Napoleón Bonaparte en Egipto
نابوليون بونابارت في مصر
Géneros
وقرر السلطان سليمان بأنه المالك الحر لجميع أرض مصر، فلذلك كان يوزعها إقطاعات على الملتزمين «على نظام الإقطاعات في أوروبا في القرون الوسطى» والفلاحون هم الذين كانوا يقومون بزراعة الأرض كانوا مجبورين على العمل فيها، دون أن يكون لهم حق التصرف بالبيع أو بالشراء ولا يرث أبناؤهم إلا حق الخدمة فيها، وتنتقل الأرض بالميراث لأبناء الملتزمين.
وإذا مات الملتزم من غير وارث، تعود الأرض للسلطان مالكها فتعطى لملتزم جديد، وكان على كل الملتزمين والفلاحين ضرائب أو خراج يدفعونه إما نقدا وإما عينا وكان لا يحل لأحد الفلاحين ترك ما في يده من الأرض، أو التخلي عن تعهدها بالحرث والزرع، بل كان يجبر على ذلك ويجلد بالسياط أو يقوم بدفع ما عليها من الخراج إلى أولئك الملتزمين، ولم يكف هذا النظام العسكري الذي لم يدع للمصريين ظلا من معني الوجود، حتى تطاولت مطامع الأتراك إلى سلب القضاء الشرعي من يد علماء المصريين، ذلك القضاء الذي أبقى لهم شيء من النفوذ الديني في الأحكام والمواريث والقضاء، فأصدر السلطان سليمان «سنة 928ه» أمره بإبطال قضاة المذاهب الأربعة من التصرف في القضاء بديار مصر، وتسليم جميع الأحكام الشرعية لقاض واحد من قضاة الروم «أي: الترك» بحيث لا يصح لأحد أن يوقف وقفا، أو يعقد عقدا، أو يكتب وصية أو إجارة، أو حجة أو غير ذلك من الأمور الشرعية، حتى تعرض على قاضي العسكر الذي يعين من الآستانة.
وروى المؤرخون أن أول قاضي من الترك عينه السلطان سليمان كان اسمه «سيدي جلبي» وهذا عين له وكلاء قضاة للمذاهب المختلفة من الترك أيضا، وجعل لكل قاض منهم نائبا من المصريين، وأحدث هذا القاضي من أساليب امتصاص دماء الأمة ضريبة على التركات فجعل على كل تركة الخمس منها لبيت المال مع وجود الورثة من الذكور والإناث، ولا ندري بأي حق، ولا على أية قاعدة شرعية، وضع هذه الضريبة الفادحة، وغريب أن علماء مصر ورجال الأزهر لم يعارضوا في ضريبة كهذه، وبقي معمولا بهذه البدعة إلى الزمن الأخير من سلطة المماليك فقد ذكرها الإسحافي في حوادث سنة 1028؛ أي: بعد فرض تلك الضريبة بمائة عام تماما: وقال «وهذا العام وقع الطعن والطاعون بمصر المحروسة وقراها، ومكث نحو شهرين فاشتغل الناس بموتاهم، وأقفل غالب الأسواق في مصر وحوانيتها، ما عدا أسواق الأكفان فإنها مفتوحة ليلا ونهارا، ومنع جعفر باشا «الوالي التركي» عامل الأموات من التعرض للموتى، فصار الناس يدفنون موتاهم من غير إذن، وحصل بذلك رحمة للعالمين، قال هذا المؤرخ: «فيا سبحان الله!! يموت اليهودي، وهو صاحب مائة ألف، فلا يتعرض له أحد من الظلمة.» ولا يسأل عما خلف وإذا مات مسلم لم يدفن حتى يشاور عليه وتأتي الظلمة تخرجه من بيته ويختمون عليه «كذا في الأصل» مع أن له أولادا «كذا» وأخوة وزوجة فالحكم لله العلي الكبير، ألم يسمعوا قول العزيز الجبار
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا . ا.ه. •••
هذه النظامات الإدارية والعقارية والقضائية بقيت مرعية الجانب ما دام نفوذ الدولة قويا، ولكن لما استبد المماليك بالأمر انهار جدار هذه النظامات التي لا تخرج عن كونها نظاما عسكريا لم تراع فيه مصلحة البلاد، ولا ترقية شئونها الاقتصادية أو السياسية، حتى ولا العمل على حفظها من التدهور إلى هاوية الفقر المدقع، فلم تقرر في ذلك النظام خطة مالية لحفر الترع وصيانة الجسور، أو أي أمر يساعد على إصلاح الأراضي أو صيانتها، وهي مصدر حياة سكان البلاد، ومصدر خراج الدولة، ومغارم المماليك، وما يلزمهم من الأموال للبذخ والترف، والإنفاق على «بيوتهم» ومماليكهم الذين بلغ عددهم في أواخر القرن الثامن عشر عند زيارة «فولني» لمصر نحو 8500 مملوك من الكبار الذين ينفق الواحد منهم على سلاحه وملبسه وزوجاته وسراريه، نحو ألفين وخمسمائة جنيه في العام، على تقدير «فولني» وهو شاهد عيان.
