De la Transmisión a la Creación (Volumen 2 La Transformación): (1)
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (١)
Géneros
الإهداء
الفصل الأول: العرض الجزئي والعرض الكلي
أولا: العرض الجزئي
ثانيا: العرض الكلي
الفصل الثاني: العرض النسقي
أولا: العرض النسقي المنطقي (ابن سينا أبو البركات)
ثانيا: العرض النسقي الشعبي (إخوان الصفا)
الفصل الثالث: العرض الأدبي
أولا: الفلسفة الأدبية (أبو حيان)
ثانيا: الحكمة الشعبية (مسكويه)
Página desconocida
الإهداء
الفصل الأول: العرض الجزئي والعرض الكلي
أولا: العرض الجزئي
ثانيا: العرض الكلي
الفصل الثاني: العرض النسقي
أولا: العرض النسقي المنطقي (ابن سينا أبو البركات)
ثانيا: العرض النسقي الشعبي (إخوان الصفا)
الفصل الثالث: العرض الأدبي
أولا: الفلسفة الأدبية (أبو حيان)
ثانيا: الحكمة الشعبية (مسكويه)
Página desconocida
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (1) العرض
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (1) العرض
الجزئي والكلي - النسقي - الأدبي
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى حكماء الأمة من جيلنا.
قضاء على التغريب في عصر.
حسن حنفي
الفصل الأول: العرض الجزئي والعرض الكلي
Página desconocida
أولا: العرض الجزئي
يعني العرض الجزئي عرض موضوع واحد عند أحد فلاسفة اليونان مع ذكر اسمه في العنوان في كتاب معين أو في موضوع محدد كنوع من التقديم والتعريف. وهو نوع من التأليف في الوافد عن طريق تبسيط موضوعاته ونصوصه حتى يسهل بعد ذلك تمثلها، وقد قام بذلك الفارابي.
ففي «الإبانة عن غرض أرسطوطاليس في كتاب ما بعد الطبيعة» للفارابي (339ه) وهو الذي قرأه ابن سينا ففهمه بعد أن قرأ الترجمة العربية للنص اليوناني أربعين مرة فلم يفهمه، مما يدل على قدرة الفارابي على العرض الواضح.
1
ولا يبدأ العرض بفعل القول ومشتقاته؛ فهذه مرحلة قد ولت، مرحلة الشرح والتلخيص والجوامع، ولكنه يتوجه إلى القصد مباشرة قصد أرسطو وقصد الفارابي حتى يتحد القصدان. والقصد هو غرض أرسطو في الكتاب أي العلة الغائية وهي التي لها الأولوية على باقي العلل الصورية، الشكل اللغوي، والمادية (مضمون الفكر وطرق الاستدلال) والفاعلة أي المؤلف نفسه. يتعامل الفارابي هنا مع العمل دون تشخيصه في صاحبه. فالعمل مستقل عن المؤلف ينتمي إلى تاريخ الحضارة الذي يعبر عن تطور الفكر البشري. فالقصد - أي الغاية - يأتي قبل الأقسام أي المادة والمضمون. ولا يكفي في ذلك الغرض الكلي للكتاب كله بل يمكن أن ينقسم إلى أغراض جزئية، غرض كل مقالة على حدة ومجموع الأغراض الجزئية تصب كلها في الغرض الكلي.
والتوجه نحو القصد والغاية والغرض ليس توجها نظريا خالصا منفصلا عن الزمان والمكان وإنما تصحيح لوهم كثير من الناس أن مضمون الكتاب مضمون ديني، يتعرض للبحث في الباري «سبحانه وتعالى»، والعقل والنفس وسائر ما يناسبها، وأن علم ما بعد الطبيعة وعلم التوحيد علم واحد. وهو غير صحيح، ولا ينطبق إلا على المقالة الحادية عشرة وهي مقالة اللام. ومما أوقع في هذا اللبس ترجمة «علم ما بعد الطبيعة» أحيانا بلفظ «الإلهيات» في قسمة الحكمة إلى منطق وطبيعيات وإلهيات كما وضح ذلك في قسمة «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» لابن سينا.
2
ويعرض الفارابي الكتاب لحل هذا الإشكال من أجل التمييز بين علم ما بعد الطبيعة وعلم التوحيد، ابتداء من تصنيف العلوم، وهو مدخل رئيسي في فلسفته كما عرض في «إحصاء العلوم»؛ فالعلوم قسمان جزئية وكلية. الجزئية تتعرض لبعض الموجودات على حدة مثل علم الطبيعة للطبيعة، والهندسة للمقادير، والحساب للعدد، والطب للأبدان. والكلية هي التي تنظر في جميع الموجودات والمبادئ المشتركة بينها مثل الوحدة والكثرة، والتقدم والتأخر، والقوة والفعل، والتام والناقص، وما يجمعها جميعا وهو ما يسمى باسم الله جل جلاله. وهو علم واحد وإلا لكان علما جزئيا؛ ومن ثم يدخل علم البارئ باعتباره علما كليا في علم ما بعد الطبيعة باعتباره أيضا علما كليا في علم واحد، علم الوجود المطلق. وبما أنه علم أعلى من الطبيعة وفوقها فإنه يسمى علم ما بعد الطبيعة. والعلم التعاليمي أكثر تجريدا من علم ما بعد الطبيعة ولكنه لا يدخل فيه. فموضوعاته ليست طبيعية ولا من علم ما بعد الطبيعة بل من صنع الوهم مثل النقطة والخط. فالمفارقة إما بالحقيقة مثل علم ما بعد الطبيعة أو بالوهم مثل العلم التعاليمي.
3
وهو لا يتناقض مع الوهم بالتوحيد بين العلمين كما هو الحال عند بعض الشراح؛ فالعلم الإلهي داخل في علم ما بعد الطبيعة نظرا لأنه يتعرض للباري كأحد التصورات التي تجمع بين الموجودات مثل المحرك الأول والعلة الأولى والوجود المطلق. فالعلم الإلهي أحد أشكال علم ما بعد الطبيعة دون أن يتوحد العلمان.
Página desconocida
ويعرض الفارابي الاثنتي عشرة مقالة، ويحكم على كل منها، ويربط بينها؛ فالمقالة الأولى تشبه الصدر والخطبة لأن موضوعها أقسام العلل وانتهاؤها إلى العلة الأولى. كما يبين وضوحها أو غموضها، سهولتها أو صعوبتها مثل المقالة الثانية. فيوضحها ويقيم الحجج عليها حتى يتوجه الذهن نحو الطلب. ويحول الموضوعات إلى معان ذهنية مثل المقالة الثالثة. ويحدد مستوى الموضوعات مثل المقالة الرابعة التي تفصل الألفاظ الدالة على موضوعات العلم الألفاظ المتواطئة أو المشكلة أو المشتركة اشتراكا حقيقيا كما يفعل في المنطق، وتحويله من منطق تصورات إلى منطق لغة. ويعيد بيان تقسيم العلوم النظرية إلى طبيعية ورياضية وإلهية في المقالة الخامسة لأن المنطق آلة لكل العلوم. فالعلم الإلهي جزء من العلم لأنه نظر في الهوية بالذات وليست الهوية بالعرض على عكس ما يقول الجدليون والمغالطيون. لذلك كان موضوع المقالة السادسة التمييز بين الهوية بالذات وهو الجوهر وأقسامه، المادة والصورة، وحده، والصورة غير المفارقة والصورة المفارقة. ومن الطبيعي أن تكون الصور الأفلاطونية المفارقة موضوع المقالة السابعة. ثم تتوالى المقالات بعد ذلك، الثامنة في القوة والفعل وتقدم المتقدم، والتاسعة في الواحد والكثير والغير والخلاف والضد، والعاشرة في التمييز بين مبادئ العلم وعوارضه، والحادية عشرة في مبدأ الجوهر والوجود كله وإثبات هويته وأنه عالم بالذات وحق بالذات، وفي الموجودات المفارقة وترتيبها بالنسبة إليه، وهي مقالة اللام الشهيرة التي ساعدت على تعشيق علم ما بعد الطبيعة في علم التوحيد، وأخيرا المقالة الثانية عشرة في مبادئ الطبيعيات والتعليميات.
4
ولا يذكر من الوافد بطبيعة الحال إلا أرسطو ثم الإسكندر ثم ثاسطيوس والأفلاطونية كصفة؛ فأرسطو هو صاحب الكتاب الذي يذكر في العنوان وفي الرسالة. ويذكر الإسكندر كشارح لمقالة اللام شرحا غير تام بالرغم من وهم المتأخرين أن شرحه كان تاما. هنا يبدو الفارابي أكثر دراية بشرح الإسكندر من الشراح اليونان الذين ربما أتموا شرحه. يبدو الفارابي أكثر دقة في التاريخ، ينسب العمل إلى صاحبه، ويعرف حجمه وقدره. أما ثامسطيوس فإنه شرح مقالة اللام شرحا تاما دون المقالات الأخرى نظرا لأن مقالة اللام هي التي يتحدث فيها أرسطو عن المحرك الأول، وهي أكثر المقالات إيمانية واتجاها نحو الدين، ويسهل تعشيقها في الموروث فيصبح المحرك الأول هو الباري تعالى طبقا للتشكل الكاذب. وتذكر الصور الأفلاطونية كموضوع للمقالة السابعة وليس كإضافة من الفارابي على نص أرسطو. ولا يذكر الموروث على الإطلاق الكلامي أو الفلسفي أو الفقهي؛ فالفارابي في غنى عن ذلك بقدرته على التمثل والاستيعاب ثم إعادة العرض بوضوح وثقة اعتمادا على العقل الخالص.
ثانيا: العرض الكلي
(1) عرض المذهب
ويتدرج العرض الكلي في ثلاث مراحل الأولى عرض مذهب فيلسوف بعينه مثل أرسطو عرضا مذهبيا ابتداء من مجموع أعماله كما فعل الكندي في رسالته عن «كمية كتب أرسطوطاليس، وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة».
1
فالعرض له غرضان؛ الأول حصر عدد كتب أرسطو أي عرض المؤلفات ونسقها، ومن خلالها يتم عرض المذهب. والثاني ما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة. الأول تاريخي والثاني لا تاريخي. الأول يوناني خاص، والثاني إنساني عام، وهو معرفة الحق وشوق النفوس له. الأول للتعليم والثاني لبيان الغرض.
وبطبيعة الحال يذكر أرسطو، وتذكر صفة «يوناني» لأرسطو وأسماء كتب أرسطو معربة. أو الطبيعيات فكلها مترجمة.
2
Página desconocida
وأحيانا يوضع اللفظ المعرب أولا ثم المترجم ثانيا مثل قاطوغورياس وهو علم المقولات، الحامل والمحمول، الجوهر والعرض مع إفاضة في الشرح وضرب الأمثلة. ومثل باريارمانياس ومعناه علم التفسير، وأنالوطيقا الأولى ومعناه العكس من الرأس، وأنالوطيقا الثانية وهو المخصص باسم أفوذقطيقا ومعناه الإيضاح، وطوبيقا ومعناه المواضع أي مواضع القول، وسوفسطيقا ومعناه المنسوب إلى السوفسطائيين ومعنى السوفسطائي المتحكم، وريطوريقا ومعناه البلاغي، وبوييطيقا ومعناه الشعري. بل ما زالت الأسماء قلقة في تعريبها مثل نيقوماخوس ورسم اسمه نيقوماخس.
3
وما زال العرض ينقصه الاتساق. يبدأ بالإجابة على السؤال إحصاء كتب المنطق والطبيعيات والأخلاقيات والرياضيات ثم يبين اشتراكها جميعا في موضوع الجوهر ثم يبين امتياز البرهان القرآني وإعجازه في الرد على منكري حشر الأجساد والخلق بقياس الأولى، وبيان بلاغه حجة القرآن لغويا، ثم العودة إلى الرياضيات وأهميتها لإذكاء العلم الإنساني والإلهي في آن واحد، ثم عود إلى موضوع الكتب المنطقية والطبيعية وما بعد الطبيعة والنفسية والأخلاقية والسياسية مما يدل على التكرار.
ويبدأ المتعلم بالرياضيات بالرغم من بداية الكندي بعرض المنطقيات ثم الطبيعيات. وتشمل الرياضيات: العدد والهندسة أو المساحة والتنجيم والتأليف وهي شرط معرفة باقي كتب أرسطو على نحو برهاني وليس مجرد حفظها وروايتها. العدد والتأليف صناعتان للكمية، والهندسة والتنجيم صناعة الكيفية. وعلم العدد أول العلوم الرياضية وأساسها. يبحث في الكمية المفردة أي المنفصلة قياسا للأجزاء بعضها على البعض الآخر. وهو أساس باقي العلوم ومتقدم عليها؛ فإن لم يكن عدد لا يكون تأليف أو مساحة أو تنجيم. وعلم التأليف إيجاد نسبة عدد إلى عدد، وقرنه إليه، ومعرفة المؤتلف والمختلف، وإضافة الكمية بعضها إلى بعض. وهو يتألف من عدد ومساحة وتنجيم. وأظهر ما يكون في الأصوات وتركيب الكل والأنفس الإنسانية والهندسة علم الكيفية الثانية وهو علم المساحة العظيمة. وعلم التنجيم وهو علم الفلك، علم الكيفية المتحركة، علم هيئة الكل، وعدد أجسامه الكليات، وحركتها وكمية حركاتها، وما يعرض في ذلك من نوعه، علم هيئة الكل في الشكل والحركة بأزمانها من أجرام العالم التي لها الكون والفساد حتى يدثرها مبدعها إن شاء كما أبدعها. وهو مركب من عدد ومساحة. هذه العلوم الرياضية الأربعة هي شرط التفلسف، ومن عدمها عدم الفلسفة والعلم الإلهي معا لأنها أيضا علم الجوهر الذي لا يزول. فمن أراد تعلم الفلسفة يبدأ بالرياضيات والمنطقيات والطبيعيات وما فوق الطبيعيات ثم الأخلاقيات وسياسة النفس بالأخلاق المحمودة، وغير ذلك من العلوم مركب منها. ولكل علم مراتبه.
