Hacia una filosofía científica
نحو فلسفة علمية
Géneros
أقول إنها كانت أفلاطونية من طراز جديد؛ تلك التي جاء بها «برنتانو» و«مينونج» و«هوسرل» حين افترضوا عالما ثالثا إلى جوار الطبيعة والنفس يكون هو المجال الذي نلتمس فيه معاني أفكارنا. نعم قد كانت لفتة قوية منهم وجهوا بها أنظارنا إلى «المعنى» وضرورة أن يكون هو الشاغل الأول للفيلسوف، لكن لماذا نضطر إلى خلق عالم ثالث ليكون مستقرا للمعاني؟ إننا قد نوافقهم على أن معنى قضية ما، مثل «إذا كانت أ أصغر من ب، وكانت ب أصغر من ج، كانت أ أصغر من ج»، نوافق على أن قضية كهذه لا نجد معناها قائما بين الأشياء، ولكن هل لا بد للمعنى أن يكون «شيئا» حتى أضطر إلى البحث له عن عالم يستقر فيه؟ ألا يجوز أن يكون المعنى هو طريقة أداء أتناول بها ما في الطبيعة من أشياء، فإن وجدت أن القضية المذكورة أداة تمكنني من التصرف العملي في أشياء الطبيعة كانت ذات معنى وإلا فهي بغير معنى؟
إنني لو جعلت المعنى هو طريقة الأداء، زالت ضرورة العالم الثالث، عالم المعاني؛ بهذا يكون «المعنى» لا هو من الأشياء الطبيعية ولا هو من الحالات النفسية؛ لا لأنه من كائنات عالم ثالث، بل لأنه ليس كائنا على الإطلاق؛ أي ليس شيئا، بل هو طريقة عمل ووسيلة أداء.
فإذا قلنا إن الفلسفة هي علم المعاني وجب ألا نفهم من ذلك أنها علم يتناول أشياء بذواتها مستقلة عن هذا العالم بشقيه الطبيعي والعقلي، بل هي علم المعاني كما هي متمثلة في هذين المجالين. والأمر هنا شبيه بقولنا عن الاقتصاد إنه علم القيم في عمليات التبادل، حين لا نريد بالطبع أن نقول إن هناك مجالات ثلاثة؛ مجال السلع، ومجال النقود، ومجال القيم في عمليات التبادل. وإن هذا المجال الثالث هو مجال البحث في علم الاقتصاد. إننا بالطبع لا نريد شيئا كهذا، بل نريد أن نجعل القيم في عمليات التبادل متمثلة في مجالي السلع والنقود.
2
الفلسفة هي علم المعاني، ومسائلها - كما يقول وتجنشتين - هي مسائل لغوية؛ بمعنى أنها تنحل بتحليل العبارات التي تعبر عنها، لكنا لا نقصد أن يكون البحث اللغوي هنا من قبيل النحو أو الصرف أو طريقة النطق أو البلاغة وما إلى ذلك، بل نريد بحثا ينصب على منطق اللغة من حيث هي أداة ترسم لنا طرائق السلوك إزاء العالم الذي نعيش فيه.
3
الجملة اللغوية كائنا ما كان نوعها مؤلفة من عدد من الكلمات، ومعناها مستمد من معاني كلماتها، ولا بد أن تكون بين هذه الكلمات وحدة تجعل منها رمزا واحدا له من الخصائص ما ليس للكلمات المفردة الداخلة في تكوينها.
لقد أسلفنا لك القول في الفصل السابق عن مدلولات الكلمات وهي مفردة، وذكرنا لك منها أربعة أنواع؛ فنوع تكون الكلمة من كلماته اسما لمسمى واحد لا يتكرر، وهذا الشرط يتحقق في اسم الإشارة «هذا»، ويتحتم بطبيعة الحال أن يكون لمثل هذا الاسم مسماه، وإلا فقد وظيفته التي من أجلها وجد؛ ونوع ثان تكون الكلمة من كلماته اسما لمجموعة أعضاء تجتمع كلها في فئة واحدة لتشابه صفاتها، مثل «إنسان»، وفي مثل هذه الحالة لا يتحتم أن يكون للاسم مسمى؛ لاحتمال أن تكون الصفات الدال عليها الاسم غير متحققة تحققا فعليا في فرد من الأفراد؛ ولذلك عد هذا النوع من الكلمات رموزا ناقصة لجواز أن يوجد الرمز بغير المرموز إليه؛ ونوع ثالث كلماته بغير مدلول في عالم الأشياء، لكنها ضرورية في بناء الجملة بما توجده من الروابط بين كلماتها، مثل «إذا» و«ليس». وأمثال هذه الكلمات يسمونها بالكلمات المنطقية؛ لأنها هي التي تحدد صورة الجملة وتحدد حالات صدقها؛ ونوع رابع وأخير قوامه كلمات دالة على قيمة جمالية أو خلقية أو معبرة عن انفعال، وأمثال هذه الكلمات يشير إلى داخل المتكلم ولا يشير إلى شيء خارجه، ومن هنا كانت بغير معنى إذا قصدنا بالمعنى مدلولا خارجيا يشترك في مشاهدته أكثر من شخص واحد.
