الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

النهر لا يحترق

النهر لا يحترق

تأليف

ثروت أباظة

الفصل الأول

الحر شديد، شديد، وفوكيون لمبرو يحمل حقيبته الثقيلة ثقل الزمن، وبيده اليسرى يحمل البقجة المنتفخة بالأقمشة، والمثقلة بها أيضا، عجيبة أن تكون الأقمشة الحريرية والأخرى الشفيفة بكل هذا الثقل، إن شأنها شأن الزمن ما هو إلا ثانية وثانية، ثم دقيقة ودقيقة، ثم ساعة وساعة، ثم أيام ثقيلة الخطى، ثم سنون ترزح على كتف الإنسان فإذا القامة المديدة تحنيها الأعوام التي لم تكن إلا أياما، كانت ساعات وكانت دقائق وكانت ثواني.

ومن تراكم الثواني شاب شعر فوكيون لمبرو، ومن تراكم الحرائر والشفائف في الحقيبة والبقجة يئن فوكيون لمبرو، وكأن الشمس لا يكفيها ما هو فيه من معاناة، فإذا هي تصليه تلك النار الضارية، تخترق قبعته وتعتصره اعتصارا.

ويمشي لمبرو، والحر شديد، شديد.

ويمر ببيت الست عدلات، ويله من الست عدلات، إنه لا يشتهي مطلقا أن يذهب إليها؛ فهي كثيرة التقليب في الأقمشة، غزيرة الكلام بطيئة الحركة، شحيحة المال، قليلة الشراء، نادرة الدفع.

يعبر البيت ويستمر سائرا في ذلك الشارع الجميل، الذي يرافق النهير العظيم، الذي سماه أهله وذووه بحر مويس، فلم يكفهم في شأنه أن يرفعوه من نهير إلى نهر، بل أفاضوا عليه بما عرف عنهم من كرم، وأطلقوها عليه بحرا فأصبح بحرا، وكان يقوم بين البحر والشارع سور من الأعواد الحديدية العريضة بعض الشيء والمدببة الهامة، وهكذا استطاع أهل الزقازيق أن يحموا مويس من أن يكون موئلا لمن يفكر أن يلقي به ما يشوه جماله، واستطاعوا أيضا أن يردوا الأطفال عن خوضه والتعرض لمائه العميق.

وفي هذه الأيام التي كان فوكيون يماشي فيها النهر في ذلك السعير، لم يكن على الجانب الآخر من النهر إلا قليل من المباني، على قلة عددها جليلة الشأن عظيمة الخطر، فمن هذه المباني المدرسة الابتدائية، وكان كثير من التلاميذ يعبرون إليها في مراكب صغيرة، لقاء مليم أو مليمين يتقضاهما صاحب المركب، فقد كانت الكباري لا تزيد على اثنين، أحدهما على رأس النهر حين يتجه شرقا إلى القاهرة عن طريق أبي حماد، والكوبري الآخر في الجهة المتجهة غربا إلى منيا القمح فبنها، وكان منزل الباشا المدير في هذا الجانب أيضا.

أما الجانب الذي يسير فيه فوكيون، فهو زقازيق تلك الأيام بكل ما فيها من معالم، وحيث يدور النهر تمتد بجانبه تأبى أن تبتعد عنه، وكان فوكيون يسكن في شارع البوستة، وهو أهم شارع بالزقازيق، وحين تزوج - أتينا فروسو وشدد السين حتى تصل إلى النطق الصحيح - أقاما بنفس البيت، فقد عرفها فيه وهي تقيم مع أخيها متراكي، صاحب محل البقالة الشهير بالزقازيق.

دام زواج فوكيون لأتينا فروسو اثنتي عشرة سنة، ولم ينجبا أطفالا، والعجيب أن كليهما لم يحزن لهذا، فقد كانا يعرفان كيف يعملان حين يعملان، وكيف يستمتعان بالإجازة حين يرغبان.

كانت أتينا تذهب مع فوكيون كل شهر إلى محل الحاج محمدين الطوخي في الحمزاوي، وتنتقي منه الأقشمة لسيدات الزقازيق، وكانت تعرف الغالبية العظمى منهن من قبل أن تتزوج فوكيون، فقد كانت هي التي تقوم بتفصيل ملابسهن، وقد كانت على ذكاء حاد فعرفت أذواقهن، وهكذا استطاعت أن تكون ذات فائدة عظمى لزوجها، وبعد أن كانت الأقمشة التي يشتريها يتخلف منها جزء غير يسير فترات طويلة عنده، مما يضطره آخر الأمر أن يبيعها بغير مكسب أو بخسارة، أصبحت الأقمشة التي تنتقيها فروسو تنفد في أسابيع قليلة، إلى درجة أنه كان أحيانا ينزل مع فروسو مرتين أو ثلاثا إلى القاهرة ليتزود ببضاعة جديدة.

وكان الزوجان يصران على أن ينالا شهرا إجازة في كل عام، وكانا يختارانه شهر يوليو، ففي هذا الشهر تكون السيدات في الصيف هن أيضا قد انتهين من إعداد ملابس الصيف، ويكون الشتاء بعيدا، فأغلبهن يبدأ بشراء الأصواف قبل أغسطس إن لم يكن سبتمبر.

سنوات طيبة عاشها الزوجان معا، العمل عند كليهما يحميهما من الفراغ والشجار، والإجازة السنوية تجدد نشاطهما، والخروج إلى الفسحة كل أسبوع يدخل على حياتهما اليومية الرتيبة تجديدا، وكانا يذهبان في كل يوم أحد إلى كنيسة الأروام، ثم يتناولان الشطائر عند الغداء في حديقة وابور النور، الذي يقع في آخر الزقازيق بعد منشأة أباظة، ثم يذهبان إلى سينما أبولون في حفلة الساعة السادسة، ولا يمنعهما شيء عن هذا البرنامج إلا المرض ونادرا ما كانا يعرفانه، والعجيب أو ربما لم يصبح عليهما عجيبا أنهما كانا يستمتعان غاية المتعة بالموسيقى العربية والمارشات العسكرية، التي كانا يسمعانها من فرق الجيش في كشك وابور النور، فقد كانت موسيقى الجيش تعزف أيام الخميس والجمعة والأحد من بعد الظهر.

وكانت كثير من السيدات يمزحن مع فروسو وهي تخيط لهن ملابسهن، ويقلن لها إنك مصرية يا فروسو أكثر من المصريات، فلماذا لا تتكلمين مثلنا وتتركين لهجتك الجريجية هذه.

وتضحك فروسو وتقول: دا سغل يا خبيبتي، أقصد أقول دا شغل يا حبيبتي.

وتضحك السيدات وتقول هي: إذا أنا إكلمتوا أربي الستات يقول دي خياطة بلدي، ويتركنني ويذهبن إلى خياطة جريجي غيري.

كانت فروسو تعلم أن السيدات يحببن أن يلوين ألسنتهن باسم أجنبي، إذا أردن أن يذكرن اسم الخياطة التي تفصل لهن فساتين.

وكانت فروسو إذا ذهبت إلى أحد البيوت لتخيط لسيداته أصبح ذهابها موسما، وتجمعت عند هذه السيدة الصديقات الأخريات اللاتي تفصل لهن فروسو، ولا بأس أن يداعب الرجال فروسو أيضا على مشهد من الزوجات، فقد كانت مداعبات تثير الضحك ولا تثير الغيرة. قال لها لطفي سعيد بمنطق المال: لمن تجمعين يا فروسو كل هذا المال أنت وفوكيون؟

وتضحك فروسو ولا يمسها طائف من الحزن أنها لم تنجب وتقول: من عارف يا لطفي بك. لصاحب النصيب. - ألم تفكري أنت وفوكيون من هذا الذي يمكن أن يكون صاحب النصيب؟ - أو، أنا وفوكيون نفكر في كل حاجة سوا سوا. - فيمن تفكران إذن ليكون صاحب النصيب؟ - على كل حال لطفي بك، مش إنت.

ويضحك الجميع ويقول لطفي: دا مؤكد فروسو، دا مؤكد.

وتقول هي جادة: لطفي بك تفتكر أنا وفوكيون نقدر نشتغل كدا على طول، يجيء يوم نتعب. نحب نستريح، يكون الفلوس موجودة، سفت لطفي بك. أنا وفوكيون أصحاب النصيب مش حد تاني.

ونقلت أتينا هذا الحديث بأكمله إلى فوكيون لمبرو وهما يتناولان العشاء ويسمران، وضحك فوكيون وقال لها باللغة اليونانية الخالصة: أحسنت الإجابة يا أتينا.

أتينا هو اسمها الحقيقي أما فروسو فاسم أبيها، ومع ذلك لا يناديها أحد بأتينا إلا زوجها وأخوها متراكي، فهو أيضا اسمه متراكي فروسو، ولكن أحدا لا يعرف عنه إلا متراكي، ولا يرى أحد داعيا مطلقا أن يبحث عن بقية اسمه، ومن عرفه صدفة لا يرى داعيا أن يناديه به. •••

وحين ماتت أتينا فروسو دون أي توقع، أصبحت الحياة عند فوكيون لمبرو صحراء جرداء لا تستحق أن تعاش، كان قد أعد مع أتينا كل خطوة سيخطوانها في المستقبل، ولكنها أخلفت موعدها في لحظة عابرة، وهما جالسان في البيت يلعبان الورق.

لم تقل إنها ذاهبة ولم تقل إنها متعبة، كل ما قالته بعد أن وضعت الورق على المنضدة: فوكيون. وقبل أن يجيب كانت هي قد أجابت داعي السماء.

لا معنى للحياة، ولكن الحياة لا تعترف برأي الأفراد ولا حتى برأي الجماعات أو الشعوب، إنها تمضي كما تعودت أن تمضي، ثانية تدفع ثانية ودقيقة تسوق دقيقة، وساعة تستحث ساعة ويوم يستبطئ يوما، وأعوام تنتهب العمر انتهابا.

ماذا أنا صانع إذا لم أعمل، إذا كنت أعددت المستقبل لي ولأتينا، وتخلفت هي فالمستقبل لن يتخلف، بل هو قادم رغبت أنا في قدومه أو لم أرغب، وسيجدني أنتظره ما دمت على قيد الحياة، والمصيبة الكبرى أنني لا بد أن أظل على قيد الحياة، والمصيبة الأعظم أنني لا أعلم متى سأغادر هذه الحياة، وقد أصبح العمل هو كل ما أملك في الحياة بعد أن كانت معه أتينا، أخشى إذا أنا توقفت عن العمل أن يهملني الموت ولا يذكرني، فهو زبون بلا موعد ولا منطق ولا عقل، يخطف أتينا وهي في قمة صحتها لا تشكو مرضا، وينسى غيرها من الذين أنهكهم المرض سنوات طوالا، قد يرسل إلي المرض، فالمرض من أتباع الموت ومن خدمه وحاشيته، ثم ينسى أنه أرسل لي المرض ويتركه عندي السنوات الكثيرة، وأصبح بلا مال أنفقه على الضيف الذي أرسله إلي الموت وعلى نفسي أيضا.

لا بد إذن أن أعمل، فلئن جاءني الموت أو خادمه المرض وعندي مال، خير ألف مرة من أن يأتيني أحدهما، وخاصة الخادم، وأنا قليل المال، فالمرض ضيف لا حياء له ويرغم مضيفه على كثير من الإنفاق، ولا يقف به الطمع عند حد، فهو رذل وقح عربيد، لا يخجل ولا يبالي أن يطلب آلاف الجنيهات، وهو واثق أنك ستدفعها ولا تناقش.

أعمل إذن، ولكن الحر شديد، وموت أتينا أصاب مشاعري بإحباط كثيف، واللذة التي كنت أستشعرها وأنا أعتصر الحياة معها انعدمت تماما، ولم يصبح للحياة رحيق ولا للمال ذلك الطعم الساطع، الذي كان يملأ النفس رضى وهناءة وطمأنينة وثقة.

والحر شديد وأنا لا أريد أن أذهب إلى الست عدلات، ولكن لا بد مع ذلك من الذهاب، فإن عليها لي مبلغا من المال ونحن الآن في موعد حصاد القمح، وربما استطاعت أن ترد لي شيئا من ديونها، ثم أنا لا أستطيع أن أمضي خطوة بعد هذا، أمري إلى الله.

وفتحت نعمات خادمة الست عدلات الباب، وقالت في ألفة: يوه هو أنت يا خواجة لمبرو؟

وقال لمبرو بعد أن دخل وقعد على كرسيه المعهود: هو أنا يا نعمات. كنت تنتظرين أحدا آخر؟ - أبدا يا خواجة، فقط كيف تقدر على المشي في هذا الحر الشديد. - أكل العيش يا نعمات! - بل أكل الجاتوه يا خواجة. ماذا ستعمل بكل هذه الفلوس يا خواجة، قل لي يا خواجة لمبرو أتكتم السر؟ - كل أعمالنا أسرار. - سلفني مائة جنيه أتزوج بها، وأرد لك كل شهر حاجة. - وأنا كيف سأراك إذا تزوجت يا نعمات. - بلدنا قريبة. - وتريدينني أن أروح لبلدك كل شهر من أجل القسط؟ - معروف تعمله في، ألا تعمل معروفا لله أبدا؟ - الله يعلم ولكن الذي تطلبينه مستحيل. - أنا أحضر لك الفلوس حتى بيتك. - قولي يا نعمات، من خطيبك؟ أنت ما زلت صغيرة على الزواج. - أبو الروس. - من؟ - سويلم أبو الروس. - ماذا يعمل؟ - يعمل في مقهى في البلد. - كم عمره؟ - قريب مني. - أكبر؟ - يا ترى كل هذا التحقيق له فائدة؟ - أين الست عدلات؟ - جائية. - أهي ليست هنا؟ - عند الست تفيدة. - فوق؟ - نعم. - فهي لن تأتي إذن. - لماذا يا خواجة لا قدر الله؟ - الاثنتان لا تتوقفان عن الحديث إلا بالبوليس.

وتضحك نعمات وتقول له: الله يجازيك يا خواجة لمبرو. ماذا قلت؟ - فيم؟ - خواجة. أنسيت؟ - قلت لي عمره كم؟ - أنت مالك. - أعرف. - ما دخل هذا فيما أطلبه؟ - فقط قولي، أهو أكبر منك؟ - يا سلام يا خواجة. - كم عمرك؟ - ثماني عشرة سنة. - يعني عنده عشرون تقريبا. - لن أقول لك. - فهو أصغر منك إذن. - يا خبر أسود. هل هذا معقول؟ - ليس مهما. - وما رأيك؟

وقبل أن يجيب تدخل الست عدلات، وتفاجأ بالخواجة لمبرو. - يخيبك يا لمبرو. في هذا الحر؟ - وأنت ست عدلات تخرجين في هذا الحر، أنا أخرج من أجل العمل، لكن أنت تخرجين من أجل التسلية. - الفلوس على قلبك ستقتلك، وتخرج في هذا الحر؟ - والله ست عدلات لم أعد أحب أن أبقى في البيت أبدا، البيت كله أسود في وشي. - الله يرحمك يا أتينا، والله من يوم ما راحت وأنا لم ألبس شيئا أرتاح له. - مرسي ست عدلات. - هل معك حاجة جديدة؟ - طبعا. لكن أنت أليس عندك حاجة قديمة؟ - يخيبك يا لمبرو. كم حسابي؟ - خمسة وعشرون جنيها. - وكم تريد منها؟ - خمسة وعشرين جنيها. - أليس عندك دم؟ - أنت سألت كم تريد وقلت لك ما أريد وأنت حرة. - طيب أرني ما عندك. يا نعمات، بنت يا نعمات.

وتأتي نعمات مبتسمة ومعها حقيبة يد سيدتها.

وتضحك نعمات ويضحك لمبرو: كيف عرفت يا بنت أني أريد حقيبة يدي؟

وقالت نعمات وهي تضحك: وهل يأتي إلا من أجل حقيبة يدك؟

ويقول لمبرو: ملعونة أنت يا نعمات. لما أخلص مع الست لي معك كلام أمام الست عدلات. - صحيح يا خواجة. - ليس كما فهمت، ولكنك ستفرحين جدا. - الله يخليك يا خواجة. - مش مهم يا نعمات مش مهم. لا أريد أن يخليني مش مهم. - برضه الله يخليك ويعطيك الصحة. - آه، دا مهم، الصحة مهم، مرسي نعمات مرسي.

وتعطي الست نعمات للخواجة لمبرو عشرة جنيهات، ويدور جدل طويل يقصد لمبرو أن يطيله حتى تنكسر حدة الحر، ويستمتع بفنجان القهوة الذي أحضرته نعمات مع الماء البارد.

وتبدأ الست عدلات في رؤية الأقمشة الجديدة، وتنقلب الحقيبة رأسا على عقب، وتتناثر محتويات البقجة، ويخرج عثمان بك من نومة القيلولة، ويجد بهو بيته مليئا بالأقمشة ولا يعجب، فهو أمر تعوده ويمزح مع لمبرو: أنا يا لمبرو لا أشوفك إلا ومصارينك كلها ملقاة على الكراسي والسجاجيد. - أمر الله يا عثمان بك. أمر الله. - لا تترك منها الكثير، فأنا الذي أدفع ثمنها كما تعرف. - أعرف وأنا الذي أنتظر الثمن حتى تطلع روحي يا عثمان بك.

ويضحك عثمان بك ويخرج ويستمر العرض.

وتغرب الشمس، وتنتقي عدلات هانم قطعة واحدة من كل الأقمشة التي كانت ملقاة بعرض البهو وطوله، تعطيه جنيهين من ثمنها، وتدخل نعمات تعاون لمبرو في إعادة الحقيبة والبقجة إلى ما كانتا عليه عند قدومه، ويسأل لمبرو في إصرار: كم عمر عريسك؟

وتدهش نعمات من هذا الإصرار. - ماذا جرى يا خواجة أتريده في الجيش، ألم تقل أنت عمره؟ - فقط قولي. - عشرون سنة كما قلت أنت. - اتفقنا. - أتعطيني المائة جنيه؟ - أكثر بكثير.

وتسأل عدلات هانم وتنقل لها نعمات الحوار الذي دار بينها وبين لمبرو، وتقول عدلات: ألم يقل سيدك إنه سيعطيك المائة جنيه في القطن؟

وتضحك نعمات في حياء، وتقول: وماذا أعمل يا ستي؟ - يا لهوك! تعملين في ماذا؟ - الولد سويلم يريد أن يتزوج في مولد سيد أبو مسلم، وتضحك عدلات وتقول: آه مستحيل. طيب ولا يهمك يا بنت، جهازك على نفقتي في أي وقت. - ربنا يطول عمرك يا ستي ويخليك.

ويتدخل لمبرو: يعني أنا خارج الموضوع إذن؟

وتضحك نعمات وهي تقول: البركة في ستي يا خواجة. أما أنت فإننا نريدك في الخير.

ويقول لمبرو: ولكن أنا الذي أريدك الآن يا نعمات. - كيف؟ - أنت قلت إن سويلم يعمل في مقهى؟ - نعم. - وهل هذا عمل؟ - لا يعرف كيف يفلح الأرض. - أحسن. - كيف؟ يا ليته كان فلاحا. - ما رأيك يا نعمات وأنت ست عدلات، أن يأتي سويلم ويساعدني في العمل.

وصاحتا معا: ماذا؟

وساد الصمت مليئا بالضجيج.

وما له والله فكرة يعمل مع لمبرو، وفي هذه الحالة لا تتركني البنت نعمات، ولا أحتاج للبحث عن غيرها، وأين أجد مثلها؟ أنا التي ربيتها وأصبحت تعرف كل طلباتي، وكم كنت سأتعب حتى أجعل خادمة غيرها مريحة لي مثلما هي مريحة.

وساد صمت آخر. - والله فكرة.

إذن فقد قضي علي أن أبقى هنا، وما له، اللقمة طيبة والهدمة نظيفة، والذي نعرفه خير مما لا نعرفه، وهل كان سويلم سيستتني لا بد أنني كنت سأخدم في البلد، إن لم يكن عند العمدة، فعند أحد الأعيان وربنا يعلم أين، ولكن! - ولكن يا خواجة ... - انطقي يا نعمات، ولكن ماذا؟ - سيدخل سويلم معك إلى الستات.

