El origen de la filosofía científica
نشأة الفلسفة العلمية
Géneros
فكيف نعرف أن للتردد حدا؟ ليس لدينا دليل على هذا الافتراض بالطبع. غير أننا نعلم أنه إذا كان ثمة حد كهذا، فسوف نتوصل إليه بالمنهج الاستقرائي. وعلى ذلك فإذا شئت أن تهتدي إلى حد التردد، فلتستخدم الاستدلال الاستقرائي إذ إنه أفضل أداة لديك؛ لأنه إذا كان من الممكن بلوغه، فإن محاولتك تكون قد ذهبت هباء، ولكن كل محاولة أخرى ستخفق بدورها في هذه الحالة.
إن من الممكن تشبيه من يقوم باستدلالات استقرائية بصياد يرمي شباكه في جزء مجهول من البحر فهو لا يعلم إن كان يصطاد سمكا، ولكنه يعله أنه إذا أراد أن يصطاد سمكا فعليه أن يرمي شباكه. وإن كل تنبؤ استقرائي لهو أشبه برمي شبكة في بحر الحوادث الطبيعية: فلسنا نعلم إن كنا سنقتنص صيدا طيبا، ولكنا نحاول على الأقل، ونستخدم في محاولتنا أفضل الوسائل المتوافرة لدينا.
إننا نحاول لأننا نريد أن نسلك - ومن يريد أن يسلك لا يستطيع أن ينتظر حتى يصبح المستقبل معرفة قابلة للملاحظة. ذلك لأن السيطرة على المستقبل، وتشكيل أحداث المستقبل وفقا لخطة، يفترض مقدما معرفة تنبئية بما سيحدث إذا تحققت شروط معينة، وإذا لم نعرف الحقيقة بشأن ما سيحدث، فسوف نستعيض عن الحقيقة بأفضل ترجيحاتنا؛ فالترجيحات هي أداة الفعل حيث لا تتوافر الحقيقة، وتبرير الاستقراء هو أنه أفضل أداة للفعل معروفة لنا.
ويتسم هذا التبرير للاستقراء بالبساطة الشديدة، فهو يبين أن الاستقراء هو أفضل وسيلة لبلوغ هدف معين. والهدف هو التنبؤ بالمستقبل - ومن الممكن التعبير عن الهدف نفسه بصيغة أخرى فنقول إنه هو الاهتداء إلى حد التردد
limit of frequency . ولهذه الصيغة نفس المعنى؛ إذ إن المعرفة التنبئية معرفة احتمالية، والاحتمال هو حد التردد. فالنظرية الاحتمالية في المعرفة تتيح لنا إيجاد تبرير للاستقراء، وهي تمدنا بدليل على أن الاستقراء أفضل وسيلة للاهتداء إلى نوع المعرفة الوحيد الذي يمكننا بلوغه. فكل معرفة هي معرفة احتمالية، ولا يمكن تأكيدها إلا بمعنى أنها ترجيحات، والاستقراء هو أداة الاهتداء إلى أفضل الترجيحات.
