشرحه فشرعت فيه مستعينًا بالله ومشيرًا بلفظ المحشي للكمال بن أبي شريف، وبزكرياء لشيخ الإسلام زكرياء، وبالمحشيين لهما، وباللقاني لعلامة عصره بلا نزاع وواحد وقته بلا دفاع ناصر الدين اللقاني، إلا ولأن شافعيان وهذا مالكي. وكلهم محشون على شرح المحلي لجمع الجوامع، وبحلولو لأبي العباس أحمد الشهير بابن حلولو القروي المالكي شارح جمع الجوامع، الشرح المسمى الضياء اللامع، وبالقاضي أبي بكر الباقلاني وبالرازي لفخر الدين الرازي صاحب كتاب المحصول. وحيث قلت قال في التنقيح، أو في شرح التنقيح فمرادي شهاب الدين القرافي وحيث قلت قال في الآيات البينات فالقائل أحمد بن قاسم الشافعي العبادي. والآيات البينات حاشية له على المحلي ثلاثة أسفار ابتداء الثاني من مبحث العام والثالث من الإجماع، وهو كتاب جمع فيه من التحقيق والتدقيق وكثرة الأبحاث والانتصار لصاحب جمع الجوامع وشارحه المحلي ما لا يأتي الزمان بمثله إن الزمان بمثله لبخيل فسميت هذا الشرح «نشر البنود على السعود» يسر الله تعالى لي إتمامه وأجزل علي فيه إنعامه فمرادي
1 / 9
فيه إن شاء الله أن أسهل ما استصعب وأجلب كل منتخب من بحث معقول وعلم منقول، حتى لا يعد له كتاب في الإيضاح وتحرير الصواب فإن هذا العلم مما ألوت به الصبا والدبور وصار يبلي على ممر الدهور ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يقول عبد الله وهو ارتسما ... سمى له والعلوى المنتمى
عبد الله المراد به المسمى ويرجع إليه الضمي المبتدأ باعتبار الاسم وارتسم بمعنى ثبت وسمى بتثليث السين لغة في الاسم حال من الضمير فاعل ارتسم، يعني أن اسمه عبد الله هو أفضل الأسماء لما فيه الحديث من أفضل الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وألحقوا بهما كل ما يدل على العبودية. قوله والعلوي المنتمى، المنتمى بصيغة اسم المفعول أي منتماه ونسبته يقال فيها العلوي بفتح العين واللام نسبه إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أو إلى آخر من ذريته.
تنبيه: أعلم أن الله تعالى قد يسر لي الشروع في هذا الشرح بتججك حرسها الله تعالى من الآفات، ووقى أهلها من السيئات، وعمرها بالعلم والدين إلى يوم البعث والدين بعدما يسر لي نظم الأصل بها وذلك يوم الخميس في جمادى الأولى عام سبعة ومائتين بعد الألف وتمام النظم قبله بعام أسأل الله بإنعامه أن يعين على إتمامه وأن يجعله خالصًا، لوجهه للرضى والأمن بمنه، والفوز بالزيادة فالكريم من استزاده زاده.
الحمد لله على ما فاضا ... من الجدى الذي دهورا فاضا
يعني أن أحمد الله على ما أفاض أي أكثر من الجدى بفتح الجيم والدال أي النفع والخير الذي جاء به ﷺ بعدما فاض أي قل وعدم دهورًا متطاولة قبله ﷺ.
وجعل الفروع والأصول ... لمن يروم نيلها محصولا.
النيل بفتح النون المراد به التعلم ومحصولا بمعنى حاصلة في الكتب والصدور ويجئ المحصول بمعنى المصدر كالمسعور والمحلوف بالفاء المرأسة لا بالفاء الموحدة والمعقول والمجلود وقد نظمتها بقولي:
1 / 10
محلوفكم مجلودكم معقول ... مصادر يزنها مفعول
كذلك المعسول والمحصول ... فاصغ ليتا أيها النبيل
الليت بالكسر صفح العنق.
