Hacia una filosofía científica
نحو فلسفة علمية
Géneros
3
لم يكن التفكير النظري في أولى مراحله يهتم بالكم اهتماما يدعوه إلى ضبط ذلك الكم ضبطا دقيقا. ولعل الحاجة إلى هذا الضبط الدقيق في العلوم الطبيعية على الأقل لم تظهر بشكل واضح إلا في ظهور هذه العلوم منذ أيام النهضة الأوروبية على نطاق واسع؛ ذلك أن التفكير اليوناني كان قد انصرف بمعظم جهوده إلى العلوم الاستنباطية كالرياضة والفلسفة، والتفكير الوسيط قد انصرف بجهوده كلها تقريبا إلى اللاهوت، ولم تظهر العلوم الطبيعية بشكل واضح يشغل جانبا بارزا ملحوظا من جهود الإنسان الفكرية إلا منذ فاتحة العصور الحديثة؛ أي منذ القرن السادس عشر؛ فعندئذ ظهرت زمرة العلماء: جاليليو، وكبلر، وكوبرنيق، ونيوتن، متجاورة متزاحمة على نحو ما ظهرت زمرة الفلاسفة أيام اليونان متجاورة متزاحمة: سقراط وأفلاطون وأرسطو وما يتبعهم من مدارس.
ومع ظهور العلوم الطبيعية على هذا النطاق الواسع، ظهرت الحاجة إلى وسائل الضبط الكمي؛ فلا غرابة أن أخذ النقص في المنطق الأرسطي يبدو للعيان؛ لأن هذا المنطق وإن يكن قد عني بالكمية في قضاياه، فإنه لم يعن بها إلا على سبيل التعميم الغامض، لا على سبيل التفصيل الدقيق، ولك أن تراجع القياس الأرسطي الذي هو عند اليونان مثال التفكير العلمي، لترى كيف يقصر اهتمامه من حيث الكم في لفظتي «كل» و«بعض». نعم إنه قياس يفصل لك القواعد الاستدلالية تفصيلا دقيقا، على شرط ألا تجاوز في الدقة الكمية عند ذكر القضايا التي تستخدمها في الاستدلال هذه الحدود العامة؛ فإما أن تكون القضية المستخدمة في المقدمات كلية أو جزئية، والكلية هي ما كان سورها كلمة «كل» أو ما في معناها، والجزئية هي ما كان سورها كلمة «بعض» أو ما في معناها، كأن تقول مثلا: «كل المصريين يتكلمون العربية»، و«كل سكان النوبة مصريون»؛ إذن «فكل سكان النوبة يتكلمون العربية». أو أن تقول: «كل آبار البترول المصرية قريبة من البحر الأحمر»، و«بعض آبار البترول المصرية غزير الإنتاج»؛ إذن «فبعض آبار البترول الغزيرة الإنتاج موجودة بالقرب من البحر الأحمر.» هذا هو نمط الاستدلال القياسي عند أرسطو، ولكن هل «كل» و«بعض» هما كل حدود التقدير الكمي في التفكير العلمي؟ واضح أنهما لا يكونان إلا شطرا ضئيلا مما يتعرض له الإنسان بفكره العلمي، إذا ما أراد أن يمس مشكلاته العلمية على نحو جاد، فماذا يجدي من الناحية العلمية أن أقول «بعض المصريين فقراء»؟ إنه يتحتم على الباحث أن يعلم «كم» من المصريين هم الفقراء، ثم «كم» هو الدخل السنوي الذي نحدد به معنى كلمة «الفقر» في هذا السياق؟ إن القول بأن «بعض المصريين فقراء» هو قول يوشك ألا يفيد العلم شيئا على الإطلاق؛ لأن ما فيه من كم قد جاء على صورة غامضة، وما فيه من كيف (وأعني به نسبة صفة الفقر إلى فريق من المصريين) لا يعني في البحث العلمي شيئا إلا إذا تحول فيه الكيف إلى كم بأن ترجمت صفة الفقر إلى نسبة معينة من الدخل في وحدة زمنية معينة.
إن القارئ الملم بالمنطق الأرسطي وقواعده ليعلم جيدا أن ذلك المنطق بكل قواعده الاستدلالية لا يسعف أحدا إذا أراد أن يعلم إن كان الاستدلال القياسي الآتي صوابا أو لم يكن، وهو: (1)
إن 4 / 7 على الأكثر من طلبة الجامعة يتحقق فيهم عدم اللياقة الطبية العسكرية بنسبة 2 / 3. (2)
إن 3 / 5 على الأقل من أبناء الضباط تتحقق فيهم اللياقة الطبية العسكرية بنسبة 7 / 8. (3)
إذن فعلى الأكثر 1 / 2 أبناء الضباط هم من طلبة الجامعة.
نعم لم يكن القياس الأرسطي يعنى بالدقة الكمية في مقدماته ونتائجه، مع أن العلوم بأسرها، طبيعية وإنسانية على السواء، لا مناص لها من مثل هذه الدقة؛ إذ هي في قياسها لكمياتها أو في إجرائها لإحصاءاتها لا تقنع بمجرد القول - مثلا - إن كل الخشب يطفو فوق الماء، أو إن بعض الناس هم دون المستوى في درجة ذكائهم، بل لا بد في الحالة الأولى من ذكر الوزن النوعي للخشب في رقم دقيق حتى يمكن الاستفادة من القاعدة استفادة علمية عملية، ولا بد في الحالة الثانية من تقدير للذكاء بلغة الكم، ثم تقدير لما يعد «المستوى»، ثم لا بد بعد ذلك من ذكر نسبة الناس الذين هم دون هذا المستوى؛ حتى يمكن الاستعانة بأمثال هذه التقديرات الدقيقة في عملية التربية مثلا.
فلا عجب - إذن - أن رأينا بعض رجال المنطق الحديث، منذ قرن تقريبا، يتصدون لمعالجة هذا الجانب الذي أهمله أرسطو في منطقه، وهو إدخال التقدير الكمي في مقدمات الاستدلال ونتائجه ما أمكن ذلك، غير مكتفين بالكلمات التقليدية الدالة على الكم، مثل «كل» و«بعض». ومن بين هؤلاء المناطقة المحدثين «جورج بول»
3
Página desconocida