لكن ما كل صف من الكلمات يكون جملة ذات معنى؛ فأول ما يشترط ليكون للجملة معنى هو أن تكون بين كلماتها رابطة توحد بينها في رمز واحد له من الخصائص ما ليس لمفرداته . وكثيرا ما يندمج التركيب اللغوي اندماجا يضللنا عن حقيقة العناصر المكونة له؛ فلا بد لمن شاء أن يحلل العبارة اللغوية التي يكون إزاءها أن يطمئن أولا إلى أنها جملة واحدة لا مجموعة من الجمل متداخل بعضها في بعض؛ وذلك لأن ما يعده النحو جملة واحدة قد لا يكون كذلك من الناحية المنطقية؛ فمن الناحية المنطقية لا تكون الجملة جملة واحدة إلا إذا كانت دالة على واقعة بسيطة واحدة، ولا يستطيع من يريد مراجعة الكلام ليتحقق من صدقه أن يحكم على الجملة بصدق أو بكذب إلا إذا كانت جملة واحدة تقابلها واقعة بسيطة واحدة؛ وعندئذ يمكنه مراجعة الجملة على الواقعة فيتبين صدقها أو عدم صدقها؛ فعبارة كهذه «أبو بكر وعمر من الخلفاء الراشدين» ليست جملة واحدة، بل جملتان هما: «أبو بكر من الخلفاء الراشدين» و«عمر من الخلفاء الراشدين»، ولا يتوقف صدق الواحدة على صدق الأخرى، وكل منهما يتطلب تحقيقا يثبتها على حدة. أما قولنا «أبو بكر وعمر متساويان في الطول» فهو جملة واحدة من الناحية المنطقية؛ لأن المرجع في صدقها واقعة خارجية واحدة. ونسوق لك مثلا آخر يوضح الفرق بين ما هو جملة واحدة من الناحية المنطقية وما هو أكثر من جملة؛ فعبارة مثل قولنا «خرجت بالأمس» و«كان المطر هاطلا»، جملتان لا يتوقف صدق الواحدة على صدق الأخرى، وهما «خرجت بالأمس» و«كان المطر هاطلا»؛ فقد يكون صدقا أني خرجت بالأمس لكن المطر لم يكن عندئذ هاطلا، وكذلك قد يكون صدقا أن المطر كان بالأمس هاطلا لكني لم أخرج من الدار. أما قولنا «خرجت بالأمس حين كان المطر هاطلا» فجملة واحدة؛ لأن تحقيق الشطرين لا يكون إلا بمراجعة واقعة خارجية واحدة، فهل كان في اللحظة الفلانية من لحظات الأمس أن حدث حادثان معا هما خروجي ونزول المطر؟
ولا تكون الجملة جملة واحدة من الناحية المنطقية إلا إذا بلغت من البساطة حدا يستحيل معه انقسامها إلى جملتين أو أكثر. ولا نبلغ هذه البساطة في التحليل إلا إذا بلغنا مرحلة تكون فيها الأسماء الواردة في الجملة أسماء أعلام؛ أي أسماء حالات جزئية بالمعنى الذي شرحناه فيما مضى؛ ذلك لأن وقائع العالم الخارجي التي سنراجع عليها الجملة لنحكم عليها بالصدق أو بالكذب، لا تكون إلا حالات جزئية مرتبطا بعضها ببعض بهذه الرابطة أو تلك؛ فقولي - مثلا - «المصري يتكلم اللغة العربية» ظاهرها بسيط، لكنها ليست كذلك من وجهة النظر المنطقية؛ لأن كلمة «المصري» ليست اسما على حالة جزئية واحدة، بل هي كلمة عامة تنطبق على أي واحد من المصريين؛ وبهذا تكون بمثابة عبارة وصفية تلخص مجموعة من الصفات إذا ما توافرت في شخص كان مصريا؛ وإذن فهي بالتالي «رمز ناقص»؛ أي إنها رمز لا يرمز إلى شيء بعينه، وعلى ذلك فلا يمكن تحقيق القضية التي وردت فيها هذه الكلمة إلا إذا أحللت مكان «المصري» اسما آخر ذا دلالة جزئية محددة معينة؛ وبهذا يصبح الرمز الناقص رمزا كاملا. ترى هل إذا وضعت مكانها اسما ك «العقاد» بحيث أصبحت الجملة «العقاد يتكلم اللغة العربية»، أكون قد وصلت بذلك إلى جملة بسيطة؟ كلا، ولا هذا؛ لأن «العقاد» ليس حالة جزئية واحدة، بل هو سلسلة طويلة من حالات، هو تاريخ بأسره، وحالاته الماضية لم تعد مما يمكن الإشارة إليه باسم الإشارة «هذا»؛ وإذن فلا بد من تحليل «العقاد» إلى حالاته لأضع إحدى هذه الحالات فقط موضوعا للحديث، كأن أحدد الحالة المعينة بالتقاء نقطة من المكان مع لحظة من زمان، أو أن أحددها بالإشارة المباشرة إليها قائلا: هذا يتكلم اللغة العربية. وإلى هنا نكون قد فرغنا من الوصول بالموضوع وحده إلى المرحلة الذرية البسيطة التي تقابلها في عالم الواقع حادثة ذرية بسيطة كذلك. وبقي أن نحلل الصفة الواردة في الجملة مثل هذا التحليل؛ فالعقاد في اللحظة التي أشير إليه فيها لا يتكلم «اللغة العربية» كلها، بل هو ينطق بعبارة منها الآن، وقد نطق بعبارة أخرى في لحظة ماضية، وهكذا؛ وإذن فكل ما أستطيع الإشارة إليه من وقائع الدنيا فيما نحن بصدده هو إحدى حالات العقاد، وهي حالة نطقه بإحدى عبارات اللغة العربية، ثم أجيز لنفسي بعد ذلك أن أضم سلسلة الحالات كلها التي هي تاريخ حياة العقاد وأجعل منها كائنا واحدا أسميه «العقاد»، ثم أتخذ من العبارة الواحدة العربية التي سمعت العقاد ينطق بها إشارة تدل على أنه يتكلم من هذه اللغة عبارات غير العبارة التي سمعتها منه، بحيث يجوز أن أقول عنه إنه يتكلم اللغة العربية بغير تحديد.
Página desconocida