وضحكت الست عدلات وضحك الخواجة، وهو يقول: هذا شغلنا يا نعمات وأكل عيشنا. أتخافين عليه من الستات وكلهن كبيرات وزوجات أعيان؟ - أتخافين عليه من الستات يا مضروبة؟ - يا لهوي يا ستي أليس رجلا، لا بد أن عينه ستروح هنا، أو هنا.

الفصل الثاني

أأعمل مع الخواجة لمبو؟ هل اسمه لمبو؟ أظن لا. لا تفرق، وأين أجد المتعة التي أجدها هنا وأنا أبيع الكازوزة لركاب القطارات؟ أين في العالم فرجة مثل هذه الفرجة؟ أنا قاعد مستريح والعالم يمر علي كله في القطارات وفي الزبائن.

أنا واحد من معالم هذا المكان، الزبائن لا يعرفون المعلم فرج قدر ما يعرفونني، بل ركاب القطار المنتظمون لا ينادون المعلم فرج في غدوهم ورواحهم، وإنما ينادونني.

أين سأجد حرية مثل حريتي هذه التي أنعم بها، أصنع ما يحلو لي والكل يحبني وأنا أحب الجميع، موظفو المحطة لا يحلو لهم طلب لا أقدمه إليهم، وأعيان البلدة جميعا يسعون إلى مقهانا هذا ينفحونني نفحات طيبة، ومرزوق والحمد لله، ما الذي يجعلني أترك هذا جميعه للخواجة لا أدري اسمه هذا، لمبو. لا لمبرو؟ ما شأني أنا به؟ وماذا سأصنع معه؟

ولكن المسألة ليست بسيطة، البنت نعمات قالت كلاما معقولا، الزواج محتاج إلى مصاريف وأنا - والحمد لله - ما يجيء يذهب ولا يبقى شيء لأقيم به بيتا ولا حتى عشة، ولنفرض أن نعمات عملت في أحد بيوت البلد، ألا تحتاج هي الأخرى إلى ملبس ومصاريف.

وفي الزقازيق ستقيم هي عند عثمان بك وأنا سأقيم عند الخواجة، وقد قال إنه سيترك لي غرفة أستقبل فيها عروسي في الإجازة، وقال أيضا إنه سيرسلني أسبوعا في لوكاندة رأس البر كهدية زواج منه، والله حلوة هذه، والبنت نعمات تقول لي في ابتسامتها الحلوة، التي تحاول أن تخلطها بتكشيرة: أكنت حفظت القرآن والكتابة والحساب لتظل طول عمرك صبي مقهى؟

قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون . من يدري ربما يكون عملي مع الخواجة لمبرو هو المصير الذي اختاره الله لي.

أنا بعد في كامل صحتي، وها أنا ذا مقبل على زواج أغلب الأمر أن يعقبه أولاد، وإذا كان ما أكسبه اليوم وما ستكسبه نعمات كافيا لكلينا، فكيف سنواجه الأولاد؟

لقد تيتمت وأنا طفل لم أتم حفظ القرآن، واضطرتني الحياة أن أعمل حين كان أترابي يلعبون، وربما يكون الله سبحانه وتعالى عوضني عن اليتم بحب الناس لي، وأن كثيرا من الناس يقولون لي إن في وجهك القبول يا سويلم، ألا يجوز أن يكون هذا القبول هو نصيبي الذي قسمه لي الله في الدنيا، أنا لا أغضبه، البنت حميدة حاولت معي وقلت في نفسي إني أخاف الله ولم أذهب إلى موعدها، وحين أخطأت مع البنت تفيدة زوجة حسنين خفير العمدة، ظللت نادما أياما طويلة، وخاصة بعد أن رأيت معها عويس قاهي العمدة، إنها بنت سائبة وزوجها هو الآخر حمار، يتزوج بنتا أصغر من ابنته، ويريدها أن تظل شريفة خوفا من شريطه الأحمر.

وها أنا ذا أتزوج وأنا صغير، حتى لا تستطيع فتاة أن تميلني، ونعمات جميلة، قمر ودمها زي الشربات، أليس من حقها علي أن تجدني رجلا كاملا تحتمي في ظله، وتركن إليه فتجد عنده الأمن والطمأنينة،

ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، وكيف تسكن إلي إذا أنا بقيت خادم مقهى.

لا، لن أستطيع.

أضحي بكل هذا الذي أنعم به؟

وما الحياة إذا لم نسع في أركانها، ونبحث عن أنفسنا في أنحائها؟

وإن عملي مع لمبرو سيجعلني أتعرف على بيوت الأعيان الكبار في المديرية لا في القرية، وإذا كان في وجهي القبول فمن يدري، ربما وجدت بوجهي هذا عملا خيرا من عمل لمبرو، أو ربما أتقنت العمل مع لمبرو، وعاد علي هذا الإتقان بنفع كبير.

على أي حال العمل مع لمبرو اليوم أحسن لا شك من العمل بالمقهى، وإذا لم أضح بمتعتي فلست خليقا أن أكون رجلا ذا زوجة وبيت ومسئولية.

الفصل الثالث

لا يعرف الحاج محمدين الطوخي عن عائلته إلا أنهم طوال حياتهم في القاهرة ويعملون في بيع القماش، وكل التغيير الذي يذكره عن أجداد الأجداد أنهم كانوا يعملون في الحرائر فقط، حتى تولى المحل جده أبو أبيه الحاج المدبولي الطوخي، الذي ارتأى أن يتوسع في التجارة، وأصبح يعمل في الحرائر والأصواف وجميع الأنواع الأخرى من مخرمات إلى شفائف، ويذكر الحاج محمدين أن التجار الآخرين غضبوا من جده؛ لأنه اعتدى على ما تخصصوا فيه من تجارة، ولكن الحاج مدبولي دعاهم جميعا إلى العشاء واسترضاهم وصفت النفوس، ويذكر الحاج محمدين بفخر أن جده قال لهم على العشاء: وماذا كنتم تصنعون إذا جاء شخص غريب عليكم لا تعرفونه ولا يعرفكم، وفتح محلا أو محلات؟

ونظر بعضهم إلى بعض، وقال الشيخ إسماعيل الحريري لصديقه أبو العلا الصواف: ماذا جرى لنا يا أبو العلا هل أصابنا الكبر؟ لماذا لم نفكر في هذه المسألة من قبل أن يفحمنا بها أخونا المدبولي؟

وحكايات الحاج محمدين كلها لا تخرج عن السوق وأحواله، رابطا دائما بين تجارته والسياسة والاحتلال.

ولم ينجب الحاج محمدين إلا ولدا وبنتا، أما البنت عائشة فقد تزوجها يوسف العقاد ابن صديقه زينهم العقاد، وتعيش مستورة وقد أنجبت بنتين وولدا.

أما ابنه فؤاد فهو حزين من أجله غاية الحزن، فقد تزوج من كريمة بنت الشيخ إسماعيل الحريري، وحملت منه ولكنها ماتت في الولادة ومات معها ابنها، ومنذ ذلك الحين وفؤاد مضرب عن الزواج، يقول كلما فاتحه في الأمر: يا أبويا جربت حظي وعرفته.

ويدمى قلب أبيه: يا ابني ليس لي غيرك. - البركة في أبناء عائشة أختي. - أبناء البنت لأبيهم وأبناء الابن لجدهم. - ربنا يقدم ما فيه الخير يا أبويا.

ويدرك الحاج محمدين أن ابنه يريد أن ينهي الحديث.

ويرى في محيا ولده ما يتكتمه الابن وتبيحه ملامحه، لقد أحب كريمة وكبر الرجال فيه يمنعه أن يعلن حبه.

حين عرف سويلم الحاج محمدين، كان الحاج قليل العمل يكتفي بأن يجلس في الدكان، تاركا البيع والشراء جميعه لفؤاد.

فقد أصبح لمبرو يرسل سويلم وحده ليشتري الأقمشة من الحاج محمدين، وكان في أول الأمر يوصيه أن يترك اختيار الألوان للحاج محمدين أو لفؤاد، ومع التجربة ترك لسويلم التصرف جميعا، فقد أصبح يحسن الاختيار كما أصبح على دراية تامة بأذواق السيدات اللواتي يشترين.

صار سويلم قريبا إلى نفس الحاج محمدين وولده فؤاد، فهما يأنسان إليه ويقبلان على حديثه، يجدان النقاء بغير زيف، والرضى بغير شكوى، وقبول الحياة بغير شروط، فقد تعود كلاهما ألا يجدا عند الناس إلا التذاكي مع الغباء، والسخط بغير جهد، والشروط يضعها كل ابن آدم في عقده مع الحياة، وكأن الحياة أمه التي لم تنجب سواه.

في يوم ذهب سويلم إلى محلات الحاج محمدين فلم يجد فؤاد، فاشترى الكمية التي يريدها وجلس إلى الحاج. - ابا الحاج. - خير يا سويلم؟ - أريد أن أقبل يدك. - أستغفر الله لماذا يا ابني؟ - ربنا استجاب لدعواتك لي. - خيرا؟ - نعمات حامل. - صحيح؟ - والختمة الشريفة. - ألف مبروك يا ولد.

ثم نادى: يا سليمان هات ثلاثة أمتار حرير ياباني فستقي، وقيد ثمنها على حسابي ولفها وأعطها لسويلم.

وأشرقت الفرحة في عيني سويلم، فرح بحب الحاج أكثر من فرحه بالقماش وصاح: والله عندي نداؤك السريع على سليمان يساوي مال الدنيا كلها، إيدك أبوسها، أبي مات وأنا عندي سبع سنوات ولحقت به أمي بعد سنتين، وقد يجد الإنسان المال عند الناس، ولكن الحنان الذي أجده عندك يجعلني أنسى يتمي. - أترضى بي أبا يا سويلم؟ - وأين أنا من هذا؟ - يا ابني أنت طيب ولك قبول، وريحك خفيفة وربنا سيوفقك؛ لأنك تجمع إلى كل هذا الذكاء والمهارة. - يا ابا الحاج الناس قد يخرجون المال، ولكنهم يكنزون الحنان لأولادهم. - وأنت منذ اليوم أخ لفؤاد. - فأنا أعظم الناس حظا؛ لأن ربنا عوضني عن أبي بأبوين. - الخواجة فوكيون رجل طيب يا سويلم. - يا سلام يا ابا الحاج، والله لو كان خلفني ما كان يعاملني هذه المعاملة الطيبة، بعد كم شهر أصبحت أنا الذي أبيع وأشتري وأعمل كافة الأشياء، وبعد الشهر الأول لم يعد يحاسبني قط. - الأمانة عمرها طويل يا سويلم يا ابني. - إن يكن أبواي قد ماتا وأنا طفل، إلا أني يا ابا الحاج تعلمت وحفظت القرآن، وربنا أكرمني كل الإكرام حين عرفت الخواجة الذي عرفني بك. - أرضاك الله يا ابني. - ألا قل لي يا ابا الحاج. - نعم؟ - هو حبيبنا فؤاد عمره كم الآن؟ - آه، لا تذكرني يا سويلم. - قارب الأربعين؟ - يفوتها السنة دي. - ولا زال ... - ويرفض حتى أن أكمل معه الحديث فيه. - واذا جعلته يتزوج؟ - كيف؟ - هذا شغلي. - والله يا سويلم أعطيك مائة جنيه. - حد الله، لماذا تشتمني يا حاج؟ أتسحب مني أعز ما أملك في لحظة إعطائه؟ ألم تقل إنني أخو فؤاد؟ - صدقت. - فأنا الذي سأزوجه. - من؟ - اسمع يا ابا الحاج، الزبائن اللواتي يجئن إلى هنا بنات يحاولن أن يوقعنه ويتزوجنه، وبهذا يجعلنه ينصرف عنهن فهو تاجر لسابع جد، ولا يمكن أن يضحك عليه أحد، وأما سيدات من بنات الأثرياء يجئن في السيارات الفخمة ومعهن السائق والزفة، وغالبا يكن مخطوبات أو غالبا تكون قلوبهن مع أصحاب النصيب. - والله يا ابني كلامك كبير. أستمع إليه وكأنني أنا الشاب وأنت الشيخ، إنما يبدو أن عملنا في التجارة يجعلنا لا نفكر إلا فيها، قل يا سويلم. - العمدة في بلدنا الفؤادية. - اسمها الفؤادية؟ - كان اسمها شقلبان وسعينا حتى أسميناها الفؤادية. - عجيبة. - كأننا أسميناها الفؤادية ليتزوج فؤاد ابنك ابنة عمدتها. -كم عمرها؟ - ستندهش. - كم؟ - خمسة وعشرون سنة. - وما الذي جعلها تنتظر؟ - أكملت تعليمها في الجامعة. - الجامعة وهي ابنة العمدة؟ - عقلها يزن بلدا بأكمله. - ولماذا لم تتزوج زميلا لها؟ - القسمة، زملاؤها كن يخفن منها. - أهي ...؟ - إن لم تكن قمرا في تمامه أكون غير جدير أن تقول لي ابني، لقد صمم أبوها أن يلازمها في ذهابها إلى الكلية والعودة منها، الرجل الذي رباها عم حسنين أبو سعفان، وأقامت والدتها في مصر طوال دراستها في الجامعة. - أليس عند العمدة غيرها؟ - اسم الله عليك، وأرادها أن تتعلم كما لو كانت ولدا. - وهل تقبل؟ - فؤاد متعلم. - ولكن لم يتخرج في الجامعة. - بل تخرج في أحسن جامعة، جامعة محلات الحاج محمدين الطوخي وولده.

ويضحك الحاج محمدين: وكيف سيراها؟ - دع هذا لي. - هل أنت جاد؟ - سأخبرك بالموعد في التليفون حتى تحرص على وجود فؤاد بالمحل. - أنا لن أخبره بشيء. - إياك يا ابا الحاج أن تخبره، سنجعل الموضوع وكأن ابنة العمدة قادمة لشراء لوازمها لا أكثر ولا أقل.

ونادى الحاج محمدين مرة أخرى: يا سليمان.

وصاح سويلم في غضب صادق: إياك يا ابا الحاج، إنما أسعى سعي أخ لأخيه، فلا تفسد علي سعادتي وانشراحي. - ربنا يا بني يكتب لك في كل خطوة سلامة وتوفيق، أدخلت الأمل إلى نفسي بعد أن تملكني اليأس. •••

قال سويلم: يا خواجة أنا عندي فكرة. - قل. - الآن المحلات تملأ الزقازيق، والستات إن كن تعودن الشراء منك، فهن لن يلبثن أن يذهبن إلى هذه المحلات، فهن طبعا يردن أن يخرجن، وأن يكون مجال الاختيار عندهن أوسع. - أنا فاهم هذا. - إذن لماذا لا تذهب إلى القرى، نستأجر سيارة ونذهب مرتين أو ثلاثا في الأسبوع إلى البلاد؟ - فكرة عظيمة يا سويلم، ولكن كيف سنحصل مستحقاتنا ونمر على بيوت البندر؟ - وبيوت البندر أين ستذهب، إنها موجودة ولك علي أمر عليها بعد الظهر في الأيام التي نذهب فيها إلى البلاد. - اسمع سويلم، أنا يا بني كبرت، أنا أشتغل حتى لا أكون عاطلا، أنت تذهب إلى البلاد ومعك البضاعة والمكسب بالنصف. - لماذا النصف هل اشتكيت لك؟ أنت لا تؤخر عني طلبا وأنا راض هكذا. - المكسب بالنصف يا سويلم، أنا عندي فلوس كثيرة ولكن أخشى أن أمرض مرضا أكثر من فلوسي، ولا أريد أن أحتاج لأحد، والناحية الثانية لا تنفع فيها الفلوس، أنا أريدك، أريدك أنت ونعمات في البيت؛ لأنني رأيت فيكما الوفاء والأمانة، وأنا أعلم أنني إذا مرضت لن تتركاني للمرض. - يا رجل أعوذ بالله، من الذي أتى بسيرة المرض الآن يا خواجة؟ - الوحيد لا يخاف شيئا إلا المرض سويلم. - وهل أنت وحيد يا خواجة فوكيون؟ - من يوم مجيئك لم أصبح وحيدا. اسمع سويلم أنت من بكرة خذ البضاعة إلى البلاد، طبعا أول بلد سيكون الفؤادية. ••• - صباح الخير يا حضرة العمدة. - أهلا يا سويلم وبسيارة سويلم. أتكون قتلت الخواجة وسرقت فلوسه؟ - لا قدر الله يا حضرة العمدة، الخواجة لمبرو رجل طيب مثل سعادتك يا حضرة العمدة. - وما هذه الأشياء التي تحملها؟ - بضاعة جئت أعرضها على الست الحاجة والأستاذة وهيبة. - ادخل، الحاجة أمك ووهيبة أختك.

كان سويلم قد انتقى أقل الأقمشة شأنا، وتوقع ألا يعجب الحاجة أو وهيبة شيء مما سيعرضه.

الحاجة سيدة وقور لم تتعد الخامسة والخمسين من عمرها، معتدلة القوام تميل إلى النحافة، في وجهها إشراق ترسل به إليه نفس لم تعرف الحقد يوما ولا الكراهية، يحبها أهل القرية حب أم وأخت، لم تتأخر عن خير تستطيع أن تقدمه.

أما وهيبة فهي فتاة طويلة القامة صبيحة الوجه، بيضاء البشرة، ذات شعر مسترسل ينسكب انسكاب الحرير على كتفيها، وعلى شفتيها ابتسامة تمسكها أن تبقى على رغم أنفها، فكأنما تجد الابتسامة نفسها في غير مكانها، فهي تريد أن تهرب وتولي الأدبار، كأنها لا تعرف لوجودها على هذا الثغر معنى ولا سببا، وفي عينيها الواسعتين الوديعتين قلق يريد أن يعلن الدنيا بوجوده، فترده وهيبة في كبرياء الشريفات وفي ثقة المثقفات، وفي وجهها انسياب حلو فلا هو بالمستطيل ولا هو بالمستدير، لها إطلالة تأمر من يراها أن يشعر بالإكبار والاحترام. - أهلا، أهلا يا سويلم. - أطال الله عمرك يا ست الحاجة. - إن شاء الله تكون مبسوطا. - بركة دعائك يا ست الحاجة.

وأفرجت وهيبة ثغرها عن ابتسامة مرحبة مضيئة: لك وحشة يا ولد يا سويلم، والله أحسسنا بفراغ كبير من يوم أن تركت البلد، وكيف حال نعمات؟ - تسلم على ست الحاجة وعليك، وكانت تريد أن تأتي معي لولا أنها ... - ماذا؟ قل؟ - لا تكسفيني يا ست وهيبة. - لعنة الله عليك، وفيم العجلة يا ولد؟ - قلنا نربيهم ونحن شباب.

وقالت الحاجة: على بركة الله، مبروك يا ابني ألف مبروك.

ثم نادت: يا نوادر.

وجاءت نوادر وقالت الحاجة: مائة بيضة وبرطمان عسل أبيض وضعي متردين قشدة في صفيحة، وضعي كل هذا في قفة صغيرة وأعطيها لسويلم وهو مروح.

وقالت نوادر: إذن نعمات حامل. مبروك يا سويلم يا خويا، هل كان العيل واقفا على الباب؟ النهاية تقوم بالسلامة إن شاء الله. - ربنا يبقيك يا ستي الحاجة، أفضالك سابقة والله لا أنسى عطفك علي وبرك بي، منذ تركني أبي وأمي كنت أحس في حضرتك بالأمن الذي لا أشعر به في أي مكان آخر.

وبدأ سويلم يعرض البضاعة، وصح ما توقعه إلا أن الحاجة قالت: والله القطعة هذه لا بأس بها آخذها.

وقال سويلم: طول عمرك طيبة وقلبك من ذهب، القطعة هذه لا تنفعك، لا تنفع الست وهيبة ولا تنفع نوادر حتى، إنما أنت أردت أن أنصرف من عندك مجبور الخاطر.

وضحك الجميع وقال سويلم: هذا القماش لا ينفعكم، وأنا جئت به عندكم لأراكم، إنما القماش الصحيح موجود. - أين؟

وقطبت الحاجة وجهها: أتخون صاحب عيشك يا سويلم؟ ليس هذا ما أعرفه فيك. - الله يعلم المقاصد يا ستي الحاجة، تأكدي أنني أنا كما أنا لم أتغير، فهذا القماش هو ما تبقى من اختيار السيدات، ونحن نعرف زبائنه، ولكنني أفكر في الست وهيبة وقعدتها في البلد، لا تجد شيئا تفعله. - لا تترك الكتاب من يدها. - ونعم، ولكن النفس تحب التغيير، قلت أعملها حجة وأستأذن حضرة العمدة، ونذهب إلى محلات مصر وتشترين حضرتك لوازمك والأستاذة وهيبة لوازمها، وزيارة وتجارة.

