Hacia una filosofía científica
نحو فلسفة علمية
Géneros
هذه ضروب ثلاثة من الكلمات: اسم العلم، والاسم الكلي، والكلمة المنطقية. وليس فيها ما هو رمز كامل يدل حتما على وجود مسماه وجودا فعليا في دنيا الأشياء إلا اسم العلم؛ أي الكلمة التي تشير إلى جزئي واحد معين.
وبقي أن نحدثك عن ضرب رابع من الكلمات، هو الكلمات التي تدل على قيمة خلقية أو قيمة جمالية، أو بصفة عامة، الكلمات التي تدل على أن في المتكلم انفعالا من نوع معين، لكنها لا تشير إلى كائن خارجي. ولنضرب مثلا رجلا وقف إزاء الشمس الغاربة بما تخلفه وراءها من أصباغ، فقال: هذا جميل. وقد يقولها في أي صورة شاء؛ إذ قد يخرج لفظا معينا في تنغيم معين، مثل لفظة «الله»، أو لفظة «يا سلام»، ويريد بها نفس ما يريده إذ يقول: هذا جميل. فأين مدلول هذه الكلمات؟
إن كلمة «جميل» وما يدور مدارها من كلمات، لا تشير إلى شيء قائم في عالم الأشياء الخارجية، بل تشير إلى حالة نفسية يحسها قائلها؛ فليس في الشفق «الجميل» إلا سحاب مصبوغ بألوان يمكن تحديدها بأطوال موجاتها الضوئية، وإنما «الجمال» فيها هو من نفس رائيها؛ وإذن فكلمة «جميل» دالة على حالة ذاتية عند فرد معين بحيث لا يكون ثمة تناقض بين شخصين يقفان أمام الشفق الواحد، ويقول أحدهما إنه «جميل» بينما يقول الآخر إنه «خلو من الجمال»، أقول إنه لا تناقض في هذا؛ لأن الحكمين لا ينصبان على حالة واحدة أو على شيء واحد، بل هما حكمان كل منهما يشير إلى حالة غير الحالة التي يشير إليها الحكم الثاني، ولا فرق في ذلك بين هذين الرجلين اللذين يحكمان حكمين مختلفين على وقع الشفق في نفس كل منهما، وبينهما إذ يقول أحدهما إنه يشعر بعضة الجوع بينما يقول الآخر إنه لا يشعر بها، أو يقول أحدهما إنه يشعر بنشوة الحب إزاء فتاة معينة بينما يقول الآخر إنه لا يشعر إزاءها بشيء من ذلك.
إن قصارى ما يستطيعه من يرى جمالا في الشفق إزاء زميله الذي لا يرى فيه الجمال، هو أن يشير له إلى دقائق في المنظر لعله قد عمي عنها، أما إذا استنفد كل ما يستطيع ذكره من دقائق المنظر، وظل الزميل على موقفه منكرا أن يكون في الشفق جمال، فلا حيلة بعدئذ إلى التقاء وجهتي النظر، اللهم إلا أن تعاد تربية أحدهما بحيث ينصب في قالب شبيه بالقالب الذي انصب فيه الآخر؛ حتى يمكنه أن يري ما يراه ويعجب بما يعجب به.
إنه مهما تعددت الآراء في تحديد معنى الجمال، فهي جميعا على اتفاق بأن جزءا من المعنى - على الأقل - هو في التأثر الداخلي الخاص الذي يتعرض له من يشهد شيئا جميلا، لكن اختلاف الآراء يظهر بعد ذلك في تحديد الجانب الخارجي الإدراكي من معنى الجمال؛ فماذا يكون في الشيء الجميل نفسه - بغض النظر عن تأثر الإنسان المدرك - من عناصر بحيث تكون هذه العناصر هي ما تشير إليه كلمة «جمال»؟ إن الأشياء التي توصف بالجمال كثيرة منوعة؛ فالبحر والجبل والغروب والصورة الفنية والتمثال والطائر والمرأة وقصيدة الشعر وقطعة الموسيقى كلها يتصف بالجمال، فما هي إذن تلك العناصر الخارجية التي تسمى بكلمة «جمال» والتي توجد في هذه الأشياء جميعا؟ لقد طرح أفلاطون مثل هذا السؤال، وأجاب عنه بقوله إنه لا بد أن يكون هنالك ما تشترك فيه هذه الأشياء الجميلة كلها، وإلا لما جاز لنا أن نطلق عليها اسما واحدا، وعنده أن موضع الاشتراك بينها هو أنها كلها تشارك «مثالا» واحدا، أي «فكرة» واحدة؛ وذلك جريا على مذهبه في المثل، ومؤداه أن كل ما نراه على هذه الأرض من كائنات محسوسة جزئية إنما جاءت على نحو ما جاءت عليه لأنها صيغت على نمط عقلي كان موجودا منذ الأزل؛ فالمثلث - مثلا - قد جاء على صورته المألوفة له؛ لأنه صيغ على غرار فكرة المثلث التي كانت قائمة منذ القدم؛ وهكذا قل في كل شيء. ومن بين الأفكار الأزلية هذه فكرة «الجمال»؛ فقد كانت هناك قائمة قبل أن يظهر إلى الوجود أي شيء جميل، وبعدئذ أخذت الأشياء الجزئية المحسوسة تظهر إلى الوجود، فما كان منها شبيها بمثال الجمال، أي ما كان مجسدا لفكرة الجمال، عددناه جميلا؛ وإذن فلو سألت أفلاطون وأتباعه؛ كلمة «جمال» ما مدلولها؟ أجابوك بأن مدلولها هو مثال الجمال الكامن بين المثل.
