Hacia una filosofía científica
نحو فلسفة علمية
Géneros
ها نحن أولاء قد عرضنا أمامك رأيا في الكون شاع بين الفلاسفة وإن يكن قد اتخذ لديهم صورا مختلفة هنا أو هناك، ولكنها تجتمع على قاعدة مشتركة، وهي محاولة الفيلسوف أن يقول قضية يقضي فيها عن الكون كله بحكم من الأحكام، بحيث تأتي سائر القضايا الفرعية بعد ذلك كالنتائج المحتومة التي تلزم عن مقدماتها؛ فماذا صار من أمر هذا التقليد الفلسفي على ضوء التحليلات الحديثة؟ لقد أظهرت هذه التحليلات أن كل قضية نحكم بها على مجموعة بأسرها من أعضاء، هي بغير معنى، بل هي ليست بالقضية إطلاقا، إنما هي ما يقولون عنه الآن «دالة قضية»؛ أي إنها عبارة غير مكتملة الأجزاء، فيها ثغرات شاغرة ، إذا لم تملأ بأسماء جزئية لبثت القضية جوفاء فارغة، ودع عنك قضية كبرى يقولها الفيلسوف لا ليحكم بها على هذه المجموعة الفرعية أو تلك من مجموعات الكائنات، بل يقولها ليحكم بها على الكون كله بما فيه ومن فيه.
ليس موقفنا إزاء فيلسوف يقضي في شأن الكون كله بحكم واحد هو أن نصحح له هذا الحكم بحكم سواه؛ فمثلا يقول عنه إنه عقل، فنقول له بل هو مادة، بل موقفنا هو أن كل حكم من هذا القبيل الشامل هو قول بغير مضمون، أو عبارة بغير معنى؛ ذلك لأن تحقيقها كما هي قائمة في شمولها وعموها ضرب من المحال، لا لأنها فوق مستطاع البشر، وأنه لو رزق البشر إدراكا أوسع وأعلى وأشد نفاذا، لاستطاعوا عندئذ أن يتحققوا من صدق مثل هذه العبارة الشاملة بحكمها لأجزاء الكون كله، بل إن مصدر الاستحالة هنا منطقي صرف، فما دام هذا الحكم العام ينصب - كما يزعم صاحبه - على الحقيقة الخارجية كما هي قائمة في الوجود الفعلي، فلا بد من الرجوع إلى تلك الحقيقة، ولكن هذه الحقيقة كما تقع في خبراتنا مجموعة كبيرة من أجزاء؛ وإذن فهذا الرجوع إليها محال إلا إذا اكتفينا في كل خطوة بالرجوع إلى جزء واحد فقط من المجموعة الكبرى؛ ومعنى ذلك أنه لكي يكون الحكم ممكن التحقيق يجب أن ينصرف الحديث فيه إلى جزئية واحدة من جزئيات الكون؛ فإذا فرضنا بعد ذلك أننا قد أتممنا قائمة طويلة بكافة الأحكام الجزئية التي تقال صدقا عن الوقائع الجزئية، كانت هذه القائمة شاملة لعلمنا بالكون، ولو لخصناها في قضية واحدة عامة، كانت هذه القضية الواحدة في ذاتها بغير معنى؛ لأن معناها لا يكون إلا إذا عدنا ففضضناها حبة حبة وجزءا جزءا.
إنك تستطيع أن تضم مجموعة كبيرة من الكتب بعضها إلى بعض، ثم تحكم عليها حكما واحدا فتقول : هذه الكتب كلها مسرحيات عربية. ولكن حكمك هذا في حقيقة أمره إن هو إلا تلخيص لقائمة من الأحكام الجزئية التي ينصب كل حكم منها على كتاب واحد ، فنقول: هذا الكتاب مسرحية عربية، وهذا، وذلك إلى آخر المجموعة. فالقضية الحقيقية هنا، القضية التي يمكن التحقق من صدقها بالرجوع إلى واقعتها الخارجية، هي القضية الجزئية التي من هذا القبيل، أما تلخيص عدد من القضايا الجزئية في عبارة واحدة، فإن أفاد في اختصار الحديث وسرعة التفاهم إلا أنه لا يشير بذاته إلى شيء معين من أشياء العالم، وإذن فهو - كما هو في تعميمه - بغير معنى، ولا يكتسب معنى إلا إذا حولناه مرة أخرى إلى مفرداته.