4
فكتب أرسطو أربعة أنواع بعد تعلم الرياضيات: المنطقيات، والطبيعيات، والثالث ما كان مستغنيا عن الطبيعيات، قائما بذاته، غير محتاج إلى الأجسام ومع ذلك يوجد مع الأجسام مواصلا لها وهي النفس وظواهرها أي الطبيعيات الصغرى، والرابع ما لا يحتاج إلى الأجسام ولا يواصلها ألبتة وهو علم ما بعد الطبيعة. وهو ما سماه ابن سينا بعد ذلك أن الموجودات قبل الكثرة، ومع الكثرة، وبعد الكثرة. الأولى المنطق، والثانية الطبيعيات، والثالثة الرياضيات. والمنطقيات ثمانية: الأول المقولات والثاني التفسير بعد أن استقر بعد ذلك إلى العبارة، والثالث العكس من الرأس وقد استقر بعد ذلك إلى التحليلات الأولى أو القياس، والرابع الإيضاح وقد استقر بعد ذلك في البرهان، والخامس المواضع والذي أصبح بعد ذلك الجدل، والسادس السفسطة، والسابع البلاغة أي الخطابة، والثامن الشعر. والطبيعيات سبعة: الخبر الطبيعي أي سمع الكيان، والثاني السماء وهو السماء والعالم، والثالث الكون والفساد، والرابع أحداث الجو والأرض الموسوم العلوي وبالقول على النهايات أي التي تتلاطم وهو «الآثار العلوية»، والخامس المعادن، والسادس النبات، والسابع الحيوان والطبيعيات الصغرى أربعة: النفس، والحس، والمحسوس، والنوم، واليقظة، وطول العمر وقصره. وما بعد الطبيعيات كتاب واحد.
وتلحق كتب الأخلاق بالنفس، ومنها الكتاب الكبير «الأخلاق إلى نيقوماخوس»، وهو أحد عشر قولا، والثاني الأخلاق الصغير أقل حجما. وله أيضا عديد من الرسائل والكتب الصغيرة في موضوعات جزئية.
ثم يتحول الكندي من إحصاء الكتب إلى عرض موضوعاتها. وأولها الجوهر ومحمولاته وهو موضوع كتاب المقولات. وهو أيضا موضوع طبيعي في السماع الطبيعي. وهو أيضا موضوع ما بعد الطبيعة، الجوهر الأزلي؛ فالجوهر موضوع للعلوم الثلاثة. الجوهر والمحمول أي الموضوع والمحمول في المنطق، والجوهر والمقولات التسع في العلم الطبيعي، الكم والكيف، الطينة أي المادة والصورة، والمضاف هو الموجود مع لا طينة، والمكان والزمان تركيب جوهر مع كم، والفعل والانفعال تركيب جوهر مع كيف، والملك تركيب جوهر مع جوهر. والجوهر الثابت هو الجوهر الأول الخالي من الأعراض، موضوع العلم الثابت الحق وهو الفلسفة، وهو موضوع العلم الإلهي الذي يأتي البشر دون تكلف أو طلب أو حيلة مثل علم الرسل. وهنا ينتهي عرض الوافد اليوناني ليبدأ عرض الموروث الإسلامي بعد تعشيق الأول في الثاني، الجوهر الأول في الله جل وعلا، والفلسفة في الوحي، وعلم البشر بعلم الرسل صلوات الله عليهم بلا طلب ولا تكلف بحث ولا بحيلة رياضية أو منطق بل بإرادة الله جل وتعالى بتطهير أنفسهم وإنارتها للحق وتأييده وتسديده وإلهامه ورسالاته. لهم آيات فاصلة لهم عن غيرهم من البشر من علم الجواهر الخفية. ثم تيقن العقول أن ذلك من عند الله جل وتعالى يخضع له البشر بالطاعة والانقياد، فيضطر إلى التصديق بما تأتي به الرسل عليهم السلام. مثال ذلك جواب الرسل فيما سئلوا فيه عن الأمور الخفية التي لا يستطيع الفيلسوف أن يجيب عليها إلا بعد طول جهد وعناء البحث والتروض، وبأسلوب موجز وبين، وقريب الإحاطة بالمطلوب.
5
العلم الإنساني إذن دون العلم الإلهي ولا سبيل لإحاطته بالأشياء الحقة الثابتة مع عدم الرياضيات إلا بقدر مباشرة الحس الذي يشارك فيه الحيوان غير الناطق.
Página desconocida
ويضرب المثل على ذلك بجموع الآيات الشهيرة من آخر سورة يس التي تحاجج ضد إنكار حشر الأجساد وكأنها جدل بين الرسول والمفكرين عندما سألوه يا محمد: من يحيي العظام وهي رميم؟ وقد استعاد القرآن السؤال في الإجابة
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ، وهو ما يسمى فيما بعد في المنطق دليل الأولى؛ فالقادر على الأقل يكون قادرا على الأكثر. وجمع المتفرق أسهل من صنعه وإيداعه. بل إن الله قادر على إخراج الشيء من نقيضه، الحياة من الموت، والنار من الأخضر
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ، وبعد المثل يأتي الممثول، وبعد المقدمة تأتي النتيجة
أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ، والإجابة البديهية على ذلك
بلى وهو الخلاق العليم . وهكذا يتحول الموروث الأول إلى حجة، والنقل إلى عقل، والنص إلى منطق.
6
وتنتقل الآيات من مجرد إثبات حشر الأجساد كقضية جزئية إلى إثبات الخلق وهي القضية الكلية؛ فالخلق من لا شيء أصعب من البعث من لا شيء، والقادر على البعث أقدر على الخلق، وأقل في الزمان والجهد لأنه جل ثناؤه لا يحتاج إلى مدة لإبداعه وإخراج الأيس من الليس
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، جل ثناؤه وتعالت أسماؤه عن ظنون الكافرين.
7
وتأتي الشواهد اللغوية لإحكام الاستدلال المنطقي. إذ يستعمل في لغة العرب مخاطبة ليس أي المعدوم. وتستعمل للشيء في الوصف ما ليس له في الطبع.
Página desconocida
8
ويظهر الأسلوب العربي المحلي في مخاطبة القارئ؛ فالرسالة موجهة إليه بإجابة على سؤاله؛ فالعرض استجابة لسؤال أي تلبية لدافع الفهم.
9
ثم يبدأ الجزء الثاني من الرسالة حتى ليبدو مكررا ولكن لبيان غرض هذه العلوم والمصنفات من أجل التفلسف وليس من أجل التعلم. فالنقل وسيلة للإبداع ومقدمة له. فإذا كان الجزء الأول قد تعرض للمادة أي الأشياء ذاتها فإن الجزء الثاني يعرض للغاية، غاية كل علم ومصنف عونا على فهمها. الأول وصف والثاني إيضاح. وأفضل فهم وتوضيح ما كان بالغاية والقصد من أجل التوجه نحو العمل والتحول من الفكر إلى السلوك، ومن الفهم إلى الفعل، بل ومن الظن إلى اليقين، ومن الثبات إلى الحركة. فعرض قاطيغورياس القول في المقولات المفردة العشرة في بدايتها مثل الجوهر والعرض، الحامل والمحمول، الجوهر الأول المحسوس والجواهر الثواني غير المحسوسة والمقولة على المحسوس، في وسطها وهي العشرة أعيان، وفي نهايتها مثل التقدم والحركة والمعية. وغرض باريامينياس أي التفسير، القضايا المقدمات للمقاييس العملية أي الجوامع، فهي إما موجبة أو سلبية أي مقدمات الأقيسة، في البداية الاسم والفعل والحرف والقول بالتعريف والخبر أو في الوسط مثل تأليف القضايا من شيئين اسم وحرف أو ثلاثة اسم وحرف وظرف زمان أو أربعة بإضافة الجهة، وفي النهاية لمعرفة أشد القضايا تناصبا أي تقابلا، الموجبة والسالبة أم الموجبة الموجبة المضادة لها، وغرض أنالوطيقا الإبانة عن الجوامع المرسلة وهي أقوال نضع منها أشياء، ويظهر منها شيء آخر لم يكن ظاهرا من قبل. وأقل تأليف للجامعة قضيتان مشتركتان في حد أوسط تظهر منهما نتيجة لم تكن ظاهرة من قبل. ولها ثلاثة أنواع من التراكيب: الأول أن يكون الحد المشترك موضوعا لأحد الطرفين محمولا للآخر، والثاني أن يكون محمولا للطرفين، والثالث أن يكون موضوعا للطرفين. فتكون الجوامع ثلاثة أنواع؛ الأول أن تكون الجوامع صادقة أبدا وهي البرهانية أو أن تكون صادقة أو كاذبة وهي الجدلية أو أن تكون كاذبة أبدا وهي السوفسطائية على الترتيب من الأشرف إلى الأخس. ومعنى أنالوطيقا النقض، وغرض أفوديقطيقي أن تعطي الجوامع البرهان ولا تحتاج أوائل البرهان إلى برهان؛ إذ هي ثابتة في العقل والحس، وغرض طوبيقي الجوامع الجدلية ومواضع القول التي توجب وجوبا آخر، والغلط الحاد فيها، والإبانة عن الأسماء الخمسة، الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض، والحد. هنا يدخل الكندي مقدمة فرفوريوس في الجدل. وغرض سوفسطيقي القول على المغالطة في وضع الجوامع أي القضايا، بلا شرائط القضايا المقدمات التي تؤلف منها الجوامع، في البداية لرصد أنواع المغالطة أو في النهاية للاحتراس من الوقوع فيها. وغرض ريطوريقي القول في أنواع الأقاويل الثلاثة الإقناع في الحكومة وفي المشورة وفي الحمد والذم الجامع لهما التقريظ. وغرض بوييطيقي القول في صناعة الشعر والأوزان في كل نوع كالمدح والهجاء والمراثي.
أما الكتب الطبيعية فغرض «الخبر الطبيعي» الإبانة عن الأشياء العامة لجميع الأشياء الطبيعية، العلل والأوائل والبخت والخلاء والمكان والزمان والحركة. وغرض «السماء» هيئة الكل، وانفصال الأجرام الأولى الخمسة، أحوالها الطبيعية وعوارضها وخصائصها الذاتية والعامة وعللها. وغرض الكون والفساد القول على الكون والفساد المرسل؛ أي الإبانة عن مائية الكل والفساد الكلي، وغرض «العلوي» أي الآثار العلوية الإبانة عن علل وكون كل كائن فاسد ما بين حضيض فلك القمر إلى مركز الأرض، في الجو وعلى الأرض وما في بطنها قولا كليا عن الآثار العارضة فيها. وغرض «المعدني» الإبانة عن علل الأجرام المتكونة في باطن الأرض، كيفياتها وخواصها الذاتية والعامة ومواضعها، وغرض «النباتي» الإبانة عن علل كون النبات وكيفياته الخاصة والعامة ومواضعه. وغرضه «الحيواني» الإبانة عن علل كون الحيوان، طبائعه وخواصه الذاتية والعامة وعلل أعضائه ومواضعه وحركاته.
أما الكتب النفسانية فإن غرضه في كتاب «النفس» الإبانة عن ماهيتها وكل واحد، قواها وفصولها وعوامها وخواصها، وتفصيل حواسها وأنواعها. وغرض «الحس والمحسوس» الإبانة عن علل المحسوسات. وغرض «النوم واليقظة» الإبانة عن ماهية النوم وكيفيته وعلل الرؤيا. وغرض «طول العمر وقصره» ما يدل عليه الاسم. وغرض كتاب ما بعد الطبيعة الإبانة عن الأشياء القائمة بغير طينة أي مادة ومع الطينة الذي لا يتواصل أو يتحد معها، وتوحيد الله «جل تعالى» والإبانة عن أسمائه الحسنى، وأنه علة الكل الفاعلة والمتممة. فهو الكل وسايس الكل بتدبيره المتقن وحكمته التامة. وهنا يتم تعشيق الوافد في الموروث، تعشيق ما بعد الطبيعة في التوحيد بألفاظه ومصطلحاته.
وينتهي الكندي عرض الموضوعات بعرض أغراض الكتب الخلقية والسياسية. فغرض الأخلاق إلى نيقوماخوس بيان أخلاق النفس وسياستها بالأخلاق الفاضلة وبعدها عن الرذيلة. وقسم السياسة الخلقية إلى أنواع، الخاصة والغريبة والمدنية. وفصل الأخلاق والآلام اللاحقة بكل نوع وبيان أن السعادة هي الفضيلة، في كل أوان، وأن الفضيلة في النفس والبدن وما خرج منها. وغرض بوليطيقي أي المدني الذي كتبه إلى بعض إخوانه يشبه غرض الأخلاق ولكن مطبقا في السياسة المدنية. بل وتتداخل المقالات بينهما.
10
ويحيل الكندي إلى باقي مؤلفاته. فيحيل إلى «كتابنا الأعظم في التأليف»، عندما يعرض للتأليف من العلوم الرياضية، والذي أظهر ما يكون في الأصوات. كما يحيل إلى باقي عرضه للعلوم بوجه عام دون إحالات إلى علم أو كتاب خاص لمزيد من التفصيل.
11
Página desconocida
وكما تبدأ الرسالة بالبسملة والاحتساب على الله فهو نعم العون تتخللها العبارات الإيمانية مثل «جود الجايد بكل خير، وحسن معونته، جل وتعالى علوا كبيرا.» وتنتهي أيضا بالسؤال بالتوفيق لكل خير، والدعوة للتحصين من كل ضر، مع الحمدلة والصلاة على الرسول وآله أجمعين.
12 (2) جمع المذهبين
والمرحلة المتوسطة في العرض الكلي هو الجمع بين مذهبين مثل أفلاطون وأرسطو في منظور كلي واحد شامل. وتلك هي دلالة محاولة الفارابي «الجمع بين رأيي الحكيمين»
13
فيعرضها على طريق الإيجاز. لذلك تتميز بالوضوح والقدرة على الاختصار، والرؤية الثاقبة، والتعرف على خصائص المذهبين. وهما اختياران متكاملان وحلان على التبادل لإشكال واحد. يترك الاستطراد والدخول في مذهب كل منهما لأنه ليس المقصود.
14
وبطبيعة الحال لا يذكر إلا الوافد دون الموروث. ويأتي أرسطو في المقدمة ثم أفلاطون ثم الإسكندر ثم سقراط ثم الإسكندر الأفروديسي وأمونيوس ثم ثامسطيوس وفرفوريوس وإيرقليطوس، ومن الفرق الإسكلائيين.
15
والدافع على التأليف هو أن «أكثر أهل زماننا» قد خاضوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه وادعوا أن الحكيمين المقدمين المبرزين اختلفا في المبدع الأول، وفي وجود الأسباب منه، وفي النفس والعقل وفي المجازاة على الأفعال خيرها وشرها، وفي كثير من الموضوعات المدنية، والخلقية والنطقية؛ فالبداية من الواقع وحياة الناس. وتشعب الآراء والموضوعات إسلامية صرفة، خلق العالم، والمعاد، وبعض المسائل الشرعية، واختلاف أهم فيلسوفين يونانيين في ذلك أفلاطون وأرسطو؛ فالعقلاء أولى بالاتفاق من الاختلاف. ليس الدافع إذن التوفيق أو مجرد تمرين عقلي بل وحدة المعرفة الإنسانية، واتفاق العقل والنقل، اليونان والقرآن، وحدة الحقيقة العقلية بين العقلاء مثل أفلاطون وأرسطو، وبين الحقيقة العقلية والحقيقة السمعية، فلا فرق بين الوحي والعقل، بين الشريعة والحكمة، بين وحي الأنا وعقل الآخر، ويمكن اجتماع الحضارات على حقائق إنسانية واحدة بصرف النظر عن طرق المعرفة الحقيقة واحدة والطرق إليها مختلفة. يريد الفارابي بيان أوجه الاتفاق بينهما حتى يزول الشك من قلوب الناس، وبيان أسبابه. فالفلسفة هي العلم بالموجود بما هو موجود. ومن ثم يطبق الفارابي هذا التعريف لمعرفة حقيقة آراء أفلاطون وأرسطو في ذلك، عودا إلى الأشياء ذاتها بإجماع الآراء واتفاق الحكيمين المبرزين بل وجميع العقلاء ومطابقة ذلك بالوجود؛ فالتصديق نوعان؛ اتفاق العقلاء فيما بينهم، ثم تطابق آرائهم مع الواقع. فالعقل والواقع مقياسان للحقيقة التي يعلنها الوحي عطاء وهبة.