وأشرق وجه الأم وابنتها. - والله يا ولد فكرة، والحاج مسعود لن يرفض.

ويدخل الحاج مسعود: ما هذا الذي لن أرفضه؟

وحين علم قال: وما له!

وقال سويلم: أحضر سيارة وآتي يوم الاثنين الساعة السابعة صباحا، نكون في مصر التاسعة. - وهو كذلك. •••

حين تقدم فؤاد لخطبة وهيبة أدرك الحاج مسعود أبو عطوان ما صنعه سويلم، ورحب العمدة بالحاج محمدين وبفؤاد ترحيبا طبيعيا عن سليقة مواتية، وقال: والله يا حاج من جهتي أنا لا مانع عندي، فأنت تاجر معروف، والرجل حين يكون له مثل اسمك في التجارة لا بد أن يكون شريفا يعرف أصول الناس وأصول المعاملة. - أكرمك الله يا حضرة العمدة. - ولكنك تعلم أن وهيبة تحمل الليسانس.

وقاطعه الحاج محمدين: والله يا حضرة العمدة أنا الذي جعلته يقعد بجانبي في المحل، بعد أن حصل على البكالوريا، فنحن عائلة تجار من جدود والعلم عندنا هو التجارة.

قال العمدة: ونعم الكلام يا حاج، ولكنني أسأت التعبير وليس هذا ما أقصد إليه، فإنه لا عيب في ابننا فؤاد، والتعليم وسيلة للثقافة.

وقاطعه الحاج محمدين: هذا كلام الكبار والله.

وواصل العمدة حديثه: والتجارة تجعل صاحبها أعظم في عمله من الذي حصل على الدكتوراه، وإنما ما قصدت إليه أنني لا بد أن أسأل وهيبة وأجعلها توافق عن اقتناع.

وقال الحاج محمدين : ونعم الكلام. - نحن يا حاج لا نستطيع أن نحمل مسئولية أولادنا وهم كبار، يكفينا مسئوليتهم وهم صغار، ولقد أرادت أن تتعلم وأردت لها ذلك في نفس الوقت، وأنا ليس عندي غيرها، وقلت العلم يجعل من عقلها عقل رجل، والآن وقد تعلمت أصبح من حقها على الأقل أن تختار شريك حياتها. - لقد أوصى النبي بذلك في وقت لم يكن الفتيات فيه عرفن الجامعة ولا حتى المدرسة. متى نرجع يا حضرة العمدة؟ - أسبوع واحد؟ - وهو كذلك. •••

قالت وهيبة: أكون ليسانس في الآداب وزوجي رجل البيت بلا شهادة جامعية؟

وقالت الحاجة: يا بنتي هذا زواج وليس جامعة. - يا نينا البيت يجب أن يكون جامعة للأولاد. - البركة فيك أنت، علمي أولادك علوم المدرسة وأبوهم يعلمهم علوم الدنيا.

وقال الحاج مسعود: يا بنتي لقد تقدم لك الكثيرون من أهل البلد حاملي الشهادات، وللأسف وجدتهم جميعا طامعين في القرشين، أو يريدون أن يتزوجوا بنت العمدة، والمال زائل والعمودية زائلة، لقد كنت مصرا أن يتزوجك من يريدك أنت، وأنت وافقتني ورفضت كل الذين تقدموا، في هذه المرة العريس عاقل وفي غنى عن مالنا، وعرف الدنيا، وجاء يخطب وهيبة، لا يهمه مالها ولا عمودية أبيها، والأمر من قبل ومن بعد لك، قومي يا حاجة واتركيها تفكر. •••

وفيم أفكر، أخطأني الحب، زميلي عزام أحببته وأحبني، لم يزد الكلام بيننا عن جمل تعد على أصابع اليدين، وتركني بعد أن ضاقت به السبل، والحمد لله أنه تركني، لقد تزوج بعد ذلك من ابنة عمه، فهو شاب لا شخصية له، أمره أبوه أن يتزوج فتزوج، ورجل بلا شخصية كالكلام بلا معنى، والأيام تجري، وإن كنت أخفي القلق عن الناس، فهو يمور في نفسي ويثور، يفترسها وينهشها، يقض مضجعي، يحيل ساعات أيامي رعبا وهلعا، أي مصير يمكن أن ألقى إليه إذا لم أتزوج، ولا أخ ولا معين على الحياة بعد أبي أطال الله عمره، هذا زواج منطقي لا عاطفة فيه، والعاطفة لا تغتصب ولا يستطيع أن يخلقها إلا بارئ النفوس، وأين أنتظر العاطفة وأين مني الطرف الآخر فيها وأنا حبيسة البيت، فقد رفض أبي أن أعمل بالليسانس وهو محق، فقد سبق عصره حين جعلني أتعلم، وهو الفلاح القح تحكمه القرية بكل أوضاعها، وقد ارتضى على نفسه تشنيع أعدائه، وأي عمدة بلا أعداء، ومن المستحيل عليه بعد ذلك أن يجعلني أعمل أيضا، وكيف كان يمكن أن أعمل؟ ألم يكف أنه شتت بيته أربع سنوات من أجلي، وسمح لأمي أن تلازمني في القاهرة، وهل يمكن أن يشتت بيته عمره كله، أنا لا أستطيع أن ألومه، وليس من المعقول أن أضع ما أصابته مني ظروف المجتمع على كتف أبي، إن تعليمي كان في ذاته شذوذا عن طبيعة الأمور في حياة مصر، فهل يقبل المنطق أن ألوم أبي اليوم لأنه حقق رغبتي في التعليم؟ أعرف أنها كانت رغبته أيضا لأنه يريد أن يشعر أن ابنته لا تختلف عن الرجال في شيء، أويحسب هذا له أم عليه؟

ترى هل استطعت أن أخفي قلقي عن أمي، هيهات، إن قلقها هي أشد، وأبي أيضا يريد أن يطمئن إلى وجود رجل إلى جانبي، وفؤاد يكبرني بعدة سنوات، ولكن أليس هذا هو الرجل الذي يطمئن إليه والدا البنت الوحيدة، إنهما يريدان رجلا عرف الحياة وعركها، ليكون زوجا وسندا، ولا يهمهما كثيرا أن تتمتع ابنتهما بضع سنوات بزواج شاب يجرب الحياة، ولا يدري من أمرها شيئا، فهو يقدم عليها إقدام الجهلاء الذين يخيل إليهم أنهم أعلم الناس بكل شيء، أما أنا فقد كنت أتمنى شابا نتعرف معا على الحياة، ونخطئ فيها ونصيب، فأغلب الأمر أن فؤاد على الرغم من عدم حصوله على الشهادة العالية، سيكون بالنسبة لي أقرب إلى المعلم، فأحسب أنني قرأت ما يكفي لأن يجعلني أعرف أنني في علم الحياة لن أدري الألف من الباء.

أيهما خير لي، أن أدلف إلى الحياة معصوبة العينين لا أحمل إلا علم الكتب، أم أن أسعى إليها ويميني معتمدة على رجل تمرس بها وعرفها وعرفته، أيهما خير؟

وهل يدري أحد أين الخير؟ إننا نتحسب ونقارن ونزن الأمور بقدر ما تسمح لنا عقولنا، ثم يقع الغيب كما قدر له الله أن يقع. •••

وتم الزواج.

الفصل الرابع

مرت سنوات وعرفت الشيخوخة طريقها إلى لمبرو، وأصبح سويلم يقوم بكل العمل، واكتفى لمبرو بتسلم النقود والجلوس في محل مارك أخي زوجته المرحومة أتينا، ثم بدأ يتخلف عن الجلوس يوما أو يومين في الأسبوع ثم ثلاثة، فرحا بمداعبة مجدي بن سويلم، وحين ذهب مجدي إلى المدرسة كان لمبرو حزينا في وحدته على رغم وجود نعمات بالبيت، فقد تركت العمل ببيت عدلات هانم قبيل ولادتها، وما لها أن تعمل خادمة وقد أصبح العيش ميسورا لها غاية اليسر.

لقد جعل لمبرو منها ومن زوجها أسرته، وكان فرحه بمجدي أعظم من فرحة أبيه وأمه، فقد حقق صراخ الطفل في بيته أملا لم يتصور في يوم من الأيام أنه سيتحقق. كان مجدي بالنسبة لأبويه فرحة الشمس تهم بالشروق، وكان بالنسبة إلى فوكيون لمبرو أمل الشمس تهم بالغروب، فهي تودع الحياة ولا تنتظر منها شيئا.

كان مجدي لأبويه أمرا طبيعي الحدوث، وكان لفوكيون أمرا مستحيل الوقوع، وإن لم يكن ولده. نعم وإن، وقد أسماه هو مجدي لا فهما منه للاسم، ولكن ليكون نطقه سهلا على لسانه الأعجمي.

تحمل لمبرو ذهاب مجدي إلى المدرسة في ضيق شديد، ثم ما لبث المرض أن داهمه، وأصبح من العسير عليه أن يترك الفراش، ولكنه هانئ البال مطمئن، فسويلم يقوم بالعمل، ونعمات مقيمة بالبيت، لم يفكر واحد منهما أن يتركه وحيدا مع مرضه.

وفي يوم عاد سويلم إلى البيت مبكرا بعض الشيء، فلم يجد الخواجة في حجرته. - نعمات أين الخواجة؟ - أليس في حجرته؟ - ما هذا الغباء، أكنت سألت؟ - لا أدري. أنا في المطبخ من الصبح. - هل تناول إفطاره؟ - نعم وتناول الدواء، وكانت صحته طيبة، وترك السرير ليجلس على الكرسي، وتركته أنا وذهبت لشراء الغداء وعدت إلى المطبخ مباشرة، وقلت في نفسي إذا أراد شيئا سيناديني.

ولم يطل النقاش فما لبث لمبرو أن جاء وسأله سويلم: أين كنت؟ - كنت في البنك أسحب قرشين. - ولماذا لم ترسلني مثل كل مرة؟ - اشتقت أن أرى أصدقائي هناك، ووجدت نفسي أريد أن أخرج. - أرجوك يا خواجة، إذا أردت أن تخرج مرة أخرى أخبر نعمات. - طيب، ولو أنني لا أظن أنني سأخبرها. •••

مر على هذا النقاش شهر وبضعة أيام، ثم نادى الخواجة سويلم قبل أن ينزل في الصباح: أين ستذهب اليوم؟ - اليوم لن أمر على بلاد، سأمر على زبائن الزقازيق. - ليس مهما. - لماذا؟ - أنا أريدك. - فيم؟ - اجلس. خذ. - ما هذا؟ هذا شيك أبيض، لماذا لم تكتبه؟ - في هذه المرة أنت ستكتبه. - لماذا؟ أكتبه؟ أنا في حياتي كلها لم أكتب شيكا. - اليوم ستكتب. - أنحبس. - لن تنحبس. - أنا يا خواجة لولاك ما ذهبت إلى البنك في حياتي أبدا. - ستذهب بعد هذا كثيرا. - لا أفهم. - اسمع. أنا ذهبت إلى البنك آخر مرة لأضع أموالي كلها باسمك يا سويلم. - ماذا؟ - ولا كلمة. - ربنا يا خواجة يبقيك، أنت لا تجعلنا نحتاج لشيء. - ولما أموت؟! - علمتني السوق ويكفيك هذا. - ومن يأخذ فلوسي؟

وألجم السؤال سويلم وراح يتهته. - أنت تأخذ هذه الفلوس، هذا حقك، أنا ليس لي أحد في الدنيا، خمسة وعشرون ألفا وأربعمائة جنيه. - يا خبر أسود. أبيض! وماذا أصنع بهذا جميعه؟ - هذا شأنك، وإن كان لي رأي فأنا أرى أن تذهب إلى مصر. وربنا إن شاء الله سيفتح عليك، أنت معك فلوس وتعرف السوق. - ربنا يطيل عمرك. والله أكذب عليك إن قلت إنني لست سعيدا، ولكن هذا كله لا يعوضني عنك يا خواجة، يا أبويا لمبرو. •••

وبعد أيام لم تكتمل شهرا مات لمبرو.

الفصل الخامس

كان طبيعيا أن تزداد الصلة توثقا بين سويلم والحاج محمدين وفؤاد وأسرته الجديدة، وهكذا لم يكن غريبا أن يفرح سويلم فرحا صادقا، حين أنجبت وهيبة ولدها الأول فكري بعد تسعة أشهر من زواجها، وحين حمل الهدية إلى بيت الحاج محمدين حيث يقيم فؤاد ووهيبة لم ينس أن يقول: بينه وبين مجدي عام واحد، وإن شاء الله الحب الذي بيننا يستمر في ولدينا.

وحين مات الخواجة لمبرو بعد ذلك بسنوات لم يكن سويلم قد أطلع الحاج محمدين بما صنعه معه الخواجة لمبرو.

صفى سويلم أعماله بالزقازيق وأقفل شقة الزقازيق، مستبقيا لها لتكون سكنا له إن جاء إلى الزقازيق، وقد نقل العقد إلى اسمه دون أن يجد أي عراقيل من الخواجة مارك صاحب العمارة، واستنتج من ذلك أن الخواجة لمبرو لم يخف عن مارك ما فعله.

وفي القاهرة نزل مع زوجته وابنه في فندق، وتركوا الحقائب واتجهوا من فورهم إلى بيت الحاج محمدين، وحين استقرت بهما الجلسة قص سويلم على الحاج وفؤاد ووهيبة ما صنعه الخواجة، وكان الحاج في شيخوخته ومن العسير على أحد أن يجعله ينبهر لشيء أو يندهش، ولكنه لم يستطع مع حديث سويلم إلا أن يسفر عن ذهول ساطع: ألف مبروك يا سويلم، ولماذا أخفيت علي هذا؟ أنت تعلم كم يفرح له هذا البيت؟ - يا آبا الحاج الأمور تلاحقت كأنما حلم متصل، أنا لم أكن أدري شيئا على الإطلاق، ولم أكن أتصور، إلى أن فاجأني المرحوم بهذا الخبر قبل وفاته بأيام لم تكتمل شهرا، ومرضه جعلني ألازمه ملازمة تامة، وربما احتاج العمل أن أحضر إلى القاهرة، ولكنني امتنعت خشية أن يظن الرجل أنني لم أعد أعنى به بعد أن تنازل لي عن أمواله، وربما خشيت أيضا أن يظن أنني تركته لأحضر إليك خصيصى وأخبرك بما كان، فيشعر كأنني كنت أنتظر ما صنعه أو أتوقعه، والحقيقة يا حاج أنني منذ قال المرحوم ما قال وأنا في ذهول، أنا رجل فقير يا ابا الحاج وهذه المبالغ نسمع عنها ولا نتصور أن نتعامل معها أبدا.

وقال الحاج: أنت رجل طيب يا سويلم، وقد بقيت وفيا للرجل، وقدر هو معروفك وأمانتك.

وقال فؤاد: والله إنك تستاهل أكثر من هذا.

وقالت وهيبة: الوفاء والأمانة في هذا الزمن يستحقان ما نلته يا سويلم.

قال سويلم: الرجل قال لأقاربه حتى لا يسألني أحد، وكتب ورقة قال فيها إنه لا يملك شيئا على الإطلاق يحميني بها من الضرائب ومن الجميع.

وقال فؤاد: وماذا تنوي أن تفعل؟ - وهل فكرت؟ وهل أدري؟ ها أنا ذا جئت لكم وأنا ليس لي أهل إلا أنتم.

ونظر فؤاد مليا إلى سويلم ودار بعينيه في الجالسين، كان الطفلان يلعبان في حجرة أخرى فقال فؤاد فجأة: وهيبة ألا تأخذين قريبك وزوجته إلى حجرة مكتبك، وتأمرين لهما بفنجان قهوة آخر. واجعليه سكر زيادة مثل الشربات.

وضحكوا وفهمت وهيبة الإشارة التي لم تخف عن سويلم ونعمات، وقام ثلاثتهم وانفرد فؤاد بأبيه ولم يطل انفراده به ثم نادى: وهيبة، تعالوا.

وحين جلسوا قال فؤاد: أبوك الحاج سيأخذ منك خمسة آلاف جنيه.

وابتسم سويلم: والمبلغ كله والله العظيم وأنا الكسبان وهذا هو الشيك.

وضحك الحاج محمدين في سعادة وانشراح، وقال له: اكتب الشيك.

وفعلا كتب سويلم الشيك وسلمه للحاج، وأمسك الحاج به وراح يهزه: هكذا دون أن تسأل لماذا أو فيم أو تطلب إيصالا؟ - أتريد أن أكتب شيكا ببقية ما أعطاه لي الخواجة، وبدون إيصال أيضا وحياة مجدي.

وضحك الجميع وقال فؤاد: أطال الله لك عمره، ما لك كسلت بعده ولم تأت بأخ؟ - أخ. أفهم من هذا أن الست وهيبة حامل. - العقبى لنعمات. - ألف مبروك. - ألف مبروك، سويلم لا يريد أن آتي لمجدي بأخ أو أخت.

وقال الحاج: ربما غير رأيه الآن بعد أن صار من الأغنياء.

وقال سويلم: لا والله يا حاج، الأمر وما فيه أنني أريد أن أكرس حياتي كلها لمجدي، وبالعكس بعد ما جاءتني هذه الثروة أصبحت أتصور أنها حقه هو، ولا يجوز أن يشاركه فيها أحد. - ربنا يبارك فيه، اسمع إذن الكلام المفيد، بجانب محلاتنا أنا وأخوك فؤاد لنا مخزن بابه مقفل، لم يعد له لزوم عندنا الآن، بعد أن اشترينا مخزنا كبيرا واسعا في السيدة زينب. - شيء لله يا رئيسة الديوان. - ربنا يجعلنا من بركاتها، هذا المخزن وصل ثمنه أمس إلى ستة آلاف جنيه، أنا بعته لك بخمسة آلاف، وأنت وفؤاد تتحدثان بعد هذا على مهلكما في كيفية فتح محل لك بجانب محلاتنا، وبذلك تكون محلاتنا قد زادت بابا ، فمحلك محل جديد لنا، وعلى بركة الله اكتبي العقد يا ست وهيبة.

الفصل السادس

بدأ سويلم تجارته الثابتة واحتفل به الحاج محمدين وابنه فؤاد، وبذلك أعلنا للحي أجمع أن التاجر الجديد ليس منافسا وإنما هو واحد من الأسرة.

ولكن الأيام تأبى أن تمضي في مجرى واحد لها، ولكل حياة غاية، وكانت حياة الحاج محمدين قد بلغت غايتها، واختاره الله إلى جواره قرير العين بابنه وبحفيديه فكري وإلهام وبعائشة ابنته وأبنائها وبناتها الذين أصبحوا أربعة نفر.

قريرا بذلك الفتى الذي عرفه فلاحا قادما كعود أخضر من بلده بالشرقية، حتى صار أحد تجار المنطقة موفور المال عزيز النفس كريما على نفسه وعلى الناس.

ذهب الرجل في موعده إلى لقاء الحي القيوم، وترك الدنيا وقد حققت له من المال ما نظر إليه. •••

البيت منذ اللحظة الأولى لم يعجب وهيبة، ولكنها لم تشأ أن تدخل بيتا فتشتت شمله وتفرق جمعه، وسويلم أقام بعد أيام من قدومه في شقة صغيرة اعتبرها مسكنا مؤقتا، فلم يكن غريبا أن تدعو وهيبة سويلم وزوجته إلى الغداء حين الطفلان في المدرسة، وبعد الغداء يتضح ما تبيته وهيبة. - صلوا على النبي جميعا. - وعليه ألف صلاة وألف سلام. - هذا الغداء غداء عمل.

وقف فؤاد في حركة سريعة ذكية: الله أكبر، ستغير بيتك يا سويلم.