2
ولا شك أن هذا الحل لمشكلة الاستقراء سيزداد وضوحا إذا ما قورن بالنظرية العقلية في الاحتمال. فمبدأ السوية، الذي يحتل مركزا منطقيا مشابها لمركز مبدأ الاستقراء لأنه يستخدم في تحديد درجة الاحتمال، يعد في نظر صاحب المذهب العقلي مبدأ منطقيا واضحا بذاته، وهكذا يصل إلى وضوح ذاتي تركيبي. أي إلى منطق تركيبي قبلي. وبهذه المناسبة فإن مبدأ الاستقراء التعدادي يعد في كثير من الأحيان مبدأ واضحا بذاته أيضا، وهذا الفهم يمثل صيغة أخرى للمنطق الاحتمالي المرتكز على المعرفة التركيبية القبلية. أما الفهم التجريبي للمنطق الاستقرائي فهو يختلف عن ذلك اختلافا أساسيا؛ فمبدأ الاستقراء التعدادي، الذي يكون مبدؤه التركيبي الوحيد، لا يعد واضحا بذاته، أو مصادرة يستطيع المنطق تحقيق صحتها. إن ما يستطيع المنطق إثباته هو أن من المستحسن استخدام المبدأ إذا كان في ذهننا هدف معين، هو هدف التنبؤ بالمستقبل، هذا البرهان، أي تبرير الاستقراء، مبني على اعتبارات تحليلية. فمن حق التجريبي أن يستخدم مبدأ تركيبيا، لأنه لا يؤكد أن المبدأ صحيح أو ينبغي أن يؤدي إلى نتائج صحيحة، أو إلى احتمالات صحيحة أو أي نوع من النجاح، بل إن كل ما يؤكده هو أن استخدام المبدأ هو خير ما يمكنه أن يفعله. وهذا العزوف عن أي ادعاء للحقيقة يتيح له أن يدمج عنصرا تركيبيا قبليا في منطق تحليلي، وأن يفي بهذا الشرط، وهو أن يكون كل ما يؤكده على أساس منطقه حقيقة تحليلية فحسب. وهو لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا لأنه لا يؤكد نتيجة الاستدلال الاستقرائي، وإنما يرجحها فقط، وما يؤكده هو أن ترجيح النتيجة وسيلة لغايته. وهكذا يكتمل تطبيق المبدأ التجريبي القائل أن العقل لا يستطيع أن يقوم إلا بدور تحليلي في المعرفة، وأنه لا يوجد وضوح ذاتي تركيبي.
لقد كانت صعوبات المذهب التجريبي، التي صيغت في مذهب الشك عند هيوم، نتيجة لتفسير باطل للمعرفة، وهي تختفي إذا ما فسرت المعرفة تفسيرا صحيحا تلك هي النتيجة التي تفضي إليها فلسفة نمت من تربة العلم الحديث. أما فيلسوف المذهب العقلي فإنه لم يكتف بأن يقدم للعالم سلسلة من مذاهب الفلسفة التأملية التي لا يمكن قبولها، بل إنه قد عمل أيضا على تسميم التفسير التجريبي للمعرفة، بأن حث الفيلسوف التجريبي على التماس أهداف لا يمكن بلوغها. ولقد كان لا بد لتطور العلم من تجاوز النظرة إلى المعرفة على أنها نسق من الأحكام التي يمكن البرهنة على صحتها؛ وذلك قبل أن يتسنى الاهتداء إلى حل لشكلة المعرفة التنبئية. وكان لا بد أن يختفي السعي إلى اليقين في داخل أكثر علوم الطبيعة دقة. أي الفيزياء الرياضية، قبل أن يستطيع الفيلسوف تقديم تفسير للمنهج العلمي.
والواقع أن صورة المنهج العلمي كما ترسمها الفلسفة الحديثة مختلفة كل الاختلاف عن المفاهيم التقليدية. فقد اختفى المثل الأعلى لعالم يخضع مساره لقواعد دقيقة، أو لكون متحدد مقدما، يدور كما تدور الساعة المضبوطة، واختفى المثل الأعلى للعالم الذي يعرف الحقيقة المطلقة. واتضح أن أحداث الطبيعة أشبه برمي الزهر منها بدوران النجوم في أفلاكها؛ فهي خاضعة للقوانين الاحتمالية. لا للعلية. أما العالم فهو أشبه بالمقامر منه بالنبي؛ فهو لا يستطيع أن ينبئك إلا بأفضل ترجيحاته - ولكنه لا يعرف مقدما أبدا إن كانت هذه الترجيحات ستتحقق. ولكنه مع ذلك مقامر أفضل من ذلك الذي يجلس أمام المائدة الخضراء. لأن مناهجه الإحصائية أفضل، والهدف الذي يسعى إليه أسمى بكثير وهو التنبؤ برميات الزهر الكونية، فإذا ما سئل عن أسباب اتباعه لمناهجه. وعن الأساس الذي يبني تنبؤاته عليه، لم يكن في وسعه أن يجيب بأن لديه معرفة بالمستقبل تتصف باليقين المطلق، بل إنه يستطيع فقط أن يقدم أفضل ترجيحاته. ولكن في وسعه أن يثبت أن هذه بالفعل هي أفضل الترجيحات، وأن القول بها هو أفضل ما يمكنه عمله - وإذا كان المرء يعمل أفضل ما يمكنه عمله، فهل يستطيع أحد أن يطلب منه المزيد؟
الفصل الخامس عشر
Página desconocida