16
Página desconocida
وهناك احتمالات ثلاثة للاختلاف بين الحكيمين؛ الأول أن يكون حد الفلسفة غير صحيح، وهو العلم بالموجود بما هو موجود، أي وجود موضوع تتلاقى عليه الآراء، وجود حقيقة موضوعية يتفق عليها العقلاء. أما إذا كانت الفلسفة مجرد هوى أو رأي فما أكثر الأهواء والآراء، أي النسبية التي تضحي بالموضوعية، المعرفة التي تغفل الوجود حتى تبقى المعرفة وحدها مجرد شكوك وظنون دون معيار للتصديق بينها. والحد صحيح، مطابق الصناعة الفلسفة. ويتبين ذلك من إحصاء جزئيات هذه الصناعة؛ فالعلوم إما إلهية أو طبيعية أو منطقية أو رياضية أو سياسية، والفلسفة هي المستنبطة لها حتى إنه لا يوجد علم إلا وللفلسفة فيه رأي بمقدار الطاقة الإنسانية عن طريق القسمة المأثورة عن أفلاطون. ولما رأى أرسطو أن أفلاطون قد أكمل القسمة فإنه أخذ منهجا آخر هو القياس وهذبه في البرهان ليتمم القسمة؛ ومن ثم كان المنطق هو المدخل للطبيعيات والإلهيات. قصد الحكيمان إذن معرفة العالم على ما هو عليه دون زخرفة أو إغراب أو تكلف. حد الفلسفة إذن صحيح؛ إنها العلم بالموجود بما هو موجود.
والاحتمال الثاني أن يكون رأي الجميع أو الأكثرية في هذين الفيلسوفين سخيفا غير معقول ودخيل. وهو احتمال بعيد. فقد أجمع العقلاء على أن هذين الحكيمين مبرزين. وليس أقوى من شهادة الجميع على شيء واحد؛ فكما أن العقل حجة فإن إجماع العقلاء حجة، وهو إجماع عن عقل لا عن تقليد. قد يخطئ عقل واحد إذا لم يتدبر الرأي ولم يتحقق من صدقه أو أهمل في البحث مما قد يغطي ويعمي ويخيل. ولكن لا تخطئ عقول الجميع بعد اتفاقها وتأملها. لذلك اتفقت الألسنة - أي الشعوب المختلفة - على تقديم هذين الحكيمين. ويضرب بهما المثل على التفلسف، وإليهما يساق الاعتبار، وعندهما يتناهى الوصف العميق والعلوم والاستنباطات والغوص في المعاني.
والاحتمال الثالث أن يكون هناك تقصير في معرفة الظانين بأن بينهما خلافا في الأصول، وهو الاحتمال الأقرب. ولكل تقصير في الظن والنظر دوافعه وأسبابه. ويمكن القضاء على هذا الظن أو التقصير بمعرفة طرق اليقين؛ فاليقين في العلوم الطبيعية والشرعية والأخلاقية؛ ومن ثم يمكن استقراء الجزئيات التي يبدو عليها الخلاف بين الحكيمين حتى يصح الحكم بالاختلاف أو الاتفاق.
17
ويحصي الفارابي اثني عشر موضعا للاختلاف الظاهري بين أفلاطون وأرسطو ويبدده ويبين اتفاقهما فيها؛ فالحقيقة مزدوجة، ذات جانبين. أخذ كل منهما جانبا ليكمل الآخر في رؤية متكاملة متزنة متعادلة عند الفارابي وسابقة على رأي الحكيمين. أخذ كل حكيم رأيا أحادي الجانب وجمع الفارابي الرأيين الأحادي الجانب الذي يغلب على ثقافة الوافد في رؤية متكاملة تغلب على ثقافة الموروث. العقل اليوناني أحادي والوحي الإسلامي تكاملي، على النحو الآتي : (1)
لكل من الحكيمين سيرة وأفعال مختلفة مما أدى إلى أقوال متباينة لما كانت السير والأفعال والأقوال تابعة للاعتقاد. وهو منظور إسلامي، ربما كان الاختلاف بينهما أعمق في أصول الاعتقاد؛ فقد تخلى أفلاطون عن كثير من الأمور الدنيوية وحذر من غوائلها، في حين أن أرسطو تفحص فيها وامتلك وتزوج واستوزر للإسكندر. ولا خلاف في ذلك؛ فقد اعتنى أفلاطون بالسياسة، وهذب السير العادلة والعشرة الإنسية المدنية، وأبان فضائلها، وكشف عن مفاسدها بترك العشرة وإيثار العزلة، وهو ما تدرسه الشعوب حتى اليوم، ابتدأ بالنفس ثم انتهى بالجماعة، طبقا للأولويات في الأهمية؛ فالأخلاق قبل السياسة، والنفس قبل العالم. أما أرسطو فقد بدأ بالسياسة وبالعالم. ولما اطمئن إليها توجه إلى النفس والأخلاق؛ فنقطة البداية عند أفلاطون هي نقطة النهاية عند أرسطو، ونقطة النهاية عند أرسطو هي نقطة البداية عند أفلاطون. الخلاف بينهما في إدراك الأولويات طبقا لتباين القوى الطبيعية بين الحكيمين، زيادتها في أحدهما ونقصها في الآخر، وهو تصور إسلامي إيثارا للنفس على العالم، وللأخلاق على السياسة
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
أو في قول المسيح ماذا تكسب لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟ (2)
آثر أفلاطون عدم تدوين العلوم وتأليف الكتب، وفضل إبقاءها في الصدور والعقول. ولما خشي عليها من النسيان عبر عنها بالرموز والألغاز حتى لا يطلع عليها إلا أهلها ومستحقوها، وهي طريقة «المضنون به على غير أهله»، وسبب استعمال الصوفية أيضا رموزهم وألغازهم حماية لأنفسهم وإبعادا لأهل الظاهر عنها. أما أرسطو فقد دون الكتب ورتبها وبينها وأوضحها لإيصالها للناس. والحقيقة أن هذا الاختلاف ليس كليا مطلقا؛ فعند كل من الحكيمين بعض مآثر الآخر. ألغز أرسطو وأخفى بعض علومه، وحذف كثيرا من المقدمات الضرورية في القياسات الطبيعية والإلهية والخلقية، وكان يقول الحقائق إلى المنتصف حتى يدرك الناس بعقولهم النصف الآخر. استعمل هذه الطريقة في رسائله مع الإسكندر «وكل لبيب بالإشارة يفهم». يعطي المقدمات كي يستنبط الإسكندر النتائج أو يعطي النتائج حتى يستنبط الإسكندر المقدمات. يذكر مقدمات ويستنبط منها نتيجة أخرى حتى ينبه القارئ على نتيجة القياس. يذكر الجزئيات حتى يستقريها القارئ ويصل إلى الكليات أو يعطي الكليات حتى يستنبط السامع منها الجزئيات أو يقيس عليها جزئيات أخرى قياسا تمثيليا. وقد يغمض في كلامه حتى يقوم القارئ بالإيضاح بنفسه وإعمال الجهد في العلم والتعلم. رتب الكتب ونظمها، وكأن ذلك طباع له ثم تحول عنها في رسائله، وكما وضح ذلك في رده على أفلاطون في رسالته التي يعذله فيها على تدوين العلوم وإخراجها للناس بأن ترتيبها لا يفهمه إلا من يستحقها؛ فالظاهر أن الحكيمين مختلفان. والحقيقة أن مقصودهما واحد.
18 (3)
Página desconocida
وقدم الجوهر عند أفلاطون غير قدمه عند أرسطو؛ ففي «طيماوس» و«بوليطيا الصغير» أشرف الجواهر عند أفلاطون وأقدمها القريبة من العقل والنفس البعيدة عن الحس والمشاهدة، في حين أنها عند أرسطو في «المقولات والقياسات الشرطية» أي القياس الأشخاص والأعيان. وهو خلاف في الظاهر لأن الحكماء يفرقون بين الأقاويل والقضايا في الصناعات المختلفة. ويتكلمون على الشيء الواحد بطرق مختلفة حسب مقتضى الصناعة. جعل الحكيم أرسطو الجوهر الشخص في صناعة المنطق وفي علم الطبيعة فتصوره جوهرا محسوسا. أما الحكيم أفلاطون فقد تكلم عن الجوهر في علم ما بعد الطبيعة وفي الأقاويل الإلهية. فتصور الجوهر بسيطا باقيا لا يتحول ولا يندثر. الفرق بين الحكيمين هو فرق بين العلمين. (4)
وإذا كان أفلاطون قد آثر في توفية الحدود طريق القسمة في حين أن أرسطو آثر طريقة البرهان والتركيب؛ فالحقيقة أن الخلاف في المنهج وليس في الموضوع، في الطريقة وليس في الشيء. أفلاطون يؤثر القسمة التي هي أقرب إلى الاستنباط، والانتقال من الكلي إلى الجزئي في حين أن أرسطو يؤثر التركيب أي البرهان وهو أقرب إلى الاستقراء والانتقال من الجزئي إلى الكلي. يتبع أفلاطون الجدل النازل في حين يتبع أرسطو الجدل الصاعد. الخلاف في اتجاه الحركة نحو الموضوع والاقتراب منه من أعلى كما يفعل أفلاطون أو من أسفل كما يفعل أرسطو، من علم ما بعد الطبيعة والعلم الإلهي كما يفضل أفلاطون، أو من علم الطبيعة وعلم المنطق كما يفضل أرسطو . يستعمل أرسطو بعض القسمة كما هو الحال في القياس، ويستعمل أفلاطون بعض التركيب عندما يقسم العام إلى فصلين ذاتيين ثم كل فصل ذاتي إلى فصلين ذاتيين. القسمة تركيب مقلوب إلى أسفل كما أن التركيب قسمة مقلوبة إلى أعلى. الهدف واحد هو الوصول إلى الشيء سواء من جنسه ونوعه كما يفعل أفلاطون أو من فصله وخاصته وأعراضه كما يفعل أرسطو.
19 (5)
قيل إن أفلاطون في القياس المختلط من الضروري والوجودي جعل المقدمة الكبرى ضرورية والنتيجة وجودية لا ضرورية في قياس أتى به في «طيماوس»؛ فالوجود أفضل من الوجود، والطبيعة تشتاق إلى الأفضل دائما فينتج عن ذلك أن الطبيعة تشتاق إلى الوجود وهي مقدمة ليست ضرورية؛ فلا ضرورة في الطبيعة. في وجود الطبيعة على الأكثر في حين أن أرسطو يصرح في كتاب «القياس» أن القياس الذي تكون مقدماته مختلطة من الضروري والوجودي وتكون الكبرى ضرورية تكون النتيجة أيضا ضرورية. وهو خلاف ظاهر بين الحكيمين. والحقيقة أن هذا الخلاف يرجع إلى الشراح «الإسكلائيين» مثل أمونيوس حتى ثامسطيوس اللذين نسبا هذا القول إلى أفلاطون، لقلة تمييزهم وخلط صناعة المنطق بالعلم الطبيعي؛ فقد رأوا لزوم الحد الأول للأوسط ضروريا ولزوم الأوسط للآخر وجوديا. خلطوا بين المنطق والطبيعة، ولم يعرفوا أن القياس مؤتلف من موجبتين في الشكل الثاني. وقد لخص الإسكندر ذلك في «معنى القول على الكل» عند أرسطو ولخصه الفارابي في «أنولوطيقا»، وفرق بين الضروري القياسي والضروري البرهاني؛ ومن ثم فلا خلاف بين أفلاطون وأرسطو. كما ادعى الشراح أن أفلاطون يستعمل ضربا من القياس في الشكلين الأول والثالث الذي فيه المقدمة الصغرى سالبة في حين أن أرسطو بين في «أنالوطيقا» أنه غير منتج. وقد بين الفارابي من قبل أن الذي أتى به أفلاطون في كتاب «السياسة» وأرسطو في كتاب «السماء والعالم» ليست سوالب بل موجبات معدولة ولا تمنع القياس أن يكون منتجا. ذكر أرسطو في الفصل الخامس من كتاب «باري هرمنياس» أن الموجبة التي المحمول فيها ضد من الأضداد تكون سالبته أشد مضادة. وظن الناس أن أفلاطون يخالفه في ذلك اعتمادا على أقاويله السياسية والخلقية من أن الأعدل متوسط بين الجود والعدل، والحقيقة أن الغرضين مختلفان. فغرض أرسطو بيان معاندة الأقاويل وأنها أشد وأتم معاندة، فمن الأمور ما لا يوجد فيها مضادة ألبتة في حين أنه لا يوجد أمر إلا وله سالب معاند. غرض أفلاطون بيان المعاني السياسية ومراتبها لا معاندة الأقاويل وهو ما بينه أيضا أرسطو في «نيقوماخيا الصغير». فلا خلاف بين الحكيمين.
20 (6)
ويختلف رأيا أفلاطون وأرسطو في موضوع الإبصار؛ إذ يرى أرسطو أن الإبصار يكون بانفعال من البصر، بينما يرى أفلاطون أن الإبصار يكون بخروج شيء من البصر وملاقاة المبصر. وزاد الأئمة - أي المفسرون - الخلاف، وشنع كل فريق على الآخر. شنع أنصار أرسطو على أفلاطون؛ فالخروج لا يكون إلا للجسم هواء أو ضوءا أو نارا. وكلها موجودة بين البصر والمبصر، ولا حاجة إلى خروج من الذات إلى الموضوع فيتم التشنيع بسوء استعمال لفظ خروج. وشنع أصحاب أفلاطون «على أرسطو وحرفوا لفظ الانفصال بأنه تأثر واستحالة وتغير في الكيفية، إما في البصر أو في الجسم بين البصر والمبصر؛ فالاستحالة في العضو تكون في الحدقة إلى ما لا نهاية أو في بعضها مما يجعلها مفصلة. وإن كان في الجسم الوسيط لزم أن يكون قابلا للضدين، واحتج أصحاب أرسطو بأنه لو لم يكن الانفصال في الجسم لما أمكن للبصر أن يرى الأشياء البعيدة، واحتج أصحاب أفلاطون بإدراك القريب قبل البعيد. ولو كان الأمر على ما قاله أرسطو للزم أن تكون المسافة بين البصر والمبصر مضيئة لتحمل الألوان. ويرى الفارابي أن الأمر على التوسط وليس على التطرف والعصبية. وقد اضطر الفريقان لاستعمال لفظ الخروج أو لفظ الانفصال بالرغم من ضيق اللغة فوقعوا في التشبيه، أما ذوو العقول الصحيحة فإنهم لا يقعون في هذا التشنيع والتعصب وسوء تأويل الألفاظ.