وصفقت له وهبية: ما هذا الذكاء؟

وضحكوا جميعا وقال سويلم: هل سأغير بيتي وحدي؟

وقال فؤاد في استسلام: أنا كنت أعرف مصيري وليس في الأمر مفاجأة لي، أما أن تدعوك أنت ونعمات، فهي إذن قد بيتت أمرا لي ولك ووقعتنا ...

ويقاطعه سويلم: بيضاء إن شاء الله، قولي.

وقالت وهيبة: أنتما تاجران، أليس كذلك؟

ويقول فؤاد: المقدمة مخيفة يا ولد يا سويلم.

وتقول نعمات: يا أخي انتظر حتى نرى ماذا تريد الشابة أن تقول.

وتقول وهيبة: قولي له والنبي، بدلا من أن ننتقل إلى شقة بالإيجار أنا وجدت عمارة بأكملها في المعادي.

ويرين الجد على الحاضرين ويأخذ الرجلان في التفكير، وبعد صمت ليس طويلا يقول سويلم: لمن العمارة هذه؟

وتقول وهيبة: نشتريها معا.

ويقول سويلم: أما أننا أخوة فهذا لا شك فيه، لكن المشاركة في الملك ليست مشاركة بيننا نحن، وإنما مشاركة بين أبنائنا، مثلا أنا شايف أصدقاء فكري غير أصدقاء مجدي، ونحن حين نشتري ملكا إنما نشتريه لهم.

ويقوم فؤاد ويقبل سويلم: أنت رجل بعيد النظر وصادق الأخوة، وربنا أعطاك الذكاء من عنده.

وتصمت وهيبة لحظات ثم تقول: وأنا أيضا يا ستي، فؤاد لا يقل عنه ذكاء وكنت عارفة أنه سيقول هذا، وإنما خشيت أن أقول إن العمارة لك وحدك فيظن أننا نبعده عن صفقة تجارية رابحة، وعلى كل حال أنا دبرت الأمر، أو أعتقد أن ربنا دبرها من عنده أحسن تدبير، عمارة كبيرة بها شقتان متجاورتان سنفتح إحداهما على الأخرى، ويكون هذا سكننا نحن يا أبا فكري وأبا أخته إلهام، وفي الشارع الذي خلفها مباشرة عمارة صغيرة محندقة لأبي مجدي.

ويصيح فؤاد: بكم؟

وتقول وهيبة: أنت ستبيع البيت وتعطي عائشة نصيبها، وأنت يا سويلم تستطيع شراء العمارة المحندقة بكل سهولة إن شاء الله.

ويقول سويلم: ما رأيك يا نعمات؟

وتقول نعمات في إيمان: توكل على الله.

وتصيح وهيبة: يحيا التوكل على الله، وقد عزمت على بركة الله أن أتولى تعليم مجدي مع فكري طول فترة الدراسة حتى الثانوية، هذا بالنسبة لمن يختار منهما القسم الأدبي، ما دمنا قد أصبحنا جيرانا في البيوت فمن حق مجدي هذا.

ويصيح فؤاد: أنت اشتريت وبدأت تعطي دروسا.

وتقول وهيبة: نعم.

ويقول فؤاد في تحد مازح: طيب روحي ادفعي الثمن إذن.

وتصيح وهيبة: وهل كنت أنتظر أوامرك؟ لقد دفعت العربون وحياة والدك.

ويذهل فؤاد: من أين؟ - من مهري الذي دفعته لأبي، ربنا يطيل لي عمره أعطاه لي جميعا، ولم أنفق منه شيئا ودفعته عربونا.

ويضحك الجميع ويقول فؤاد: تجعلينني مدينا رغم أنفي.

وتقول وهيبة: خيرك سابق يا أبا فكري لا ترد الدين إذا شئت، وما البأس أن يكون لي طوبة في عمارتك دفعت ثمنها ولا يهمك.

ويعم نوع من روح الأسرة الأمين على الجالسين، ويسارع فؤاد: اسألها يا ولد يا سويلم ربما تكون قد دفعت لك العربون أنت الآخر.

وتقول وهيبة: يا ليت والله لو كان عندي ما تأخرت.

ويقول سويلم: وأين هاتان العمارتان في المعادي؟ - أليست سيارتك هنا يا فؤاد؟ هيا بنا نتمم كل شيء. معك دفتر شيكاتك يا سويلم؟ - توكلنا على الله.

الفصل السابع

يمر اليوم بطيئا وتجري السنوات سراعا، تمضي الدراسة بفكري ومجدي متزاملين سنوات قليلة، ثم ما يلبث فكري أن يتخلف، ثم يتخلف حتى يصبح التخلف ديدنه وطبيعته، ومنذ تخلف أول مرة توقف مجدي أن يذهب إلى عمته وهيبة كما كان يناديها، ولكنها هي أصرت أن تستمر في المذاكرة له. - واحد خائب لا داعي أن يخيب اثنان.

وربما استطاعت أخته إلهام أن تخفف بنجاحها المطرد وطء خيبة فكري.

وكانت وهيبة تقول: الخيبة هذه لا قاعدة لها ولا أصول، أنا ربيت فكري ومجدي وإلهام، وربما كنت أكثر اهتماما بفكري فهو ولدي الأول، والإنسان إنسان وليس ملاكا، ومع ذلك فاز هو بالخيبة والآخران ناجحان والحمد لله.

وعلماء التربية يقولون البيت وثقافة الآباء والاهتمام والبيئة ووجع الدماغ. كلام كله فارغ وإلا فليفسر لي أعظم عالم في التربية سبب خيبة فكري ونجاح أخته وقريبه الذي يعيش معهما نفس الظروف، وحياتك يا أختي الخيبة موهبة من عند الله، أنا عندي ليسانس آداب وكان المفروض أن أصبح مدرسة. كل كلام علماء التربية لا يساوي قرشا.

ولم يكن كل هذا وغيره كثير ليؤثر في حرص فكري على التخلف في الدراسة مع الذكاء العقلي المفرط، فقد كانت المذاكرة بالنسبة إليه كارثة من الكوارث الكبرى، وفي غير ذلك هو فتى مولع بكل ما يولع به أبناء سنه من رياضة وألعاب وبنات وفسحة، قريب إلى قلوب أصحابه يحبون صحبته ويسعون إليها.

ومن بين هؤلاء تعرف على حمدي الفنجري وعلى هشام دردير. أما الأول فأبوه كان نجارا وله محل صغير للموبيليا والتنجيد، وأما الآخر فأبوه مدير عام بالسكة الحديد، وكون هذا الثالوث وحدة لا تنفصم، ولم يقطع فكري صلته بمجدي كل القطع، إلا أن انصراف مجدي إلى المذاكرة في أوقاتها جعل الصلة بينهما هينة، فمجدي صديق الثالوث كلما أراد أن يروح عن نفسه أو يذهب إلى السينما أو إلى النادي.

وحين وقعت أحداث 67 كان أثر الأحداث على مجدي مروعا، أما الثلاثة الآخرون فإن الأمر لم يهز لهم أي كيان، وإنما اضطر ثلاثتهم أن يتظاهروا بالحزن مع الحزن العام الذي زلزل الجميع.

وفي انتصار 73 كانت الدنيا كلها إشراقا في عيني مجدي، بينما الدنيا كلها لم يتغير منها شيء عند الثالوث الآخر.

إنهم جميعا أبناء جيل واحد، ولكن هيهات أن تتوحد المشاعر في أبناء أي جيل، حتى وإن توحدت بينهم الظروف البيئية، إنما تتشابه هذه المشاعر إذا كان الوعي الثقافي متقاربا في أفراد الجيل، فالذي شعر به مجدي شعر به أصدقاؤه في كلية الهندسة، لا يكاد يشذ عنهم إلا قلة نادرة تقاذفتها آراء متطرفة أو أفكار لا استواء لها، ولكنهم يظلون مع ذلك قلة نادرة لا تكاد تذكر.

أما فكري وصاحباه ومن كان مثلهم فهم في عالم خاص بهم، بعيد كل البعد عن دنيا الوطن، وعن فرح زملائهم في المدرسة.

يبدو أن الأجيال ليست سنوات ينتسب إليها أبناء الفترة الواحدة، ولكنها قدر من التثقيف إذا تقارب فيه الأفراد كونوا وحدة الجيل. •••

كانت إلهام في السنة الثانية من كلية الآداب، وكان من الطبيعي أن تسبق أخاها الأكبر، فهي لم تتخلف مطلقا في دراستها، وقد أخذت الفتاة عن أمها شعرها الناعم المنساب، وأضافت إليه عينين واسعتين سوداوين وقواما دقيقا، فهي رقيقة القسمات وادعة الملامح، عيناها تطلع هانئ، مطمئنة إلى المستقبل، لا يعرف القلق إلى نفسها سبيلا إلا ذلك القلق الجميل، الذي يصاحب تلك السن التي تنهد من المراهقة إلى الشباب.

كانت إلهام تشعر أن أمرا ما تدبره أمها مع نعمات أم مجدي، ولم يكن هذا بالذي يخفى عليها، ولكنها كانت تتظاهر أنها لا تفهم شيئا، وهي تتغابى في ذكاء نافذ عن الإشارة من أمها أو التلميحة من خالتها نعمات. •••

حين سكن سويلم عمارته الجديدة كان من بين شققها شقة مفروشة، كان صاحب العمارة يؤجرها لخبير ألماني، وحين انتهى عقدها اتفق سويلم مع زوجته على أن يمدا العقد لخمس سنوات أخرى، ثم يجعلا هذه الشقة سكنا لابنهما بعد تخرجه وزواجه.

وكان بالعمارة أسرة توطدت صلتها بنعمات وسويلم، كان الوالد موظفا كبيرا في البنك الأهلي، وكان له ابنة توفيت عنها والدتها منذ خمس سنوات، وتزوج هو بعدها بزوجته الحالية، أما البنت فاسمها سميحة، وكانت في سن إلهام وكانت زميلتها في الكلية، أما زوجة أبيها فهي الست فوزية وكانت طيبة النفس، تعامل ابنة زوجها أحسن معاملة، وقد أنجبت لزوجها الأستاذ فريد عبد القادر ابنه علي، وألحقه بابنته الطفلة هناء.

تعرفت الأسرتان وتزاورت السيدات، ونقل سويلم حسابه إلى فرع البنك الأهلي بالجيزة، حيث يعمل فريد عبد القادر. •••

كيف ينشأ الحب ولماذا؟ إنه مشاعر لا منطق لها ولا عقل ولا مقدمات، كانت سميحة صبيحة الوجه ولكن الأمر الذي لا يختلف في شأنه اثنان، أن إلهام كانت أجمل منها بكل مقاييس الجمال، هذه المقاييس التي تواضع الناس أن يجعلوا منها قواعد يعطون على أسسها جوائز الجميلات، ولو أن إنسانا رأى الفتاتين دون أن يكون في نفسه هوى إلى واحدة منهما لحكم من فوره أن إلهام أجمل، كانت سميحة مستديرة الوجه في براءة وطيبة، في عينيها حزن يكسبهما الحنان الإنساني الشريف، وكانت رشيقة القوام تميل إلى الطول بعض الشيء.

حين رآها مجدي أول مرة رآها في العمارة أحس نحوها بإعجاب، وقد كانا طفلين معا فلم يكن غريبا أن يضم ملعبهما أطفال العمارة جميعا، وفي سن الطفولة الناعمة هذه يبدأ نوع من الحب الذي لا مثيل لطهره على الأرض، كنسمة من نسائم الجنة، أو كنبضة من نبضات الإيمان، أو كتسبيحة متبتل في محرابه أو كهيام متصوف في نجواه، الابتسامة عند الطفل المحب دنيا، والهمسة حياة، والحدب خطرة من روح الله، فإذا خلا الطفل بحبيبته فهذا جميعا وأكثر، ويشب الحب مع الطفل لحظة بلحظة وهمسة بهمسة، فإذا بلغ الشباب اندلع الهوى براكين وهزيم رعد ورياح عواصف، لولا الحياء والدين والخلق لاجتاح لا يبقي، ولاندفع لا يتوقف، ولأعلن عن نفسه للعالم أجمع.

نشأ هذا الحب بين مجدي وسميحة، قالاه وهما طفلان في كرة يختارها هي لها حين كانا يتراميان بالكرة، وقالاه ابتسامة لقفتها ابتسامة في خفية عن عيون الصبية، وقالاه سؤالا عن امتحان لقية سؤال عن امتحان في همسة خبيئة عن الآذان، وقالاه وهما شباب أحبك استقبلتها أحبك، واندلعت ألسنة الهوى وتعالت أمواجه، والفتاة على أبواب الجامعة، والفتى في السنوات الأولى منها، وفي كل عام يمر يزداد الهوى اشتعالا، فالأمل كلما اقترب من التحقيق ازدادت ملامحه قوة وتبينت معارفه، حتى كأنه تم وتوضحت معالمه، فهو بعد ليس أملا وإنما فعل حدث، إن لم يكن فعلا ماضيا فهو فعل حال يتشكل واقعا.

تخرج مجدي في كلية الهندسة، وأقام أبوه ليلة فرح كبرى، ودعا كل أصدقائه من التجار ومن سكان العمارة ومن الجيران.

وشاء الله الرحيم بعباده أن يحصل فكري في نفس العام على الثانوية العامة، فكان فرح فؤاد به أكثر من فرح سويلم بتخرج ابنه، فقد كان فؤاد واثقا أن الثانوية العامة هي نهاية المطاف بالنسبة لفكري، وكان يكاد يقطع أن ابنه لن ينالها عمره كله، وقد هدأت نفسه إلى هذا واطمأنت إليه لا يداعبها أمل مهما يكن ضعيفا، أن يخيب فكري ظنه ويحصل على الثانوية العامة، وقد كان يريده أن يكون تاجرا مثله، لكن التجارة لم تعد مثل هذه الأيام الناعمة التي بدأ فيها هو ممارسته للتجارة، إن التجارة أصبحت مسبعة وحوش ضارية، وصارت أيامها فتاكة تلتهم الغافل التهاما، حتى لا تبقي فيه من باقية، أو ترفعه إلى سماوات لم يحلم تجار الأزمان الماضية مجتمعين أن يصلوا إلى جزء ضئيل منها، وأين العشرات والمئات التي كانت تلقيها الأفواه من التجار في حرص شديد، وبعد أخذ ورد وتفكير وتدبير من كلمة مليون وعشرة ملايين ومائة مليون، يلقيها تجار ما بعد أكتوبر وكأنهم يلقون تحية سلام فاترة لا تعني شيئا.

إذا لم يكن فكري على قدر مهما يكن ضئيلا من العلم النظري، فكيف يمكن أن يكون له مكان أي مكان في ميدان الوحوش هذا.

إن فؤاد بدأ حياته في السوق صغيرا وعرف الخوافي البعيدة من أسراره، فحين استشرى السوق ودخلته النسور الضارية، كان هو قد أصبح حاد الأظافر مثلهم، يجرح إن جرحوا ويهادن إن هادنوا.

وقد أدرك في ذكاء واع أنه لو ترك تجارته التي تعلمها منذ شبابه الباكر أصبح أعمى وسط مبصرين لئام، فأصر أن يبقى في تجارته لا يتركها إلى أي نوع آخر من التجارة.

ولكنه يعلم علم يقين أنه إن كان قد ازداد مع الأيام خبرة في التجارة ومراسا بالسوق، إلا أن هذه الأيام نفسها قد جعلته شيخا لا تهب له من الصحة ما كنت تهب ولا من النشاط ما تعود أن يجده، وقد كان يريد من ابنه أن يعينه على سنه وصحته، وإذا ابنه يزيد سنه ثقلا وصحته وهنا، وإذا الرعدة لا تتولاه إلا حين يذكر ولده، وقد حاول بالعنف فأخفق وباللين فازداد إخفاقا، فقال لنفسه اعمل وما عند الله يكون، وعمل، وإذا بالسوق ينقلب من هذا الميدان الذي مرن عليه وعرف دروبه ومنحنياته، وكل مرفق من مرافقه أو ثنية من طرقاته، إلى ميدان آخر قاتل سفاك لا يبقي ولا يذر، وإذا الأثمان تشتعل فهي حريق ما تسامع الناس بمثله، ولا تصور أحد أنه سيسمع بمثله أبدا، وكما تصبح السوق فاجرة متوحشة يصبح الغني فاجرا متوحشا.

ولا يتخلف فؤاد وما تخلف سويلم عن هذا الغنى، ولكن كليهما أدرك في ذكاء أنهما إذا تخطيا عتبة ميدان الأقمشة الذي يعرفانه أصبح كلاهما عدما، والربح كما يكون بالملايين تصبح الخسارة بالملايين أيضا.

قال فؤاد لابنه فكري: مرحبا بك في دكان أبيك وأجدادك. - ماذا تقصد؟ - أقصد أننا عائلة ربنا خلقنا للتجارة وليس لنا مهنة غيرها. - ولكن الجيل اختلف يا بابا.

وتدخلت وهيبة: يمكن أن يختلف الجيل ولا نختلف نحن، واضح أن ليس لك أي ميل للتعليم يا فكري. - يا نينا أنا حصلت على الثانوية العامة وفي الجامعة الأمر يختلف. - المسألة ليست مسألة ثانوية عامة وجامعة يا فكري، المسألة أهم من هذا بكثير أنت لا تحب القراءة. - كل زملائي لا يحبون القراءة. - إذن فلمن يكتب الكتاب يا ابني؟

وقال فؤاد: يا ابني نحن عائلة تجار. - أتكون أمي من حملة الليسانس و...

قاطعته وهيبة: المسألة استعداد يا فكري. - نجرب يا نينا. - نجرب.

وأسرع فؤاد متدخلا: نجرب ماذا يا وهيبة؟ - انتظر يا فؤاد، ماذا تريد أن تجرب يا فكري؟ - أدخل الجامعة. - أي كلية تريد؟

وانقطع الحديث ولم يجد فكري شيئا يقوله إلا: ليكن معهدا مثلا.

وقالت وهيبة: أي معهد تقصد؟ - أي معهد؟ - إذن فأنت لا تهوى دراسة معينة. أنت تريد مجرد شهادة؟ - حتى أكون مثل زملائي. - أيمكن أن يكون هذا هدفا في ذاته.

ووجد فؤاد الفرصة سانحة: فكري يا ابني أتريد حقا أن تكمل الدراسة وتذاكر؟

ووجم فكري لحظات ثم قال في لعثمة: كنت أقول أجرب. - كنت تلف علينا يا بني حتى تقول لنا بكرة إننا نحن اللذان منعناك من الجامعة أو التعليم العالي؟ - لا والله أبدا يا بابا. - لا. إذن فاسمع: أنا مستعد أن أوافق على دخولك الجامعة، بل أنا أرحب بذلك كل الترحيب، وأكثر من هذا إذا كان مجموعك لا يدخلك جامعة القاهرة فالعالم كله مفتوح أمامك، اختر أي كلية في العالم تريد أن تدرس فيها، وأنا مستعد أن أقدم كل ما تريد من أموال. - في الخارج؟

وقالت وهيبة في استنكار: في الخارج يا فؤاد؟

وقال فؤاد: في الخارج، فقط بشرط واحد.

وقال فكري: أي شرط؟ - كل المصاريف التي ستنفقها ستخصم من التركة، ما ذنب إلهام أن تكلفها أنت الألوف؟

وصمت فكري قليلا واستمر فؤاد: اسمع. أنت لا شك يتهيأ لك أنني أكسب الملايين مثل تجار اليوم لأنك تعيش عيشة مستريحة وتسمع الأرقام الخيالية عن مكاسب التجار، ولكن الأمر بالنسبة لي مختلف كل الاختلاف، أنا أتاجر بشرف، ولم أدخل في عملية واحدة خارج عمليات القماش التي أعرفها، فأنا أكسب والحمد لله، ولكن المكسب الطبيعي، وأنت منذ الآن تستطيع أن تطلع على حساباتي. - حضرتك غلطان. - أترى هذا؟ - كل التجار اليوم يعملون في كل ميادين التجارة. - مجانين والمستقبل أمامهم مظلم وبكرة أفكرك. - الحقيقة يا أبي أنك شريف أكثر من اللازم. - الحقيقة أنه ليس هناك شريف أكثر من اللازم وشريف أقل من اللازم، هناك شريف وغير شريف. - تعرف رفعت الفنجري أبو حمدي؟ - نعم أعرف ماذا ستقول، بل إن مصر كلها تعرفه، إعلاناته تملأ التليفزيون، وأصبح له أربعة محلات موبيليا، أنا لا أستطيع أن أحكم على طريقة تجارته، ولكن يجب أن نعترف أنه لم يترك مهنته الأصلية. - نعم هذا صحيح. - وبالمناسبة أين حمدي الآن؟ - يعمل مع أبيه.

