Hacia una filosofía científica
نحو فلسفة علمية
Géneros
ولو أردت دراسة اللغة من حيث هي أداة «للتسمية» فلا بد لك من دراسة مفرداتها، وإن أردت أن تنظر إليها من حيث طرائق بنائها فلا بد لك من دراسة نحوها؛ إذ لا تكون لغة بغير مفردات يرتبط بعضها ببعض على «نحو» معين.
لكنك من ناحية أخرى تستطيع أن تعلو على مستوى اللغة المعينة الخاصة بطائفة معينة من الناس، بأن تطرح مفرداتها وتستغني عنها برموز جبرية، لعلك بذلك قادر على أن تنظر إلى تركيباتها الصورية الخالصة كيف تكون؛ وعندئذ لا يكون تحليلك للغة تحليلا لمادتها، بل تحليلا لصورتها، ودراسة هذه «الصورة» لذاتها هي ما تبتغيه الفلسفة المعاصرة.
كانت أولى المهام التي تصدت لها جماعة فيينا هي توضيح الدلالة اللغوية بتجلية جانبها السيمي، بحيث يكون المرجع الوحيد في تحديد معنى كلمة معينة هو الشيء الذي جاءت هذه الكلمة لتسميه. نعم، يجوز لك أن تعرف كلمة بكلمة غيرها تكون مفهومة للسامع، وأن تعرف هذه بغيرها، وهكذا دواليك ؛ فكلما زعم لك السامع لكلمة أنه لا يعلم مدلولها، كان عليك أن تذكر مرادفا لها من المفردات التي يعرف دلالاتها، لكنه إذا مضى معك إلى آخر هذا الشوط لم يكن لك بد في النهاية من أن تشير له إلى الشيء المسمى؛ فإن استحال أن تجد شيئا من هذا القبيل، علمت وعلم سامعك أن الكلمات التي كنتما تدوران فيها هي بغير معني، وحتى الكلمات التي هي من قبيل «حكمة» و«ديمقراطية» و«حرية» و«ذكاء» وما إليها من الألفاظ ذوات المعاني المجردة، لا مناص - إذا أردنا تحديدها تحديدا سيميا - من أن نبحث عن أنواع السلوك أو طرائق النشاط في عالم الواقع المحسوس، والتي نريد لها أن تكون مسميات لتلك الألفاظ، وبغير هذا الرجوع إلى عالم الواقع بما فيه من حوادث وأشياء ومناشط وظواهر، فلا يكون لألفاظنا معنى.
على أن الشيء الذي نريد الإشارة إليه باللغة قد لا يكون كائنا واحدا فردا، بحيث تكفي كلمة واحدة أو اسم واحد للدلالة عليه، بل قد يكون واقعة مركبة من طرفين أو أكثر تربطها علاقات معينة؛ فعندئذ تكون الأداة اللغوية في تصور هذه الواقعة جملة، أو إن شئت فقل «قضية» باصطلاح المنطق، وها هنا يكون حكمنا بالصواب أو بالخطأ على القضية مرتكزا على ما بين أجزائها من جهة وأجزاء الواقعة الخارجية من جهة أخرى من تقابل، بحيث يجوز أن نقول عن القضية حقا إنها «صورة» للواقعة المراد تصويرها؛ فإن وجدنا أنفسنا إزاء قضية لا نجد لها من وقائع العالم ما تطابقه حذفناها من جملة الكلام المفهوم؛ إذ لا وسيلة لفهم قضية إخبارية إلا بردها إلى الواقعة المادية التي جاءت القضية لتخبر عنها أو تصورها؛ ومن هنا أصرت جماعة فيينا، وما يزال أتباعهم يصرون، على أن يكون «معنى» قضية ما هو نفسه طريقة تحقيقها؛ أي هو نفسه إمكان الرجوع بها إلى ما جاءت تصوره من وقائع العالم الخارجي. وحسبنا من هذا التحقيق أن يكون ممكنا، فلا نشترط له أن يكون قائما بالفعل؛ لأن التحقيق الفعلي إنما يقرر «صدق» القضية، أما ما يقرر «معناها» فهو إمكان التحقيق؛ فلو تحدثت لك عن جبل لم تره ولا وسيلة أمامك تمكنك من رؤيته، وقلت لك عن هذا الجبل إنه مغطى بأشجار الصنوبر، فأنت تقول عن هذا القول إنه ذو «معنى»؛ لا لأنك قد ذهبت فعلا إلى الجبل المقصود ورأيت أشجار الصنوبر على سفوحه، بل لأنك تعرف ماذا عساك أن ترى لو ذهبت إليه؛ لأنك تعرف نوع المعطيات الحسية التي تأتيك من الشيء حين يكون جبلا، ونوع المعطيات الحسية التي تتلقاها حين يكون المرئي أشجارا من الصنوبر.
