Hacia una filosofía científica
نحو فلسفة علمية
Géneros
إن «النظام» في الحالة التي نقول عنها إنها منظمة، إنما يقاس بكمية الكلمات التي لا بد من استعمالها إذا أريد وصف تلك الحالة؛ فحالة النظام الكامل لا تختلف عن غيرها من الحالات إلا في أنها تحتاج منا في وصفها إلى كلمات أقل، وكلما ابتعدنا عن حالة النظام الكامل وأردنا الوصف، زاد عدد الكلمات المطلوبة في الوصف حتى نصل إلى حالة انعدام النظام انعداما كاملا؛ فعندئذ نحتاج إلى عدد من الكلمات في وصفها أكبر مما احتجناه في وصف أية حالة أخرى.
ففي المثل الذي ضربناه، وهو ورق اللعب، نستطيع في حالة نظامه الكامل أن نقول إن ستا وعشرين ورقة من ذوات اللون الأحمر قد رتبت على النحو الفلاني، تتلوها ست وعشرون ورقة سوداء قد رتبت على النحو نفسه، ولكن ابدأ في كسر هذا النظام بأن تأخذ من النصف الأحمر ورقة واحدة لتضعها في النصف الأسود، فعندئذ تراك مضطرا - عند محاولة الوصف - أن تزيد من عدد العبارات والكلمات المطلوبة، وهكذا.
وليس الأمر مقصورا على حالتين، فإما نظام أو لا نظام، بحيث يكون احتمال كل منهما مساويا لاحتمال الآخر، بل إن الأمر درجات متدرجة يتفاوت فيها النظام تفاوتا كميا بين الطرفين؛ طرف النظام الكامل من ناحية، وطرف انعدام النظام انعداما تاما من ناحية أخرى، وإذا ما استطعت من الوجهة النظرية أن تحسب عدد هذه الحالات المتدرجة، استطعت بالتالي أن تحسب مقدار احتمال وقوع الحالة التي يكون فيها النظام كاملا؛ لأن هذا المقدار هو كسر بسطه واحد ومقامه عدد الحالات الممكنة كلها.
وقل شيئا كهذا في مقدارين من الغاز يتفاوتان حرارة، مزجا معا فتعادلت الحرارة في المزيج؛ فالأمر ها هنا شبيه بالأمر في ورق اللعب في حالات نظامه وعدم نظامه؛ فعند البدء في مزج المقدارين من الغاز نكون إزاء مجموعتين من الذرات، إحداها سريعة والأخرى بطيئة، وكون الذرات السريعة كلها مجتمعة معا، والبطيئة كلها مجتمعة معا، شبيه بكون ورق اللعب في حالته الأولى مرتبا على نحو يجعل الأوراق الحمراء كلها مجتمعة معا، والسوداء كلها مجتمعة معا، وامتزاج الذرات في الغازين شبيه بالحالات التي تنشأ من «تفنيط» ورق اللعب؛ أهو مستحيل أن تظل الذرات في امتزاجها تتخذ أوضاعا مختلفة حتى يحدث مصادفة أن تعود الذرات السريعة إلى تجمعها الأول والبطيئة إلى تجمعها؟ كلا، ليس ذلك مستحيلا، لكنه بعيد الاحتمال؛ لأنه حالة واحدة من ملايين الحالات، وإنما نقول عن الحالة الأولى إنها أكثر نظاما من الحالات التاليات لأن وصفها يتم بكلمات أقل مما يمكن استخدامه لوصف سائر الحالات.
وهكذا إذا التقى غاز أكثر حرارة بغاز أقل حرارة، أي إذا التقت مجموعة من الذرات أسرع حركة بمجموعة أبطأ حركة، كان الأرجح - بناء على ما شاهدناه في الطبيعة لا بناء على ما يحتمه العقل الصرف - أن تمتزج المجموعتان من الذرات امتزاجا يخلط سريعها ببطيئها خلطا ينتج عنه تعادل الحرارة في المجموعة كلها؛ ومعنى ذلك بلغة «النظام» أن الأمر يسير من نظام أكثر إلى نظام أقل؛ أي من تجمع للمتجانسات إلى تفرق لهذه المتجانسات تفرقا يجعل الأمر خليطا.