وتسأل وهيبة: هل نال شهادة؟

ويقول فؤاد دون أن ينتظر إجابة ابنه: لم يأخذ الإعدادية.

ويقول فكري: وهل أنت راض عن ذلك؟ - إذا كان ناجحا في معاونة أبيه فلماذا لا أرضى.

قالت وهيبة: قل لنا أنت. - ماذا أقول؟ - الحقيقة. - الحقيقة أنه لا يعمل شيئا.

قالت وهيبة: اسمع يا فكري، العلم لا يفيد في مجرد حمل اللقب، ولكنه يفيد في كل نواحي الحياة، والذي يعرضه عليك أبوك اليوم يقطع قلبي ويجعلني حزينة كل الحزن، ولكن أنا تناقشت طويلا مع أبيك وحجته قوية وأنا حجتي ضعيفة، أنت لا تريد أن تتعلم من الكتاب وهو المصدر الحقيقي للثقافة، فلم يبق إلا أن تتعلم من العمل، وأنا وأبوك نعلم أنك لا تريد أن تكمل الدراسة، وأنك تناقشنا لمجرد المناقشة، وأنت الآن في سن تسمح لك باختيار مستقبلك، فإذا كنت تنوي أن تعمل مع أبيك بحيث تتيح له الفرصة أن يعلمك التجارة والتجارة الشريفة، فأنا عن أبيك أقول: أهلا وسهلا.

وقاطعها فؤاد قائلا: ألف أهلا وسهلا.

وأكملت وهيبة: وإن كنت لا تريد أن تصبح تاجرا مع أبيك فقل لنا ماذا تريد، وربنا يساعدنا أن نحقق لك ما تريد.

وصمت فكري صمتا تاما، أنا فعلا لا أعرف ماذا أريد، أعود للمذاكرة مصيبة، إذا عملت مع أبي سيحاسبني على الذهاب إلى المحل وعدم الذهاب، أنا ماذا أريد؟ ماذا أريد ؟ - الحقيقة يا نينا أنا أعرف ما أريد.

وسارع فؤاد قائلا: الحمد لله قل لنا ماذا تريد. - أنا أريد أن أتعلم التجارة. - ألم نقل هذا أول الأمر؟

قالت وهيبة: انتظر يا فؤاد، إنه لم يكمل.

وأكمل فكري: أنا فعلا لم أكمل، لا أريد أن أجلس في محل، أنا أريد أن أنزل السوق أشتغل في عمليات تجارية حرة، ولك أن تحاسبني كل عام.

وصاح فؤاد ملهوفا: الله أكبر، تنزل السوق هكذا وأنت لا تعرف فيه شيئا؟ - ابن تجار وعندي الموهبة وعندي المخ. - وماذا أيضا؟ - ألا يكفي هذا؟ - والتجربة؟! - تأتي في السوق. - أتعرف كم يمكن أن تكلفك، أقصد أن تكلفني هذه الكلمة، ربما كلفتني ثروتي كلها وفوقها مثلها عشر مرات. - ألا تريدني أن أتعلم؟ - عندي في المحل، في الجامعة التي تخرج فيها أجداد أجدادك حتى تخرجت فيها أنا. - ولكن الدنيا تتطور.

وتقول وهيبة: إذن فأنت تريد ...

ويقاطعها فؤاد: أنا أعرف ماذا يريد يا وهيبة وأنت تعرفينه.

وتقول وهيبة: نعم أعرفه، ولكنني أريده هو أن يقول.

ويقول فكري: أنا لن أقول شيئا.

ويقول فؤاد: ولا مليم واحد.

ويفزع فكري: ماذا؟ - أنت تريد مبلغا من المال، الله أعلم أين ستنفقه، ثم تقول تاجرت وخسرت. أليس كذلك؟ - وما له؟ - إنه مالي. إنه جهدي وجهد أجدادي. حين أموت أنا أنت حر في نصيبك، أما وأنا على قيد الحياة لا يمكن، ما رأيك؟ - سأعمل معك يا أبي ولكن ستعرف أنني لست كما تظن. - أهلا بك، ومكافأة لك على عملك معي خذ هذه المفاتيح لسيارة جديدة اشتريتها لك ليعرف أصدقاؤك أن أباك فرح بعملك معه. - أطال الله عمرك يا أبي، ربنا يجعلك راضيا عني دائما.

الفصل الثامن

سميحة مخطوبة لابن عمها وجدي عبد الراضي منذ هما طفلان، وقد تخرج وجدي في عامه هذا في كلية التجارة، وأعد أبوه له شقة للزواج بعد أن باع عشرة أفدنة من العشرين فدانا التي يملكها، وتقدم الأخ رسميا إلى أخيه يطلب يد ابنته لابنه، وقبل الأب الخطوبة وهلل بها ونادى: سميحة.

وكانت سميحة قد أحست من مجيء عمها المفاجئ ما سيتأدى إليه الحديث، وقد كانت صلتها بابن عمها واهية، فهو يسكن في الإسكندرية مع أبيه الذي يعمل هناك في وزارة الكهرباء، وكانوا هم يصطافون في رأس البر، فلم تكن ترى ابن عمها إلا في مناسبات قليلة وزوجة أبيها لم تكن تذكره لها مطلقا، فهي لا تنسى أن عمها وزوجته جليلة لم يكونا راضيين عن زواج أبيها منها، وكيف لهما أن يرضيا وقد كانا سيرثان نصف ثروة فريد، إذا هو لم يتزوج ولم ينجب ولدا.

فوجدي هذا كان بعيدا عن تفكير سميحة كل البعد، وهي تعلم أن أمه مزحت مع أمها وهما أطفال وخطبتها له، ولكن الطريقة التي روى أبوها بها هذه القصة كانت لا تنبئ عن أي جد.

ولكنها مع ذلك حين علمت أن وجدي تخرج، لم تستطع أن تمنع وساوس خوف أن تداخلها، واليوم وعمها في حجرة الاستقبال مع أبيها، وأبوها يناديها يتحقق خوفها.

وينادي الأب مرة أخرى: يا سميحة. ولكن ليس له مجيب.

ويقول فريد: قومي يا فوزية ناديها.

ويقول العم عبد الراضي: قومي يا ست فوزية الله يرضى عليك.

وتقوم وتدخل وقبل أن تقفل الباب تقول سميحة: لا. - أي لا؟ - لن أذهب. - وهل عرفت فيم؟ - عرفت كل شيء، المسألة لا تحتاج إلى ذكاء. - وماذا نقول لعمك؟ - هذا شأن أبي، لا شأني. - اسمعي يا سميحة أنت تعرفين أنني لا أحب عمك عبد الراضي، وهذا يا بنتي شيء طبيعي فهو لم يرحب بي في الأسرة، ولكن حتى أكون عادلة هو معذور، كان طامعا ولم يصبح الطمع اليوم سفالة، الدنيا أصبحت مطالبها كثيرة، وطبيعي أن يفكر كل إنسان في مصلحة نفسه. - ومن أين كان يعلم أنه سيرث أبي؟ ولماذا لم يفكر أن أبي قد يعيش بعده؟ إنه أكبر من أبي. - مع الطمع لا منطق يا سميحة. - ولكن يا تنت أنا لا أعرف وجدي، أنا لم أره في حياتي إلا مرات قليلة تعد على الأصابع. - ولكنه مع ذلك ابن عمك، وماذا نستطيع أن نقول الآن؟ - لا أعرف وإنما أنا أرفض. - لقد أحضر الشبكة معه. - إذن فهو يعتبر الأمر منتهيا. - عم يخطب ابنة أخيه لابنه المتخرج في كلية التجارة، ماذا يمكن أن يكون المانع؟ - وهل ابنة الأخ هذه ليست إنسانة؟ - سميحة، اسمعي أنا بالنسبة إليك ... - والله يا تنت أنا أعتبرك مثل ماما وأكثر؛ لأن الأم تحب ابنتها بالغريزة، ولو كانت أمي موجودة كان لا يمكن تقدم لي أكثر مما تقدمين أنت.

إذن فاسمعي يا بنتي أنا الآن في مركز حرج، إذا خرجت وقلت إنك رافضة أو تريدين أن تفكري، أو أي كلمة من الكلمات التي تقال في مجال الرفض هذه، سيظن عبد الراضي أنني أنا التي أغريتك بهذا. - وهل تقبلين أنت يا تنت أن أضيع حياتي من أجل حرج مؤقت؟ - لك حق يا بنتي، فعلا هذا ليس عدلا، الآن لا بد أن يحمل كل إنسان مسئوليته.

وفتحت الباب ونادت: يا فريد. - نعم؟ - تعال أريدك في كلمة.

وهمست سميحة: ربنا يطيل عمرك يا تنت، قلت أريدك ولم تقولي سميحة.

ويدخل فريد: ماذا؟ - أنا لن أتزوج وجدي. - ماذا؟ هل جننت؟! - هل أصبح مجنونة حين أرفض شخصا لا أريده؟ - ولماذا لم تقولي هذا من قبل؟! - وهل سألتني؟ - ألم أقل لك إن أمه خطبتك من المرحومة. - أتعتقد بهذا أنك قلت لي؟ - وحين كنا نلتقي ألم تسمعي الإشارات التي كانت أمه تقولها؟ - هل تعني هذه الإشارات أنك سألتني ووافقت؟ إنها إشارات تتناثر كلما اجتمع شاب وشابة. - والآن ماذا أعمل؟ وجدي هنا وأبوه وأمه ومعهم الشبكة ويريدون أن يتفقوا على تحديد يوم الخطبة. - أترضى لي يا بابا زواجا بهذه الطريقة؟ - يا بنتي نحن لم نرفض. - ولكنني لم أسأل حتى أقبل أو أرفض. - وماذا أعمل الآن؟

وقالت فوزية: أنت طبعا لن تجبر البنت على زواج لا تريده. - أنا مرغم. - ماذا تعني؟

قالت سميحة: اسمع يا بابا نحن في جيل لم تعد الفتاة فيه تتزوج رغم أنفها، وأنا معي الثانوية العامة.

وأدرك الأب كل شيء، وأدرك أيضا أن صوتها بدأ يعلو فقال: طيب ، طيب، اسكتي.

وقالت فوزية: أتتصور أنك ستزوج فتاة جامعية رغم أنفها؟

وقال فريد وقد أدرك الموقف تماما: لا يمكن.

ثم نظر إلى ابنته نظرة عميقة وقال: وحتى لو أردت لا أستطيع.

وقالت سميحة وقد ارتجفت كل مشاعر البنوة فيها: بابا، أنا ليس لي غيرك، وعندي الموت خير من لحظة غضب منك علي، ولكن الموت أيضا أهون من زواج لا أريده، إنها حياة بأكملها كيف سأعيشها مع شخص لا، لا، لا، لا أوافق على الزواج منه؟

وقالت فوزية: اسمع يا فريد، اخرج أنت الآن وأنا سأمنع عنك الحرج وستكون سعيدا إن شاء الله، فقط اعلم أن سميحة لن تتزوج وجدي. - لن تتزوج إلا إذا ... - لن أقبله مطلقا إذا لم يبق من الرجال إلا هو. - إذن لن تتزوج وجدي.

وقالت سميحة: اتفقنا، اخرج أنت الآن. - ماذا أقول لهم؟ - قل لهم سميحة آتية حالا.

وتصيح سميحة: تنت.

وتقول فوزية في حسم: اسكتي أنت، اخرج يا فريد.

ويخرج فريد وتقول فوزية: أنت تعرفين الآن أنك لن تتزوجي وجدي. - كيف أعرف؟ - إن الأمر في يدك وحدك وقد أوضحت هذا لأبيك، ولم يعد شيئا خافيا الآن، أنت وحدك تملكين مصير نفسك.

وتبتسم سميحة وتنعم النظر في عيني زوجة أبيها: أنت في غاية الذكاء. - وأنا معجبة بك، حقك وتمسكت به ولكن يبقى شيء هام. - بابا. - ما رأيك؟ - موقفه صعب. - أترضين له هذا أمام أخيه وابن أخيه وزوجة أخيه؟ - لا، أنا مضطرة. - إلى ماذا؟ - إلى الرفض. - هذا أمر اتفقنا عليه. - إذن. - ألم تفهمي؟ - أتظاهر بالقبول. - والشبكة ليست كتب كتاب. - موافقة. - البسي.

الفصل التاسع

قالت له في اليوم التالي وهما سائران على شاطئ النيل في المعادي: لقد خطبت أمس.

ووقف، ثم جلس على الحجارة ثم التقط شهيقا مروعا، ونظر إليها: ماذا؟ ماذا قلت؟

وانفجرت ضاحكة. أمزاح في مثل هذا؟ - أنا والله لا أمزح.

وروت له كل شيء وأدرك أنه لا بد أن يتحرك من فوره وإن كانت سميحة تقول له في هدوء: إن الذي حدث أمس كان من المنتظر حدوثه، وربما كان وقوعه خيرا لنا وأنت لا تدري. - ربما، ولكن كيف؟ - لقد أدرك أبي اليوم أن مصيري بيدي وحدي، وأنه لا يستطيع أن يرغمني على زواج لا أريده. - هذا حق والآن جاء دوري. - لا تتعجل. - أترضين لي أن تقفي أنت هذا الموقف الحر وأسوف أنا؟ - اسمع يا مجدي أنا لست جاهلة، وأنا حين أحببتك عرفتك على حقيقتك، وأنا لست ساذجة لأحبك أولا ثم أضعك بعد ذلك في موضع الاختبار. - هل تتصورين السعادة التي أشعر بها وأنا أسمع هذا الحديث؟ - نعم أتصورها لأني أحس بهذه السعادة وأنا أقول ما أقول. - كنت أحسب أنك أحببتني لأننا نشأنا معا، ونشأ الحب بيننا وليدا ثم كبر، العاطفة وحدها هي التي تحكمه. - مثل هذا الحب يكون حبا مخيفا لا يعرف واحد منا عواقبه، أنا كنت أراقبك في كل مراحل حياتك منذ بدأت أعي وتذكرت وأنا عاقلة ما كنت تصنعه ونحن أطفال و... و... وأحببتك، وأعلم أنك صنعت معي نفس هذا الصنيع. - أنا أحببتك؟ - ودرستني كما درستك، لست أنسى ونحن أطفال يوم قذف سيد المدبولي الكرة بقدمه فكسرت زجاج بيت جميل بك، فتقدمت أنت إلى البواب وقلت له إنك أنت الذي كسرت الزجاج وإنك ستدفع ثمنه؛ لأنك تعلم أن والد سيد المدبولي سيضربه وأنه لا يطيق أن يدفع ثمن الزجاج. - ياه أما زلت تتذكرين هذه الحكاية البسيطة؟ - ربما كانت بسيطة لو صنعتها الآن، أما ونحن أطفال فهي ليست بسيطة. - وأنا لا أنسى حين نزلت من قطار المعادي ولم تكوني تعرفين أنني فيه، ولا كنت أدري أنا أنك معي في القطار، وتقدم منك فكري يريد أن يحمل كتبك ويسير معك حتى البيت، فإذا أنت ترفضين وتتركينه يمضي. - أكنت وراءنا؟ - تخفيت عنكما ورحت أرقبه وهو يمضي، ورأيتك أنت تتمشين على الرصيف فترة، ثم تأخذين وجهتك إلى البيت، أدركت أنك قلت له إنك لن تذهبي إلى البيت حتى لا تخجليه، وفي نفس الوقت رفضت أن تسيري معه وحدكما. - وأشياء كثيرة رأيتك فيها إنسانا ورجلا، لم تحاول أن تحقق ذاتك بشعارات وإنما حققت ذاتك بالدراسة، ولك آراؤك الوطنية ولك إيمانك الديني، لم تحاول أن تتطرف أو تتظاهر بالعلم أو بالبطولة وتتكلم، فأعلم أنك تقرأ كثيرا دون أن تدل على الناس أو على أصدقائك بأنك تقرأ. - وأنت ألا تفعلين هذا؟ - وأعرف أنك تعرف. - ويصدق علينا قول الشاعر:

فلم تك تصلح إلا له

ولم يك يصلح إلا لها - وشعر أيضا؟ - بيت واحد من نفسي. - نعود إلى البيت. - أمرك. •••

مر يومان على هذا الحديث، وكان مساء جلس سويلم فيه ونعمات يشاهدان التليفزيون ومعهما مجدي صامتا، وفجأة قال لأبيه: ما رأيك يا أبي في وظيفة معروضة علي بالسكة الحديد؟

وفوجئ سويلم بالخبر وقالت نعمات: ألف مبروك، ألف مبروك يا باشمهندس. أزغرد، ابني أصبح مهندسا في السكة الحديد.

وأتاحت الجملة لسويلم أن يفكر قليلا ثم قال: متى عرضت عليك؟ - اليوم طبعا، وهل يمكن أن أخفي عنك شيئا هاما كهذا؟ - وأنت ما رأيك؟ - أريد أن أعرف رأيك أولا. - ألم تقل إنك تريد أن تفتح ورشة؟ - الآن؟ لا يمكن، أنا سأعمل بعد الظهر في ورشة الأسطى داود الميكانيكي بالمعادي. - أنت يا باشمهندس تعمل بورشة مع أسطى؟ - الذي تعلمناه في الكتب شيء والحياة شيء آخر، أيرضيك أن أتعلم الهندسة في سيارات خلق الله.

ولم يملك سويلم نفسه وقام إلى ابنه وهو يقول له: قم، قم، قف على حيلك.

وظنت نعمات أن زوجها غاضب فصاحت: انتظر يا سويلم بالهداوة، بالراحة يا سويلم.

وأعاد سويلم الجملة: قم قلت لك.

ووقف مجدي ذاهلا وإذا سويلم يقول له: ادخل في حضن أبيك، أنا اليوم عرفت أنني خلفت رجلا لا طفلا.

وزغردت نعمات دون أن تدري لماذا واستطرد سويلم: كنت أخاف أن تظن أنك ما دمت حصلت على شهادة الهندسة ستحتقر الأسطوات، وتقول في نفسك إنك مهندس، وإنهم لا يعرفون ما تعرف، أنا الآن مطمئن إذا مت هذه اللحظة.

وتقاطعه نعمات: يا أخويا بعد الشر إن شاء الله العدو. أهذا وقته.

ويضحك ثلاثتهم ويعودون إلى مجلسهم، ثم يقول مجدي: ما دام الأمر كذلك فأنا أريد أن أتزوج.

وتسارع نعمات وتضع يدها فوق شفتها العليا متهيئة لزغرودة أخرى، فيقفز مجدي في هذه المرة ويضع يده على فم أمه: في عرضك يا ماما الذي لم يسمع الأولى قد يسمع الثانية.

ويقول سويلم: وما له؟ خلي الدنيا كلها تسمع.

ويجلس مجدي في هدوء وهو يعلم أنه سيقول كلاما لن يرضي أبويه كل الرضا. - فقط اسمعا الحديث لآخره. - وما له يا نعمات انتظري بعض الشيء بزغرودتك، يبدو أن في الأمور أمورا.

قال مجدي في هدوء: ما رأيك؟ - وهل قلت شيئا؟ - قلت إني أريد أن أتزوج. - الشقة موجودة والمهر موجود والعروسة ...

وهنا قاطعه مجدي: ليست موجودة.

وصاح الأبوان كلاهما معا: ماذا؟!

واسترسل مجدي: أنتما لا أنا خطبتما إلهام، وأنا لا أريد أن أتزوج إلهام.

وصاح الأبوان مرة أخرى: ماذا؟

وقال مجدي في هدوء: هل قلت لك يا بابا أو قلت لك يا ماما إني أريد إلهام، أو إنني معجب بها؟ - حسبنا أنك ...

ويقاطع مجدي أباه: إنك حسبت يا بابا ليس هذا ذنبي. - يا بني هذه عشرة عمر، وأبوها أكثر من أخ وجدها له فضل علي وعليك، لولاه الله وحده يعلم إلى أي مصير كنت أسير.

وتقول نعمات: أين أودي بوشي منك يا وهيبة؟

ويلحق بها سويلم: ووهيبة هذه ابنة عمدتنا وأنا الذي زوجتها.

