El origen de la filosofía científica
نشأة الفلسفة العلمية
Géneros
من الأمور التي يعدها المثقف اليوم حقيقة مقررة، أن المادة تتألف من جزيئات تسمى بالذرات. فإذا لم يكن قد تعلم ذلك في المدرسة، فإن الصحف تنبئه به؛ إذ يبدو من الواضح أنه ما دامت هناك قنابل ذرية، فلا بد أن تكون هناك ذرات أيضا.
أما مؤرخ العلم فيتخذ من هذه المسالة موقفا أقرب إلى الروح النقدية؛ فهو يعلم أن وجود الذرات أمر قيل به منذ العصور القديمة، ولكنه كان على الدوام مثارا للجدل، ويعلم أن حججا قوية قد أدلي بها تأييدا لفكرة الذرة ومعارضة لها. فإذا كان التاريخ الذي يكتبه للعلم يشتمل على الأعوام الخمسة والعشرين الأخيرة، فإنه يعلم أيضا أن نظرية الذرة، وإن بلغت خلال القرن التاسع عشر مرحلة بدا فيها وجود الذرة أمرا لا يتطرق إليه الشك، قد عادت فأصبحت مثارا للجدل نتيجة للتطورات الأخيرة، بحيث أصبح الشك في وجود الذرة أقوى مما كان في أي وقت مضى.
ويبدأ تاريخ نظرية الذرة بفلسفة ديمقريطس (420ق.م)، وهو من أبرز الشخصيات في الفلسفة اليونانية؛ فقد رأى ديمقريطس أن من الممكن تقديم تفسير مقنع للخصائص الفيزيائية للمادة، مثل قابليتها للانضغاط والانقسام، إذا افترضا أن المادة تتألف من جزيئات صغيرة؛ فعندئذ يكون ضغط مادة معينة معناه زيادة التقريب بين الذرات، على حين أن الذرات ذاتها صلبة تماما، ويظل حجمها بلا تغير. والواقع أن نظرية ديمقريطس إنما هي مثل واضح لما يستطيع الاستدلال العقلي أن يحققه، وما لا يستطيع بلوغه؛ ففي استطاعة الاستدلال العقلي أن يقدم تفسيرات ممكنة، أما كون التفسير صحيحا أو غير صحيح، فهو أمر لا يمكن معرفته عن طريق الاستدلال، وإنما ينبغي أن يترك للملاحظة. ولم يكن في استطاعة اليونانيين أن يحققوا نظرية الذرات باختبار تجريبي، وإنما حاولوا تكملة النظرية بنظرية أخرى، بدلا من تكملتها بالملاحظة؛ فقد كانوا يعتقدون أن الذرات تتماسك بواسطة «خطافات» صغيرة، وكانوا يعتقدون أن المادة ذات الطبيعة الألطف، كالنفس أو النار، تتألف من ذرات شديدة الصغر والنعومة، أما الأجسام الأكبر حجما فتتكون بالجمع بين ذرات متساوية الحجم، وهي عملية طبيعية يوجد لها مثيل في انتقاء أمواج البحر للحصى ذي الأحجام المتساوية، غير أن الخيال إذا لم يكبح جماحه اختبار تجريبي ما، يفسح المجال للتأمل القائم على غير أساس. مثال ذلك أنه كان من الخلافات الفلسفية التي أثيرت حول موضوع الذرة مسألة ما إذا كان المكان الخالي بين الذرات تصورا يمكن قبوله منطقيا؛ ذلك لأن المكان الخالي هو «لا شيء»، وإذا كان هناك «لا شيء» بين الذرات، فلا بد أن تكون متلامسة تكون مادة صلبة. وفي هذه الحالة لا تكون هناك ذرات.
