Hacia una filosofía científica
نحو فلسفة علمية
Géneros
كانت هذه الجماعة من المشتغلين بالعلم الطبيعي وبالرياضة من جانبهما الفلسفي، تجتمع آنا بعد آن لتدير بينها نقاشا في تحليل هذه اللفظة أو هذه العبارة مما يرد في علوم الطبيعة والرياضة وتكون له أهمية خاصة في تلك العلوم. وكان هذا النقاش بينهم إنما يدور بين زملاء أوشكوا جميعا أن تتساوى أقدارهم في المنزلة العلمية؛ ولذلك لم يكونوا «مدرسة» فلسفية بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، وهو أن يكون هناك أستاذ نابغ مرموق المكانة وحوله التلاميذ والأتباع. نعم كان «شليك» هو محور الجماعة باعتباره أستاذا للفلسفة، لكنه مع ذلك لم يكن فيهم هو القمة الشامخة التي تعلو وحدها، بل الأعضاء كلهم لاعبون يتناولون الكرة واحدا بعد واحد؛ ولذلك كان الأدنى إلى الصواب أن يسمى نشاطهم الفكري «حركة» فلسفية لا «مدرسة» لكي ينطبق الوصف على الموصوف؛ فهي «حركة» فلسفية أكثر منها مدرسة فلسفية لهذا التقارب الشديد بين رءوس أعضائها، فضلا عما كان بين هؤلاء الأعضاء من اختلاف بعيد في اهتماماتهم العلمية الأخرى، وحتى حين يلتقون عند نقطة يشتركون فيها باهتمامهم جميعا، فهم يختلفون في وجهات أنظارهم إليها، حتى لينصرفوا ولكل منهم رأي في الموضوع المطروح للبحث يختلف عن آراء سائر الزملاء.
12
كان تكوين جماعة فيينا - كما ترى - أقرب إلى «العلماء» يتعاونون على حل مشكلة بعينها، منهم إلى مدرسة من الأتباع والمريدين يلتفون حول إمام. وقد عمل هذا التعاون الإيجابي بين الأعضاء على ازدياد المحصول ازديادا سريعا؛ إذ أخذت مراجعاتهم بعضهم لبعض وتصويبهم لآرائهم يثبت من خطاهم؛ فاستطاعوا بذلك أن ينتهوا إلى نتائج ممحصة محققة، حتى إذا ما كان عام 1930م أصدرت «الجماعة» مجلة فلسفية تعرض أفكار أعضائها، وتولاها بالإشراف اثنان من هؤلاء الأعضاء، هما «كارناب» و«رايشنباخ»،
13
فضلا عما جعل الأعضاء يصدرونه من كتب ورسائل، فذاع أمرهم واتسعت شهرتهم، بحيث استطاعوا أن يعقدوا مؤتمرا في مدينة كينجزبرج في سبتمبر من عام 1930م، جعلوا موضوعه نظرية المعرفة منظورا إليها من زاوية العلوم المضبوطة (كعلم الطبيعة)، وتعاون معهم في هذا المؤتمر لفيف كبير من أعلام العلماء في الطبيعة والرياضة، جاءوا من شتى أنحاء أوروبا، ثم عقدوا في سبتمبر من عام 1935م مؤتمرا آخر بباريس، استهله برتراند رسل بكلمة الافتتاح.
وتوالت بعدئذ مؤتمراتهم، واتسعت دائرتهم، حتى نشبت الحرب سنة 1939م فتشتت أفراد هذه الجماعة هنا وهناك؛ فذهب «فايجل» و«كارناب» و«رايشنباخ» إلى الولايات المتحدة، حيث أسندت إليهم مناصب الأستاذية في أكبر جامعاتها، وذهب «وايزمان» و«نوراث» إلى إنجلترا، وأصبحا هناك قطبين في عالم الدراسة الفلسفية، أضف إلى هذا كله ما أصيبت به «الجماعة» قبل ذلك بقليل (عام 1936م) من فقد رئيسها «مورتس شليك» حين رماه طالب مأفون من جامعة فيينا برصاصة أردته قتيلا لساعته.
لم تعد «جماعة فيينا» قائمة في فيينا، بل تناثر أفرادها، فاتسع بذلك نطاقها، وخصوصا في الولايات المتحدة وفي إنجلترا؛ ففي الأولى كانت الأرض ممهدة لها لما كان يقوم به بعض رجال الفلسفة هناك من مجهود شبيه بمجهودها، تراه متمثلا في مجلة «فلسفة العلوم» مثلا؛ وفي الثانية كان «برتراند رسل» و«جورج مور» و«سوزان ستبنج» و«آير» وغيرهم قد اتجهوا بقوة نحو فلسفة تحليلية هي من فلسفة جماعة فيينا بمثابة الجذور التي منها نمت وترعرعت وأثمرت ثمارها.
2
لم تكن «جماعة فيينا» - كما رأينا - «مدرسة» فلسفية بالمعنى المألوف لهذه الكلمة؛ أي بالمعنى الذي يجعل الأتباع ينصتون لرأي أستاذهم ثم يشرحونه ويعلقون عليه، بل كان أعضاؤها متساوي القامات ارتفاعا، متقاربي القدرات والقوى؛ ولذلك لم يكن هنالك ما يمنع أن يطرح السؤال أمامهم فإذا كل واحد منهم بجواب.
لكنهم على اختلافهم هذا كانت تربطهم رابطة التشابه في «حركة» فلسفية واحدة، هي التي أطلق عليها اسم «الوضعية المنطقية» أحيانا، واسم «التجريبية المنطقية » أحيانا أخرى، أو ما إلى هذين الاسمين من أسماء متشابهة الدلالة، وما تلك الرابطة التي ربطت هؤلاء الرجال في جماعة واحدة إلا ما بينهم من اتفاق على أن يعلمنوا الفلسفة؛ أي أن يجعلوا الفلسفة علمية الطابع، فيطبقوا عليها ما يطبق على العلم من دقة وصرامة؛ حتى لا يعود بساحتها موضع لكلمة غامضة المعنى كهذه الكلمات الكثيرة التي ألفتها الفلسفة في شتى عصورها السابقة، مثل «نفس» و«فكر» و«عقل» و«مطلق» و«عنصر» و«جوهر»، وما إلى ذلك من ألفاظ اختلفت معانيها وانبهمت، وحتى تتخلص الفلسفة من تقاليدها الموروثة التي كانت تورطها في ضرب من الكلام الخالي من المدلول إذا قيست الدلالة بمقياس التحقيق العلمي أو بمقياس التفاهم بين الناس في أمور حياتهم الجارية.
Página desconocida