هكذا تكون الكلمة الواحدة التي هي اسم لشيء ما، والجملة التي هي مركب من مجموعة كلمات ويراد به أن يصف واقعة ما، بغير معنى إذا لم تكن هذه أو تلك مشيرة في نهاية الأمر إلى خبرات حسية؛ فلا الاسم ذو دلالة إذا لم يكن مسماه موجودا وتمكن الإشارة إليه، ولا القضية بذات دلالة إذا لم يكن تحقيقها ممكنا على أساس خبراتنا الحسية، إنه محال أن يكون للكلام الإخباري معنى مفهوم إذا لم ينصرف به قائله - لينصرف سامعه معه - إلى مجال الخبرات الحسية وحدها دون أن يجاوزها إلى ما يزعم أنه كائن فوقها أو تحتها أو أمامها أو وراءها؛ فما ليس يرتد إلى الخبرة الحسية يكون بغير معنى؛ لأن معنى «المعنى» هو هذا الارتداد إلى الخبرة الحسية. ماذا تريد إذا واجهتك عبارة فقلت عنها إنك «لا تفهم لها معنى»؟ تريد أنك تحاول أن تلتمس في خبراتك الحسية ما يكون وسيلة لتحقيق هذه العبارة إذا أردت تحقيقها، لكنك لا تجد في محصولك مثل هذه الخبرات. وماذا لو كانت العبارة الإخبارية المعروضة عليك بحكم اعتراف قائلها نفسه لا يراد بها أن تشير إلى شيء من عالم الخبرة إطلاقا؟ إنها عندئذ تكون خلوا من المعنى، لا بالنسبة إليك وحدك، بل بالنسبة لقائلها نفسه ولكل إنسان من البشر؛ فقد اصطنع البشر ألفاظ اللغة وعباراتها ليتحدثوا بها عن «خبراتهم»، وما ليس يرمز إلى شيء من هذه الخبرات، لا يكون من اللغة بمعناها المنطقي في كثير ولا قليل.
وها هنا يأتي حذف العبارات الميتافيزيقية على أيدي جماعة فيينا وأتباعهم؛ لأنه إذا كانت العبارة الميتافيزيقية هي ما يزعم لها قائلها أنها «تعني» شيئا خارج حدود الخبرة الحسية، فهي بحكم هذا الاعتراف نفسه عبارة بغير «معني»؛ فليس الأمر ها هنا مقتصرا على أن الإنسان عاجز بملكاته الراهنة أن يجاوز حدود الخبرة إلى ما وراءها بحيث يفهم معنى العبارة السابقة، بل إن منطق اللغة نفسه يحتم أن تكون مفردات اللغة وعباراتها منصرفة إلى مسميات في عالم الواقع الذي نحسه فعلا أو إمكانا. العبارة الميتافيزيقية بهذا المعنى لا يمكن تحقيقها، وهذا معناه أنها عبارات بغير معنى، وإذن فعباراتها «تشبه» اللغة وليست منها؛ هي كالعملة الزائفة التي ربما انخدع بها مخدوع من غير الصيارفة المحترفين، لكن انخداعه هذا لا يجعل لها قيمة في عالم الاقتصاد.
وتنشأ هذه العبارات الزائفة على إحدى صورتين؛ أولاهما أن يدس المتكلم في عبارته كلمة بغير معنى؛ أي كلمة لا تشير إلى شيء من خبرات الإنسان الحسية، ككلمة «جوهر» مثلا كما يستعملها الفلاسفة الميتافيزيقيون، حين يقولون مثلا إن لكل شيء «جوهرا» وراءه معطياته الحسية، فهذه البرتقالة لها جوهر غير ما لها من لون وطعم وشكل. والصورة الثانية التي قد تجيء عليها العبارة الزائفة، هي أن يستخدم المتكلم ألفاظا كلها من ذوات المعنى الخبري المفهوم، لكنه يرصها على نحو لا يرضاه منطق اللغة في استعمالها المألوف، كأن يقول مثلا «العقل عنصر».