ويقول مجدي: وهل ترى أنك ما دمت زوجت الأم لا بد أن تزوج ابنتها أيضا؟ - لا أقصد.

وتقول نعمات: ولماذا لم تقل هذا من زمان يا ابني؟ - وهل سألني أحد منكما؟

وينظر سويلم إلى نعمات وتنظر هي إليه ويقول سويلم: ألم تسأليه؟

فتقول في ذهول يحتويها: وأنت ألم تسأله؟ - كنت أظن الأمر منتهيا.

وتقول نعمات: أنا كنت أظن الأمر منتهيا.

ويقول مجدي: أيصلح الظن في هذا؟

ويقول الأب في جد وعيناه متفتحان والدهشة لا تفارق وجهه: أظن لا. - فأنا لا ذنب لي إذن.

وتقول نعمات: ماذا أقول لوهيبة؟

ويقول سويلم: وأنا ماذا أقول لفؤاد؟

ويقول مجدي: ألست تحبين عمتي وهيبة يا ماما؟ - روحي من جوه.

وينظر مجدي إلى أبيه: وأنت يا بابا ألا تحب عمي فؤاد؟ - أنت تعرف. - أيرضيكما أن تزوجا ابنتهما لرجل لا يريد الزواج منها؟ أتعتبران أن هذا حبا أم كرها لعمتي وهيبة ولعمي فؤاد؟ ماذا كنتما تصنعان لو أردتما الانتقام منهما أكثر من ذلك؟ افرضا أنني وافقت من أجلكما ومن أجل الصداقة التي تربط بينكم، أيرضيكما هذا لإلهام نفسها؟ لو كان لكما بنت أترضيان لها هذا؟

وساد صمت مطبق ثم قال سويلم: في هذا الزمان الأب لا يستطيع أن يزوج ابنته فكيف يمكن أن يتدخل في زواج ابنه؟ نحن نربي ونكبر ثم لا رأي لنا بعد ذلك، نحن لا لزوم لنا، نحن نصنع فلوسا فقط، نحن عقليات أكل عليها الدهر وغسل يديه، ما دام الولد أخذ الشهادة فما حاجته إلينا، نقدم له المال بضع سنوات أخرى ثم يستغني عنا وعن مالنا جميعا، وإلى الجحيم آراؤنا وإلى ستين جحيم صلاتنا بالناس وحسبنا الله ونعم الوكيل، قومي يا نعمات نروح حجرتنا.

وتقوم نعمات وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، عين وأصابتنا والأمر لله من قبل ومن بعد، حسبي الله ونعم الوكيل.

الفصل العاشر

كان فرح هشام دردير وحمدي الفنجري بسيارة فكري أعظم من فرحته هو، ولم يدر سبب ذلك فحمدي عنده سيارة هو أيضا. - الليلة لا بد أن نحتفل بك. - الليلة سنسهر للصبح.

وصاح فكري: لا، كونا عاقلين، السيارة جديدة لو سهرت بها من أول ليلة يسحبها هو في صباح هذه الليلة، الأمور لا بد أن تكون بالعقل.

وقال هشام: هو ما قلت، تذهب معنا إذن إلى صديق لنا ونعرفك به. - صديق جديد؟ - عرفناه وأنت مشغول بالمذاكرة. - من هو؟ - ستعرفه، اصبر. لو تعرف ما فعلناه لأدركت أن أبواب السماء فتحت لك. - خيرا؟ - هيا بنا.

لم يكن بعيدا عن حياة الليل فقد طالما تعرف ببنات الهوى، ولكن ذلك في بيوت يعرفها أصدقاؤه، النفقة فيها يطيقها ما يناله من أبيه، وكان بذلك يظن أنه عرف من الحياة كل الحياة، وأن أحدا لا يستطيع أن يدري من شئون الدنيا أكثر مما يدري هو.

وكان بظنه هذا قانعا كل القناعة، وحين كان يسمع عن الكباريهات والأموال التي تنفق فيها كان تقديره أن هذه الحياة ما هي إلا ما عرف ولكن بصورة علنية، فالذين هناك لا ينفقون مما يجود به عليهم آباؤهم.

وظل على ظنه هذا حتى ذهب مع صديقيه هشام دردير وحمدي الفنجري إلى ذلك الرجل الذي قالا عنه إنه صديقهما، وهناك رأى فكري عجبا.

البيت في شارع الشيخ فواز بالمهندسين والعمارة شاهقة لم يستطع أن يعرف عدد أدوارها إلا حين قرأ رقم 12 في المصعد، والصديق الذي ذهبا إليه يسكن هذا الرقم، فهو في أعلى العمارة فيها شقتان متصلتان، تطلان على ما كان سطحا ثم أصبح جنة من جنان الأرض، فالأنوار فيه باهرة والأركان نوافير والجدران حلي وتهاويل، كلها أشكال تنير وتثير في وقت معا.

وحتى يبلغ السطح أو الذي كان سطحا كان قد اخترق بعض غرف أحس وهو يخطو إليها من الباب الخارجي، ثم وهو يخطو فيها أنه في فتحة الباب قد انتقل من إنسان يحيا في القاهرة المعزية إلى ممثل في أروع ما أنتجته السينما الأمريكية من تجميل للبيوت.

لقد تولاه البهر والذهول منذ اللحظة الأولى، وما فكري بفقير وإنما هو ابن تاجر موفور، ويسكن أيضا شقتين متصلتين، ويحيا حياة لا تعرف إلا الرغبة المجابة في المأكل والمشرب والملبس، ولكن أين هذا جميعا مما هو رائيه الآن، دنيا غير التي عرف وحياة غير التي يحيا، واستقبله بالباب خادم واضح أن صاحب البيت رسمه ليكون جزءا من هذا الإبهار، ووضح له أن الخادم يعرف صاحبيه فهو يقول في ألفة: تفضلا البك في الروف.

ويخطو فكري معهما ذاهلا واعيا شاردا منتبها، لا يفكر في شيء إلا سؤال ظل يتردد في ذهنه ويدق مشاعره: ما هذا؟ أين أنا؟ أين أنا؟ وكان ذهوله قد بلغ منتهاه، حين خطا خطوته الأولى إلى السطح وأدرك صاحباه ما ألم به، فهما أيضا مرا بما يمر به اليوم حين صحبهما إلى هذا الحلم المحقق زهران قدري زبون رفعت الفنجري والد حمدي إلى صديقه صاحب هذا البيت.

لقف كل من الصديقين ذراعا لفكري وقاداه ذاهلا واعيا، وأوقفاه وجاء إلى أذنيه صوت كان عنه تائها وخيل إليه أنه صوت حمدي: أهلا علوان بك، هذا صديقنا فكري بن فؤاد محمدين صاحب المحلات المشهورة بالحمزاوي.

ورأى فكري نفسه واقفا أمام شخص قصير القامة أصلع الشعر، أو هكذا خيل لفكري على الأقل، وصاح حمدي: ما لك التهيت هذه اللهوة الكبرى، أفق وسلم على علوان بك سلطان، لا مؤاخذة يا علوان بك أنت طبعا تعرف حالة الواحد منا حين يأتي إلى هنا لأول مرة.

وقال علوان: مرحبا، مرحبا فكري باشا، كلمني عنك حمدي وهشام كثيرا. - مرحبا سعادة البك. - اسمع أنا أعرف أنك لن تستريح حتى ترى البيت كله، خذه يا حمدي وفرجه على البيت.

ورأى وازداد ذهولا كل غرفة مصنوعة خصيصى لتجعل الداخل إليها يكاد يغيب عن الوعي.

وحين عاد إلى مجلس علوان كان الإعجاب الحائر واضحا عليه، وأراد علوان أن يجتذبه من دواره: مبروك الثانوية العامة.

وانتبه فكري إلى الواقع ودار في الجالسين. ثلاثة رجال وامرأتان رائعتا الجمال ثم سارع يقول: الله يبارك فيك يا سعادة البك.

وقال حمدي: والأهم من ذلك يا علوان بك أن فكري أصبح الآن مساعدا لأبيه في المحل، وقرر أن ينزل إلى الحياة العامة. - هكذا! هذا هو الكلام. أليست الشهادة وسيلة للغنى، فما دام عندنا الغنى والحمد لله فما لزوم هذه الشهادة؟

وقال هشام: ونحن اليوم نحتفل بركوب أول سيارة يملكها فكري، وصاح علوان في تظاهر بالفرح: أهكذا؟! ألف مبروك! وما ماركتها؟

وصمت فكري وقال هشام: اشتراها صغيرة حتى يربيها على يديه.

وضحك جميع الجالسين وقالت إحدى الفتيات: تتربى في عزك إن شاء الله.

وقال علوان في جد: لا، ستتربى في عزي أنا إن شاء الله، أنا أحب الشباب الجريء الذي لا يبحث عن المظاهر والشهادات، فكري ابني منذ اليوم.

ودهش فكري أن يصبح ابنا هكذا في لحظة من زمن، ولم يملك إلا أن يقول: ألف شكر.

ويقول علوان: اسمع يا فكري أنا لي زملاء وصلوا إلى وزراء، وأعلم أنهم لولا الخجل لجاءوا إلي ليستلفوا مني، أنا أخذت الابتدائية وبدأت العمل الحر، لو كنت أخذت الدكتوراه كان مرتبي الآن أقل من نصف مرتب متولي الخادم الذي قدم بكم إلى هنا، هذا واحد من خمسة يعملون عندي، هو أقلهم مرتبا لأنه آخر واحد عينته عندي.

ستصبح مثلي يا فكري وسترى.

وازدادت حيرة فكري، كيف؟ كيف؟ وقال علوان: أنت الليلة ضيفي إلى الصبح.

وارتج على فكري وقال هشام: يا أخي كلم والدتك وقل لها إنك ستسهر معنا الليلة.

وقال فكري: أرني التليفون يا حمدي.

وضحك الجميع وصاحت الفتاة الثانية: يا بني هنا تليفون على كل كرسي، الكرسي الذي تجلس عليه الآن بجانبه تليفون.

وقال جالس آخر: هنا خمس نمر بخمسة عشر خطا.

قال علوان: يا جماعة على مهلكم، الرجل أول مرة يأتي إلى هنا، والذي لا يعرفك يجهلك، ثم هو لم يغلط، إنه يريد أن يكلم والدته أتريدونه أن يكلمها أمامكم، قم يا حمدي خذ صاحبك إلى حجرة المكتب.

وفي الطريق إلى المكتب قال فكري: يا بني أنا كنت أسهر وأقول لها إنني أذاكر، الآن ماذا أقول لها؟

وصاح فيه حمدي: يا رجل أفق إلى نفسك، أنت اليوم أصبحت حرا، تسهر كما تريد وتعود حين تريد، ألا تعرف الآن قدر نفسك؟

وضحك فكري وهو يقول: معقول، معقول، فقط ليس من أول ليلة هكذا. - بل يجب أن يعرفوا حدودهم من أول ليلة. - من هؤلاء؟ - أبوك وأمك. - أترى هذا؟ سنرى.

وطلب فكري التليفون وقال: ماما أصحابي يريدون أن يحتفلوا بالسيارة الجديدة وسنسهر الليلة معا، لا لن نتأخر كثيرا، نعم ناموا أنتم، معي المفتاح نعم، لا لم أنسه مع السلامة.

وبدأت الليلة.

أما الويسكي فيعرفه فكري وما هو بجديد عليه، وأما المخدر فقد جربه ولكنه لم يستجب له، وأما الفتيات اللواتي يشربن ويسمرن فهو أيضا يعرفهن، كانت الفتاتان قد أصبحتا ثلاثا فقد قدمت إلى البيت فتاة في عشرينيات عمرها، فتن بها فكري منذ لحظة قدومها، وقد أعجب فيها بمظهر بريء، كانت نبتا أخضر جديدا على مثل هذه الحياة، بيضاء الوجه سوداء العينين متوسطة القامة في طولها تميل إلى النحافة، كثيرة المرح ولكنه مرح ساذج لم يتمرس بعد، وأحست ألفت بإعجاب فكري فراحت تلقي شعرها عليه وهي ترقص، وتكثر من الوقوف أمامه، ويصخب الجميع مدركين اللقاء المتبادل الذي تم على مشهد منهم، وصاحت سعدية أقدمهم في العلم: ألكونتاك جديد عند الاثنين، هزي وسطك يا ألفت، سيارته جديدة بشوكها.

ولم يلحظ فكري علوان وهو يغمز لحمدي الذي تبعه إلى حجرة المكتب. - هذا الولد سينفعنا. - ألم أقل لك؟ - وسيارته الجديدة هذه مهمة جدا. - أعلم. - لا تظن أنني أختاركم وأنا لا أعرف ماذا أفعل، أمثالكم بعيدون عن كل شبهة. - أنا سأتركه بعض الوقت ولا تذكر أنت أو هشام له شيئا، أنا لي طريقتي الخاصة. - لا يمكن أن نعمل شيئا قبل أن تقول. - أنا أريده الليلة في الكباريه. - يذهب. - وأريد ألفت تذهب معه إلى شقة جاردن سيتي. - قل لها. - لا شأن لك بها ولكن هيئه أنت لهذا وخذ، اجعله يعطيها هذه المائة جنيه وأنا لي معها شأن، قل له إن الفلوس منك أنت. - أمرك.

وعادا إلى مكانيهما وبعد دقائق قال علوان: والآن إلى العمل.

وصاح فكري: عمل! أي عمل؟ - أتظن أن ألفت وسعدية وسميرة يكسبن عيشهن من انبساط سعادتك. - إذن! - هن ذاهبات إلى الكباريه ونحن سنذهب معهن، الساعة الآن فاتت العاشرة، هيا بنا.

وشهد فكري الكباريه ورأى رأي العين كيف تصبح الجنيهات من فئة المائة والعشرين والعشرة عقودا في نحور الراقصات، ورأى آلاف الجنيهات تلقى على الموائد وكأنها قروش.

وكان من المقرر أن ترقص ألفت أول الراقصات، وحين بدأت الرقص لم يلتف حول نحرها سوى عقدين: أحدهما من ذوي العشرة والآخر من ذوي العشرين، جديدة.

ومال حمدي على أذن فكري: البنت تموت فيك. - حلوة كالقمر. - ما رأيك نخرج معها الآن؟ - هل أنت جاد؟ - اتفقت معها فعلا. - ولكن أنا ... أنا ... - خذ هذه مائة جنيه أعطها لها. - يا نهارك أسود. - ماذا جرى لك؟ - من أين؟ - الأعمال الحرة تجعل المائة جنيه هذه عشرة قروش. - ومن أين أردها لك؟ - قسطها لا شأن لك. - وأين سنذهب؟ - أيضا لا شأن لك هي تعرف. - وإن طلبت أكثر، أنا ليس معي إلا عشرة جنيهات. - خذ عشرين لتكون مطمئنا. - أقوم؟ - اركب سيارتك وقف بها أمام الباب وستجدها بعد خمس دقائق بجانبك. •••

شقة جميلة نظيفة، كل شيء معد لتمضية سهرة وللإقامة أيضا، عرف فكري أنها من شقق علوان، وفهم أن حمدي هو الذي صنع له هذا المعروف. ••• - خذي. - ما هذا؟ - ألا تعرفين؟ - أعرف طبعا. - إذا لماذا تسألين؟ - لأني لن آخذ منك شيئا. - ماذا؟ - أليس من حقنا أن نعجب ببعض الناس ونحبهم؟ - من حقك طبعا. ولكن يبدو أنك تحتقرين المبلغ الذي أقدمه لك بعد أن أخذت العقدين من المعجبين في الصالة.

وانفجرت ألفت تضحك في قهقهة عالية بعيدة عن التظاهر، ثم ما لبثت أن أوقفت ضحكتها وقالت فجأة: أهذه أول مرة تذهب إلى كباريه؟ - لاحظي أنني قبل اليوم كنت تلميذا. - آه، معقول. اسمع أولا أنا لا أعرف المبلغ الذي تعرضه علي حتى أحتقره أو أحترمه، وثانيا كيف تصورت أن هذه العقود كلها لنا. - ماذا؟! - إننا لو أخذنا منها عشرها تكون نعمة، إنها تقسم على جميع العاملين في الصالة، وحين تكون الراقصة جديدة مثلي يكون نصيبها عدما أو قريبا من العدم. - إذن لماذا ترفضين؟ - أحببتك. - ثانية. - وأنت أيضا أحببتني. - الحقيقة أنا ... أنا معجب بك جدا. - وستحبني. - يتهيأ لي. لن أسألك ماذا رماك إلى هذا العمل. - يا حبيبي هذا السؤال كان يصلح أيام زمان، الآن لا أحد يسأل هذا السؤال، اللواتي لا يقمن بهذا العمل علانية يقمن به سرا في بيوتهن؛ ولهذا لم يصبح اسمه المقدر أو النصيب كما كان يسمى في أفلام الماضي، وإنما أصبح عملا محترما مثل كل الأعمال، ودخله أصبح أعظم من أي دخل، ويوم أريد الزواج ألف يتمنون تراب رجلي، منهم تسعمائة وتسعون يستفيدون من خبرتي ويجمعون المال من ورائي، والعشرة الباقون ليجعلوا مني أم عيالهم.

وفوجئ فكري بالإجابة، وصمت طويلا ثم قال: ألفت. - نعم. - أنا أحببتك. - إذن أدخل هذه الفلوس في جيبك. - ولكني أحب أن أقدم لك شيئا. - قدم لي هدايا عندما تريد. - قد تكلف أكثر. - هدية بعشر جنيهات منك تساوي عندي الكثير، إننا من سن واحدة ندخل الحياة من باب واحد، ويبدو أن الصلة بيننا ستطول. - ومن يدري ربما تدوم. - يا رب. - كل شيء بأمره.

الفصل الحادي عشر

قالت إلهام لأبويها فجأة: ألم تلاحظ يا بابا وأنت يا نينا أننا مقصرون جدا مع عمي سويلم ومجدي.

ونظرا إليها ثم تبادلا النظرات، وفهمت إلهام تماما ما تحويه نظراتهما، وربما أحست أن كلا منهما يقول في نفسه ما كل هذه الجرأة من الفتاة، ولكنها أكملت حديثها متظاهرة أنها لم تفهم شيئا على الإطلاق: أليس عمي سويلم هذا ابن بلدك يا ماما وهو الذي زوجك من بابا؟ وأنت يا بابا أليس أقرب إليك من أخ؟ كيف ينجح مجدي في بكالوريوس الهندسة ولا تدعوان العائلة إلى عشاء على الأقل؟

وتبادل الأبوان النظرات مرة أخرى، واضطر فؤاد أن يقول: والله يا بنتي لك حق، ولكن ...

وقالت وهيبة: ولكن ماذا يا فؤاد؟ كان يجب أن نفعل هذا فعلا.

وقالت إلهام: بل إنني حتى أراكما تأخرتما، إن المناسبة الآن ستكون مناسبتين.

وصاح الأبوان في دهشة حاولا ألا تبين: ماذا؟! - طبعا. - وكيف؟ - ألم يعين مهندسا في السكة الحديد، أليست هذه مناسبة أيضا؟

واسترد الأبوان هدوءهما وقالت وهيبة: والله لك حق. - وماذا تنتظرين؟ - ما رأيك يا فؤاد؟ - ادعيهم على العشاء. - متى؟ - متى شئت. - اليوم الإثنين، أيوافقك الخميس؟ - يوافقني طبعا.

وقامت وهيبة إلى التليفون وأرادت أن تتكلم فقال فؤاد: انتظري يا وهيبة. - ماذا؟ - أنا سأقابل سويلم اليوم وسأسأله إن كان يوم الخمييس يوافقه وبعد ذلك كلمي أنت نعمات.

وقالت إلهام: يا سلام، وفيم كل هذا وكأنك تدعو شخصا لأول مرة، إنهم في كثير من الأيام يأتون بلا عزومة، على كل حال أنا قلت رأيي وأنتما حران.

