Hacia una filosofía científica
نحو فلسفة علمية
Géneros
5
كما يسود التركيب عصرا بأكمله كذلك كما كانت الحال في فلسفة العصور الوسطى أو في فلسفة القارة الأوروبية - ما عدا إنجلترا - في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كذلك ترى التحليل هو النزعة السائدة في بلد كإنجلترا، كما ترى التركيب هو النزعة السائدة في بلد آخر كألمانيا. ودعوانا في هذا الكتاب هي أن الفلسفة تحسن صنعا لو عرفت على وجه التحديد والدقة أن مجالها هو التحليل، والتحليل وحده؛ فذلك يحقق لها الصفة العلمية التي نريدها لها، وبالمعنى الذي حددناه في القسم الثاني من هذا الفصل؛ لأن كل جملة تركيبية يقولها فيلسوف - غير مستند في قولها إلى ملاحظة وتجربة كما يفعل العلماء في أقوالهم - هي من قبيل التخمين الذي قد يضر التطور العلمي وقل أن ينفع.
دعوانا في هذا الكتاب هي أن الفلسفة ينبغي أن تكون تحليلا صرفا، تحليلا لقضايا العلم بصفة خاصة؛ لكي نضمن لها أن تساير العلم في قضاياه، وأن تفيد في توضيح غوامض تلك القضايا، دون أن تتعرض للضرب في مجاهل الغيب. والتحليل الذي ندعو إليه - وإن يكن قد سبق إليه فلاسفة كثيرون فيما مضى؛ إذ ما أكثر الفلاسفة الذين استخدموا التحليل في عملهم إما بصفة غالبة أو بصفة طارئة - إلا أنه قد اتخذ في عصرنا الحاضر لونا خاصا يختلف عن كل تحليل فيما مضى من تاريخ الفلسفة، وأصبح ذا طابع واضح متميز هو الذي يطبع الفلسفة التجريبية العلمية المعاصرة، وأعني به الطابع الذي تراه عند «جورج مور» و«برتراند رسل» و«لدفج وتجنشتين» وكل من لف لفهم، وإنهم لكثيرون، نخص بالذكر منهم جماعة سنفرد للحديث عنها فصلا خاصا، هي جماعة فيينا، التي أنشأت وطورت ما يسمى بالوضعية المنطقية.
لقد مرت الفلسفة في أوائل هذا القرن العشرين بمرحلة من مراحل تاريخها، طرأ عليها خلالها من التغير في وجهة النظر ما يبلغ حد الثورة، إذا جاز لنا أن نستخدم هذه الكلمة السياسية في مجال التفكير الفلسفي. وليس المراد هنا بكلمة «الثورة» مجرد تغير في المذهب السائد؛ لأن مثل هذا التغير لا يحدث «ثورة»، فلسنا نقول - مثلا - عن فلسفة أفلاطون إنها جاءت بمثابة الثورة على فلسفة أستاذه سقراط على الرغم مما بينهما من اختلاف بعيد، وكذلك لا نقول عن فلسفة أرسطو إنها كانت ثورة على فلسفة أفلاطون رغم ما بينهما من اختلاف بعيد كذلك، لكننا نقول عن فلسفة سقراط بالنسبة لسابقيه إنها «ثورة»، لماذا؟ لا لأن بين سقراط وسابقيه اختلافا في الرأي وكفى، بل لأن الاختلاف يتناول السؤال نفسه المطروح للإجابة؛ فإذا ألقيت سؤالا معينا، كقولك: مم صنعت الطبيعة؟ ثم جاءك عشرون فيلسوفا كل منهم بجواب خاص به، فهذا يقول إنها صنعت من كذا وذلك يقول إنها صنعت من كيت، فإن هؤلاء الفلاسفة العشرين جميعا يكونون مدرسة فكرية واحدة، ولا يعد الواحد منهم ثورة على زميله على الرغم مما بينهما من اختلاف في الرأي بالنسبة للسؤال المطروح. أما إذا جاءك فيلسوف آخر يغير من السؤال ذاته ليطرح سؤالا جديدا هو في رأيه أولي بالاهتمام من السؤال الأول، أو قد يكون ذلك لأن السؤال الأول قد استنفد الإجابات الممكنة كلها ولم يعد لقيام المشكلة أمام الأذهان غناء، كأن يسأل - كما فعل سقراط - عن الأساس العقلي للأخلاق الإنسانية، فذلك يكون بمثابة الثورة الحقيقية في مجرى الفكر؛ لأنه حول الانتباه من مجال قديم إلى مجال جديد.
وكذلك كان تحول الفلسفة منذ أوائل هذا القرن العشرين «ثورة» بهذا المعنى نفسه؛ أي بمعنى أنها نقلت اهتمامها من مجال إلى مجال تراه أجدر بالعناية؛ فبعد أن كان اهتمام الفلاسفة منصبا على حقيقة العالم وحقيقة الإنسان، انتقل إلى شيء آخر هو تحليل العبارات؛ فليس موضوع البحث الآن «أشياء»، ولكنه «جمل»؛ ليس موضوع البحث الآن هو «الكون»، بل هو هذه العبارة المعينة أو تلك؛ ما تحليلها وما مضمونها وما مكنونها؛ بهذا يربط الفلاسفة أنفسهم بدنيا العلم ودنيا الحياة اليومية، بدل أن يتعالوا على هذه الدنيا على أساس أنها باطلة، بحثا عن عالم «حقيقي» وراء هذا العالم المحسوس! وبهذا تصبح الفلسفة منطقا صرفا كما يقول برتراند رسل في محاضرته التي نشرها عام 1914م بعنوان «المنطق هو صميم الفلسفة» فصلا من كتابه «علمنا بالعالم الخارجي».