21 (7)
ويختلف الحكيمان في أمر النفس؛ إذ يرى أرسطو في «نيقوماخيا» أن الأخلاق عادات تتغير ولا شيء منها بالطبع، ويمكن التنقل منها بالاعتياد والدربة. بينما يصرح أفلاطون في كتاب «السياسة » وفي «بوليطيقا» بأن الطبع يغلب العادة، وأن الشيوخ إذا ما طبعوا على شيء يعسر زواله عنهم، وإذا ما حاولوا ازداد فيهم تماديا. ولا يوجد خلاف في الحقيقة بين الرأيين لأن أرسطو يتكلم عن الأخلاق كما شرح الفارابي من قبل هذا الكتاب. وإن كان يتكلم عن الأخلاق كما شرح فرفوريوس فإن كلامه على القوانين الخلقية. وهو كلام كلي ومطلق عن تغير الأخلاق والعادات كما هو ملاحظ في التربية. فلا شيء فيها متعلق بالطبع لا يخضع للتغير والتبدل. أما أفلاطون فإنه ينظر إلى السياسات أيها أنفع وأيها أضر، فينظر في أحوال الفاعلين. لذلك لجأ إلى الطباع التي يسهل تنقلها عند البعض ويصعب عند البعض الآخر وكما صرح أرسطو بذلك في «نيقوماخي» الصغير. فلا خلاف بين الحكيمين إلا في ظاهر القول وعندما ينظر إلى كل قول على انفراد وإخراجه من السياق وعن مرتبة علمه. والحقيقة أن الأمر على التوسط، فمهما كانت النفس متخلقة ببعض الأخلاق ثم قامت باكتساب خلق جديد كانت الأخلاق التي معها كالأشياء الطبيعية والجديدة كالأشياء الاعتيادية ثم تحولت إلى طبيعية باكتساب خلق ثالث اعتيادي وهكذا على التوالي.
22
وهو معنى قول أفلاطون إن الأخلاق منها طبيعي ومنها مكتسب، وليست طبيعة بالحقيقة لا يمكن زوالها؛ فهو قول شنيع يناقض ظاهر اللفظ. الفارابي هنا أقرب إلى أرسطو القائل بالاكتساب والاعتياد منه إلى أفلاطون القائل بالطبع.
Página desconocida
23 (8)
وقد أورد أرسطو في كتاب البرهان شكا، أن الذي يطلب علما إما أن يطلب ما يجهله فكيف يوقن أن ما طلبه يكون علما؟ وإما أن يطلب ما يعلمه فلا يكون طلبه علما؛ ومن ثم ينتفي العلم كما يقول الشكاك، ومن يطلب علم شيء إنما يطلب في شيء آخر ما قد وجد في نفسه محصلا، إلحاقا للمجهول بالمعلوم، وإذا كان المعلوم في النفس فما وجه الحاجة إلى المجهول الذي يحيل إليه؟ وقد بين أفلاطون في «فإذن» أن العالم تذكر معتمدا على حجج سقراط. هنا لا يختلف أرسطو عن أفلاطون، ولكن توهم الناس أن ذلك تجاوز للحد خاصة من يقولون ببقاء النفس بعد مفارقتها البدن. فقد أفرطوا في التأويل، وحرفوا الأقاويل، وأجروها مجرى البراهين مع أن أفلاطون يروي عن سقراط لتصحيح أمر خفي بعلامات ودلائل، والقياس بعلامات لا يكون برهانا كما قال أرسطو في «أنالوطيقا» الأولى والثانية. كما أفرطوا في التشنيع على مدى الخلاف بين الحكيمين، وأغفلوا قول أرسطو في كتاب «البرهان» بأن كل تعليم أو تعلم يكون عن معرفة متقدمة أو مندرجة تحت علوم كلية وهو ما يتفق مع أفلاطون. ومن البين أن نفس الطفل عاملة بالقوة، تدرك بالحواس الجزئيات، وعنها تحصل الكليات، وهي العلوم على الحقيقة التي تحصل عن قصد. وقد جرت العادة وجعلها متقدمة على الإدراك الحسي وتسمى أوائل المعارف ومبادئ البرهان، وقد بين أرسطو في كتاب «البرهان» أن «من فقد حسا فقد علما». ولما كانت المعارف تحصل في النفس بغير قصد فقد لا يتذكرها، ويتوهم أنها لم تزل في النفس، وأنها لا تعلم إلا من الحس، فإذا حصلت في النفس أصبحت النفس عاقلة، فليس العقل إلا التجارب. وكلما زادت كانت النفس أتم عقلا. فإذا ما اشتاق الإنسان إلى معرفة شيء اشتاق إلى معرفة أحواله. وما تقدمت معرفته في النفس يزول عنه الجهل والحيرة، وهذا ما قاله أفلاطون من أن التعلم تذكر، وأن التذكر تكلف العلم. وهو ما عرضه أرسطو في آخر كتاب «البرهان» وكتاب «النفس» الذي شرحه المفسرون، وهو قريب مما قاله أفلاطون في «فإذن» إلا أن بين الموضعين خلافا؛ فأرسطو يذكر ذلك عندما يريد إيضاح أمر العلم والقياس في حين أن أفلاطون يذكره عندما يريد إيضاح أمر النفس. (9)
وفي قدم العالم وحدوثه وهل له صانع وعلة فاعلة يظن البعض أن أرسطو يرى أن العالم قديم في حين يرى أفلاطون أن العالم محدث. وهو ظن قبيح مستنكر بأرسطو دعا إليه قوله في كتاب «أناطوبيقا» أنه قد توجد قضية واحدة يمكن أن يؤتي على كلا طرفيها قياس من مقدمات ذائعة؛ مثل أن العالم قديم أو ليس بقديم. وأرسطو بذلك يقرب المثال ولا يقول على جهة الاعتقاد. لم يكن غرضه في «طوبيقا» بيان أمر العالم بل بيان أمر القياسات المركبة من المقدمات الذائعة. كان أهل زمانه يتناظرون: هل العالم قديم أم محدث؟ هل اللذة خير أم شر؟ وكانوا يذكرون في كل مسألة قياسات ذائعة مشهورة. والمقدمة المشهورة فيها الصدق والكذب. كما دعاهم إلى ذلك ما ذكره أرسطو في كتاب «السماء والعالم» من أن الكل ليس له بدء زماني، فظنوا أنه يقول بقدم العالم. وهو ظن غير صحيح؛ فقد تبين في الكتب الطبيعية والإلهية أن الزمان عدد حركة الفلك. وأن ذلك الزمان حادث عن حركة الفلك. فمحال أن يكون لحدوثه بدء زماني. إذن هو من إبداع الباري جل جلاله دفعة واحدة بلا زمان وحركة حدثت عنه. ومن نظر في أقواله في الكتاب المعروف بأثولوجيا لم يشتبه عليه الأمر في إثبات الصانع المبدع للعالم. فقد أبدع الباري جل ثناؤه الهيولي من لا شيء وأنها تجسمت وترتبت عن الباري سبحانه وعن إرادته. كما بين في «السماع الطبيعي» أن الكل لا يمكن حدوثه بالبخت والاتفاق. ويستدل على ذلك بالنظام البديع في أجزاء العالم في كتاب «السماء والعالم». كما بين أرسطو أمر العلل وعددها، وأثبت الأسباب الفاعلة، وأن الكون هو المحرك غير المتكون والمتحرك. وهو ما بينه أفلاطون في «طيماوس» أن كل متكون يكون عن علة مكونة اضطرارا وأن المتكون لا يكون علة لذاته كما بين أرسطو في «أثولوجيا» وجود الواحد في الكثرة، وبرهن على ذلك ببراهين واضحة مما يبين أن أجزاء العالم حدثت كلها من إبداع الباري لها، وأنه عز وجل هو العلة الفاعلة الواحد الحق ومبدع كل شيء. وهو ما بينه أفلاطون في كتبه عن الربوبية مثل «طيماوس» و«بوليطيا». كما بين أرسطو في حروفه في «ما بعد الطبيعة» كيف يترقى فيها من الباري جل جلاله في حرف اللام ثم يعود إلى بيان صحة مقدماته. كيف بعد كل هذا يقال إن أرسطو يقول بنفي الصانع وبقدم العالم؟ ولأمونيوس رسالة يذكر فيها أقاويل الحكيمين في إثبات الصانع لم يذكرها الفارابي لشهرتها. وهو الطريق الأوسط دون إفراط أو تفريط، وليس لأحد من أهل المذاهب والنحل والشرائع من العلم بحدوث العالم وإثبات الصانع وتلخيص أمر الإبداع ما لأرسطو وأفلاطون. وليس لهم إلا قدم الطبيعة وبقاؤها، وأن في الأصل كان الماء أو التراب أو الهواء أو النار، وما يقوله اليهود والمجوس وسائر الأمم فيه استحالة وتغاير وهي أضداد الإبداع مما ينتهي إلى طرح السموات والأرض في جهنم ويؤدي إلى التلاشي المحض. لولا أنقذ الله العقول والأذهان بهذين الحكيمين وأتباعهما ممن أوضحوا أمر الإبداع بحجج مقنعة وإيجاد الشيء عن لا شيء وأن كل ما يتكون من شيء فهو فاسد. والعالم مبدع من غير شيء فحاله إلى غير شيء. وكتبهما مملوءة بشواهد الربوبية ومبادئ الطبيعة لكن الناس في حيرة ولبس. وهو ما يتفق مع الأقاويل الشرعية وأنها في غاية السداد والصواب، أن الباري جل جلاله مدبر جميع العالم، لا يعزب عنه مثقال حبة من خردل ولا يفوت عنايته شيء من أجزاء العالم على السبيل الذي بيناه في العناية من أن الكلية شاملة في الجزئيات، وأن كل شيء من أجزاء العالم على السبيل الذي بيناه في العناية من أن العناية الكلية شائعة في الجزئيات، وأن كل شيء من أجزاء العالم وأحواله موضوع بأدق المواضيع وأتقنها.
24
كما يدل على ذلك علم التشريح ووظائف الأعضاء والأقاويل الطبيعية حتى يثبت الإتقان والإحكام وينتقل من الطبيعيات إلى البرهانيات. وهي موكولة لأصحاب الأذهان الصافية والعقول المستقيمة، والسياسات وهي موكولة إلى ذوي الآراء السديدة، والشرعيات موكولة إلى ذوي الإلهامات الروحانية. والشرعيات أعمها، وألفاظها خارجة على مقادير علوم المخاطبين الذين لا يؤاخذون بما لا يطيقون تصوره. وينتقل الفارابي من إثبات حدوث العالم إلى إثبات التنزيه ونفي الجسيمة عن الله والزمان والحركة وضرورة مخاطبة الناس على قدر عقولهم. فطرق البراهين الخالصة لا يعرفها إلا الفلاسفة وفي مقدمتهم أفلاطون وأرسطو. أما البراهين المقنعة المستقيمة العجيبة النفع؛ فمنشؤها عند أصحاب الشرائع الذين عوضوا بالإبداع الوحي والإلهام، وهو ما يتفق مع رأيي الحكيمين ولا يتصور اختلافهما فيه.
25 (10)
ويقال إن أفلاطون يثبت الصور أي المثل بينما ينفيها أرسطو؛ إذ إن أفلاطون يوحي في كثير من أقاويله أن للموجودات صورا مجردة في عالم الإله، وربما يسميها المثل الإلهية. لا تفسد ولا تندثر مثل الموجودات الكائنة. وأرسطو في حروفه، كتاب ما بعد الطبيعة، شنع على هذه الأقاويل، وبين ما يلزمها من الشناعات لم يذكرها الفارابي لطولها ولشهرتها وعدم تكرارها كي يرجع إليها من يريد. إن غرضه فقط إيضاح الطرف الطالب الحق حتى لا يضل في الوقوف على اتفاق الحكيمين بعيدا عن الألفاظ المشككة. وربما يثبت أرسطو في كتابه «الربوبية» المعروف بأثولوجيا الصور الروحانية، وأنها موجودة في عالم الربوبية. وهي أقاويل إذا أخذت على ظواهرها لا تخلو من احتمالات ثلاثة؛ الأول أن يناقض بعضها بعضا، والثاني أن يكون بعضها منتحلا على أرسطو، والثالث أن تكون لها تأويلات على خلاف ظواهرها فتطابق وتتفق. أما احتمال تناقض أرسطو في علم الربوبية فبعيد مستنكر. واحتمال الانتحال أيضا بعيد لأنها أقوال بلغت قدرا كبيرا من الشهرة. لم يبق إذن إلا احتمال التأويل حتى يرتفع الشك وتذهب الحيرة. فلما كان الباري جل جلاله بأنيته وذاته مباينا لجميع ما سواه، أشرف وأفضل وأعلى، لا يناسبه ولا يشاكله ولا يشابه شيء حقيقة أو مجازا، فإنه أحيانا تطلق بعض الألفاظ المتواطئة لا تطلق عليه بل على غيره أو تطلق على نحو أشرف مثل حي وموجود. ومن عرف ذلك من الفلسفة وما بعد الطبيعة سهل عليه أن يفهم ما يقوله أرسطو وأفلاطون في الصور. إذا كان الله تعالى حيا موجودا وجب أن تكون عنده صور ما يريد إيجاده في ذاته، جل الله من كل اشتباه. ولما كان الله لا يتغير كانت الصور كذلك وإلا أوجد العالم على غير قصد وغاية وهو شنيع قبيح. هذا هو قصد الفلاسفة من إثبات الصور الإلهية كأشباح قائمة في أماكن أخرى خارج العالم مما يؤدي إلى القول بوجود عوالم غير متناهية مثل هذا العالم كما بين أرسطو في كتبه الطبيعية وشرحها المفسرون بوضوح. تحتاج الأقاويل الإلهية إلى تدبر شديد. قد تدعو الضرورة أحيانا إلى إطلاق الألفاظ الطبيعية والمنطقية المتواطئة مع تلك المعاني الإلهية الشريفة العالية عن جميع الأوصاف المتباينة والأمور الموجودة على نحو طبيعي؛ فمن الصعب اختراع ألفاظ أخرى سوى ما هو مستعمل منها. يكفي فقط جعل معانيها على نحو أشرف وأعلى مما نتخيله ونتصوره. (11)
وفي أمر النفس والعقل كنتيجة لموضوع الصور ذكر أفلاطون في «طيماوس» أن كل واحد منها عالم غير الآخر، وأنها عوالم متراتبة دون أن يكون لها مكان أو للباري مكان أعلى، فإن ذلك مستنكر عند المبتدئين في التفلسف، والأولى أن يكون كذلك عند المبرزين فيها؛ فالتراتب ليس في المكان بل في الشرف والفضيلة. وعالم العقل مثل عالم الجهل وعالم العلم وعالم الغيب دون حيز. والقول بإفاضة النفس على الطبيعة وإفاضة العقل على النفس يعني إفاضة الصور الكلية من العقل إلى النفس ومن النفس إلى الطبيعة للمعونة واللطف والعناية في حركة الأعلى عند الانطلاق من محبسها بمساعدة البدن الطبيعي شوقا إلى الاستراحة والرجوع إلى ذاتها. كل ذلك رموز وصور وخيالات لها معان تضيق العبارة عن التعبير عنها. لذلك تفهم عبارات الحكيمين على هذا النحو، وأن العقل كما بينه أرسطو في كتاب «النفس» وكذلك الإسكندر وغيره من الفلاسفة أشرف أجزاء النفس، وأنه عقل بالفعل، به تعرف الإلهيات، ويعرف الباري جل ثناؤه؛ فهو أقرب الموجودات إليه شرفا ولطفا وصفاء لا مكانا وموضوعا وحيزا. ثم تتلوه النفس لأنها متوسطة بين العقل والطبيعة؛ إذ لها حواس طبيعية. فهي متصلة من أعلى بالعقل الذي هو متصل بالباري عز وجل، ومتصلة من أسفل بالطبيعة وهو نفس المعنى الذي قصده أفلاطون؛ وبالتالي تزول الظنون والشكوك التي تجعل الحكيمين مختلفين وهما في الحقيقة متفقان على سبيل الألغاز والتشبيه كما صرح بذلك أرسطو في «أثولوجيا» حيث يصرح بأنه عندما يخلو بنفسه ويخلع بدنه يصير كأنه جوهر مجرد بلا جسم وأخلاقي في ذاته، علم وعالم ومعلوم، يرى ذاته في حسن وبهاء، ويعلم أنه جزء صغير من العالم الشريف، ويظل يترقى بذهنه إلى العالم الإلهي فيلمع بالنور والبهاء ما تعجز الألسن عن وصفه، والآذان عن سمعه. فإذا غشاه النور ولم يقو على النظر إليه هبط إلى عالم الفكر حتى يحجب عنه هذا النور، وتذكر أخاه إيرقليطوس حين أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس الشريفة بالصعود إلى عالم العقل. وهذا يمكن إدراكه بالذهن وراء الألفاظ؛ فهي ألغاز ورموز تحتاج إلى تأويل واجتهاد على عكس ما يحدث في زمن الفارابي من دوافع العصبية وطلب العيوب والوقوع في التحريف والتبديل والعجز عن الكشف والإيضاح.