ومعنى ذلك أن الفلسفة الأفلاطونية وما يجري مجراها تذهب إلى أن للجمال وجودا موضوعيا خارج وجود الإنسان ومستقلا عنه، وأن كلمة «جمال» في هذه الحال تكون اسما يطلق على ذلك الوجود الخارجي، شأنها في ذلك شأن سائر الأسماء التي تسمي الموجودات الفعلية مثل «إنسان» و«نهر» ... إلخ، ولكننا في الحقيقة لا ندري كيف يمكن أن يكون لمثل هذا الكلام معنى؛ فأولا ليس هنالك من الأسماء ما يدل على موجودات فعلية إلا أسماء الأعلام؛ أي الأسماء التي تكون مسمياتها حالات جزئية محددة المكان والزمان، بحيث يشار إلى الحالة التي هي مسمي لكلمة باسم الإشارة «هذا» أو «هذه»؛ فكما قلنا في الفقرات الأولى من هذا الفصل، إن أي كلمة كلية مثل «إنسان» هي في حد ذاتها رمز ناقص لا يرمز إلى شيء محدد، إلى أن يعرف الفرد الجزئي الذي يتصف بمجموعة الصفات التي تدل عليها هذه الكلمة. وكذلك نقول في كلمة «جمال»؛ فهي ليست كلمة واحدة كما قد يبدو، ولكنها مجموعة من صفات لا يكون لها مدلول فعلي إلا إذا وقعنا على الفرد الجزئي الذي تتمثل فيه تلك الصفات؛ أي إن هذه الكلمة في حقيقة تحليلها ليست اسما لشيء محدد معين.
وثانيا، فحتى لو فرضنا أن كلمة «جمال» اسم لفكرة معينة نراها متمثلة في كل الأشياء التي نقول عنها إنها جميلة، فنحن نسأل: ما هذه الفكرة الواحدة التي تكون في الشفق وتكون في قصيدة الشعر في آن واحد؟ فلئن كان جمال الشفق في لونه فليس لقصيدة الشعر لون، وإن جمال القصيدة من الشعر في صور ترسمها أو في لفظها الموزون المنغم؛ فليس للشفق صور ولا لفظ موزون منغم. قل ما شئت في العنصر الذي تراه مصدر الجمال في شيء ما، تجد أن هذا العنصر غائب في أشياء أخرى مما تصفه بالجمال. ويزيد الأمر تعقيدا أن هذا العنصر الواحد المعين الذي قد تراه مصدر الجمال في شيء ما، تعود فتراه هو نفسه قبيحا في سياق آخر؛ فما كل لون أحمر - مثلا - جميل مهما اختلف السياق الذي يرد فيه، بل إنك لتراه جميلا هنا قبيحا هناك. وفي هذا يقول عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز: «هل تجد أحدا يقول هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها؟» (ص36).