وشاد ذا الدين بمن ساد الورى فهو المجلي والورى إلى ورا
شاد الحائط علاه بالشيد بالكسر وهو الجص ونحوه كناية عن تحسينه وشاد كجعل معطوف على أفاض وهو قوله وهو يعني من قوله فهو المجلي عائدًا على من والمجلي السابق في الحلبة قال الشاعر:
أتاني المجلي والمصلي وبعده الـ ... ـمسلي وتال بعده عاطف يسرى
ومرتاحها ثم الحظى ومؤمل ... وجاء اللطيم والسكيت له يجرى
فالمجلي بضم الميم وكسر اللام مشددة، والمصلي على وزنه هو الذي يتبع السابق في الحلبة والمسلي الثالث والتالي الرابع والعاطف الخامس والمرتاح السادس. وفي القاموس: إن المرتاح هو الخامس والخطي هو السابع والمؤمل هو الثامن واللطيم كأمير هو التاسع، والسكيت كزهير ويشدد العاشر وهو أخر خيل الحلبة بفتح الحاء وسكون اللام الدفعة من الخيل في الرهان، وورا في قوله إلى ورا بمعنى خلفه قصر للوزن.
محمد منور القلوب ... وكاشف الكرب لذي الكروب
محمد بالجر بدل من في قوله بمن، وتنويره ﷺ للقلوب بالإيمان به وبمحبته والصلاة عليه وإتباعه وكاشف الكروب بشفاعته والاستغاثة بجاهه والكرب الحزن.
وشفاعاته في الآخرة ست: الأولى في تعجيل الحساب وهي أعظمها وأعمها وهي مختصة به. والثانية في إدخال أقوام الجنة بغير حساب وهي مختصة به عند النووي، وتردد في ذلك ابن دقيق العيد والسبكي. الثالثة فيمن استحق النار أن لا يدخلها وتردد النووي في اختصاصها به وجزم
1 / 11
عياض بنفيه. الرابعة في إخراج الموحدين من النار ويشاركه فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون، إلا أن الاشتراك في مطلق الإخراج لا في قدره. الخامسة في زيادة الدرجات في الجنة لأقوام ولم ير نص في اختصاصها به. السادسة في تخفيف عذاب من استحق الخلود في النار كأبي طالب. اللهم بجاهه شفعه فينا وفي قرابتنا بدخول الجنة من غير حساب وبزيادة الدرجات في الفردوس بلا مشقة ولا عتاب.
صلى الله عليه ربنا وسلما ... وآله ومن لشرعه انتمى
الشرع: السنة والدين، والانتساب للشرع بالعمل به وتدوينه وتعليمه وتعلمه.
هذا وحين قد رأيت المذهبا ... رجحانه له الكثير ذهبا
وما سواه مثل عنقا مغرب ... في كل قطر من نواحي المغرب
أردت أن أجمع من أصوله ... ما فيه بغية لذي فصوله
هذا مبتدأ حذف خبره، والعكس أي هذا الأمر والأمر هذا يعني أن الذي حملني على هذا النظم في أصول مالك خاصة إني رأيت الكثير من العلماء ذهب إلى ترجيح مذهبه على سائر المذاهب للحديث الصحيح (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم ولا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة)، أو لترجيح السلف الصالح له على مذهب غيره مع حسن تصرفه في كل فن من القرءان والحديث والعربية والأصول وغير ذلك، وأيضًا فإن ما سواه من المذاهب مفقود في كل قطر بالضم أي ناحية من نواحي المغرب فلا تكاد تجد من يحقق مسألة منها فضلًا عن باب ولا كتاب من كتبها كما اختصت أرض الروم وهي، سلاسول وما والاه بمذهب أبي حنيفة حتى أنه لم يكن في وقتنا هذا أحد فيه على غيره إلا رجل من الشيعة يقول في آذانه مكان حي على الصلاة حي على خير العمل، وكما اختص عراق العجم بمذهب الشافعي ولم يختص إقليم بمذهب أحمد.
1 / 12
وعنقاء كحمراء وزنًا مضاف إلى مغرب اسم فاعل من أغرب في البلاد أي أبعد فيها، قيل فيها ذلك لبعدها في طيرانها، ويجوز أن يكون مغرب وصفًا لعنقاء. وذكروا مغربا لإرادة النسبة كما قالوا ناقة ضامر وهو مثل يضرب للشيء الذي يوجد وهي طائر تخطف الأطفال فدعا عليها حنظلة بن صفوان نبي أصحاب الرس فأهلكها الله وقطع نسلها. وقيل ذهب بها إلى جزيرة، وهي جزيرة لا يصل إليها الناس في المحيط وراء خط الاستواء وانظر حياة الحيوان الكبرى تجد شفاء العليل. والبغية بضم الباء وكسرها المطلوب. والمراد بالفصول الفروع.