26 (12)
ويرى البعض اختلاف رأيي الحكيمين في أمر المجازاة والثواب والعقاب وذلك وهم فاسد؛ فقد صرح أرسطو بأن المكافأة واجبة في الطبيعة ويقول في رسالته إلى والدة الإسكندر حين بلغها نعيه وجزعت عليه وشكت في نفسها بأن شهود الله في أرضه هي النفس العالمة التي اتفقت على أن الإسكندر أفضل المتقدمين له آثار ممدودة في أقصى الأرض، ولن يؤتي الله أحدا ما آتاه الإسكندر من اجتباء واختيار واصطفاء من الله. ومن الناس من شهدت عليه دلائل الاختيار ومنهم من لم تشهد عليه. ويعزي أرسطو والدة الإسكندر بأنها ستكون معه في زمرة الأخيار وفي صحبة النفوس الأطهار بعد أن تقدم بنفسها القرابين في هيكل ديوس مما يبين أن أرسطو يقول بالثواب والمجازاة. أما أفلاطون فقد أودع في كتاب «السياسة» القصة الناطقة بالبعث والنشور والحكم والعدل والميزان وتوفية الثواب والعقاب على الأعمال خيرها وشرها.
Página desconocida
بعد هذا العرض التفصيلي لأوجه الاتفاق بين رأيي الحكيمين لا يأخذ بأحد العناد الصراح ومتابعة الظنون الفاسدة والأوهام المدخولة واكتساب الوزر بما ينسب إلى هؤلاء الأفاضل مما هم براء وعنه بمعزل.
ويلاحظ على هذه المحاولة: (1)
ليس «الجمع بين رأيي الحكيمين» توفيقا بين متضادين وجمعا بين متناقضين، بل رؤية كلية لرأيين جزئيين، ليس جمعا بعديا صاعدا، بل هو جمع استنباطي نازل. فالحقيقة مكتملة في ذهن الفارابي أولا قبل أن تشد إليها الرأيين المتصارعين. الجمع رد البعدي إلى الهيكلي، والجزئي إلى الكلي السابق عليه. قد لا يكون الجزئي متطابقا مع أفلاطون أو أرسطو ولكن الفارابي ركبه وصوره وتخيله حتى يسهل جمعهما في الكلي في الذهن؛ فالجمع تركيب وبنية أكثر منه ضما لأجزاء متباعدة قد تتفق وقد تختلف. (2)
التقابل بين الحكيمين ليس على الإطلاق وإلا لما كان الجمع ممكنا بل هو تقابل نسبي. عند أرسطو بعض أفلاطون وعند أفلاطون بعض أرسطو فيما اختلفا فيه طبقا لأسطورة «أندروجينوس». كل ذكر به بعض الأنثى، وكل أنثى بها بعض الذكر. الخلاف كمي وليس كيفيا، في الدرجة وليس في النوع. يكون التقريب أحيانا من أرسطو إلى أفلاطون، وأحيانا من أفلاطون إلى أرسطو دون وجود وسط حسابي متناسب بينهما. الغالب هو قراءة أرسطو قراءة أفلاطونية أكثر من قراءة أفلاطون قراءة أرسطية، مما يدل على تفضيل أفلاطون على أرسطو طبقا للفلسفة الإشراقية عند الفارابي، ويدل على ذلك نسبة كتاب أثولوجيا لأرسطو حتى يكون أكثر قربا من أفلاطون في موضوع قدم العالم وحدوثه. يصحح الفارابي رأي أحدهما بالآخر حتى يصل إلى حد التوسط بينهما مثل تصحيح قول أفلاطون في أن العالم تذكر بإخضاعه إلى القياس المنطقي عند أرسطو. (3)
الاختلاف بين الحكيمين ليس في القصد والغاية والهدف والحقيقة، بل في طرق التعبير ووسائل الإيضاح. الاتفاق في المضمون والخلاف في الشكل. الاتفاق في الجوهر والاختلاف في العرض. الخلاف موجود ولا يمكن إنكاره، وهو في نفس الوقت لا يمكن إبقاؤه بل حله. الاختلاف بين الحكيمين في الظاهر وليس في الباطن، في القول وليس في المعنى، في الصياغة وليس في الشيء، والتفرقة بين الظاهر والباطن بين اللفظ والمعنى رؤية إسلامية. (4)
الخلاف بين الحكيمين خلاف في الجهة وليس في الشيء مثل حديث أرسطو عن الجوهر والمحسوس في علم الطبيعة وحديث أفلاطون عن الجوهر العقلي في علم ما بعد الطبيعة. الخلاف بين الحكيمين في الموقف، الأعلى والأدنى، الثابت والمتحول، القديم والحديث، الاستنباط والاستقراء، الجدل النازل والجدل الصاعد، الصوري والمادي، العام والخاص، التحليل والتركيب. وهما طريقان وموقفان ومنهجان متكاملان وليسا على التبادل أو متناقضين. (5)
يرجع الخلاف أحيانا إلى الشراح «الإسكلائيين» وليس إلى أفلاطون أو أرسطو ذاتيهما مثل انتحال أمونيوس وثامسطيوس أن القياس المختلط من الضروري والوجودي. إذا كانت المقدمة الكبرى ضرورية كانت النتيجة وجودية لا ضرورية ونسبة ذلك إلى أفلاطون. وضع المقارنة بين الحكيمين مع الطبيعيين الأوائل في إطار أعم في تاريخ الفلسفة اليونانية، بل ومع سائر الملل والنحل مثل اليهودية والمجوسية خاصة في موضوع قدم العالم وحدوثه. (6)
يزداد الخلاف بالتعصب والتشنيع من كل فريق على الآخر، فالخلاف ليس فقط في الرأي بل يتحول إلى تحزب وتعصب وأهواء بشر وخصام وتشويه كل فريق لرأي الآخر، وانعدام العقل المستقيم والرأي السديد والميل إلى الحق والإنصاف عند الأكثرين. يكون الخلاف بسبب التطرف إلى أقصى حد وأخذ الحد الأقصى لكل فريق مع أن الأمور على التوسط إلى أدنى حد. الحقيقة وسط بين طرفين مثل نظرية الإبصار التي تقوم على الرأيين معا، شعاع من العين إلى الموضوع كما يقول أفلاطون في مقابل شعاع من الموضوع إلى العين كما يقول أرسطو. قد لا يكون هناك خلاف في الرأي بين الحكيمين مثل القول بأن العلم تذكر ولكن المؤولين يدفعون ذلك إلى أقصى حد إلى درجة التشنيع وتصحيح ذلك بأن أفلاطون يروي عن سقراط ولا يعبر عن رأيه الخاص. (7)
يرجع الخلاف إلى سوء استعمال الألفاظ وإلى ضيق العبارات كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة؛ مثل استعمال لفظ خروج وانفعال في نظرية الإبصار بين أفلاطون أو أرسطو، ولما استحال وضع ألفاظ جديدة غير المستعمل منها يكفي فقط إبراز معانيها على نحو أشرف وأعلى مما نتخيله ونتصوره. (8)
يلجأ الفارابي إلى نصوص الحكيمين في كتبهم المختلفة فلعل الخلاف فيها وسوء تأويلها أو تضاربها كما يفعل المفسر في حل التعارض بين الآيات. يرجع الخلاف إلى إخراج القول من السياق وعدم معرفة موضعه ومرتبته في العلم ويحل بإرجاعه إلى سياقه وموضعه وعلمه. (9)
Página desconocida
سهولة التوفيق بين أفلاطون وأرسطو نظرا لنسبة أثولوجيا لأرسطو مما جعله أكثر دينية في موضوع خلق العالم ومتفقا مع أرسطو بالرغم من وضع احتمال انتحاله ثم استبعاده، على عكس ابن رشد الذي يؤكد على الانتحال. تظهر نظرية الفيض كأحد آليات الجمع بين رأيي الحكيمين في الصلة بين العقل والنفس والطبيعة وفيض الأعلى على الأدنى نزولا، وشوق الأدنى إلى الأعلى صعودا. (10)
ما ثبت في النهاية ليس التوفيق بين رأيي الحكيمين بل صحة التصور الإسلامي خاصة حدوث العالم واتفاق الحكيمين مع التصور الإسلامي، وبالتالي اتفاق العقل مع النقل، وهو نوع من الكلام الفلسفي الجديد ببيان اتفاق الوافد والموروث. ومن ثم نثبت صحة الأقاويل الشرعية من خلال الجمع بين رأيي الحكيمين. ويصبح التصور الإسلامي هو الضامن لاتفاق الحكيمين. ينتهي الفارابي من موضوع الخلاف بين الحكيمين مثل قدم العالم وحدوثه إلى التصور الكلي الديني للعالم بحيث يشمل النبوة والمعاد وليس فقط خلق العالم، والتحول من الخطاب العقلي الواضح إلى الخطاب الرمزي المضنون به على غير أهله.
والمقدمة إيمانية فلسفية خالصة. فبعد البسملة الحمدلة لواهب العقل ومبدعه، ومصور الكل ومخترعه. يكفي به إحسانه القديم وأفضاله، والصلاة على سيد الأنبياء محمد وآله. فالجو الديني الإيماني هو المدخل العام للجمع بين المذهبين. وتنتهي بعض الفقرات التمهيدية للاحق «بمشيئة الله وحسن توفيقه» أو بعبارة «الله أعلم»، وينهي بالحمدلة والصلاة على النبي خير الخلق وعلى الطاهرين من عشيرته والطيبين من ذريته.
27 (3) ضم المذهبين في تصور ثالث
وهي أعلى مرحلة في العرض الكلي، ضم المذهبين؛ أفلاطون وأرسطو، في تصور ثالث كلي شامل يجمع بينهما وكأنه قمة المثلث المتساوي الساقين أو قاعدته. مثال ذلك ثلاثية الفارابي «تحصيل السعادة»، «فلسفة أفلاطون»، «فلسفة أرسطو». فالجمع بين أفلاطون وأرسطو، وهما من الوافد، لا يتأتى إلا بطرف ثالث «تحصيل السعادة» من الموروث. النظرية العامة المتكاملة والتصور الشامل من الموروث، والمذهبان الجزئيان، أفلاطون وأرسطو من الوافد.
28
فبعد أن بين الفارابي الفلسفة عرض تاريخها، وبعد أن اكتشف بنيتها أرخ لها عند اليونانيين؛ فالتاريخ يتلو البنية، والبنية سابقة على التاريخ.
29
وما دامت البنية موجودة فإنه يمكن استئناف تاريخها عند شعوب أخرى غير اليونانيين وفي ثقافات أخرى غير اليونانية.
والعنوان خادع لأن موضوعها أقرب إلى المعرفة منه إلى الأخلاق، والصلة بين المعرفة والوجود المنطق والميتافيزيقيا، عالم الأذهان وعالم الأعيان. وهو التصور النظري الذي يمكن ضم أفلاطون وأرسطو فيه. فأفلاطون أقرب إلى عالم الأذهان، وأرسطو أقرب إلى عالم الأعيان. وربما اتبع الفارابي الترتيب التاريخي، أفلاطون قبل أرسطو أو كان التقدم في الشرف وليس في الزمان، تفضيل أفلاطون على أرسطو. (أ) تحصيل السعادة
Página desconocida
وهو التصور الجامع للفلسفتين، أفلاطون وأرسطو أي الجانب العملي الأخلاقي وليس الجانب النظري الفلسفي، في العمل يلتقي النظر، وفي وحدة السلوك تلتقي الآراء المتعارضة، وهو درس في أصول الفقه القديم، وحدة العمل وتعدد النظر. والعنوان خادع فموضوعه أقرب إلى «إحصاء العلوم منه إلى التنبيه على سبيل السعادة». هو ضم للمعارف الفلسفية كلها، الرياضيات والطبيعيات والعلم المدني دون المنطق؛ لأن المنطق يكتفي بالعرض النسقي العقلي لهذه العلوم. وإذا كان «التنبيه على سبيل السعادة» هو انتقال من المنطق إلى الأخلاق فإن «تحصيل السعادة» هو انتقال من الأخلاق إلى السياسة، من الأخلاق الفردية إلى الأخلاق الاجتماعية أي إلى العلم المدني الذي برع الفارابي في تأسيسه.