وقامت إلى حجرتها، وقال فؤاد: ما هذا الذي تقوله ابنتك؟ - ربما يا أخي زهقت وتريد أن تعرف رأسها من رجليها. - أيعني هذا أن نقول لهم تعالوا اخطبوا بنتنا. - والله أنا الأخرى زهقت. - ومن أجل هذا جريت إلى التليفون؟ - إذا كان البنت تكلمت ألا نتحرك نحن؟ - فكري قليلا في الأمر. - والله لو كانوا أغرابا علينا لكان كلامك هذا معقولا، ولكن سويلم ونعمات أخوات. - مهما يكن الأمر، إذا كان هما لم يتكلما. - والله لك حق، ما الذي جعلهما لا يتكلمان. - كل بيت له أسراره. - إلا بيت سويلم، فليس فيه أسرار علينا أبدا. - لكل بيت أسراره. - على كل حال نحن وعدنا إلهام أن نتكلم وندعوهما. - ألا نفكر قليلا؟ - اسمع. - ماذا؟ - ما رأيك لو جعلناها مكالمة عادية؟ - ما معنى عادية أنا أكلم سويلم يوميا وأنت تكلمين نعمات يوميا، ما عادية هذه؟ - أقصد دعوة عادية. - كيف؟ - سترى.

قامت إلى التليفون ولكن فؤاد يقول لها: يا شيخة انتظري، انتظري حتى نتفاهم. - نتفاهم في ماذا، أي عجيبة أن تدعو سويلم ونعمات ومجدي على العشاء، انتظر سترى.

وطلبت الرقم. - ألو، نعمات، كيف أنت؟ اسمعي، فؤاد وأنا قلنا مرة واحدة كدا في نفس واحد لكم زمان لم تتعشوا معنا، هل عندكم حاجة يوم الخميس، نتعشى معنا؟ وقولي لمجدي إذا لم يكن مرتبطا يأتي يتعشى معنا أم ترى نفسه كبرت بعد أن أصبح مهندسا؟ مجدي ابني أكثر منك، أنا أمه وأستاذته، سويلم بجانبك، اسأليه، عال، نحن في انتظاركم.

وأقفلت التليفون وهي تقول لفؤاد: هيه ما رأيك؟ - لا بأس، والسلام. •••

قال سويلم: ماذا سنقول لهم؟ - وهل أعلم. - الجماعة يستعجلون الخطبة. - لهم حق، الولد أخذ الشهادة وعين أيضا ماذا ننتظر؟ - وماذا قالت لك عن مجدي؟ - بعيد عنك كلام جعلني في نصف هدومي، ابني وأنا أمه وأستاذته وكلام يجعل اللقمة تقف في الزور. - نعتذر. - أمرك. - وافرضي اعتذرنا هذه المرة ماذا سنفعل المرة القادمة؟ - والله لا أعلم. - اسمعي نحن نذهب ونقول لمجدي يأتي معنا، وكأن الأمور طبيعية وبعد ذلك أكلم مجدي مرة أخرى وربنا يعمل ما فيه الخير . - أمرك. •••

كانت إلهام تعلم أن سويلم وزوجته ينامان في القيلولة ومجدي لا ينام، طلبت في القيلولة من حجرتها متحرية ألا يسمعها أبواها. - مجدي؟ - نعم، من؟ إلهام، أهلا إلهام. - اسمع يا مجدي أنتم مدعوون عندنا يوم الخميس. - نعم أعرف. - أريدك أن تأتي. - هل هناك شيء؟ - أنا أريدك أنت بالذات أن تأتي، أرجوك من أجل خاطري لا تعتذر. - أنا كنت آتيا على كل حال. - أعرف وإنما أردت أن أتأكد، أرجوك لا تعتذر لأي سبب. - يا سلام يا إلهام أنت تعرفين مكانتك عندي ولا أستطيع أن أتأخر عنك مطلقا. - أعرف هذا، شكرا يا مجدي هذا ما كنت أنتظر فعلا. •••

جلس الجميع في انتظار العشاء وكانت تعده لهم الحاجة رشيدة، التي لا يغيب عنها خبر في بيوت المنطقة كلها، فمطبخها منتدى الخدم الذين يجاورون العمارة جميعا، وفي هذا المطبخ عرفت قصة سميحة كاملة بكل تفاصيلها، والحاجة رشيدة هي التي ربت إلهام منذ هي رضيع فهي لا تخفي عنها شيئا.

كانت الأسرتان إذا اجتمعتا لا يجد الكلام فرصة يهدأ فيها، فالأخبار تتوالى بينهم والتعليقات لا تكف عن كل شخص وعن كل موضوع.

أما في هذه المرة فالكلام يتعثر قبل أن يخرج والصمت يجد لنفسه مكانا متسعا، وبعد كل فترة قصيرة يصيح سويلم وكأنه صاحب بيت: يا أمه رشيدة متنا من الجوع يا أمه رشيدة.

وفؤاد يتصايح معه في مزاح لا يجرؤ أن يكون طبيعيا، وتختلس إلهام وهي مدركة للموقف كل الإدراك نظرة إلى مجدي فتجده متحرجا غاية في الحرج، فعلى وجهه وجمة تتشح لتكون تظاهرا بالسرور، وعلى فمه ابتسامة يحاول أن يثبتها على شفتيه فتنفلت منه، تريد أن تغوص في أعماقه مرة أخرى، ونعمات في سذاجتها الطيبة حائرة لا تعرف كيف تتصنع أي شيء، ومن ينعم النظر إليها يجدها مستسلمة في خضوع لما يجري حولها لا تملك حولا ولا قوة، أما وهيبة فداخلة خارجة من حجرة الاستقبال، توهم الجميع بأنها تساعد رشيدة في إعداد العشاء، وهي في الواقع لا تصنع شيئا إلا المشي بلا غاية ، تحاول أن تجعله يبدو كأنه اهتمام بمن عندها من أعزاء فتفشل محاولتها فشلا ذريعا.

ويأتي العشاء أخيرا ويتناولونه ازدرادا بلا حديث إلا تعليقات متناثرة، تؤكد الجو الحرج الذي يخيم على الجلسة كلها وعلى من فيها جميعا.

ويعودون إلى الصالون وفي اهتمام شديد تقول إلهام: قهوة عمي سويلم يا داده رشيدة وشاي مجدي وقهوة بابا.

ويقول فؤاد في محاولة تظرف: حسبتك نسيت بابا.

وتقول إلهام في تلحين مازح: أنا أنسى الكل، أنسى الكل علشانك.

ويضحكون.

وتصيح إلهام: أخيرا.

وتقول وهيبة: أخيرا ماذا؟

وتقول إلهام: أخيرا ضحكتم.

فتعيد هذه الملاحظة الوجمة إلى وجوههم جميعا. وجمة ذاهلة فقد تبين كل منهم أن تصنعه كان مكشوفا.

وتقول إلهام: أنا منتظرة هذه الضحكة من الصبح لأتكلم.

ويقول فؤاد: تتكلمين؟ - وأنتم جميعا ولا مؤاخذة تصمتون، أولا يا عمي سويلم أنا التي عملت هذه العزومة لأن المسألة بينكم أصبحت مضحكة محزنة بشكل لا يمكن السكوت عليه.

وتصيح وهيبة: بنت!

وتقول إلهام: أرجوك يا ماما هذا الوضع لا بد أن ينتهي الآن وفورا، ولن أتكلم كثيرا حتى لا أعذبكم أكثر من عذابكم، أي عفريت وسواس خناس جعلك أنت يا عمي سويلم وأنت يا خالتي نعمات وأنت يا بابا وأنت يا ماما تظنون أن مجدي يريد أن يتزوجني أو أنني أريد أن أتزوج مجدي.

وتصيح وهيبة: إلهام!

وتمضي إلهام في حديثها كأنما لم تسمع شيئا: هل خلفتم أخشابا أم آدميين؟ أليس من حقنا ونحن من بني الإنسان الذي حمله ربه أمانة الاختيار أن يختار مجدي عروسه وأختار أنا زوجي؟ من قال لكم إن اتفاقكم الهامس يسري علينا ويجعل مجدي يختارني ويجعلني أنا أختار مجدي؟ مسكين يا مجدي ومسكينة يا أنا، ظللنا عمرنا كله نتحمل إشاراتكم الخفية، والابتسامة ترتسم على وجوهكم إذا سألت مجدي عن امتحانه أو قدمت له برتقالة على طعام، أو طلبت له فنجان شاي، وكنت أنا وهو نلاحظ هذا وتلتقي منا العيون رغم أنفينا، ونصمت في ألم ونتحمل في صبر، وهو يعلم وأنا أعلم سخافة هذا الذي تصنعونه، والحرج عنده أشد ألف مرة، مسكين! فهو رجل ولولا أنه يعرف مشاعري لكان لا يدري ماذا يفعل، فهو رجل عظيم وإنسان حساس وكل المزايا فيه، ولكنني أنا لم أختره وهو لم يخترني، ربما كان يختارني أو أختاره لو لم يشعر كل منا أنه مفروض على صاحبه، أنتم باتفاقكم السري وإشارتكم التي كنتم تظنونها في غاية الذكاء، وهي لم تكن كذلك، أنتم الذين باعدتم بيننا، ثم كيف يخطب هو أو أقبل أنا أن نتزوج ونحن نحس عمرنا كله أننا إخوة، بيته بيتنا أطلب فيه ما أشاء من أكل وشرب وهو أيضا يشعر أن بيتنا بيته، ليست الأخوة صلة رحم فقط، وإنما كثيرا ما تكون أقوى بطبيعة الصلة بين الناس بعضهم وبعض، مثل الأخوة التي بينكم أنتم الأربعة، كيف تتصورون أن يتعلم مجدي في الجامعة وأتعلم أنا في الجامعة ثم تتحكمون أنتم فينا؟ النهاية أنا ومجدي متفقان اتفاقا له الآن سنوات بعيدة، لا أذكر منذ متى ودون أن نتكلم، أننا لن نتزوج، فإذا كان عندكم وسيلة لتزويجنا غصبا عنا فالأمر لكم.

وساد الصمت ولم ينبس أحد بكلمة، وقالت نعمات في رعونة وفي محاولة إنقاذ: مجدي قل شيئا.

وفي رجولة وثبات قال مجدي: لقد قالت إلهام كل شيء، وإن كان هناك ما أقوله فهو فعل لا قول.

وقام مجدي وأمسك بيد إلهام، وصافحها قائلا: أنت أشجع مني، وأنا أعرف أخلاقك العظيمة كل المعرفة، وإنما لم أكن أتصور أنك رائعة إلى هذه الدرجة، أنا أحييك.

وقال سويلم: ولكن يا بني ...

وقال فؤاد وقد أحس أن الصلة بينه وبين سويلم عادت إلى طبيعتها: ولا كلمة يا سويلم، العيال علمونا درسا كان يجب علينا نحن أن نعلمه لهم، ولكن يا أخي لا بد أن نعترف أن العلم شيء عظيم والثقافة قيمة كبرى، وأنا وأنت لم نتخرج في الجامعة، فأن يعلمنا أولادنا أكرم لنا ألف مرة أن يعلمنا الأغراب.

ويضحك الجميع ويقول مجدي لأمه: الآن يا نينا تستطيعين أن تزغردي. - تدهش نعمات. - أزغرد! أزغرد على أي خيبة؟

ويقول مجدي: زغردي أنكم أخوات كما كنتم دائما وأن أصغر عضو في الأسرتين حلت المشكلة بكل عقل وبكل شرف، وحياتي عندك يا ماما زغردي.

وتزغرد نعمات ثم تقول: الأمر لله.

وتعود الأسرتان إلى مألوف عاداتهما من الضحك والتعليقات، ويحس الجميع أن السحابة أمطرت ماءها ولم تصب أحدا بالبلل.

الفصل الثاني عشر

قال علوان سلطان: حمدي ما أخبار فكري وألفت؟ - يلتقيان كل ليلة. - أتظنني لا أعرف هذا أما أنك عبيط، إنما يلتقيان في شقتي يا أستاذ. - لا مؤاخذة، إذن فأنت تسأل عن ... عن ... - عن مدى تعلقه بها. - أظنه متعلقا بها كل التعلق. - أنا أريده يجن بها. - لقد قارب على هذا. - إذن اسمع. - تحت أمرك. •••

قال حمدي لفكري: ألم يأت الأوان أن تقدم هدية لألفت؟ - نعم، لكن من أين؟ أنت تعرف البئر وغطاه. - البئر الذي تتكلم عنه لا ينفعنا. - لقد ذكرتني، من أين لك كل هذه الأموال؟ بالأمس ألبست سعدية عقدا بألف جنيه، وأنا أعلم أيضا أن أباك يعطيك مائتي جنيه كمرتب. - مرتب أبي هذا يصلح لليلة واحدة ناشفة. - فمن أين؟ - أنا أشتغل. - فيم؟ - لا شأن لك. - لا شأن لي أنا يا حمدي. - ألم يقل لك هشام شيئا؟ - لا. - إنه يساعدني. - منذ متى؟ - من زمان حتى وهو في المدرسة. - أيساعدك في الفراغ عند أبيك يا ابن المنجد. - قبل أن تقل أدبك اسأل. - أنت لا تريد أن تجيب. - الليلة نلتقي عند علوان بك. - وهو كذلك. - قل لي، هل كلمك أبوك أو كلمتك أمك عن السهر؟ •••

قالت وهيبة: أمعقول هذا يا فؤاد الولد سهران كل ليلة لوش الصبح؟

ويضحك فؤاد: أي ولد؟ - عجيبة. - حسبتك تقصدين فكري. - يا رجل أتستعبط، طبعا أقصد فكري، وهل عندنا ولد غيره. - إذن فأنت العبيطة. - أنا؟ - فكري لم يصبح ولدا، فكري زملاؤه تخرجوا في الجامعة وهو الآن يعمل تاجرا، وفكري ليس متزوجا ولا هو مرتبط بمذاكرة، فإن لم يسهر فماذا يصنع؟ هذا هو الطبيعي. - الطبيعي! هذا هو الطبيعي، لقد ظللت بعد زواجك الأول إلى سن الأربعين أعزب في بيت أبيك، أكنت تسهر كل ليلة؟ - لو لم تكوني خريجة جامعة لما دهشت لما تقولين، الزمن غير الزمن، أنا ظللت إلى أن مات أبي لا أجرؤ على التدخين أمامه، وكنت رجلا وتجاوزت الأربعين وعندي المحروس فكري، الآن الآباء يصبون الويسكي لأولادهم. - ولكنني أخاف عليه. - أتخافين على رجل مكتمل. - أتصدق أنني لا أستغرق في النوم إلا إذا جاء هو؟ - أصدق لأنني مثلك ولكن ماذا نفعل؟ - نقول له. - وإذا تبجح في الكلام وقال أنا رجل وأنا حر؟ - ألا يأخذ مصروفه منك؟ - طظ، إنه يستطيع من بكرة أن يعمل مع حمدي الفنجري ولا يحتاج إلي ولا إلى مصروفي، اسمعي يا وهبية، التجارة علمتني أن العملية التي لا أقدر عليها، أتظاهر بأنني لا أعرف عنها شيئا. - تقصد؟ - أقصد أن نتظاهر أننا نظن أنه يأتي إلى البيت بعد نومنا مباشرة. - أيصلح هذا؟ - أولا يصلح، وهل نملك شيئا آخر؟

وتطرق وهيبة في أسى وهي تقول: لا، فعلا لا نملك شيئا آخر. •••

قال علوان: أهلا فكري باشا. - إذا قلت لي أنت يا باشا فماذا أقول لك؟ يا سمو الأمير!

ويضحك علوان ملء فمه ويقول: أنا أريدك باشا فعلا. - أنا طوع أمرك. - أنت تذهب كل ليلة إلى الكباريه. - نعم. - لا تعجبني جلستك هناك. - لماذا يا سعادة البك هل عملت شيئا؟ - الذي لا يعجبني أنك لا تعمل شيئا. - مثل ماذا؟ - عقد ورق لهذه الراقصة، هدية لهذه المغنية، تحية لهذا، كأس ويسكي لآخر. - ولكن يا سعادة ... ولكن ... - أعلم، اسمع، أنت وحمدي ستذهبان غدا في عملية من أجلي ستتم، وتعال قابلني بعدها. - أمرك. - واسمع. - نعم. - خذ هذا أبقه معك. - ما هذا يا سعادة ... - مفتاح الشقة التي تذهب إليها كل ليلة دون رحمة أو شفقة، لدرجة أن الشقة كادت تقدم لي استقالة، فهي ليست متعودة على العمل يوميا، أبق المفتاح معك، فقط اسمع. - نعم. - يكون معك دائما لأنك لا تأمن أن أطلبه منك على غير انتظار. - أمرك يا سعادة البك وألف شكر، أطال الله عمرك. - مع السلامة. •••

في السيارة قال فكري: علوان بك بحاله يحتاج إلى سيارتي المسكينة هذه. - كل الحاجة. - أنا أعتقد أن عنده بدلا من السيارة عشر سيارات. - وعشرين إذا أراد. - إذن فما حاجته إلى ... - سيارة لا يعرفها أحد. - ماذا؟ - ألم تسمع؟ - سمعت ولكن ما زلت مندهشا. - سيارتك باسم شخص ابن تاجر كبير واسمه لا يمكن أن يتطرق إليه شك. - شك فيم؟ إلى أين سنذهب؟ - ألم تفهم؟ - الآن أكاد أفهم. - إذن. - مصيبة! - وأي مصيبة في هذا؟ - جناية، أشغال شاقة مؤبدة! - كلام فارغ. - استعملتها كثيرا وعلوان بك يريدها أن تختفي بعض الوقت. - ألا تخاف يا حمدي؟ - إذا خفت أحرم من هذه الحياة التي أعيشها، والتي لم يصل إليها أبي أو أبوك إلا بعد أن شاخ كل منهما وأصبح لا يعرف كيف يعيش. - ولكن أبي وأباك يعيشان في أمان. - الدنيا مغامرة والفلوس إذا لم تأت إليك وأنت في عز الشباب فلا داعي لها.

وسكت فكري لحظات ثم قال: عندك حق. - أتدري كم آخذ في العملية الواحدة؟ - كم؟ - خمسة آلاف جنيه. - يا نهار أسود. - وأنا؟ - ستأخذ مثلي وربما تأخذ أكثر في أول عملية. - لم أمسك مثل هذا المبلغ في حياتي. - ستمسكه وترميه أيضا. - قل لي أين هشام؟ - لا أدري، له أيام لم يكلمني، وكلما سألت عنه قال أبوه إنه مسافر. - عجيبة، أنا أيضا لم أره منذ بضعة أيام.

الفصل الثالث عشر

حين عين مجدي بالسكة الحديد كان طبيعيا، وقد عرفوا أنه يسكن المعادي، أن يعمل مهندسا بخط حلوان، وكان طبيعيا أن يلتقي بالأستاذ درديري إسماعيل المسئول الإداري عن قطع الغيار التي لا يستطيع مهندس أن يعمل بدونها، وكان طبيعيا أيضا أن يتحدثا معا عن الأصدقاء المشتركين لكليهما، وعرف الأستاذ درديري أن مجدي يعرف ابنه وأنهما كانا في مدرسة واحدة، وأحس مجدي الفيجعة التي يشعر بها الأستاذ درديري أن ابنه يتعثر في المدارس، وأنه حين نال الثانوية العامة نالها بلا مجموع، وأنه إما أن يعيد السنة أو يبحث عن معهد، ويقول درديري: بعيد عنك يا باشمهندس التأم مع اثنين صائعين لا يتركهما ولا يتركانه.

ويقول مجدي: تقصد فكري فؤاد وحمدي الفنجري. - قطعا. - ولكن هذين لهما أبوان يستطيعان أن يجعلاهما يعملان بالأعمال الحرة. - ولهذا جاءني منذ كم يوم يقول لي إنه سيعمل مع الولد الفنجري، فانفجرت فيه يا باشمهندس وأقسمت بالطلاق إنني إن سمعت اسم واحد منهما في البيت، سأطرده وأجعله يضيع في الشوارع.

وقال مجدي: ألم تتعجل بعض الشيء يا عم درديري؟ - مطلقا. - ألا تخشى أن يعمل مع الفنجري ويترك البيت فعلا؟ - يا نهار أسود ... فعلا ... الولد لم يطلب حتى مصروفا منذ أكثر من شهر ... فعلا. - خففت الوطأة عليه بعض الشيء. - لا حول ولا قوة إلا بالله، إذن من أين يأتي بالفلوس؟ - ألا تعرف، أغلب الأمر أنه يعمل مع صديقه، وأي بأس في ذلك؟ المسألة لا تستاهل كل هذا الغضب. - يعمل مع صديقه؟ وهل صديقه يعمل ... إنه ضائع يأخذ مرتبا من أبيه بلا عمل، هذا لأنه أبوه ... أتراه سيعطي ابني هو أيضا بلا عمل؟ - ولماذا بلا عمل يا عم درديري ... قد يكون حمدي رجا أباه من أجل صديقه، واشترط الأب أن يعمل هشام. - على الله ... على الله ... على كل حال بلاء أخف من بلاء.