منتبذا عن مقصد ما ذكرا ... لدى الفنون غيره محررا
منتبذا حال من فاعل أجمع والموصول مفعوله ومحررا بصيغة اسم الفاعل حال منه أيضًا. يعني أني غير ذاكر في هذا النظم كل ما ذكر في الفنون غير الأصول من نحو كمعاني الحروف أو بيان كمسائل الحقيقة والمجاز مع كثرتها أو منطق كدلالة المطابقة والتضمن والالتزام مع تحريره أي سلامته من التطويل والحشو.
سميته مراقي السعود ... لمبتغى الرقي والصعود
يعني: أني سميت هذا النظام مراقي السعود بضم السين جمع سعد بمعنى السعادة لمن أراد الرقي إلى سماء الفقه وفهم موارده الشرع ومقاصده. والمراقي جمع مرقاة بالكسر ما يرقى به كالسلم والرقى بضم الراء وتشديد التحتية وهو والصعود بمعنى.
استوهب الله الكريم المددا ... ونفعه للقارئين أبدا
يعني: أني أسأل الله أن يهب لي المدد أي الزيادة في العقل والتأييد على إكمال هذا النظام وأسأله أن ينفع به كل من قرأه إلى يوم القيامة نفعًا كاملًا شاملًا.
1 / 13
مقدمة
أي في علم الأصول وهي بكسر الدال أفصح من فتحها، من قدم اللازم بمعنى تقدم، وهي ما يتوقف عليها الشروع في الفن. ومقدمة الكتاب أعم منها مطلقًا وهي ما قدم أمام المطلوب لارتباط بينهما توقف على معرفته الشروع في المطلوب أم لا، فمعرفة الأحكام الخمسة مقدمتها وخطبة ألفية بن مالك مقدمة الكتاب فقط.
أول من ألفه في الكتب ... محمد بن شافع المطلبي
يعني: أن أول من ألف علم الأصول في الكتب الإمام الشافعي وهو محمد بن إدريس بن عباس بن عثمان بن شافع المطلبي، ألف فيه كتاب الرسالة الذي أرسل به إلى ابن مهدي وهو أيضًا أول من ألف في مختلف الحديث المشار إليه في طلعة الأنوار بقولنا
أولا وجمع ممكن فمختلف ... يضيفه إلى الحديث المحترف
وغيره كان له سليقه ... مثل الذي للعرب من خليقه
يعني: أن غير الشافعي من المجتهدين كالصحابة فمن بعدهم كان معرفة علم الأصول سليقة له، أي مركوزًا في طبيعته كما كان علم العربية من نحو وتصريف وبيان خليقة أي مركوزًا في طبائع العرب فطرة فطرهم الله عليها. والألقاب كاسم المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول وغير ذلك اصطلاحات وضعها أئمة النحو، وكذلك وضع أئمة الأصول الذين صنفوا فيه اسم المنطوق والمفهوم والفحوى، والمخالفة والعام والخاص والمطلق والمقيد وغير ذلك.
الأحكام والأدلة الموضوع ... وكونه هذي فقط مسموع
1 / 14
يعني، أن مما يتوقف عليه الشروع في الفن معرفة موضوعه. وموضوع كل فن ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كبدن الإنسان لعلم الطب، وعوارضه الذاتية الصحة والمرض اللذان لا يبحث الطبيب إلا عنهما.
وموضع الأصول الأدلة الشرعية والأحكام. وعند بعضهم الأدلة الشرعية فقط. وإلى هذا أشار بقوله: وكونه .. الخ. وهذا مذهب الجمهور لأنه يبحث فيه عن عوارضها الذاتية كقولهم: الأمر يفيد الوجوب، ويتمسك بالعام في حياته ﷺ قبل البحث عن المخصص، والعام المخصص حجة فيما يبقى.
وحجة الأول: أن جميع مباحث الأصول راجعة إلى إثبات أعراض ذاتية للأدلة والأحكام من حيث إثبات الأدلة للأحكام وثبوت الأحكام بالأدلة. فالفن منحصر في الإثبات والثبوت وفيما له نفع في ذلك كالمرجحات فلا خلاف بين القولين في المعنى.
1 / 15
أصول الفقه
الأصل لغة: ما يبنى الشيء عليه حسًا كالجدار للسقف، ومعنى كالحقيقة للمجاز والدليل للمدلول.
ولما كان تصور المطلوب في النفس أو الشعور به شرطًا في تصور المطلب عقلًا جرت عادة المحققين في التصنيف بالبداءة بتعريف الحقيقة. فالشارع في فن لابد أن يتصوره أولا بوجه ما وإلا امتنع الشروع فيه.