قد يقال إن المسمى الموضوعي الخارجي الذي تشير إليه كلمة «جمال» حين يقال عن شيء ما إنه جميل، هو الوحدة العضوية التي تكون بين أجزائه، وأن هذه الوحدة العضوية هي العنصر المشترك بين الأشياء الجميلة كلها؛ فهي في قصيدة الشعر وفي الزهرة وفي المرأة وفي الجبل وفي شفق الغروب؛ أي إن موضع الجمال في كل هذه الأشياء هو أن كل جزء من الشيء الجميل موضوع بالنسبة إلى سائر الأجزاء، بحيث يجيء في موضعه ذاك سندا ضروريا لا غناء عنه في إحداث الأثر الذي يتركه الشيء الجميل في نفس رائيه أو سامعه، ولو عمدت في الشيء الجميل إلى تغيير جزء من أجزائه زال الأثر الأصلي أو تغير تغيرا جوهريا؛ ففي الفنون المكانية كالنحت والتصوير والبناء تكون الوحدة العضوية في اتساق الأجزاء واتزانها، وفي الفنون الزمانية كالموسيقى والشعر تكون الوحدة العضوية في النمو الذي يحدث كلما أضفت نغمة جديدة أو بيتا جديدا؛ أقول إن الوحدة العضوية في الشيء الجميل قد يقال عنها إنها هي العنصر الموضوعي الخارجي الذي تشترك فيه الأشياء الجميلة كلها، وعندئذ تكون هي المدلول الذي تشير إلينا كلمة «جمال»، ولكنا نعود فنسأل: إنه على فرض أن الوحدة العضوية شرط لا بد من توافره في كل شيء جميل، فهل تكون هذه الوحدة العضوية قائمة في الشيء أم إنها صفة نخلعها عليه نحن حين ننظر إليه من وجهة نظر تجعله بالنسبة إلينا كائنا ذا وحدة عضوية؟ لماذا يكون التماثل في أجزاء البناء - مثلا - علامة اتساق وتناغم وجمال؟ أليس ذلك لأنه شبيه بالإنسان في تكوينه المتماثل؛ وإذن يكون التماثل في البناء جميلا لأن نظرة الإنسان الخاصة هي التي جعلته كذلك؟
إنك مهما حللت المدلول الموضوعي لكلمة «جمال» وجدته في النهاية يرتد إلى أمر ذاتي عند الإنسان المدرك؛ مما يجعلنا نقرر أن معنى هذه الكلمة لا يكون في الخارج، إنما يكون في الحالة النفسية الباطنية. وقل هذا في كل كلمة أخرى تدل على قيمة أو تعبر عن انفعال؛ فقولنا عن شيء ما إنه جميل ليس من قبيل قولنا عنه إنه مربع؛ لأن التربيع صفة يمكن ترجمتها إلى مقاييس موضوعية لا يتدخل الإنسان فيها بميوله الذاتية إلا بالحد الأدنى الذي يجعل عملية القياس متأثرة بحواس الإنسان، وأما الجمال فصفة لا يمكن ترجمتها إلى شيء من هذا. نعم قد تجعل تعريف الجمال في بعض الأشياء الجميلة أن تتحقق فيه مقاييس معينة، كأن نحدد أطوالا معينة لأعضاء الجسم الإنساني الذي نقول عنه إنه جميل، وأوزانا معينة لأجزاء القصيدة التي نقول عنها إنها شعر جميل، وهكذا، ولكن الأمر في ذلك كله مرهون بالأذواق المتغيرة من زمان إلى زمان ومن بلد إلى بلد، فضلا عن اختلاف المقاييس المقررة في مختلف الأشياء الجميلة؛ فهي في بيت الشعر غيرها في جسم المرأة، وليس لها وجود في الشفق والجبل. إن الشيء لا يكون مربعا وغير مربع في آن واحد بالنسبة لرجلين مختلفين؛ لأن تساوي الأضلاع أمر مرده إلى قياس موضوعي، وأما الجمال فقد يوجد في الشيء لهذا وينعدم فيه لذلك، حتى ليقول الرجلان المختلفان عن الشيء الواحد في اللحظة الواحدة إنه جميل وغير جميل؛ جميل لأحدهما وغير جميل للآخر، ولا تناقض عندئذ في القول؛ لأن الكلمة في كل من الحالتين تشير إلى أثر نفسي غير الأثر النفسي الذي تشير إليه في الحالة الأخرى؛ كما لا يكون تناقض في أن يكون أحد الرجلين مبصرا والآخر كفيف البصر، أو أن يكون أحد الرجلين سليما والآخر عليلا.
لذلك يقال عن الكلمات الدالة على قيم إنها نسبية في مدلولاتها؛ أي إن الكلمة منها - مثل كلمة «جميل» - لا يكون لها معنى إلا بالنسبة إلى فرد معين من الناس، فإذا قلت عن شيء إنه جميل، لم يكن لقولك معنى إلا إذا أكملته بإضافة اسم الفرد أو الجماعة التي تراه جميلا؛ جميل عند من؟ هو جميل عند فلان أو عند فئة معينة من الناس؛ ومتى كان الشيء الجميل جميلا عند من يقول عنه إنه جميل؟ إنه كان جميلا في أعين المصريين القدماء أو هو الآن جميل في أعين سكان الصحراء، وهكذا.
Página desconocida