هذه الثورة ، أو إن شئت تواضعا في التعبير فقل هذه الحركة الجديدة في عالم الفلسفة، كان مركزها الرئيسي جامعة كيمبردج بإنجلترا، حيث أنشأها زعيماها الأولان وهما «مور» و«رسل»، ثم تبعهما «وتجنشتين»، وبعد ذلك أخذ الأتباع يزدادون في القارة الأوروبية وفي الولايات المتحدة، وهم ما يزالون في ازدياد حتى يومنا هذا، لكن الثورة التي تجتث كل صلة بالماضي ضرب من المحال، فلا بد من خيوط تصل العهد الثائر بالعهد الذي سبقه ليمهد له حتى وإن لم يكن جزءا منه، فها نحن أولاء إزاء هذه الحركة الفلسفية الجديدة التي بدأت مع بداية هذا القرن العشرين على وجه التقريب، لكننا نتعقب جذورها الأولى فنراها ضاربة في أرض المدرسة المثالية نفسها، التي جاءت هذه الحركة الجديدة لتثور عليها وتقلب أوضاعها.
فقد كان أنصار المدرسة التجريبية في إنجلترا منذ «لك» و«هيوم» يجرون على سنة التحليل الذي يتناول المعرفة الإنسانية ليردها إلى وحداتها الأولية، وكانت هذه الوحدات عندهم هي دائما عناصر أقرب إلى الذرات، كل ذرة منها قائمة وحدها، ثم ترتبط هذه الذرات المعرفية بعلاقات فتنشأ منها الأفكار المركبة؛ فالوحدات البسيطة الأولى عندهم هي إحساسات يقوم كل إحساس منها كأنما هو كائن مستقل عن سائرها؛ فهذه - مثلا - لمعة من الضوء على شبكية العين، وتلك رنة صوت في الأذن، أو لمسة جسم صلب أو لين على الأصابع وهكذا. تلك - على وجه الإجمال - هي الخيوط الأولية التي ينسج منها العقل أفكاره مهما بلغت تلك الأفكار من درجة التركيب.
واجتاحت إنجلترا موجة من المثالية الهيجلية في القرن التاسع عشر، حيث امتدت من أول القرن إلى آخره، فمالت بأنصارها إلى الطرف الآخر؛ إذ عجبوا لهؤلاء التجريبيين كيف يفتتون المعرفة الإنسانية إلى هذه الخيوط، مع أن معرفة أي جزء على حدة ضرب من المحال في رأيهم، فلا تستطيع - مثلا - أن تعرف شيئا عن لون هذا الكتاب إلا متصلا بالكتاب، ثم لا تعرف شيئا عن الكتاب إلا متصلا بغيره، وهكذا وهكذا. وليس الاستطراد في رأيهم هذا هو موضوعنا الآن، لكن النقطة الهامة عندنا في هذا السياق هي أن قادة الفلسفة الإنجليزية المثالية في أواخر القرن التاسع عشر - مثل برادلي - قد وضح توضيحا لا يدع للشك سبيلا، أن الوحدات الأولية للمعرفة يستحيل أن تكون مدركات فرادي؛ لأن المدرك الواحد لا يكون فكرا ولا يكون معرفة بأي معنى من المعاني، إنما تبدأ المعرفة حين يبدأ الحكم، ولا يكون حكم إلا إذا تكاملت لنا قضية فيها محكوم عليه ومحكوم به ورابطة تربط بين الطرفين؛ فقولي «قلم» ليس فكرا، وقولي «أسود» ليس فكرا كذلك، أما قولي «القلم أسود» فوحدة فكرية؛ لأنه تعبير عن حكم قد يصيب وقد يخطئ.
الحق أن هذه كانت نقطة ضعف ظاهرة في تحليل التجريبيين للمعرفة، فكانت بالتالي هدفا لهجمات معارضيهم من الفلاسفة المثاليين، بل كان هذا هو أعمق فارق بين «هيوم» من جهة، و«كانت» من جهة أخرى؛ فالأول يجعل الانطباع الحسي الواحد أو الفكرة الواحدة المتخلفة بعد ذلك الانطباع هي وحدة التفكير، فإذا ما تجاورت فكرتان في الذهن لم يكن بينهما من علاقة سوى علاقة التجاور؛ ولهذا لم يجد بين السبب ومسببه من علاقة سوي ما بينهما من تلازم في الوقوع؛ وأما «كانت» الذي يقول إن دعوي هيوم هذه قد أيقظته من سباته، فيرى أن الخطأ الأساسي الذي وقع فيه هيوم هو أن جعل الفكرة الواحدة فكرا، على حين أن الحد الأدنى للفكر هو القضية التي تربط فكرتين على أقل تقدير.
ونعود إلى الموقف في أواخر القرن التاسع عشر في إنجلترا، لنري «برادلي» الفيلسوف المثالي يوضح لنا بدوره هذا الاتجاه في تحليل المعرفة إلى أولياتها، وجاء «برتراند رسل» وغلبت عليه في نهاية الأمر نزعته التجريبية، لكنه في الوقت نفسه أراد أن يستفيد بما قاله «برادلي» في نقده للتجريبيين، فلم يتردد في أن يقيم فلسفته التجريبية على أساس منطق جديد يتلافي به أوجه النقص التي كانت تؤخذ على سالفيه «لك» و«هيوم» وأمثالهما، وما هذا الأساس المنطقي الجديد في صميمه إلا أن يجعل «القضايا الأولية» - لا المدركات المفردة - هي الوحدات البسيطة الأولى في تحليل المعرفة. ولم يكن «رسل» وحده في هذا الاتجاه، بل سار معه فيه زميله «مور» وتلميذه «وتجنشتين»، ثم تبعهم في ذلك بقية الأتباع.
Página desconocida