وأصول الفقه مركب إضافي، يطلق تارة على جزأي الإضافة، وتارة لقبًا لهذا العلم وعلمًا له. واختلف في المركب الإضافي هل يتوقف حده اللقبي على معرفة جزأيه أو لا؟ إذ التسمية به سلبت كلا من جزأيه عن معناه الإفرادي وصيرت الجميع اسمًا لمعنى آخر، وعلى الأول فلابد من معرفة جزأيه ولذلك قال: (أصوله دلائل الإجمال).
يعني: أن أصول الفقه أدلته الإجمالية، لأن الأصل في الاصطلاح هو: الدليل، أو الأمر الراجح كما يأتي. والدليل الإجمالي هو، الذي لا يعين مسألة جزأيه كقاعدة مطلق الأمر والنهي، وفعله ﷺ والإجماع والقياس والاستصحاب والعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والظاهر والمؤول والناسخ والمنسوخ وخبر الآحاد، فالتحقيق أن الأدلة نفسها ليست أصولًا، لأنها موضوع الفن وموضوع الشيء غيره ضرورة، وكذا معرفة الدلائل ليست هي الأصول على التحقيق. فمراد من قال: أن أصول الفقه معرفة دلائل الفقه الإجمالية، التصديق بتلك القواعد، أي العلم بثبوت المحمول للموضوع ومراد الأكثر القائلين أنها الأدلة: القواعد الباحثة عن أحوال الأدلة.
1 / 16
والقاعدة قضية كلية تعرف منها أحكام جزئياتها، نحو مطلق الأمر للوجوب ومطلق النهي للتحريم، والإجماع والقياس والاستصحاب حجة، والعام يقبل التخصيص والخاص يقضي على العام والمطلق يحمل على المقيد بشرطه، وخبر الآحاد يجب العمل به إلى غير ذلك مما يعلم في مواضعه واحترز بالإجمالية عن التفصيلية نحو «أقيموا الصلاة» «ولا تقربوا الزنى» وصلاته ﷺ في الكعبة، والإجماع على أن لابنة الابن السدس مع بنت الصلب حيث لا عاصب، وقياس الأرز على البر في امتناع ربا الفضل والنساء.
قال العابدي في الآيات البينات، والشيخ زكرياء: ليس بين الإجمالية والتفصيلية تغاير بالذات بل بالاعتبار، إذ هما شيء واحد له جهتان فأقيموا الصلاة له جهة إجمال طي كونه أمرًا وجهة تفصيل هي كون متعلقة خاصًا. وهي: إقامة الصلاة. فالأصولي يعرف الدلائل من الجهة الأولى والفقيه من الثانية.
تنبيه: اعلم أن أسماء العلوم كالفقه والبيان والأصول والنحو مثلًا يطلق كل واحد منها مرادًا به قواعد ذلك الفن وتارة مرادًا به إدراك تلك القواعد، وتارة مرادًا بها الملكة -بالتحريك -وهي سجية راسخة في النفس تحصل للمدرك بعد إدراك مسائل الفن وممارستها. فمن عرف أصول الفقه بأنه أدلة الفقه الإجمالية نظرًا إلى المعنى الأول ومن قال معرفة أدلة الفقه الإجمالية نظر إلى الثاني (وطرق الترجيح قيد تال).
يعني: أن طرق الترجيح للأدلة عند تعارضها قيد تابع للدلائل الإجمالية في الاندراج في حقيقة الأصول. والمراد بالطرق وجوه الترجيح. (وما للاجتهاد من شرط وضح).
ما مبتدأ، ووضح خبره. يعني: أن شروط الاجتهاد الآتي ذكرها في كتابه وضح، أي ظهر دخولها في مسمى الأصول. يعني: أن أصول الفقه هي الأدلة الإجمالية وكيفيات الترجيح وشروط الاجتهاد. وقيل: معرفة كل من الثلاثة. وقال ابن أبي شريف: أن التحقيق دخول مباحث الترجيح في مسمى الأصول دون مباحث الاجتهاد فإنما
1 / 17
هي تتمات. وعليه فيقال: أصول الفقه أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وقيل العلم بها اهـ.