لكننا نخطئ إذا نحن جمعنا المفردات في حزمة واحدة، ثم حكمنا على هذه الحزمة الواحدة بما لا يصلح الحكم به إلا على كل عضو على حدة من أعضاء المجموعة، كأن أجمع زيدا إلى عمرو إلى خالد، ثم أطلق على مجموعة الأعضاء اسما واحدا هو «إنسان»، ثم أقول عن هذا «الإنسان» إنه «مفكر» أو إنه «فان» مع أن التفكير أو الفناء صفة يوصف بها زيد وحده أو عمرو وحده أو خالد وحده. وليس «الإنسان» فردا واحدا بحيث يقال عنه إنه يفكر أو إنه يفنى. إن كلمة «الإنسان» رمز ناقص كما بينا لك فيما مضى من حديث (انظر الفقرة الثالثة من الفصل الرابع)؛ أي إنه رمز لا يرمز وحده إلى أحد؛ وبالتالي لا يجوز أن ينسب له ما ينسب للآحاد. كلمة «إنسان» دالة على فئة بأسرها من الأفراد، ولا يجوز معاملتها كما لو كانت اسما دالا على عضو من أعضاء نفسها، فما بالك بكلمة «الكون» التي نشير بها إلى أكبر مجموعة ممكنة من الأشياء المفردة، فلو جعلناها موضوعا نصفه بما نصف به أي فرد من أفراد هذه المجموعة، كأن نقول عنه إنه مادي مثلا، كنا بمثابة من يجعله عضوا من أعضاء نفسه، وفي ذلك من التناقض، بل في ذلك من فراغ القول من أي معنى، ما يجعل هذا القول عند المنطق قولا غير مشروع.
وذلك ما وضحه برتراند رسل وبينه بتحليله الذي أطلق عليه اسم «نظرية الأنماط المنطقية»؛
3
وقد بدأ تفكيره في هذا الموضوع حين أخذ يفكر في طائفة من المتناقضات التي كان يؤدي إليها المنطق الصوري، والتي لاحظ اليونان بعضها ولكنهم لم يأخذوها مأخذ الجد، ثم تبين أخيرا أنها تشمل الرياضة نفسها، ومن هنا استثارت اهتمام فلاسفة التحليل الحديث.
فكلنا يذكر هذه المفارقة التي هبطت إلينا من اليونان الأقدمين على سبيل المزاح المنطقي - إن صح لنا هذا التعبير - وهي مفارقة إبمنديز الإقريطي الذي قال عن قومه أهل إقريطش إنهم جميعا كذابون، فقيل إنه إذا كان هذا الرجل صادقا في حكمه الشامل على قومه جميعا - وهو أحدهم - كان هذا الحكم منصبا عليه كذلك؛ أي إنه كان هو الآخر كاذبا في كل ما يقول، ومن بينه هذه العبارة التي يقول فيها عن قومه إنهم كذابون؛ وإذن فالعبارة نفسها كاذبة؛ وبهذا يكون نقيضها صوابا، ونقيضها هو: هنالك على الأقل شخص واحد من أهل إقريطش ليس كاذبا.
كانت هذه المفارقة تقال على سبيل المزاح أكثر مما تقال على سبيل الجد الذي يحفز التفكير ليكشف عما فيها من مصادر الخطأ، ولم يتحفز لها المفكرون إلا حديثا، حين رأوا المفارقة نفسها قائمة في مجال التفكير الرياضي نفسه.
وابدأ بهذه المشكلة من مشكلات الرياضة؛ هل هناك عدد ممكن أن يقال عنه إنه أكبر عدد ممكن بين الأعداد الأصلية؟ إن مجموعات الأشياء في هذا العالم يتفاوت عددها؛ فالمصريون عددهم ثلاثة وعشرون مليونا، وسكان الصين أربعمائة مليون، وسكان العالم كله هو كذا مليونا. ولو عددت أفراد الحيوان كلها وجدتها كذا، ولو عددت أعواد النبات ألفيتها كيت ... هذه كلها أعداد تعد مجموعات، فهل إذا تصورنا أننا قد عددنا أشياء العالم كلها من كائنات جوامد إلى أفراد الأحياء نباتا كان أو حيوانا وإنسانا، أقول هل إذا تصورنا أنفسنا وقد عددنا هذه الأشياء جميعا، فهل نبلغ بذلك أكبر عدد ممكن من الأعداد التي نعد بها المجموعات المختلفة؟ إن الجواب السريع الذي يطوف بالبال هو بالإيجاب؛ إذ لا نتصور للوهلة الأولى أن هنالك مجموعة من أشياء هي أكبر عددا من مجموعة الأشياء كلها التي في الكون كله، ولكنك إذا أخذت تكون من هذه الأشياء نفسها صنوفا من التباديل، تبين لك أنك ستنتهي إلى مجموعات عددها أكبر من العدد الذي نعد به الأشياء كلها. ولبيان ذلك افرض أن في العالم كله ثلاثة أشياء فقط، وارمز لها بالرموز أ، ب، ج؛ فها هنا يكون العدد ثلاثة هو عدد أشياء العالم كلها، لكنك من هذه الأشياء الثلاثة تستطيع أن تكون فئات؛ فئة ليس فيها أفراد، وفئة قوامها أ وحدها، وأخرى قوامها ب وحدها، ورابعة قوامها ج وحدها، وخامسة قوامها أ ب، وسادسة قوامها أ ج، وسابعة قوامها ب ج، وثامنة قوامها أ ب ج معا؛ أي إن مجموع الفئات التي كونتها ثمانية، مع أن عدد الأشياء كلها ثلاثة، وتلك الثمانية تساوي 2
Página desconocida