El origen de la filosofía científica
نشأة الفلسفة العلمية
Géneros
Helmholz
هو الذي قدم هذا التفسير للتخيل البصري، وكان الفيلسوف من قبله قد ارتكب خطأ النظر إلى ما هو في واقع الأمر نتاج للتعود، على أنه رؤية للأفكار (المثل) أو قوانين للعقل، واستغرق الكشف عن هذه الحقيقة أكثر من ألفي عام، ولولا جهد العالم الرياضي بكل ما لديه من أساليب فنية معقدة، لما أمكننا أبدا أن نتخلص من العادات المتأصلة فينا، وأن نحرر أذهاننا من قوانين العقل المزعومة.
إن التطور التاريخي لمشكلة الهندسة إنما هو مثل بارز للإمكانات الفلسفية التي ينطوي عليها تطور العلم. فالفيلسوف الذي زعم أنه كشف قوانين العقل قد أضر بنظرية المعرفة؛ إذ إن ما رآه قوانين للعقل، كان في واقع الأمر تكيفا للخيال البشري مع البناء الفيزيائي للبيئة التي يحيا فيها البشر، ولا بد لنا من البحث عن قدرة العقل، لا في قواعد يمليها العقل على خيالنا، بل في القدرة على تحرير أنفسنا من أي نوع من القواعد تكيفنا معه عن طريق التجربة والتراث. والحق أن التأمل الفلسفي وحده كان سيظل على الدوام عاجزا عن التغلب على طغيان العادات المتأصلة؛ فلم يكن من الممكن أن تتضح مقدرة الذهن البشري إلا بعد أن أوضح العالم وسائل معالجة تركيبات تختلف عن تلك التي تدربت عليها أذهاننا طوال تراث قديم العهد. فالعالم إذن هو المرشد والدليل في مسيرة الاستبصار الفلسفي.
ولقد ظل الطابع الفلسفي للهندسة ينعكس في كل الأوقات على الاتجاه الأساسي للفلسفة؛ وبذلك كان للتطور التاريخي للهندسة تأثير قوي في تطور الفلسفة. فالمذهب العقلي الفلسفي، من أفلاطون إلى كانت، كان قد أكد ضرورة بناء كل معرفة على أنموذج الهندسة، وكان الفيلسوف العقلي قد بنى حجته على تفسير للهندسة، ظل بمنأى عن الشك طوال ما يربو على ألفي عام؛ هذا التفسير هو القائل إن الهندسة نتاج للعقل، يصف العالم الفيزيائي. وعبثا حاول الفلاسفة التجريبيون أن يكافحوا ضد هذه الحجة؛ فقد كان الرياضي واقفا في صف الفيلسوف العقلي، وبدت المعركة ضد منطقه ميئوسا منها. غير أن الآية انعكست بعد كشف الهندسة اللاإقليدية ؛ فقد اكتشف الرياضي أن ما كان يستطيع إثباته لا يعدو أن يكون نسق علاقات اللزوم الرياضية؛ أي علاقات «إذا كان ... فإن»، التي تؤدي من البديهيات إلى النظريات الهندسية، ولم يعد يرى أن من حقه تأكيد صحة البديهيات، وترك مهمة إصدار هذا التأكيد للعالم الفيزيائي. وهكذا أصبحت الهندسة الرياضية مجرد حقيقة تحليلية، واستسلم الجزء التركيبي من الهندسة للعلم التجريبي، وفقد الفيلسوف العقلي أقوى حليف له، وأصبح الطريق خاليا للتجريبي.
ولو كانت هذه التطورات الرياضية قد حدثت قبل حدوثها الفعلي بألفي سنة، لاختلفت صورة تاريخ الفلسفة؛ فقد كان من الممكن جدا أن يكون أحد تلاميذ إقليدس رياضيا، مثل «بولياي
Bolyai »، وأن يكتشف الهندسة اللاإقليدية؛ إذ إن من الممكن الوصول إلى مبادئ هذه الهندسة بوسائل بسيطة إلى حد ما من النوع الذي كان متوافرا في عصر إقليدس. ولنذكر في هذا الصدد أن النظام الفلكي القائل بمركزية الشمس قد كشف في ذلك الحين، وأن الحضارة اليونانية الرومانية وصلت إلى ضروب من التفكير المجرد تقف في مصاف تفكير العصور الحديثة. ولو كان مثل هذا التطور الرياضي قد حدث، لأدى إلى تغيير هائل في مذاهب الفلاسفة؛ فعندئذ كان أفلاطون سيتخلى عن نظرية المثل لافتقارها إلى أساس في المعرفة الهندسية، ولم يكن الشكاك ليجدوا ما يشجعهم على الشك في المعرفة التجريبية أكثر مما يجدونه بالنسبة إلى الهندسة، ولكان من الجائز أن تواتيهم الشجاعة فيدعون إلى مذهب تجريبي إيجابي؛ وعندئذ ما كانت العصور الوسطى لتجد مذهبا عقليا متسقا يمكن إدماجه في اللاهوت، ولما ألف اسبينوزا كتابه «الأخلاق مبرهنا عليها بالطريقة الهندسية»، ولما كتب «كانت» «نقد العقل الخالص».
أكان ذلك كله خليقا بأن يحدث، أم إنني مسرف في التفاؤل؟ أيمكن استئصال الخطأ بتعليم الصواب ؟ إن الدوافع النفسية التي أدت إلى ظهور المذهب العقلي الفلسفي قوية إلى حد يحق معه للمرء أن يفترض أنها كانت ستجد لنفسها عندئذ طرقا أخرى للتعبير؛ فقد كان من الممكن أن ترتكز على نواتج أخرى للعالم الرياضي، وتحولها إلى دليل مزعوم على التفسير العقلي للعالم. والواقع أنه قد انقضى على كشف «بولياي» أكثر من مائة عام، ولم يندثر المذهب العقلي بعد؛ فليست الحقيقة سلاحا كافيا لحظر الخطأ، أو بعبارة أدق، فإن الاعتراف العقلي بالحقيقة لا يكسب الذهن البشري دائما تلك القوة التي تمكنه من مقاومة الجاذبية الانفعالية المتأصلة في السعي إلى اليقين.
غير أن الحقيقة سلاح فعال، وقد تمكنت في كل الأزمان من حشد أتباع من أفضل الناس، وهناك دلائل لا بأس بها على أن حلقة أتباعها تزداد اتساعا بالتدريج، وربما كان هذا كل ما يمكننا أن نؤمله.
الفصل التاسع
ما الزمان؟
Página desconocida