وأما مسائل الاجتهاد فبعضها فقهية موضوعها فعل المكلف محمولها الحكم الشرعي، كمسألة جواز الاجتهاد له ﷺ ولغيره في عصره ومسألة لزوم التقليد لغير المجتهد، وبعضها اعتقاديه كقولهم: المجتهد فيما لا قاطع فيه مصيب، وقولهم: خلو الزمان عن المجتهد غير جائز، ونحوهما. قال القشيري: لكن جرت العادة بإدخال شروط الاجتهاد في الأصول وضعا فأدخلت فيه حدًا، وإنما أدخلت فيه وضعًا لأن غاية فن الأصول الإقدار عل الاستنباط، والاستنباط متوقف على شروط الاجتهاد، وليست داخلة في قواعد الفن بخلاف مباحث الترجيح، فإن البحث فيها عن أحوال الأدلة التفصيلية على وجه كلي باعتبار تعارضها، ولا يدخل في الأصول علم الخلاف، إذ لا يتوصل به إلى الفقه توصلًا قريبًا لأن الجدلي إما مجيب بحفظ حكم أو متعرض بإبطاله كان الحكم فقهًا أو غيره. لكن الفقهاء أكثروا فيه من مسائل الفقه وبنو أركانها عليها، حتى توهم اختصاصه بالفقه. وأصول الفقه، وإن كان أصلًا للفقه لاحتياجه إليه فرع لأصول الدين لاحتياج كون الأدلة حجة إلى معرفة الصانع وصفاته.
(ويطلق الأصل على ما قد رجح)
يعني: أن الأصل يطلق في الاصطلاح أيضًا على الأمر الراجح نحو: الأصل براءة الذمة، والأصل عدم المجاز والأصل إبقاء ما كان على ما كان عليه قاله القرافي في التنقيح.
1 / 18
فصل
والفرع حكم الشرع قد تعلقا ... بصفة الفعل كندب مطلقا
يعني: أن الفرع هو حكم الشرع المتعلق بصفة فعل المكلف وتلك الصفة ككونه مندوبًا أو غيره من الأحكام الخمسة مطلقًا، أي سواء كان الفعل قلبيًا كالنية أو بدنيًا كالضوء، قال الناصر اللقاني عند قول خليل: فذلك لعدم إطلاعي في الفرع على أرجحية منصوصة.
والفقه هو العلم بالأحكام ... للشرع والفعل نماها النامي
أدلة التفصيل منها مكتسب
الفقه لغة: الفهم والشعر والطب، واصطلاحًا هو: العلم بجميع الأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية. والمراد بالأحكام: النسب التامة التي هي ثبوت أمر لأخر إيجابًا أو سلبًا، احترازًا على العلم بالذوات والصفات والأفعال وعن النسبة التقييدية والشرعية المأخوذة من الشرع تصريحًا واستنباطًا احترازًا عن الأحكام العقلية والحسية والاصطلاحية كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، وإن النار محرقة، وإن الفاعل مرفوع وإن كان الحاكم في الحقيقة في الأخيرين إنما هو العقل على المشهور، ولكن بواسطة الحس والاصطلاح.
والعملية المتعلقة بكيفية عمل قلبي كالعلم بوجوب النية في الوضوء وبدني كالعلم بسنية الوتر فيشمل العمل عمل غير المكلف لأن الفقه يبحث عن أفعال غير المكلف فالعلم بها من الفقه. لأنه يمنع من المحرمات كالزنى وشرب الخمر ويؤمر بالطاعات.
1 / 19
والمراد بكيفية العمل وجوبه أو ندبه أو ضدهما أو إباحته وهي المسماة عن المناطقة بالمادة وهي الدوام والضرورة وما يقابل الأمرين في نقضهما، فخرج العلم بالأحكام الشرعية الاعتقادية أي المتعلقة بحصول العلم في القلب كالعلم بأن الله تعالى واحد، وأنه يرى في الآخرة فعلمك بوجوب اعتقاد أن الله واحد فقه، وعلمك أن الله واحد ليس به، بل هو من علم الكلام، فالمتكلم يثبت الوحدة، والفقيه يثبت وجوبها. فالحق أن الاعتقاد وسائر الإدراكات انفعال لا فعل للنفس وإذا لم يكن فعلا فلا يكون عملًا إلا على سبيل التسامح قاله في الآيات البينات.
واعترض بعضهم على التقييد بالعمل بأنه يخرج ما ليس بعمل كالطهارة الحاصلة باستحالة الخمر خلا والبيضة فرخا. وكالرق المانع من الإرث ولزوم التصرف وكالسفه المانع من لزوم التصرف مع أن الظاهر أن العلم بها من الفقه لأنه يبحث عنها فيه. وجوابه عندي: أن الطهارة تستلزم حلية تناول الشيء وهو عمل، والرق يمنع أخذ الإرث وهو عمل وانح ذلك النحو.