30
ويبدو أنه متقدم في التأليف نظرا لغلبة أسلوب الكندي عليه، والحديث عن العلل الأربعة ببراهين لم، وهل، وماذا، ولماذا، كما يفعل الكندي في براهين اللمية والهلية. وهناك كثير من التكرار والإسهاب والإضافة والعودة إلى نفس الفكرة وكأن غاية العرض الشرح والتوضيح إلى أقصى حد. والعرض واضح لكن ينقصه التركيز.
وبطبيعة الحال لا يظهر إلا الوافد. فالعرض الكلي للوافد وليس للموروث، وإن كان الموروث هو الأساس اللاشعوري في عرض الوافد مثل الحديث عن الإقناع والتخييل والإمام والتشريع. ويأتي أفلاطون في المقدمة مع الإحالة إلى «أطيماوس» قبل أرسطو ثم أرقليطس. ويذكر اليونانيون ثم العرب ثم الكلدانيون (أهل العراق) وأهل مصر والسريانيون والقدماء.
31
ويظهر أفلاطون في النهاية وليس في البداية بمناسبة تأديب الصبيان ومحاكاة المعقولات للمحسوسات في «طيماوس» وشرائط تعلم الفلسفة في «السياسة»، وصورة انطفاء النار تدريجيا عند هرقليطس التي يضرب بها أفلاطون المثل على تبخر الفضائل تدريجيا إن لم تتم ممارستها عمليا، وأفلاطون وأرسطو ممثلا الفلسفة اليونانية. ولا يظهر الموروث إلا في تحليل لفظ إمام في لغة العرب.
ويبدأ بقانون عام للإنسانية كلها وهي أن الأشياء الإنسانية التي إذا حصلت في الأمم وفي أهل المدن حصلت بها السعادة الدنيا في الحياة الأولى والسعادة القصوى في الحياة الأخرى. وهي أربعة أجناس: الفضائل النظرية، والفضائل الفكرية، والفضائل الخلقية، والصناعات العملية بالرغم من صعوبة التفرقة بين النظرية والفكرية. الفضائل الفكرية والصناعات العملية أكثرها إسهابا. وهي متداخلة يصعب التمييز بينها بحدود فاصلة لأنها تترتب فيما بينها في علاقة الرئيس بالمرءوس، والشارط بالمشروط، أعلاها النظرية ثم الفكرية ثم الخلقية ثم العملية في النهاية التي تتراوح بين الفضائل والصناعات.
الفضائل النظرية أولا هي العلوم وغايتها القصوى معرفة الموجودات معرفة عقلية. وهي نوعان؛ العلوم الأولى التي تحصل مباشرة دون توسط، والعلوم التأملية التي تحصل عن تأمل وفحص واستنباط وتعلم وتعليم العلوم الأولى هي مقدمات العلوم الثانية المجهولة التي تصبح معلومة بعد الفحص والاستنباط فتصبح نتائجا.
وغاية طلب العلم حصول اليقين، كله أو بعضه وإلا فالظن والإقناع. قد يحصل تخيل فيه أو ضلال فيظن معرفته. وربما عرضت فيه حيرة إذا تكافأ النفي والإثبات. وسبب ذلك اختلاف طريق المعرفة تبعا لتباين موضوعاتها؛ ومن ثم اختلاف تصوراتها وآرائها. قد يتم اختيار طريق في موضوع غير ملائم والوصول إلى اعتقاد غير سليم، وكلها طرق صناعية تحتاج إلى علامات وفصول للتمييز بينها وإن تكون القرائح العملية المفطورة بالطبع قادرة على إعطاء صناعة تعطي علم هذه الإدراكات إذا كانت الفطرة غير كافية في تمييز هذه الطرق، والتيقن بشروط وأحوال المقدمات الأولى وترتيبها حتى يتم التوصل إلى الحق نفسه واليقين فيه أو بشروط وأحوال وترتيب آخر يوقع في الضلال أو الحيرة أو بشروط وأحوال وترتيب ثالث يؤدي لا إلى الحق نفسه بل إلى خياله ومثاله. فإذا تم التعرف على طرق المعرفة سهل بعد ذلك التعرف على موضوعات المعرفة إما بالتعلم والفحص الذاتي أو بتعليم الآخرين لنا، بالدراية أو بالرواية، بالرأي أو بالأثر كما يقول القدماء.
والمعلومات الأول في كل جنس من الموجودات فيه الأحوال والشروط التي تؤدي إلى الحق اليقيني، تكون مبادئ التعليم له . وإذا كانت للأنواع التي يحتوي عليها الجنس تكون مبادئ الوجود. فمبادئ التعليم هي نفسها مبادئ الوجود، وكأن الفارابي هنا يوحد بين الاثنين. وتسمى براهين تلك المعلومات براهين «لم» الشيء إذا كانت تعطي أسباب العلم بالإضافة إلى «هل» الشيء موجود. وتكون مبادئ العلم هي مبادئ الوجود. فإن لم تكن أسبابا له تمايزت مبادئ العلم عن مبادئ الوجود، وتكون البراهين حول «هل» و«أن» وليس براهين «لم» الشيء. فالسبب هو الذي يوحد بين المعرفة والوجود وكان الفارابي هنا يضع أسس التفكير العلمي.
Página desconocida
ومبادئ الوجود هي العلل الأربعة: ماذا وهي العلة المادية، بماذا وهي العلة الفاعلة، كيف وهي العلة الصورية، ولماذا وهي العلة الغائية. ومن أجناس الوجود ما يمتنع أن تكون له مبادئ علمه فقط وكأن الله هو الموجود الوحيد الذي لا تتوحد مبادئ العلم فيه مع موضوع العلم. ومن الموجودات ما تكون له العلل الأربعة كلها، ومنها ما تكون له ثلاثة فقط دون المادة. فمبادئ الوجود ثلاثة على الأقل الصورية والفاعلة والغائية من أجل ضم الموجودات العقلية.
وكل علم يهدف إلى أن يجعل الموجودات معقولة تقصد أولا اليقين بوجود جميع ما يحتوي عليه الجنس، ويهدف إلى علم مبادئ الوجود إذا كانت البداية مبادئ التعليم ثم اليقين بمبادئ الوجود وعددها، مثل الأسباب الأربعة، كلها أو بعضها، ثم مبادئ المبادئ حتى الانتهاء إلى أبعد مبدأ لهذا الجنس وهو المبدأ الأقصى دون تخطيه إلى مبدأ جنس آخر. فإذا كانت مبادئ العلم هي مبادئ الوجود كانت علله. وإن لم تكن كذلك كانت فيها خفية غير معلومة متأخرة عن مبادئ الوجود. فالوجود عند الفارابي سابق على المعرفة.
ويؤدي هذا الترتيب إلى لزم النتيجة من المقدمات، المقدمات مبادئ التعليم والنتيجة مبادئ الموجودات. الأولى أسباب العلم بالثانية والثانية أسباب لوجود الأشياء في الخارج على النحو الآتي:
فترتقي المعرفة من الموجودات إلى مبادئ الموجودات إلى مبادئ العلوم. وبالرغم من أن الجدل صاعد من المحسوس إلى المعقول إلا أن الموجودات متأخرة عن المبادئ، والمبادئ أقدم من الموجودات في الجدل النازل . ومبدأ المبادئ أقدمها جميعا الذي يكشف عن مبادئ مجهولة أدنى منه وتنبع منه ويمكن معرفتها منه استنباطا. فالمعرفة صاعدة من الموجودات إلى المبادئ، ونازلة من مبدأ المبادئ إلى المبادئ الأدنى، وهو العلم بالمبادئ الأربعة؛ فهو علم استقرائي واستنباطي في نفس الوقت، وكذلك العلم بالواحد والكثير. فإذا كان العلم هو استنباط المجهول من المعلوم؛ فإن هذا الاستنباط يكون استقراء حين يكون المجهول مبادئ الموجود والمعلوم الموجودات أو استقراء عندما يكون المجهول مبادئ الموجود والمعلوم مبدأ المبادئ، المبدأ الأقصى. وقد يعطي المبدأ الأول علما بمبدأ آخر أقدم منه. فيعطي علما بوجوده وبسبب وجوده.
وأول أجناس الموجودات هو الأبعد عن الحيرة والاضطراب في الذهن وهي الرياضيات، الأعداد والأعظام؛ إذ تعطي الأعداد التقدير، وكيفية التقدير في الأعظام التي تعطي الأشكال والأوضاع وجودة الترتيب وإتقان التأليف وحسن النظام. ويكون ترتيب علوم التعاليم كالآتي:
وفي الرياضيات تكون مبادئ التعليم هي نفسها مبادئ الوجود. وتجمع براهينها بين الاثنين. وتقتصر على المبادئ الثلاثة؛ لأنها خالية من المادة. ويتم الانتقال من هذه العلوم نزولا من الأعداد إلى الحيل؛ لأن العدد هو أصل العلوم، وهو ما يتفق مع ما عرضه الفارابي من قبل في «إحصاء العلوم» مما يدل على أن العرض يقوم على التأليف. ويسمى هذا النزول الارتقاء، أي التقدم من الأصل إلى الفرع، ومن الأساس إلى المؤسس. فهو ارتقاء نازل، ابتداء من البسيط إلى المركب، ومن الواضح إلى الأقل وضوحا، ومن النظري إلى العملي. وهذا هو معنى التقديم والتأخير في إحصاء العلوم الذي لا يعني مجرد رصد كمي بل ترتيب كيفي في نسق للأولويات. وكل علم متقدم على الذي يليه ومتأخر على الذي يسبقه.
أما الموجودات التي لها مبادئ أربعة فهي الموجودات الطبيعية التي لها مبادئ طبيعية التي لا تكون معقولة إلا في المواد. وتعتمد على بعض مبادئ علم التعاليم الصالحة في معرفة الموجودات الطبيعية مثل أجناس الأجسام المحسوسة مثل الأجسام السماوية والعناصر الأربعة، الأرض والماء والهواء والنار، وما شابهها من بخار وأجسام حجرية ومعدنية على سطح الأرض وفي باطنها ثم النبات والحيوان غير الناطق ومعرفة مبادئها القريبة والبعيدة. ومبادئ التعليم في الطبيعيات غير مبادئ الوجود على عكس الرياضيات، ويتم الانتقال فقط من الأولى إلى الثانية صعودا مع أن مبادئ التعليم متأخرة عن مبادئ الوجود؛ لأن مبادئ الوجود هي أسباب الموجودات والتعاليم في آن واحد. المبادئ القريبة كانت مبادئ التعاليم ثم الانتقال منها إلى مبادئ المبادئ إلى أقصى المبادئ صعودا أو إلى أقرب المبادئ نزولا.
ويتم النظر في الأجسام المحسوسة وأجناسها وأنواعها وفي الأجسام السماوية ومبادئ وجودهها حتى الوصول إلى مبادئ لا طبيعية تكشف عن موجودات أكمل وجودا من الطبيعة والأشياء الطبيعية. ليست أجساما ولا في أجسام مما يستدعي وجود علم آخر هو ما بعد الطبيعة وهو علم وسط بين الطبيعيات والرياضيات؛ فالطبيعيات وما بعد الطبيعة كلاهما يرد إلى الرياضيات. وواضح هنا غياب المنطق كعلم، ربما لأنه آلة لكل العلوم، كما أنه من الواضح ارتباط ما بعد الطبيعة بالطبيعة وكأنهما علم واحد؛ فعلم ما بعد الطبيعة هو علم الطبيعة مقلوبا إلى أعلى، وعلم الطبيعة هو علم ما بعد الطبيعة مقلوبا إلى أسفل. وقد ضم الفارابي العلم الطبيعي والعلم الإلهي في علم واحد في «إحصاء العلوم».
وبعد فحص مبادئ الوجود للحيوان يتم اكتشاف النفس ومعرفة المبادئ النفسانية والارتقاء منها إلى الحيوان الناطق. وإذا تم النظر في هذه المبادئ يتم اكتشاف العقل. مما يدعو إلى اكتشاف مبادئ غير جسمانية مثل التي عرفت من قبل في النظر إلى الأجسام السماوية. ثم يتم الانتقال من النفس والعقل ومبادئهما إلى الغايات والكمال الأقصى الذي لأجله كون الإنسان، والمبادئ الطبيعية في الإنسان وفي التعليم غير كافية لأن يصل الإنسان بها إلى الكمال، وأنه بحاجة إلى مبادئ نطقية عقلية لا هي التعاليم ولا هي ما بعد الطبيعة ولا هي الطبيعة. هي أيضا مبادئ الموجودات التي يسعى إليها الإنسان ليبلغ الكمال. ولما تفاوتت مراتب الكمال لا يستطيع الإنسان أن يبلغ أقصاها بمفرده فيحتاج إلى معاونة أناس كثيرين طبقا لفطرة الإنسان وحاجته إلى التعاون. لذلك يسمى الحيوان الإنسي والإنسان المدني مما يحتاج إلى نظر آخر وعلم آخر يفرض هذه المبادئ العقلية وأفعال الإنسان وملكاته التي يسعى بها نحو الكمال فيتأسس العلم الإنساني والعلم المدني.
ويبدأ العلم بالنظر في الموجودات مثل النظر في ما بعد الطبيعة وفي الطبيعة ويعتمد على مبادئ التعليم التي تتفق معه حتى الانتهاء إلى موجودات لا تكفيها هذه المبادئ وفي حاجة إلى مبدأ أول لجميع الموجودات وهو أكمل المبادئ وأتمها. ثم تتفاوت الموجودات صادرة منه على مراتب أقرب منه أو أبعد عنه. وهذا هو النظر الإلهي في الموجودات. فإن المبدأ الأول ليس جسما ولا في جسم. كل الطرق تؤدي إلى المبدأ الأول، في علم التعاليم إلى مبدأ العدد، ومن الطبيعيات إلى مبدأ الموجودات، ومن علم ما بعد الطبيعة إلى مبدأ المبادئ، ومن العلم الإنساني، النفس والعقل، والعلم المدني، التعاون الإنساني إلى مبدأ الكمال.