وكان البكوات الكبار من المماليك يخلعون على أتباعهم في أيام المواسم، الخلع النفيسة المصنوعة في فرنسا أو فينيسيا، ومن كشامير الهند وحرير دمشق، وكانوا إذا أعتقوا مملوكا ورقوه درجة يمنحونه منزلا فاخرا مؤثثا بالرياش الفاخر، ويزوجونه، ويهبونه الجواري الحسان، من بيض وحبشان، فاشتد بذلك ساعدهم، وتقلص ظل الدولة شيئا فشيئا.
ثم كان التنافس بين زعماء المماليك سببا في تخريب البلاد، فإذا خاف أحدهم على نفسه من فتك الآخرين، يغير بجماعته على مديرية من المديريات، ويستولى على خراجها، ويتولى أخذ ضرائبها من الملتزمين والفلاحين، وكثيرا ما يستحل المديرية أو المديريتين لنفسه ملكا حلالا!! فكيف كان من الممكن أن يستتب نظام إداري أو عقاري، في أحوال فوضى واضطرابات كهذه مستمرة بلا انقطاع، وزاد الطين بلة، على المصريين الفلاحين، أن الملتزمين، وكان غالبهم من محاسيب المماليك وأتباعهم الذين إما يعجز منهم عن التطلع إلى مقام البكوات، وإما لضعف في أجسامهم يعوقهم عن مجاراة الأقران في ميادين الفروسية، وإما لرغبة منهم في البعد عن غمرات التحزبات، وأخطار المنافسات - كانوا يفضلون الإقامة في الريف بعد نيل الالتزامات الواسعة - ونقول زاد الطين بلة على الفلاحين أن أولئك الملتزمين مدوا أيديهم إلى ما في أيدي الفلاحين من الأراضي وجعلوها وسايا «جمع وسية» لهم وحتموا على الفلاحين العمل فيها بغير أجر، كما كانوا كذلك يكلفون بالخدمة المجانية في أراضي الأوقاف والحبوسات، التي قل أن يصل شيء من ريعها للإنفاق على ما خصص له.
مثل هذا النظام لم يكن ليؤدي مطلقا إلا إلى هذه الخراب والإفلاس، وطالما حاقت بمصر المجاعات الحادة كما تراه مفصلا بأبلغ العبارات في صحائف الجبرتي، ولا يخفى أن الغزوات التي قام بها علي بك الكبير من سنة 1766-1775 كلفت مصر وأهلها أكثر من ستة وعشرين مليونا من الجنيهات، وقد ذكر «فولني» أن علي بك الكبير ابتاع خنجرا مرصعا بالجواهر الكريمة بمبلغ 225000 جنيه، ولقد وصل الحال بالفلاح المصري أنه لم يجد سكنا يقيم فيه فكان يلتحف العراء، وذو اليسار منهم يعيشون في أكواخ من الطين، ولا يجد الواحد منهم ما يأكله سوي الخبز الحقير المصنوع من الذرة والحلبة، يتناوله بالبصل النيئ أو الأعشاب التي يجمعها من جروف الترع والمجاري، ويطبخها بغير لحم ولا إدام، وكان رداؤه قطعة من القماش المصبوغ بالنيلة، وهي ميراث الفلاحين وإليها ينسبون «أصحاب الجلاليب الزرقاء»، وأما البذخ والترف، والذهب والفضة، والملابس المزركشة، والغلائل الرقيقة، والخيل المسومة، والسلاح المنمق بالجواهر الكريمة، والدور الفسيحة، والقصور الفاخرة، والنعيم على وجهه الأكمل، فلم يخرج عن دور المماليك وأتباعهم، وذوي المحسوبية عليهم من لصوص الإنسانية.
ذكر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار» - وهو مؤرخ هذه الفترة وجامع شتات أخبارها، وله ميل للمماليك - عند كلامه عن مراد بك، أنه جعل إقامته بقصر الجيزة، وزاد في بنائه وتنميقه، وبنى تحته رصيفا محكما، وأنشأ بداخله بستانا عظيما نقل إليه أصناف النخيل والأشجار والكروم، واستخلص غالب إقليم الجيزة لنفسه شراء ومعارضة، وغصبا، وعمر قصر جزيرة الذهب وجعل به بستانا عظيما، وكذلك قصر «ترسا» وبستان «المجنون»، وصار ينتقل في تلك القصور والبساتين ... إلخ، وإليك وصف كاتب فرنسي لقصر مراد بك بعد انخذاله في واقعة إمبابة، وفراره للصعيد، ودخول الفرنسيين في منزله، قال: «ولما وصل المعسكر العام إلى الجيزة في الساعة التاسعة مساء نزلنا دار مراد بك فلم نجد فيها إنسانا، ولم يكن هذا القصر يشابه في حجاراته، وتوزيع طرقاته، قصور أوروبا، ولكنا وجدنا فيه مما تركه رجال مراد بك، ولم يحفلوا بنقله، فراشا فاخرا، وحرائر موشاة الأطراف بالذهب والفضة، وأشياء من مفاخر الصناعة الأوروبية ... إلخ، ومثل هذا الوصف بالنص ورد في كتاب «فيفان دينون»
5
Página desconocida