ويقيد المكتسب خرج علمه تعالى لتعاليه عن الاكتساب والضرورة، وعلم كل نبي وملك بما ذكر، إذ هو ضروري حاصل مع العلم بالأدلة لا مكتسب عنها. فإن قيل: هل يدخل في التعريف علم النبي ﷺ الحاصل عن اجتهاد بناء على الأصح من جواز الاجتهاد له ﷺ فيسمى فقها أو لا يسمى فيكون التعريف غير مانع؟ فالجواب كما لابن أبي شريف: إن ذلك العلم دليل شرعي للحكم فبهذا الاعتبار لا يعد فقهًا بل هو من أدلة الفقه وباعتبار حصوله من دليل شرعي يصح أن يسمى فقهًا إلا أن يقال أنه بواسطة تقرير الله تعالى له عليه يكون ضروريًا فيكون بمنزلة الثابت بالوحي، وذكر الأدلة للبيان لا للاحتراز، إذ لا اكتساب إلا من الدليل. وبقيد التفصيلية خرج علم المقلد فإنه مكتسب من دليل إجمالي لأنه فتوى مجتهد وفتواه حكم الله في حقه. وقال المحلي يخرج به العلم بذلك المكتسب للخلافي من المقتضى، والنافي المثبت بهما ما يأخذه من الفقيه ليحفظه عن إبطال
1 / 20
خصمه؟ فعمله مثلًا بوجوب النية في الوضوء لوجود المقتضى أو بعدم وجوب الوتر لوجود النافي ليس من الفقه وهذا إذا قلنا أن الخلافي يستفيد علمًا بثبوت الوجوب أو انتفائه من مجرد تسليمه من المجتهد وجود المقتضي أو النافي إجمالًا، وإنه يمكنه بمجرد ذلك حفظه عن إبطال خصمه، والحق أنه لا يستفيد علمًا ولا يمكنه الحفظ المذكور حتى يتعين المقتضي أو النافي كأن يقول له: تجب النية في الوضوء لحديث (إنما الأعمال بالنيات) ولم يجب الوتر لحديث (خمس صلوات كتبهن الله على العباد) فيكون هو الدليل المستفاد منه ذلك وحينئذ إن كان الخلافي أهل للاستفادة منه كان فقيهًا قاله المحشيان وهما ابن أبي شريف وزكرياء.
والخلافي صاحب علم الخلاف وهو علم الجدل. وأل في قوله: بالأحكام، للاستغراق وقوله نماها النامي: أي نسبها الناسب فيقول: الشرعية، الفعلية، أي العملية. (والعلم بالصلاح فيها قد ذهب).
المراد بالعلم في حد الفقه ما يشمل الظن كما فسر به الرهوني كلام ابن الحاجب، وجعله القرافي على بابه واستشكل بأن الفقه كما سيأتي في تعريف الاجتهاد ظن لأن أدلته ظنية والمستفاد من الظن ظن فكيف عبر عنه بالعلم في التعريف؟ وأجيب: بأنه لما كان الفقه ظن المجتهد الذي يجب عليه وعلى مقلديه إتباعه كان لقوته بهذا الاعتبار قريبًا من العلم ويعبر عنه به، وأجاب القرافي بقوله: كل حكم شرعي فهو معلوم أي مقطوع به لثبوته بالإجماع، وكل ما يثبت بالإجماع فهو معلوم. وثبوت الإجماع فيه الحكم المختلف فيه هو الإجماع على أن ظن المجتهد حكم الله في حقه وحق من قلده.
وأجاب بعضهم بقوله: مظنون المجتهد مقطوع بوجوب العمل به وكل مقطوع بوجوب العمل به فهو مقطوع به، فمظنون المجتهد مقطوع به. ابن أبي شريف. وهذا الدليل إنما يصح عند المصوبة أي القائلين كل مجتهد مصيب وإلا فهو ممنوع الكبرى عند غير المصوبة.
يعني: أن المراد بالعلم بجميع الأحكام في تعريف الفقه العلم بمعنى
1 / 21
الصلاحية والتهيؤ لذلك بأن يكون له ملكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام. وقد اشتهر عرفًا إطلاق العلم على هذه الملكة.
