هي ترى الله والشريعة مجسمين بالكاهن والكنيسة، ولا تفهم من سر الفدا غير تمثيله على المذبح، وكان جميل يعرف بأن الله ليس الكاهن وليست الشريعة الهيكل، ولكنه عرف بأن ذلك القلب الساذج يحصر كل اعتقاده بالمنظور، وأنه حين يخلو من ذلك الاعتقاد يخرج العفاف منه، ويضمحل في شكوكه كل طهارة وحذر، فأخذ يبين لسلمى ضلال بعض الكهنة في حياتهم المملوءة خبثا، يوشيها المجد وتحتاطها السعة والبذخ، قائلا بأن سلطة كهذه لا يمكن لها أن تمثل شريعة مجردة منبعثة عن نور السماء.
تحت تلك الصفصافة الضائعة على سفح لبنان فوق الوادي العميق قرب الغدير الصافي السائل بهدوء بين الأعشاب دوى صوت فولتير مرة ثانية على الأرض.
وكانت سلمى قد جلست على دثار جميل المفروش على الأرض، وجميل جاث أمامها، ويده المحترقة بحرارة الشر ملقاة على كتفها المرتجفة ... فقالت: جميل ... اسمع لكلامي؛ فإنني ساذجة لا أعرف كيف أتكلم، ولكن لا يجب أن يتعلم القلب ليشعر: كنت أحب لو كنت مثل أبي قانعا بأرض أبيك وأجدادك، أبوك قد قضى وأمك ماتت وأنت وحيد في هذه المزرعة الحقيرة، لا نسيب لك ولا قريب، تعيش منفردا عن القوم، كأنك لست منهم وتتكبر على لابسي العباءة، كأن أباك لم يرتد مثلها ليقوم بمصاريف تعليمك في المدرسة، أنت كالطير الغريب في مزرعة لبنان يا حبيبي، تركت عشك الجميل لتملأ دماغك بأفكار لا أفهمها، وما عدت إلينا إلا بزي جديد ملفوفا بأثواب غريبة لتركب غارب البحر، وتبقى هنالك السنين الطوال، وها أنت ما بيننا كأنك لست منا، فلا يمكن لنا أن نفهمك كما لا يمكن لك أن تفهمنا، ولو لم يكن رباط الحب أقوى من المدى وأعلى من طبقة العوائد، لما كنت تراني الآن بين يديك، أحبك يا جميل وأذعر منك، أشتاق إلى مرآك وأحذر لقياك، فأنت أمامي جميل مشرق كالقمر، ومظلم مخيف كأطراف الوادي البعيد. - ويلاه يا سلمى! كفي ملامك فإن غصن الورد لا ينتقل من تربته ويرمى لرحمة العواصف إلا لقوة غالبة وإرادة جائرة، بلادي صخرة جرداء وافقها ضيق على النظر الطامح إلى بعيد، تعلمت أن أرتفع بأفكاري إلى الأمور السامية فاحتقرت المحراث وثقلت على كاهلي ملابس أجدادي، فاندفعت كما يندفع إخواني أبناء لبنان إلى الأوقيانس البعيد، وهنالك ذقت ما لا يحلم به سكان صخورنا، ولهذا أريد أن أعيش كما يحبب العيش لي وسوف أعود إلى بلاد الذهب والسرور. - ويلاه يا جميل يرتجف قلبي من كلامك، وهذه الأرباض الهادئة تضطرب منك، فكأنك نسر خارج من بيضة حمام، ينتفض بجرأة وشدة مخالفا كل شريعة ونظام، أنت ولدت مثلي في هذه المزرعة الساكنة الهادئة، ولكنك لم تعد صالحا لسكناها، كما لم يعد بها شيء يحببها إليك، ويكفيني أن أنظر إلى أثوابك التي لا يصنع في بلادنا منها قطعة واحدة لأتأكد بأنك صرت غريبا، وبك كل الأميال التي تجعلك معرضا لحياة الاستعباد في بلاد الأجانب، اسمع لصوت حبي، دع عنك هذه المطامع، وخذ لك أرضا تشتغلها بما لديك من المال فتأتيك بالأرباح، اشتر أرض أبيك التي باعها ليعلمك، وهذه يدي بيدك لنحيا بسكون ونموت بسلام في مزرعتنا الصغيرة، ففي بساطتها نلقى السعادة والراحة.
وكان صوتها هادئا ترن به كل نغمات الحب الصادق والاسترحام، فكأن لبنان الساذج السعيد تجسم بذات تلك الفتاة الطاهرة القانعة لينزع من قلب جميل مطامع المهاجرة وضلال الحياة الجديدة.
وألقى جميل رأسه على كتف الفتاة، فتمثلت لديه صورة الحياة الهادئة في مزرعته قرب سلمى وهي تحبه بكل قواها، رأى نفسه ساكنا في بيت أبيه القديم وأرزاقه تدر عليه اللبن والعسل، وتخيل أنه بنى معملا صغيرا يشتغل به مع عدد من أهل المزرعة بصناعة النسج التي تعلمها في المهجر، فاهتز بنفسه وجدان اللبناني القديم فوضع فمه على شفتي سلمى الورديتين، فكأن بهذه القبلة التي رنت على كتف الغدير فتلاشى صداها مع خريره كانت رابطة عهد جديد بين قوة لبنان وجماله ...
ولكن تلك النفس اللبنانية المجبولة على العفاف لم تكن لتقوى طويلا بطبعها على ما تطبعت عليه، وذلك الاعتقاد اللبناني القديم الذي رسخ مع الأدهار لم يكن ليقوى على الشكوك المتسلطة عليه من فساد بعض التقاليد السطحية.
تلك الليالي التي قضاها جميل بين غابات نيويورك وعواهر مرسيليا، تمثلت لوجدانه المشكك كشبح اللذة الكاملة ومودع السعادة الحقيقية، وذلك السم الذي دار بدمه مع ملاصقة الفواحش والنزول إلى قعر الدنس، ذلك السم كان لم يزل جاريا يحارب دماء اللبناني القوية.
وكانت سلمى قد سكرت من مظاهر الجمال الطاهر الذي لاح لعينيها على وجه جميل حين افتكاره بسعادة الحب وسكنى الوطن، فارتخت عزائمها ورقدت روحها بين طيات الأمل.
كل شيء في هذا الكون مقسوم إلى قسمين؛ قسم يأمر وقسم يرضخ، ذرات الدقائق، الجوهر الفرد لا يكون إلا مزدوجا، ولا يمكن تصوره منفردا ما لم يصبح عدما، وفي ذات ذلك الجوهر المزدوج يوجد متعد ولازم، يوجد سابق ولاحق، أول وثان، تابع ومتبوع، فلا يمكن اندغام متشابهين ما لم يكن متسلط وراضخ، لا يوجد اشتراك تام إلا بالظواهر في الطبيعة المنظورة.
روح سلمى الثملة بعواطف الحب الأكيد وحياته الأمل، وروح جميل المحترقة بحمى الملاذ ونارها ذكر الضلال الماضي وأمل اللذة العتيدة، حياة طاهرة وحياة مفسودة تندغمان بقوة مجهولة تضم كل شيء حتى كأنها تمزج الخير بالشر مزجا.
Página desconocida