Página desconocida
ثم يتم الفحص في العلم الإنساني والغرض الذي من أجله كون الإنسان وهو الكمال الذي يبلغه، ووسائل تحقيقه. وهي الميزات والفضائل والحسنات وما يبعد عنه مثل الشرور والنقائص والسيئات. وهذا هو العلم المدني الذي ينال به أهل المدن السعادة بمقدار فطرة كل فرد. فاجتماع المدنيين مثل اجتماع الأجسام، ولا فرق بين اجتماع المدن والأمم واجتماع العالم. وكما أن في العالم مبدأ واحدا ثم مبادئ أخرى تتلوه على الترتيب وموجودات من تلك المبادئ متراتبة أخرى من أعلى إلى أسفل، فكذلك الترتيب في الأمة أو المدينة، مبدأ أول تلوه مبادئ آخر. مدني أول يتلوه مدنيون آخرون. ويماثل آخر المبادئ النظرية آخر المدنيين في المدينة والإنسانية. كما يتقابل نظام الموجودات في العالم مع نظيره نظام المدنيين في المدينة أو الأمة. هذا هو الكمال النظري ويتضمن علم الأجناس الأربعة التي يتم بها تحصيل السعادة القصوى لأهل المدن والأمم ولنظام العالم. فهو علم واحد في الحقيقة العلم النظري وعلم الموجودات والعلم المدني، لا فرق بين العقل والطبيعة والمجتمع.
لقد أعطت العلوم النظرية هذه الأشياء موجودة بالفعل، لا فرق بين العقل والوجود، بين عالم الأذهان وعالم الأعيان، فإذا حدث عدم تقابل بين الاثنين نشأت الحاجة إلى علم آخر غير العلم النظري. فالأشياء المعقولة من حيث هي كذلك خالصة عن الأحوال والأعراض وموجودة خارج النفس، واحدة بالعدد، لا تتبدل ولا تتغير في حين أن الواحدة بالنوع تتبدل وتحتاج إلى الأحوال والأعراض إذا كانت خارج النفس كما هو الحال في المعقولات الطبيعية الواحدة بالنوع وفي المعقولات الإرادية. كل ما يوجد بالإرادة لا يمكن أن يوجد أو يعلم إلا بالأعراض والأحوال المقترنة بها. وهي توجد واحدة بالعدد بل بالنوع أو الجنس. لذلك تتبدل عليها، تزداد وتنقص وتتركب طبقا لقوانين على مدة طويلة تتبدل وتتغير أيضا. وما لا تخضع لقانون فإنها تتبدل على نحو دائم في مدة قصيرة وعلى حسب ما يريد الفاعل. وربما لا يحصل منه شيء أصلا بسبب المتضادات العاشقة له، منها ما هو طبيعي ومنها ما هو إرادي عن إرادات آخرين وليس فقط طبقا لاختلاف الأزمنة والأمكنة مثل الأشياء الطبيعية، وهكذا الإنسان. فإنه في عالم الأعيان، ويتبدل طبقا للزمان والمكان في الأحوال والأعراض. والمعقول من ذلك كله معقول واحد. وكذلك الأشياء الإرادية مثل العفة واليسار لها معان معقولة إرادية تختلف باختلاف الزمان والمكان والأمم ساعة بساعة أو يوما بيوم أو شهرا بشهر أو سنة بسنة أو حقبة بحقبة أو أحقابا بأحقاب. فالتغير له إيقاع سريع وإيقاع بطيء تتطلب معرفة الأعراض والأحوال المتبدلة في عالم الأعيان المدة المعلومة قصيرة كانت أم طويلة. والمكان المحدد من المعمورة صغيرا كان أم كبيرا يشترك فيها إنسان واحد أو طائفة في مدينة أو مدينة أو أمة أو المعمورة كلها.
والفضيلة الفكرية المدنية يستنبط منها ما هو أنفع في غاية فاضلة مشتركة لأمم أو أمة أو مدينة منها. ما يبقى مدة طويلة ومنها ما يبقى مدة قصيرة. وما يستنبط لكل الأمم مدة طويلة هو الأقدر على وضع النواميس. وما يستنبط في مدة قصيرة هي أصناف التدبيرات الجزئية الزمنية عند الأمم أو الأمة أو المدينة. وما دون ذلك لطائفة في مدينة أو منزل في طائفة فإنها تكون فضيلة منزلية أو جهادية في مدة قصيرة أو طويلة. وقد تنقسم الفضيلة إلى أجزاء صغار، صناعة أو عرض حادث أو حرفة أو غاية خاصة أو لغيره فتكون مشورية. قد تجتمع في إنسان واحد وقد تفترق وكلما كانت هذه الفضائل الفكرية أكمل رياسة وأعظم قوة كانت الفضائل الخلقية المقترنة بها أشد رياسة وأعظم قوة كذلك.
والفضائل الخلقية ثالثا تقتصر على جزء المدينة إما في المجاهدة أي الحرب أو المال أي الاقتصاد أو في جزء آخر قبل أن تتحول إلى صناعات عملية الإنسان أو لمنزل مدة قصيرة أو طويلة. والفضيلة الكاملة هي أعظمها قوة أو مجموع الفضائل كلها عند الناس والمنازل والمدن والأمم جميعا وهي الفضيلة الرئيسية التي تتقدم على جميع الفضائل مثل فضيلة صاحب الجيش الذي تتوافر فيه القوة الفكرية التي يستنبط بها الأنفع والأجمل المشترك بين المجاهدين مثل الشجاعة والمشتركة بين مكتسبي الأموال، وكذلك تترتب الصناعات وفي مقدمتها الصناعة الرئيسية وهي أقواها. وتحت فضيلة قيادة الجيوش هناك فضائل وصناعات أخرى. كما أن دون فضيلة اكتساب الأموال هناك فضائل وصناعات خادمة لها، وما هو أنفع وأجمل وكذلك الغايات الفاضلة إما أن يكون في المشهور أو عند ملة أو في الحقيقة. ومن الواضح أن الفضيلة الرئيسية تكون تابعة للفضيلة النظرية للتمييز بين معقوليتها والأعراض المقترنة بها. كما أن الفضيلة الخلقية تكون تابعة للفضيلة الفكرية حتى يمكن استنباط الأدنى من الأعلى، والعملية من الخلقية، الخلقية من الفكرية، والفكرية من النظرية.
والفضائل إما بالطبع أو بالإرادة. والفضائل الطبيعية أشبه بالملكات في الحيوانات غير الناطقة؛ كالشجاعة في الأسد. وقد يكون الأمر كذلك في الإنسان إلا أنها عنده أيضا إرادية. فالإنسان يسلك بالطبيعة وبالإرادة في الفضائل الخلقية العظمى مثل الملوك والخدم، كلاهما ملك أو خادم بالطبيعة والإرادة، وكذلك فضائل المدن والأمم، ويتم تحصيلها بطريقتين، التعليم والتأديب. التعليم لإيجاد الفضائل الفكرية والنظرية والتأديب لإيجاد الفضائل الخلقية والصناعات العملية. التعليم بالقبول والتحصيل، والتأديب بترويض العزائم وعشق الفضائل.
والعلوم النظرية إما أن يعلمها الأئمة والملوك وأما من يحفظونها ويعلمونها لغيرهم ابتداء من المقدمات الأول والمعلوم الأول في كل جنس من العلوم النظرية، ثم أصناف أحوال المقدمات وترتيبها بعد تقوية نفوس الأحداث وترويضهم طبقا لطبائعهم الإنسانية، ثم استعمال الطرق المنطقية. ويتعلمون من الصبي كما قال أفلاطون مع سائر الآداب حتى يبلغ أشده، ثم يعين الملوك منهم ابتداء من الرياسات الجزئية ارتقاء إلى الرياسات الكلية.
32
ولا يقتصر التعليم على ما توجبه الآراء المشتركة أي العادات والأعراف. ويمكن تعلم الأشياء النظرية بالطرق الإقناعية وطريق التخيل، وهي الأمور التي لا يعقلها الإنسان إلا بعد أن يعقل الكثير، وهي المبادئ القصوى والمبادئ غير الجسمانية التي لا تفهم العامة إلا مثالاتها، وتمكن في نفوسهم بطريق الإقناعات، وما تتميز فيه أمة عن أمة، ومدينة عن مدينة، وطائفة عن طائفة إلى أن يحصلوا على الفضائل النظرية.
ثم تأتي الفضائل أو الصناعات العملية رابعا مرتبطة بالفضائل الخلقية ثالثا عن طريق التعلم والتدريب؛ إذ يتعود الناس عليها بطريقتين؛ إحداهما الأقاويل الإقناعية والانفعالية التي تمكن في النفس هذه الأفعال والملكات حتى تنهض العزائم طوعا نحو أفعالها وما تعطيه هذه الملكات من قدرة على الصنائع المنطقية. والثاني طريق الإكراه مع المتمردين العاصين من أهل المدن والأمم الذين لا ينهضون إلى الصواب طوعا أو بالأقاويل أو من تعاصى منهم عن العلوم النظرية والقادر على فضيلة الملك أو صناعة استعمال الفضائل الجزئية يكون قادرا على تأديب أهل الفضائل والصنائع في الأمم. وأهل المدن طائفتان، من يتأدب طوعا أو من يتأدب كرها. والملك مؤدب الأمم ومعلمها مثل رب المنزل ومعلم الصبيان والأحداث إما بالرفق والإقناع أو بالكره والجبر. الماهية واحدة في أصناف الناس، إنما التفاضل في القلة والكثرة وعظم القوة وصغرها على تأديب الأمم على تأديب الصبيان والأحداث وأهل المنازل، وقوة المقومين والمؤدبين وهم الملوك، وقوة ما يستعمل للتأديب من المهن طوعا أو كرها، والقوة على جودة التدبير في قود الجيوش واستعمال آلات الحرب والناس في مغالبة الأمم والمدن الذين لا ينقادون لأعمال السعادة التي بها كمال الإنسان حسب رتبته في الوجود.
ويحتاج الملك إلى العلوم النظرية المعقولة التي حصلت معرفتها ببراهين يقينية والتماس الطرق الإقناعية في كل منها أو التخييلية بالمثالات. وهي مشتركة بين جميع الأمم والمدن. كما يحتاج إلى إحصاء أفعال الفضائل والصنائع العملية الجزئية وطرقها الإقناعية؛ لأنها في العزائم والأقاويل الانفعالية والخلقية التي تخشع منها النفوس. وقد يستعملها الملوك المضادون والمشاكسون. فتحصل العلوم الثلاثة الأولى النظرية والفكرية والخلقية تنفيذا لغرض الرئيس الأول في الأمم والمدن.
Página desconocida
ثم ينظر في أصناف الأمم، أمة أمة وطباعها المشتركة من الملكات والأفعال الإنسانية واشتراكهم في الطبيعة الإنسانية التي تعمهم، وخصائص كل أمة التي تنفرد بها وما يستعمل معها من طرق الإقناع.
فالعلوم الحاصلة أربعة؛ الفضيلة النظرية التي تحصل بها الموجودات معقولة ببراهين يقينية أو بأعيانها عن طرق إقناعية أو مثالات تلك المعقولات والتصديق بها بالطرق الإقناعية وتطبيقها على كل أمة، وما تسعد به أو قد تشقى به أخرى. وما يستعمل في إقناع أمة قد لا يستعمل في إقناع أخرى. وذلك كله تنفيذ لغرض الرئيس والذي يفرض سلطته في تأديب الأمم مثل الطوائف؛ ففي كل منها فضيلة جزئية وأخرى فكرية لجودة استعمال الجيوش. وقد ينتقل التفويض إلى وحدات أصغر حتى الأفراد حسب فضائلهم الفكرية.
وأول هذه العلوم العلم الذي يعطي الموجودات معقولة ببراهين يقينية سواء بأعيانها منتفع بها أو بتخييلها ليسهل تعليم جهود الأمم وأهل المدن؛ فمنها الخاصة ومنها العامة. والعامة لا يقدرون إلا على ما يوجبه الرأي المشترك، والخاصة هم الذين يعرفون الأمور النظرية بمقدمات برهانية. والخاصة والعامة ليست قسمة حرفية، فيصبح كل متخصص في حرفة من الخاصة بل هو العمق في فهم العلم، والعامي كل من لم تكن له رياسة ولا صناعة ترشحه الرياسة أو يخدم بها المدينة، ومن ظن بنفسه أن له صناعة يصلح أن يتقلد بها رياسة أو حال رياسة مثل ذوي الأحساب وكثير من ذوي اليسار. وأدخل في الخصوص كل من كانت صناعته تؤهله أن يتقلد بها رياسة. فمقياس التمييز بين الخاصة والعامة هو درجة الأهلية للرياسة. أخص الخواص هو الرئيس الأول البعيد عن الرأي المشترك، ومن تقلد رياسة مدينة قصد بها تتميم الرئيس الأول وخدمته. وهو المؤهل للحصول على العلم ببراهين يقينية في حين يقتصر العامة أي الجمهور على البراهين الإقناعية والتخيلات. وهو أقدم العلوم وأكملها رياسة، وهو العلم النظري الأول وسائر العلوم خادمة له، الثاني والثالث المستنبطان منه.
وتتحول الفضائل والصناعات العملية إلى فلسفة في التاريخ عندما يبين الفارابي انتقالها في الأمم القديمة من أمة إلى أمة في خمس مراحل؛ فقد بدأت عند الكلدانيين وهم أهل العراق ثم صارت إلى أهل مصر ثم إلى اليونانيين ثم إلى السريانيين ثم إلى العرب؛ فالكلدانيون أقدم من المصريين، والعرب آخر من حملوا العلوم وليس المسلمون طبقا للتصور القومي للعلم. والشرق القديم، الصين، والهند، وفارس لا وجود له. ولو شاء أحد الاستمرار بعد الفارابي الآن لتحدث عن فترة الغرب الحديث منذ عصر النهضة حتى اليوم، واحتمال فترة سابعة في الشرق.
أما التدوين فهو فقط ثلاث مراحل، من اللسان اليوناني إلى اللسان السرياني إلى اللسان العربي، وكأن البابليين لم يدونوا علومهم ولا المصريين القدماء.
كان اليونانيون يسمون هذه العلوم والفضائل والصناعات الحكمة على الإطلاق أو الحكمة العظمى، ويسمون اقتناءها العلم وملكتها الفلسفة؛ فالفلسفة وسيلة للعلم، والعلم غاية الفلسفة. وتعني إيثار الحكمة العظمى ومحبتها. ويسمون المقتني لها فيلسوفا، ويصفون المحب للحكمة والمؤثر لها، وتتضمن بالقوة جميع الفضائل، ويسمونها علما أو علوما وأم العلوم وحكمة الحكم وصناعة الصناعات وفضيلة الفضائل. وتقال الحكمة على الحذق والإتقان في صناعة لدرجة الإعجاز في الحكمة البشرية. ويقال على الحاذق حكيم في تلك الصناعة، وكذلك النافذ الرؤية والحديث فيها قد يسمى حكيما، إلا أن الحكمة على الإطلاق هي هذا العلم وملكته.