فالكل من أهل المناحي الأربعة ... يقول لا أدري فكن متبعه
يعني: أنه إذا كان المراد التهيؤ والصلاحية لا يقدح في أيمة المناحي الأربعة أي المذاهب قولهم لا أدري فأتبع ذلك القول فإنه يدل على الورع. ولله در القائل:
ومن كان يهوى أن يرى متصدرا ... ويكره لا أدري أصيب مقاتله
فقد سئل ملك ﵀ عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها لا أدري. هذا ما اشتهر في كتب الأصول والذي رواه ابن عبد البر في مقدمة التمهيد على الموطأ أنه سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها لا أدري. وقال أبو حنيفة في ثمان مسائل لا أدري ما الدهر، ومحل أطفال المسلمين، ووقت الختان، وإذا بال الخنثى من الفرجين، والملائكة أفضل أم الإنسان، ومتى يصير الكلب معلمًا وسؤر الحمار ومتى يطيب لحم الجلالة. وكان أحمد يكثر من لا أدري. وسئل الشافعي عن المتعة أفيها طلاق أم ميراث أو نفقة تجب؟ فقال: والله ما أدري. وروى عن النبي ﷺ وجبريل. فسبحان من أحاط بكل شيء علما.
كلام ربي أن تعلق بما ... يصح فعلا للمكلف أعلما
فذاك بالحكم لديهم يعرف
لما ذكر الحكم في تعريف الفقه شرع في تعريفه فتكون ال للعهد الذكرى والصواب تغايرهما لأن المذكور هنا الحكم المتعارف عند الأصوليين وهو خطاب التكليف وهو خطاب الله تعالى والحكم المذكور في تعريف الفقه ليس خطاب الله تعالى بدليل تقييده بالشرع وما هنا لا يكون إلا شرعيًا، وإنما ذكر هنا لكونه من المقدمات التي يتوقف عليها المقصود إذ الأصولي تارة يثبت الحكم وتارة ينفيه، والحكم على الشيء
1 / 22
فرع تصوره. يعني أن الحكم المتعارف عند الأصوليين هو كلام الله المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف به ومعنى تعلق الخطاب بشيء بيان حاله من كونه مطلوبًا أو غيره قاله في الآيات البينات.
قولهم المتعلق يعني تلعقًا معنويًا قبل وجود المكلف متصفًا بشروط التكليف من البلوغ والعقل ومن العلم بالبعثة وبلوغ الأحكام وغير ذلك، وتنجيزيًا بعد ذلك قولهم بفعل المكلف يعني بما يصح أن يكون فعلًا للمكلف واخترتها على عبارتهم لما في عبارتهم من المجاز الذي لا يليق بالحدود إلا بقرينة واضحة وذلك لأن التكليف الأزلي لا يتعلق إلا بمعدوم يمكن حدوثه والمعدوم ليس بفعل في الحقيقة وتوضيحه أن لفظ الفعل يطلق على المعنى الذي هو وصف للفاعل موجود كالهيئة المسماة بالصلاة والهيئة المسماة بالصوم، ويقال له الفعل بالمعنى الحاصل بالمصدر وهذا هو متعلق التكليف، ويطلق لفظ الفعل على نفس إيقاع الفاعل هذا المعنى ويقال فيه: الفعل بالمعنى المصدري، الذي هو أحد مدلولي الفعل النحوي وليس هذا متعلق التكليف لأنه أمر اعتباري لا وجود له في الخارج، قاله ابن أبي شريف.
والمكلف العاقل البالغ الذي ليس بغافل ولا ملجأ ولا مكره.
قولهم: من حيث أنه مكلف بكسر الهمزة ويجوز فتحها على رأي الكسائي إضافة حيث إلى المفرد، أي: ملزم ما فيه كفلة أو مطلوب منه ووجه تناول الراجح للطلب غير الجازم والتخيير.
وتناول الثاني التخيير إن اعتبار حيثية التكليف أعم من أن يكون بحسب الثبوت كما في الوجوب والتحريم أو بحسب السلب كما في بقية الأحكام، فإن تجويز الفعل والترك برفع الكلفة عن العبد قاله الأبهري فتناول الفعل ما كان قبليًا أو غيره قوليًا كتكبيرة الإحرام أو غيره كأداء الزكاة، والقبلي ما كان منه باب القصود والإرادات كالنية فهو من كسب العبد لأنه فعل لأن القصد إلى الشيء توجه النفس إليه، وما كان منه ما باب العلوم والاعتقادات كالإيمان وسائر الإدراكات فهو تجل وانكشاف يحصل عقب النظر في الدليل أو دونه كالضروري فليس من
1 / 23
كسب العبد لأنه ليس بفعل ولا تكليف إلا بفعل فالتكليف به التكليف بأسبابه كإلقاء الذهن وصرف النظر وتوجيه الحواس والاستسلام بالقلب له فتسمية التصديق الذي هو الاعتقاد فعلًا بهذا الاعتبار لكنه مجاز وإن وقع في كثير من العبارات.