وهذا السير من حالة التجمع إلى حالة التفرق، من حالة النظام إلى حالات انعدامه، من حالة المفارقة بين المجموعات المختلفة إلى حالة الامتزاج الذي يتم فيه التعادل، هو ما يسمونه في علم الطبيعة ب «الأنتروبي»؛ فكأن الأمر في الكون يسير سيرا مطردا نحو عدم النظام. ولو بلغ السير منتهاه، بحيث يبلغ الأمر بالذرات إلى حالة تمتزج فيها امتزاجا ينعدم معه كل نظام، أي إنه يبلغ حالة لو وصفت لاحتاج وصفها إلى عبارات وكلمات أكثر من أية حالة أخرى، فإن التعادل عندئذ يكون تاما، وينتهي الأمر بالكون إلى سكون.
لقد شهدت الفلسفة اليونانية القديمة أعلاما من رجالها، كانوا - وكأنهم الأنبياء - ينفذون ببصائرهم إلى كنه الحقيقة الكونية فيصفونها بمثل ما يصفها به علم الطبيعة الحديث، لولا أنهم كانوا يتحدثون بلغة الكيف، وهذا العلم الحديث يتحدث بلغة الكم؛ فمن الفلاسفة الأقدمين من أدرك أن الكون قوامه عناصر مختلفة، بدأت حين كان كل عنصر متجانس على حدة، ثم دبت فيها الحركة، فأخذت تمتزج بعضها ببعض حتى أصبح الشيء الواحد مكونا من خليط من عناصر قد يصعب فصلها بعضها عن بعض، لكن مصير هذه الحركة في النهاية هو أن تعود العناصر المتجانسة إلى تجمعها، ثم دورة كونية أخرى وهكذا. وشيء كهذا هو ما يقوله العلم الطبيعي الحديث، لكن هذا العلم لم يتحدث عن التراب والهواء والماء والنار وأشباهها على أنها العناصر الأولية، بل رد هذه كلها إلى أنواع من الذرات التي لا تختلف كيفا بل تختلف كما؛ فذرة أقل من أخرى في عدد كهاربها السالبة والموجبة. وكذلك لم يعد هذا العلم الحديث يتحدث باللغة الكيفية التي كان يتحدث بها الفلاسفة الأقدمون من حيث امتزاج العناصر وانفصالها، حتى لقد جعل أحدهم الخير والشر دافعين يدفعان العناصر؛ الخير يدفعها إلى التجانس، والشر يدفعها إلى الخلط والفوضى. كلا، لم يعد علم الطبيعة يتحدث بهذه اللغة الكيفية، بل هو يستخرج متوسطات ويقيس سرعات ويحسب بالدقة أطوال المكان وأبعاد الزمان. وهكذا نرى أن فلاسفة الماضي وعلماء الحاضر قد يتناولون موضوعا بذاته ويتفقون على فكرة بعينها، لكن موضع الاختلاف بينهم - وهو نفسه موضع التقدم الذي تقدمه الآخرون عن الأولين - هو أن فلاسفة الماضي كانوا يتكلمون بلغة الكيف فجاء علماء الحاضر وأخذوا يلتمسون طريقهم إلى لغة أخرى، هي لغة الكم.
وبلغة الكم نستطيع أن نتحدث عن ظاهرة «الحياة» كما فعل شريدنجر في كتاب صغير له جعل عنوانه: «ما الحياة؟»
17
فقال فيه إنه إذا كان مجرى الطبيعة في سائر ظواهرها يسير من نظام التجانس في الذرات إلى عدم النظام، أي إلى الامتزاج والخلط، فإن ظاهرة الحياة تتميز بأنها تسير في الاتجاه العكسي؛ لأن الكائن العضوي يعمد إلى شيء من التنظيم والتصنيف، فيخرج المتجانس من غير المتجانس، كما يخرج النبات - مثلا - السكر من ثاني أوكسيد الكربون والماء، وكما يستخرج الحيوان بعملية الهضم البروتينات التي يبني بها خلاياه من مختلف العناصر التي يتغذى بها؛ فإذا كانت ظواهر الطبيعة تتجه في سيرها نحو الزيادة من «الأنتروبي» - أي الزيادة من عدم التصنيف - فإن ظاهرة الحياة تتجه في سيرها نحو الحد من «الأنتروبي»؛ أي نحو الزيادة من التصنيف والتنظيم، لكن هذا التصنيف - كما أسلفنا - يمكن التحدث عنه بلغة الكم؛ وبالتالي فمن الممكن أن نتحدث عن «الحياة» بهذه اللغة نفسها.
Página desconocida