وإذا انفردت العلوم النظرية ولم تتحول إلى قوة على استعمالها في غيرها كانت فلسفة ناقصة. والفيلسوف الكامل على الإطلاق هو الذي تحصل له هذه العلوم النظرية وتكون له القوة على استعمالها في غيرها. ولا فرق بين الفيلسوف والرئيس الأول. فمن لديه القوة على استعمال ما تحتوي عليه النظرية واحد، يجعل الأمور معقولة وإرادية. وكلما كانت قوته أعظم كانت فلسفته أكمل. والكامل على الإطلاق هو الذي حصلت له الفضائل النظرية والعلمية ببصيرة يقينية، وكانت له القدرة على إيجادها في جميع الأمم والمدن ببراهين يقينية وبطرق إقناعية بل وتخييلية طوعا أو كرها. وهو الفيلسوف على الإطلاق، الرئيس الأول. والتعليم يلتئم بشيئين؛ تفهيمه وإقامة معناه في النفس، ثم التصديق به. وتفهيم الشيء على ضربين؛ أن يعقل ذاته أو أن يتخيل مثاله الذي يحاكيه. ويكون التصديق بطريقين، البرهان اليقيني أو الإقناع. ومتى حصل علم الموجودات وعقلت معانيها ووقع التصديق بها على البراهين اليقينية كان العلم المشتمل على تلك المعلومات فلسفة. ومتى تخيلت بمثالاتها التي تحاكيها وقع التصديق بها بالطرق الإقناعية تسمى ملكة. وإذا استعملت فيها الطرق الإقناعية سميت الملكة المشتملة عليها الفلسفة الذائعة المشهورة والبترائية. فالملكة محاكية للفلسفة. وكلاهما يشتملان على موضوعات وبأعيانها، ويعطيان المبادئ القصوى للموجودات، علم المبدأ الأول والسبب الأول للموجودات، والغاية القصوى للإنسان وهي السعادة القصوى، والغاية القصوى لكل واحد من الموجودات. وما تعطيه الفلسفة معقولا أو متصورا تعطيه الملكة متخيلا. وما تعطيه الفلسفة مبرهنا تعطيه الملكة مقنعا. تعطي الفلسفة ذات المبدأ الأول وذوات المبادئ الثواني غير الجسمانية التي هي المبادئ القصوى معقولات. وتخيله الملة بمثالاتها المأخوذة من المبادئ الجسمانية، وتحاكيها بنظائرها من المبادئ المدنية، وتحاكي الأفعال الإلهية بأفعال المبادئ المدنية، وتحاكي أفعال القوى والمبادئ الطبيعية بنظائرها من القوى والملكات والصناعات الإرادية. وقد فعل ذلك أفلاطون في «الطيماوس»، عندما حاكي المعقولات بنظائرها الحسية، وأصناف السعادات القصوى، وهي غايات أفعال الفضائل الإنسانية بنظائرها من الخيرات، حاكي السعادات بنظائرها من السعادات، ومراتب الوجود بنظائرها من المراتب الكائنة في الزمان. وكل ما تعطيه الفلسفة بالبراهين اليقينية تعطيه الملة بالإقناعات. والفلسفة تتقدم على الملة بالزمان. فالإنسان نشأ فيلسوفا قبل أن يتحول إلى ملي.
وكما تحولت الفضائل النظرية والعملية إلى فلسفة، ثم تحولت الفلسفة إلى فلسفة في التاريخ، تتحول الفلسفة أيضا إلى فلسفة في القانون والتشريع. فإذا وجدت بالفعل معقولات الأشياء الإرادية التي تعطيها الفلسفة العملية وتوفرت فيها الشروط يمكن تحويلها إلى نواميس. فواضع النواميس هو الذي له القدرة على أن يستخرج بجودة فكره شرائطه التي يصبح بها موجودا بالفعل تنال به السعادة القصوى ويكون هو الفيلسوف الرئيسي أو الرئيس الفيلسوف. فشرط التشريع هو الفلسفة. والفلسفة إن لم تتحول إلى تشريع تكون ناقصة بل يصفها الفارابي بأنها باطلة. فمن اقتنى الفضائل دون أن تكون له القدرة على إيجادها على العموم وليس على الخصوص، وأن يستخرج المعقولات الإرادية أحوالها وشرائطها بحيث تكون موجودة بالفعل يكون ناقصا؛ فالفضيلة الفكرية شرط التحول إلى الفضيلة العملية. والفضيلة العملية لا توجد إلا بشرط الفضيلة الفكرية. ويتطلب ذلك أيضا القدرة على جودة الإقناع والتخييل.
الإمام والفيلسوف والمشرع - أي واضع النواميس - معنى واحد إلا أن الفيلسوف يدل على الفضيلة النظرية والفيلسوف الكامل هو الذي يصل بها إلى كمالها الأخير، فيصبح واضع القواميس الذي يتضمن جودة المعرفة بشرائط المعقولات العملية والقوة على استخراجها وإيجادها في الأمم والمدن. والملك يفيد التسلط والاقتدار، والاقتدار التام ينبع من الداخل وليس من الخارج، وهو ما يتطلب قوة المعرفة والفكرة والفضيلة والصناعة وإلا نقصت قدرته. وإن كان قادرا على الخيرات دون السعادة القصوى كان ناقصا، لذلك صار الملك على الإطلاق هو الفيلسوف واضع النواميس. والإمام في لغة العرب يدل على المؤتم به والمستقبل، أما المتقبل كما له أو المتقبل غرضه. فإن لم يكن متقبلا لجميع الأفعال والفضائل والصناعات لم يكن متقبلا على الإطلاق، وإن لم يوجد غرض يلتمس حصوله بشيء من الأفعال والفضائل والصناعات سوى غرضه كانت صناعته وفضيلته وفكرته وعلمه أعظم الصناعات والفضائل والأفكار والعلوم، ولا يمكن ذلك دون العلوم النظرية والفضائل الفكرية عند الفيلسوف.
الفيلسوف والرئيس الأول والملك وواضع النواميس والإمام إذن معنى واحد. وهي مترادفات على التبادل عند جمهور اللغويين، تدل على معنى واحد. ومتى حصلت هذه الأشياء النظرية التي برهنت في العلوم النظرية، وتخيلت في نفوس الجمهور، ووقع التصديق بها، وحصلت الأشياء العملية بشرائطها، وتمكن وجودها من النفوس واستولت عليها وصارت عزائم تنهضهم نحو أفعال أخرى ؛ فقد تحققت الفضائل النظرية والعملية بأعيانها وببصيرة يقينية إذا كانت في نفس واضع النواميس. وإذا كانت في نفوس الجمهور فهي ملكة عن تخيل وإقناع. وهي عند واضع النواميس الفيلسوف ليست مخيلات أو مقنعات بالنسبة له بل يقينية، بل هو الذي اخترعها لتتمكن من نفوس الجمهور على أنها تخييل وإقناع لغيره. له فلسفة ولغيره ملكة. فهو الفيلسوف بالحقيقة.
Página desconocida
أما الفلسفة البتراء وفيلسوف الزور والبهرج فيلسوف الباطل فهو الذي يشرع قبل أن يتعلم العلوم أو أن يتعلم العلوم دون أن يكون موطأ لها. التشريع في النظر أهلية واستعداد وفطرة. وهي الشروط التي ذكرها أفلاطون في كتاب «السياسة»، أن يكون جيد الفهم والتصور للشيء، حفوظا وصبورا على الكد، محبا للصدق وأهله، والعدل وأهله، غير جموح ولا لجوج في أهوائه، غير شره على المأكول والمشروب، وتهون عليه الشهوات والدرهم والدينار، كبير النفس عما يشين عند الناس، وربما سهل الانقياد للخير والعدل، وعسر الانقياد للشر والجور، قوي العزيمة على الشيء الصواب، ربي على نواميس وعادات ما فطر عليه، صحيح الاعتقاد لآراء الملة التي نشأ عليها، متمسكا بالأفعال الفاضلة التي في ملته، غير مخل بكلها أو معظمها، متمسكا بالفضائل غير المنحلة بالأفعال الجميلة، وإلا كان فيلسوف زور وبهرج وباطل.
الفيلسوف الباطل هو الذي تحصل له العلوم النظرية دون كمالها الأخير ودون تحقيقها بكل إمكانياتها. هو الذي لم يشعر بفرض الفلسفة فيحصل على النظري دون العملي، وعلى المعرفي دون الأخلاقي. وظن أن السعادة ما ظنه الجمهور، خيرات فطلبها، قد يناله وقد لا يناله، والفيلسوف البهرج هو الذي يتعلم العلوم النظرية دون تزويرها ولكنها لم تتحول لديه إلى أفعال فاضلة أو الجميلة بحسب الملة بل تابع هواه وشهواته في كل شيء، والفيلسوف المزور هو الذي تعلم العلوم النظرية من غير أن يكون معدا بالطبع نحوها وهو أقل من الباطل والمزور لأن الباطل والمزور على الأقل حصل كل منهما على العلوم النظرية دون أن تتحول عنده إلى فضائل أو اضمحلت عندها تدريجيا لكبر السن فتنطفئ علومهما أشد من انطفاء نار أرقليطس الذي يذكره أفلاطون لأن طباع الأول وعادة الثاني يقهران ما تعلماه في شبابهما ويثقلان عليه ما قد احتملا الكد فيه فيهملانه، فتضيع الثمرة وإن حدث الغرس. أما المزور فهو الذي لا تتوافر فيه الأهلية على العلوم النظرية منذ البداية. والفيلسوف الحق هو الذي جمع بين الفضائل الفطرية والفكرية والخلقية والعملية سواء انتفع به الناس أو كمل في ذاته. فالملك والإمام بماهيته وصناعته وليس بقبول الناس له. كما أن الطبيب طبيب حتى دون علاج للمرضى، فالقمة قائمة سواء وجدت القاعدة أم لم توجد. إلى هذا الحد بلغ استقلال الرياسة عند الفارابي حتى غياب المرءوسين. وتنتهي الرسالة بالحمدلة والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
33
ويلاحظ على تحصيل السعادة الآتي: (1)
إن البنية في «تحصيل السعادة» التي أراد الفارابي ضم أفلاطون وأرسطو فيها هي بنية أفلاطونية إشراقية وليست بنية محايدة. والفارابي أفلاطوني النزعة. فكان ضم المذهبين في تصور ثالث غير متعادل منذ البداية لصالح أفلاطون أكثر منه لصالح أرسطو. (2)
يوحد الفارابي بين المنطق والوجود، بين الميتافيزيقا والطبيعة، بين النظر والعمل، والرياضيات شرط العلوم كلها كما عرض في «إحصاء العلوم». (3)
الفلسفة إعادة إنتاج كل شيء وليست مجرد غاية في ذاتها. هي أداة للمعرفة الشاملة، علم العلوم، فضيلة الفضائل، صناعة الصناعات. الفلسفة ليست حرفة يحذقها الحرفي بل أداة تعرف بها كل العلوم والصناعات. (4)
يظهر الموروث عن بعد، وبطريق ضمني غير مباشر مثل التركيز على الفطرة والطبيعة والاستعداد، والتوحيد بين الجميل والخير والنافع، وضرورة التشريع للمجتمع، وتحول الطبيعة إلى إرادة، وجعل الفضائل فطرية وبالاختيار. (5)
الفلسفة أعلى من الدين، والحقيقة أكمل من الملة. الفلسفة يقين في حين أن الملة تعتمد على الإقناع أو التخييل. الفلسفة الخاصة والملة العامة، وهو ما ظهر عند ابن سينا وابن رشد بعد ذلك. (6)
تحويل الفلسفة النظرية إلى فلسفة في الأخلاق والسياسة والاجتماع والقانون والتاريخ الفلسفة ليست فقط مرتبطة بالفرد ولكنها أساس المنازل والطوائف والمدن والأمم والمعمورة كلها، وتنوعها بحسب اختلاف الزمان والمكان. (7)
Página desconocida
الوقوع في التصور الهرمي للعالم في ثنائية الرئيس والمرءوس ، الإمام والمأموم، الملك والرعية، والتوحيد في الرئيس أو الإمام أو الملك أو الفيلسوف كل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، والتركيز على الحرب والاقتصاد، والجهاد والمال، ودور الرئيس في تأديب الأمم طوعا أو كرها، بل وإمكانية استقلال الرئيس عن الدولة، والإمام عن المأمومين، والملك عن الرعية. (ب) فلسفة أفلاطون
واسم الكتاب «فلسفة أفلاطون وأجزاؤها، ومراتب أجزائها، من أولها إلى آخرها». وهو الجزء الثاني من الثلاثية، الضلع الأول في المثلث المتساوي الأضلاع أو الساقين. ويتضمن العنوان منهج التأليف أي التحليل، تحليل فلسفة أفلاطون إلى أجزائها ثم التركيب في «مراتب أجزائها». وكلاهما من حيث بنية المذهب. أما من حيث المسار والتاريخ فإن الفارابي يريد معرفة البداية والنهاية، الأول والآخر أي حركة المذهب وتطوره؛ فالغاية إذن رباعية. التعرف على فلسفة أفلاطون بنية وتاريخا، البنية تحليلا وتركيبا، والتاريخ بداية ونهاية. وهي نفس البنية للجزء الثالث «فلسفة أرسطوطاليس».
وقد حتم هذا المنهج التعرف على فلسفة أفلاطون من خلال أعماله أي المحاورات التي بلغت حوالي الثلاثين مما يدحض الرأي الشائع أن أفلاطون لم يترجم لأسباب دينية أو أن المسلمين اهتموا بترجمة أرسطو أكثر مما اهتموا بترجمة أفلاطون. ولما كانت أسماء المحاورات أسماء أعلام إلا أن الغالب على استعمالها أسماء المحاورات أي المؤلفات.
34
أما أسماء الإعلام فمن الطبيعي أن يأتي في المقدمة سقراط ثم أفلاطون.
35
ويترجم أفلاطون كل اسم محاورة ترجمة حرفية مع أنه اسم علم، اسم محاور سقراط في الغالب.
36
ومن أجل وصف مسار المذهب، بداية ونهاية تبدأ كل فقرة باسترجاع مضمون الفقرة السابقة حتى تطول الجملة للتذكير بما فات ثم يأتي موضوع الفقرة الجديدة. ولما كانت كل فقرة عرضا لمحاورة بدأ التذكير بمواضيع المحاورات السابقة قبل البداية بعرض موضوع المحاورة الجديدة حتى يظهر كيف كون أفلاطون فلسفته خطوة خطوة، من الأول إلى الآخر.
ربما قرأ الفارابي أفلاطون قراءة أرسطية بالبحث عن الفلسفة كعلم بالموجودات، العلم بالموجود من حيث هو موجود، ابتداء من كتب المنطق واستعراضها لعل فيها العلم المطلوب، بداية بعلم اللسان. ويشمل المقولات والعبارة والقياس والبرهان ثم علوم الشعر والخطابة والسفسطة والجدل، بداية بمنطق اليقين ونهاية بمنطق الظن. فقراءة أفلاطون قراءة أرسطية، وربما قراءة أرسطو قراءة أفلاطونية في «فلسفة أرسطوطاليس» تجعل ضمهما في فلسفة الفارابي ممكنا.
Página desconocida