على أن نظرية الذرة قد اقتلعت من تربة التأمل الفلسفي، وأعيد غرسها في تربة البحث العلمي عندما وضع لها أساس من التجارب الكمية قبل مستهل القرن التاسع عشر مباشرة؛ فقد قاس جون دالتون
John Dalton
نسب الأوزان التي تدخل بها العناصر الكيميائية في مركبات، واكتشف أن هذه النسب ثابتة، تعبر عنها أعداد صحيحة بسيطة. مثال ذلك أن العنصرين المكونين للماء، وهما الهيدروجين والأكسجين، يتحدان دائما بنسبة واحد إلى اثنين، فإذا كانت توجد في الأصل أكثر من مادة واحدة، فإنها لا تدخل في المركب. وقد أدرك دالتون أن هذه النسب الكمية تقتضي تفسيرا ذريا؛ فأصغر أجزاء المادة، وهي الذرات، تتحد بنسب ثابتة؛ أي إن ذرتين من الهيدروجين تتحد مع ذرة واحدة من الأكسجين، وتنعكس نسبة أوزان الذرات على النسبة التي لوحظت في قياسات دالتون.
ومنذ ظهور قانون دالتون، أصبح تاريخ فكرة الذرة يسير في طريقه محققا نصرا بعد نصر؛ فحيثما كان مفهوم الذرة يستخدم في تفسير القياسات الملاحظة، كان يقدم تفسيرا مقنعا، وأصبح هذا النجاح ذاته دليلا قاطعا على وجود الذرة. ففي النظرية الحركية للغازات لم يكن من الممكن فقط تفسير السلوك الحراري بالمفاهيم الذرية، بل كان من الممكن أيضا حساب عدد الذرات، أو الجزيئات في البوصة المكعبة الواحدة، ويدل هذا العدد الهائل، الذي يحسب بواحد وعشرين رقما، على شدة صغر الذرة الواحدة. أما التركيبات المعقدة للأجسام العضوية فيمكن تفسيرها على أساس أنها مؤلفة من جسيمات يتألف كل منها من مئات الذرات. ولا شك أن النجاح الذي حققته الكيمياء في ميدان الصناعة ما كان ليتحقق لولا النظرية الذرية.
وقد رأى العالم الفيزيائي، فضلا عن ذلك، أن المبدأ الذري لا يقتصر على المادة؛ فالكهرباء بدورها ينبغي أن ينظر إليها على أنها مؤلفة من ذرات. وقد اكتشفت ذرات الكهرباء حوالي نهاية القرن التاسع عشر، وسميت إلكترونات، وكان من الغريب أنها كلها تحمل شحنة كهربائية سالبة، وظل علماء الفيزياء يعتقدون طوال بضع عشرات من السنين أن الذرات الكهربائية الموجبة لا يمكن أن تنفصل عن المادة. غير أن الأبحاث القريبة العهد أثبتت أن هناك إلكترونات موجبة أيضا، يسمى كل منها عادة باسم «البوزيترون
»، وكشفت أبحاث أخرى قريبة العهد عن وجود جزيئات أولية أخرى للمادة، تحتل بينها «النيوترونات» مكانة هامة.
ولكن، على حين أن المسيرة الظافرة لفكرة الذرة قد استمرت في عدد كبير من مجالات العلم، فإنها توقفت في مجال واحد هام، هو نظرية الضوء؛ فقد كان إسحاق نيوتن، الذي اشتهر بفضل وضعه لنظرية الجاذبية، من أعظم الباحثين في علم الضوء أيضا، وقد أدرك أن من الممكن تفسير سير الأشعة الضوئية في خطوط مستقيمة بافتراض أن الضوء يتألف من جزيئات صغيرة تنبعث بسرعة هائلة من المصدر الضوئي، ولا بد أن تسير هذه الجزيئات، تبعا لقوانين الحركة، في خطوط مستقيمة. وهكذا كان نيوتن واضع النظرية الجسيمية في الضوء، وهي النظرية التي ظلت سائدة حتى أوائل القرن التاسع عشر. أما النظرية التموجية في الضوء، التي ابتدعها معاصره كريستيان هويجنز
Página desconocida