وأما خطاب الوضع فليس من الحكم المتعارف فلا يذكر في تعريفه. ومنهم من جعله منه فقال: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. والمراد بالتعلق الوضعي أعم من أن يجعل فعل المكلف سببًا أو شرطًا لشيء كجعل إتلافه سببًا للضمان أو يجعل شيء سببًا أو شرطًا له كالزوال فإنه سبب لوجوب فعل الظهر. قاله التفتازاني وغيره.
وقد يرد هنا ما أورده ابن أبي شريف بقوله: قلنا: بتقدير تسليم ذلك في الزوال لا يتمشى في فعل غير المكلف كإتلاف الصبي والمجنون في كونه سببًا لوجوب الضمان وإن كان الصبي مكلف عندنا لكن بغير الوجوب والتحريم.
فخرج بفعل المكلف كلامه المتعلق بذاته وصفاته وذوات العالم وأفعاله وصفاتهم كمدلول «الله لا إلاه إلا هو خالق كل شيء» «ولقد خلقناكم» «ويوم نسير الجبال» وخرج بما بعده مدلول «وما تعملون» من قوله تعالى «والله خلقكم وما تعلمون» فإنه متعلق بفعل المكلف من حيث إنه مخلوق لله تعالى بناء على أن ما مصدرية. وعلى تقدير إنها موصولة أي الذي تعلمونه فقد خرج بما قبله.
تنبيه: قولهم من حيث كذا يراد به الإطلاق وعدم التقييد، كقولهم: الإنسان من حيث هو إنسان قابل للتعليم. وقد يراد التعليل والتقييد كقولهم: النار من حيث هي حارة تسخن. وقوله من حيث أنه مكلف يحتمل كلا من الأخيرين.
قد كلف الصبي على الذي اعتمى ... بغير ما وجب والمحرم
يعني: أن الصبي مكلف عندنا على ما صححه ابن رشد في البيان والمقدمات، وكذا القرافي في كتاب اليواقيت في أحكام المواقيت، وأن
1 / 24
البلوغ إنما هو شرط في التكليف بالواجب والمحرم لا في الخطاب بالندب والكراهة والإباحة فهو ووليه مندوبان إلى الفعل مأجوران، فإزالة النجاسة مثلًا يخاطب بها لا على وجه الوجوب أو السنية كالبالغ بل على سبيل الندب فقط وعند الشافعية ليس مكلفًا بحكم من الأحكام الخمسة فالأولى أن يقال في التعريف: بما يصح أن يكون فعلًا للعباد. وقد فرق القرافي بين انعقاد أنكحة الصبيان وعدم لزوم طلاقهم بأن عقد النكاح سبب إباحة الوطء وهم أهل للخطاب بالإباحة والندب والكراهة دون الوجوب والتحريم والطلاق سبب تحريم الوطء وليسوا أهلًا للخطاب به فلم ينعقد سببًا في حقهم دليل.
الصحيح حديث الخثعمية التي أخذت بضبعي صبي وقالت يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر وقيل المأمور الولي وحده وقيل الصبي وحده وحيث قلنا أن الولي مأمور إما وحده أو مع الصبي هل الأمر على سبيل الوجوب أو الندب وهو المشهور فلا يأثم بترك الأمر. وعلى أن المأمور الولي وحده لا ثواب للصبي وإنما هو لوالديه؟ قيل: على السواء، وقيل: الثلثان للأم والثلث للأب. وقول خليل: وأمر صبي بها لسبع، يحتمل أن يكون الآمر له هو الولي أو الله تعالى بناء على أن الآمر بالأمر بالشيء آمر به.
والأصل في ذلك قوله ﷺ: مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين وأضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع.
وهو إلزام الذي يشق ... أو طلب فاه بكل خلق
لكنه ليس يفيد فرعا ... فلا تضق لفقد فرع ذرعا
يعني: إنهم اختلفوا في التكليف هل هو إلزام ما فيه مشقة وكلفة أو هو طلب ما فيه كلفة؟ فاه أي نطق وقال بكل من القولين خلق كثير فعلى الأول يكون المطلوب فعله أو تركه طلبًا غير جازم مكلفًا به. وعلى الثاني يخرج المباح وقال بعضهم المباح مكلف به من حيث وجوب اعتقاده تتميمًا للأقسام، وإلا فغيره مثله في وجوب الاعتقاد لكن الخلاف في كونه
1 / 25