ونعود فنقرر أن معنى الجملة الإخبارية لا يكون إلا في حدود ما يمكن تحقيقه بالخبرة الحسية؛ وإذن فكل جملة تقال - بحكم الفرض نفسه - عن شيء خارج الخبرة الحسية تكون جملة بغير معنى؛ وعلى ذلك فالفرق بين الجملة العلمية والجملة الميتافيزيقية هو هذا: الجملة العلمية تكون ذات معنى خبري ويمكن تحقيقها عن طريق ما تدل عليه من خبرات، وأما الجملة الميتافيزيقية فهي بغير معنى. إننا لا نرفض العبارات الميتافيزيقية على أساس أنها تقيم مشكلات لا قبل لنا بحلها ما دامت خارجة عن حدود خبراتنا، بل نرفضها لأنها عبارات بغير معنى؛ ذلك لأنه من التناقض أن يقال عن مشكلة إنها مستحيلة الحل بحكم طبيعتها؛ لأن ما هو مستحيل الحل على هذا الوجه لا يكون مشكلة حقيقية. نعم، قد تكون المشكلة القائمة مستحيلة الحل استحالة عملية؛ أي إنه قد لا يكون لدى الإنسان في ظروفه الراهنة وسائل حلها، لكن هذه الوسائل قد تتوافر له غدا أو بعد غد، فعندئذ تكون المشكلة حقيقية، أما تلك التي يقال عنها بحكم الفرض إنها مستحيلة الحل استحالة منطقية، فمشكلة زائفة؛ أي ليست مشكلة على الإطلاق، والمشاكل الميتافيزيقية هي من هذا القبيل.
الفرق بعيد بين أن تسأل: ماذا كان يصنع يونس وهو في جوف الحوت؟ وبين أن تسأل: ما صفات الشيء إذا كان خارج حدود المكان والزمان؟ فكلا هذين السؤالين مستحيل الجواب، لكن استحالة الجواب عن السؤال الأول استحالة عملية لا منطقية، واستحالة الجواب عن السؤال الثاني منطقية لا عملية فحسب؛ ففي حالة السؤال الأول يستطيع الإنسان أن يتصور ظروف يونس وهو في جوف الحوت؛ لأنها ظروف يمكن أن توصف كلها في حدود الخبرات البشرية، فالظلام وضيق التنفس وما شئت أن تقوله عن يونس وهو في سجنه ذاك كلها ممكنة التصور؛ لأنها مما يمكن وصفه وصفا يستعين بما نألفه نحن في ظروف حياتنا. نعم، إن التحقق من صدق ما نقوله عن يونس عندئذ أمر مستحيل، لكن الاستحالة هنا قائمة على عدم الوثائق التي نستند إليها في الحكم. وأما السؤال الثاني الذي نسأل به عن كائن فيما وراء المكان والزمان؛ أي كائن لا يكون له موضع ولا تكون له لحظة من زمن، فاستحالة الإجابة عنه منطقية لا عملية؛ فالذي ينقصنا هنا ليس هو الوثائق التي نستند إليها، بل تنقصنا وسائل التصور ذاتها؛ إذ ليس في خبراتنا أبدا ما يعيننا على تصور كائن لا يكون وجوده في نقطة من مكان أو في لحظة من زمن.
إننا نرفض المشكلات الميتافيزيقية لا لصعوبة حلها، بل لأنها مشكلات زائفة؛ فهي بمثابة أسئلة يستحيل منطقيا أن يكون لها جواب، وشرط السؤال بحكم منطق اللغة نفسها أن يكون جوابه ممكنا لو توافرت للإنسان الظروف التي تمكنه من الجواب، أما أن تسأل السؤال وتفرض في الوقت نفسه أن الإجابة عنه غير ممكنة، فلا يجوز عندئذ أن تعلل عدم الإجابة عنه بصعوبته أو بعجز الإنسان وقصور معرفته، بل حقيقة الموقف عندئذ هي أن السؤال لم يكن سؤالا حقيقيا وإن اتخذ الصياغة النحوية للسؤال.
Página desconocida