الفصل الرابع عشر

أقيم فرح رائع للمهندس مجدي أبو الروس نجل الوجيه الأمثل سويلم أبو الروس على ذات الصون والعفاف الآنسة سميحة فريد كريمة السيد الأستاذ فريد عبد القادر، وازدحم المكان بالمدعوين يستقبلهم فريد وسويلم وفؤاد وزوجاتهم، فوهيبة ما زالت تعتبر أن الفرح فرح ابنها، وتمت الزفة ودقت الطبول والمزامير وقدم الفنانون ما لديهم، ولكن في هذا الزحام رجل يجلس لا يحس من حوله شيئا، الدنيا حوله دوار والفرح ضجيج والحياة يأس والغد سواد، وهو يريد أن يقول ما جاء من أجله ويمضي، ولكن هيهات وكيف له أن يصل إلى ما يريد.

زحام هو الفرح، والعريس والعروس دمى تحركهما أيد يعرفانها ولا يعرفانها، وكل من في الفرح يجد له شأنا يلهيه.

يتصل الحديث إن هدأت الموسيقى وينقطع إذا هدرت، إلا ملحوظة عابرة أو نكتة رفضت أن تنتظر الهدوء، ولكن الرجل لا يكلم أحدا ممن حوله ولا حتى زوجته، فهي لا تدري أنه جاء لمهمة، وإنما تظن أنه لبى دعوة زميله في العمل وأبى أن يتخلف، وكلما ازداد الفرح إمعانا في السعادة ازداد الرجل إمعانا في الشقاء، والأستاذ درديري إسماعيل لم يأت من أجل الفرح ولا من أجل أن يهنئ زميله مجدي، ولا ليرفه عن زوجته التي لا تكاد تخرج، لشيء آخر بعيد كل البعد عن هذا جميعا، جاء دردير وكان شأنه عجبا، كيف تصورت أنني سأستطيع أكلمه اليوم أهذا معقول، أيمكن أن أكلمه في أمر كهذا في فرح هو فيه العريس، أليس الأجدى أن أقوم الآن، يا ليلة سوداء أقوم إلى أين، وإذا قمت أين أجده بعد هذا، لا يعقل أن أكلمه الليلة وهو عريس، فالمستحيل المؤكد أنني لن أكلمه غدا، وأين يمكن أن أكلمه غدا ثم هو بعد ذلك في شهر العسل، عسل أسود، والرجل ما ذنبه، أكان لا بد أن يتزوج الليلة، الليلة بالذات، الليلة التي عرفت فيها الحقيقة السوداء، كله أسود والدنيا كلها سواد، في أفراحها سواد وفي صباحها سواد وفي مستقبلها سواد، أهذا جزائي، كل هذه السنوات من الطهارة وعفة اليد والسمعة الكريمة.

نحن جيل لا مثيل له في سوء المصير، استقبلنا شبابنا في الظلام حين فرضت الحرب منع الإضاءة، وحين انتهت الحرب العالمية دخلنا نحن حرب 48، وحين انتهت جاءت الثورة فتعلقت بها آمالنا، فإذا هي تخذلنا في الحرية أعز آمالنا، ثم أفقرت الأغنياء ولم تغن الفقراء، وهاجمت السرقة وعدم الأمانة وكان رجالها من أكبر رجال العصابات في السرقة وعدم الأمانة، وقلبت القيم عند أبنائنا وأصبحت عفة اليد والسمعة الكريمة التي أتغنى بها خرافة عند ابني، ما دمت لا أستطيع التغني بالشرف بالأموال الطائلة، وجيلنا نحن أغلبه عرف الشرف قيمة يلتزم به؛ لأنه جزء من كيانه وخلقه لا يتصنعه أو يرغم نفسه عليه، بل هو جيل في أغلبه يتصور أن الشرف هو الأصل والجريمة استثناء في خلق المجتمع لا أصل فيه، ويضحك أبناؤنا من أفكارنا، ونتقزز نحن من أفكارهم فلا هم قادرون على قبولنا ولا نحن قادرون على فهمهم، وكنت تعلقت بأمل أن يتثقف ابني ويعرف أن الشرف غاية في ذاته، وليس من الحتم أن يكون وسيلة، وأن الشريف يستطيع أن يكون شريفا دون أن ينتظر على شرفه جزاء أو شكرا؛ لأنه نال الجزاء براحة الضمير وهدوء النفس وأمن المشاعر، ولكن ابني رفض الثقافة أيضا، وكان أملي الوحيد أن تنقذه من السمات الغالبة على جيله، وكان هذا الذي جئت من أجله إلى هنا، وكان مجيئي نوعا من السذاجة فقد ظننت في سذاجة أن الإنسان يمكن أن يكلم عريسا في يوم فرحه، إنها على كل حال تجربة لم أحاولها من قبل، ففي كل الأفراح التي حضرتها أخيرا كنت أدخل مع الداخلين وأخرج مع الخارجين، ولا يدور بذهني أن أكلم العريس، فمنذ قرابة عشر سنوات لم أحضر فرحا العريس فيه هو الصديق الداعي، إنما يكون الداعي دائما أبوه، فكيف كنت أتصور أنني سأفشل هذا الفشل، وما العمل الآن؟ لا شيء إلا الصبر، وهل أستطيع؟ وهل نملك شيئا آخر؟ فما بقائي الآن؟ أما الفرح فلا يصلح لي وأما الضجيج فكارثة بالنسبة لي، وأما العريس فلن أستطيع محادثته وحسبي الله ونعم الوكيل. - قومي يا روحية. - إلى أين يا درديري؟ - إلى بيتنا. - ونترك الفرح؟ - وهل سنرقص فيه؟ لقد دعينا فأجبنا وجاملنا زميلنا. - ففيم كان لبسي وتجميلي؟ - اغسلي وشك يروح كل شيء لحاله، قومي بنا. •••

كانت ألفت ضمن الراقصات في الفرح، واستطاع فكري أن يخلو إليها لحظات. - متى سترقصين؟ - الآن. - ثم؟ - سأذهب إلى الكباريه. - الليلة أبي وأمي سيسهران هنا حتى الصباح أنتظرك في الشقة؟ - الليلة لا يمكن. - لماذا؟ - عندي موعد آخر. - ماذا؟ - ماذا؟ - ماذا تقولين؟ - لا شك سمعت. - ألا تخجلين؟ - مم؟ - ألا تقدرين هذا الذي تقولين؟ - أولا لا ترفع صوتك، وكلمة أخرى سأتركك أو سأفضحك.

وهمس في غضب مجنون: أمعقول هذا؟ - ألم تعرف صنعتي من أول يوم؟ - راقصة. - وحين ذهبت معك إلى الشقة كنت راقصة؟ اسمع، الكلام هنا مستحيل. - لا يمكن أن تذهبي إلى موعد الليلة. - أكنت تعتقد أنك الوحيد طوال هذه المدة؟ أما عجيبة، غدا، غدا ألقاك في الشقة. مع السلامة.

وتركته ومضت، بنت الكلب كيف تجرؤ، منذ يومين فقط أحضرت لها هدية بخمسمائة جنيه، وتقول إنها تحبني، أي نوع من الحب هذا، بنت الكلب، لا أراها بعد ذلك أبدا، النسوان أمثالها على قفا من يشيل، بنت الكلب ولكني أريدها هي، أحبها، وهي تعلم، وكيف سأراها غدا؟! لن أذهب إليها، وماذا يهمها هي، إن ذهبت أو لم أذهب، ما بقائي في الفرح الآن، إنه عندي أصبح مأتم حبي. عامل لي أديبا يا حبيبي، حبك لم يمت ولكنك لم تعرف الغيرة قبل اليوم والله لا يمكن، لا يمكن أن أسمح لها أن تلعب بي مطلقا، كيف أستطيع أن أتحكم فيها، أقتلها، هائل، وما له ألم تصبح مجرما محترفا، نترقى ونصبح قتلة أيضا، هائل، سترى. سترى بنت الكلب. •••

هذا الفرح وهذه السعادة على وجه العروسين أنا التي صنعتها، أنا وحدي التي جعلت هذا الفرح قائما معلنا، لا يتخفى ولا يحزن فيه أهله ولا أهلي، لم يكن مجدي بالنسبة لي حبيبا. كان يمكن أن يكون عريسا ولم أرفضه في أول الأمر ولم أقبله؛ لأنني مع أهلي أخذت الأمر قضية مسلما بها، ولكن ما لبثت أن أفقت على الحقيقة، لقد كنت أرى تقربه لسميحة وتقربها له، وانتظرت لأن الكلام في الزواج كان في غير موعده على كل حال، وحين نال مجدي الشهادة أدركت أنني لا بد أن أعلن رأيي، فقد كنت أصبحت موقنة أنه يحب سميحة وأنها تحبه، ولم أشعر أنا نحوه إلا بمثل حبي لفكري أخي لا أكثر، ولا أظن أن الحب يمكن أن يكون كذلك، إن ما صنعته لم يسمع أحد بمثله، وما أظن أنني سأكون سعيدة في يوم فرحي سعادتي اليوم بنظرات العروسين لي كلما التقت منا النظرات، أرى في ضيائها الوضيء الشكر والحب والعرفان والإعجاب، أي شيء أجمل من كل هذا.

الفصل الخامس عشر

قبل أن تجلس سألها: هل ذهبت إلى موعد الأمس؟

وجلست في هدوء وأشعلت سيجارة وقالت: اسمع أنا لم أذهب إلى موعد الأمس؛ لأنني أحبك ولم أرض أن أكسر كلامك. - هل متأكدة أنك لم تذهبي؟ - أنت غبي. - هل جننت؟ - لو كنت أكذب عليك ما قلت لك بالأمس إنني ذاهبة إلى موعد، هناك آلاف الأعذار. أستطيع أن أختلقها. - لك حق، ربنا يطيل لي عمرك. - لا، انتظر، الأمر لم ينته بعد. - كيف؟ - أتظن أنني لن أذهب إلى مواعيد أبدا. - إذن تنوين أن تذهبي؟ - لا شك في هذا. - أهذا معقول؟ - هذا أكل عيش. - ألا يكفيك الكباريه؟ - فكر في الكلام الذي تقوله، أي شيء يمنعني الآن أن أقفل في وجهي بابا من رزق مفتوحا على مصراعيه، ما الذي يمنعني؟ - الحب. - الماذا؟ - الحب طبعا. - وما شأن الحب بهذا، الحب في القلب، وأنا أحبك الآن ولكن لا أدري غدا ما مصير هذا الحب. - ماذا تعنين؟ - أعني أنك ما دمت لست بزوجي فأنا عرضة لأن أحب غيرك طبعا، حبي لك الآن هواية، ولكن أنا امرأة، الحب عندي حرفة ولا أدري ربما أجد هوايتي مع شخص آخر. - إذن فأنت تريدين الزواج؟

إذن أنا الذي أريد؟ - نعم أنت. - أنا؟ - طبعا أنت. - هل يمكن هذا؟ - هذا شأنك، يمكن أو لا يمكن هذا شأنك أنت، فأنا لم أطلب منك شيئا. - وهذا الذي تقولينه؟ - الحقيقة. - حقيقة سوداء. - سوداء أو بيضاء. - ما هي هذه الحقيقة؟ - الحقيقة أنني لا أمانع أن تستمر علاقتنا على ما هي عليه. - وتمتنعين عن لقاء غيري؟ - أقول لك على ما هي عليه، وأنا ألتقي مع غيرك لأن هذه هي طبيعة حياتي، إذا أردت أن تغير حياتي فلا بد أن يكون هناك سبب معقول. - أتزوجك؟ كيف؟ ماذا أقول لأبي ولأمي؟ - هذا ليس شأني. - اسمعي اتركي لي فرصة لأقول لهما. - أنا تحت أمرك لكن إلى أن تقول لهما تظل العلاقة على ما هي عليه. - لا يمكن، مستحيل. - اسمع يا فكري كن عاقلا وفكر كما يفكر الرجال، إذا أردت الصلة بيننا أن تستمر كما هي نلتقي كلما سنحت فرصة، وبعد ذلك أنا حرة وأنت حر أنا تحت أمرك. تريدني أن أكون لك فقط لا بد أن يكون هناك سبب أبرر به لنفسي انقطاعي عن مورد ضخم من مواردي. - ألا أقول لأبي وأمي؟ - ماذا ستقول لهما؟ - أننا سنتزوج. - وماذا سيقولان، حين تقول لهما سأتزوج راقصة أعاشرها معاشرة الأزواج دون زواج، ماذا تنتظر أن يقولا؟ ألف مبروك ربك يهنيك بها ونريد منكما الأحفاد.

وصمت فكري فترة ثم قال: طبعا لا يمكن. - إذن؟ - إذن. - إذا كنت أنت مقتنعا بالزواج نتزوج ثم نجعلهما أمام الأمر الواقع. - وهو كذلك، قومي بنا. - إلى أين؟ - نتزوج. - وأين سنعيش. - أليس عندك شقة؟ - افرض، أترضى أن تعيش في شقة كنت ألتقى فيها بغيرك. - مؤقتا. - وبعد ذلك؟ - اسمعي، أنا عندي فكرة. - ما هي؟ - قومي بنا. ••• - سعادة البك. - نعم يا فكري باشا؟ - أنا عرفت ألفت في بيتك فمن حقك علي إذا أردت الزواج منها أن أخطبها منك. - صحيح ألف مبروك، ألف مبروك يا فكري، هل أنت موافقة يا ألفت؟ طبعا موافقة وإلا لما كنت أتيت معه، الليلة تتزوجان هنا، وأقيم لكما الفرح وتعتذرين الليلة عن الكباريه، أنا الذي سأعد الفرح بنفسي، والشقة تحت أمرك. - أطال الله عمرك. - حتى تعد لنفسك شقة، أنت الآن تكسب ألوفا.

وتقول ألفت: وأنا سأؤجر شقتي مفروشة. - لا يخشى عليك يا بت. كيف استطعت أن توقعي الولد في هذه الفترة البسيطة، لا تقولي شيئا، هو الملعون الحب، عرفته.

ويقول فكري: إنك يا بك تصنعه على يدك، وهل في العالم من يعرفه مثلك؟ •••

تم الزواج وحين رجع فكري إلى البيت كان صوت المؤذن يصيح بالناس «الصلاة خير من النوم»، ولحقت به أمه بعد أن خلع الجاكتة. - سهران للفجر يا فكري؟

وفي سرعة وذكاء وجد نفسه يقول: أنا أبدا، إنني ألبس لألحق بصلاة الفجر.

وفغرت وهيبة فاها: ماذا؟ منذ متى؟ - منذ الآن يا ماما، كنت بالأمس في حضرة وتبين لي أن صلاة الفجر تنشط الإنسان، وتجعله مبروكا في كل ما يقوم به من عمل أثناء يومه.

وصمتت قليلا ثم قالت : وهل قالوا لك في الحضرة إن صلاة الفجر جائزة بغير وضوء.

وضحك فكري ضحكة مغتصبة، وأسعفه ذكاؤه: أهذا كلام يا ماما، سأتوضأ في الجامع حتى لا تفوتني صلاة الجماعة.

وأدركت وهيبة كذبه ولكن حلا لها أن ينزل بنفسه ما أراد لها من عدم النوم فقالت: يا بني ألف مبروك، سأوقظك كل يوم لتصلي إن شاء الله.

وصرخ فكري: لا، في عرضك، أنا سأضبط المنبه في الأيام التي لا أكون منهكا فيها، إن الله غفور رحيم. - هذه هي الصفة الوحيدة التي تعرفها، على كل حال لا بأس ما دمت تعرف صفة من صفات الله، مع السلامة يا بني. - مع السلامة يا ماما.

الفصل السادس عشر

مر على فرح مجدي عشرة أيام ثم لم يستطع دردير انتظارا وطلب سويلم بمحل تجارته: صباح الخير يا أفندم أنا دردير إسماعيل. - أهلا وسهلا سعادة البك، أنا أعرف سعادتك من مجدي. أهلا وسهلا. - مجدي أخذ إجازة خمسة عشر يوما. - نعم يا أفندي. - أينوي أن يقضيها كلها بالإسكندرية؟ - والله هو ينوي ذلك إنما إن كنت تريد نطلبه. - لا أبدا شكرا، أنا فقط أردت أن أطمئن عليه، طبعا هو بيكلم سعادتك. - كل يومين أو ثلاثة. عريس كما تعلم سعادتك والعقبى لأبنائك. - ربنا يهنيه ويسعده ويبارك لي فيه. - ألف شكر يا سعادة البك.

المكالمة لا تحتمل أكثر من هذا ولكنه لم يخرج منها بشيء، اضطر أن يبحث عن شيء فوجد نفسه يقول: المسألة إن فيه ورقة هامة كنت أريد أن يوقع عليها. - وما له تحت أمرك، أرسلها إلي وأنا أرسلها مع أحد عمال المحل.

لا حول ولا قوة إلا بالله ماذا أقول له الآن؟ النهاية الأمر لله.

قال درديري: أبدا أبدا، حضرتك فقط قل لي اسم الفندق وأنا أرسل ساعيا من عندنا. - هو في فندق فلسطين بالمنتزه. - ألف شكر يا سيدي ألف شكر، السلام عليكم. •••

كان مجدي يستعد للقيلولة حين دق جرس التليفون في حجرته، وأخبره الفندق أن الأستاذ درديري إسماعيل يريد أن يكلمه، وحين أوصله به: أهلا درديري بك مرحبا. - لا عليك يا مجدي يا ابني أنا أقلقت راحتك، ألف مبروك مرة أخرى.

ودهش مجدي، أيطلبه من القاهرة ليقول له ألف مبروك وهو قد حضر الفرح؟! أدرك أن الأمر أكبر من هذا بكثير. - يا أفندم أطال الله عمرك. - أنا أريدك يا مجدي. - أجيء إلى القاهرة. - أنا يا ابني هنا عندك في الفندق وأريد أن أكلمك وحدنا. - لحظات وأكون معك. ••• - أكذب لو قلت لك إنني جئت إلى الفرح لأهنئك. - خير يا درديري بك؟ - بل ليس خيرا مطلقا. - ماذا؟ ماذا حدث؟ - يوم فرحك كنت أبحث لنفسي عن رباط عنق يليق بالفرح، لم أجد عندي قلت في نفسي طبعا هشام عنده كل أربطتي، ذهبت إلى دولابه وفتحته بمفتاح معي فانفتح، وأخذت رباط العنق وهممت أن أقفل الدولاب، ولكنني وجدت قمصانه مرتبة ترتيبا غير منسجم، فوضعت يدي عليها بصورة عفوية فسمعت صوتا لا يتأتى من قماش، المهم، وجدت في دولاب هشام سبعمائة جنيه يا مجدي يا ابني، ربنا يعلم ما ألم بي، لم أستطع أن أقول شيئا لأمه، ولم أستطع أن آخذ المبلغ وأسأله لأنه سيكذب علي، وجئت لك الفرح خصيصى لأسألك عما تعرفه عن نشاط فكري وزفت الآخر، لم أستطع أن أنال لحظة معك. - أنا آسف يا عم درديري. - وأنت ما ذنبك، رجعت إلى البيت ولم يغمض لي جفن حتى الصباح، وتركت العمل وتبعت الولد دون أن يشعر، المهم عرفت أنه وفكري وحمدي متصلون بشخص غاية في الثراء، لي ابن عم في الشرطة، تظاهرت أنني أزوره لغير غرض، فعرفت أن الشخص الذي يعرفونه واسمه علوان سلطان من أكبر تجار المخدرات، وأنه يستغل الشباب الذي لا يدل مظهره على أية شبهة، وعلمت أيضا أنه يعمل تاجرا في الرقيق الأبيض. - يا خبر أسود! - من جهتي أنا رجعت إلى البيت ووجدت الفلوس في مكانها، انتظرت الولد حتى جاء وضربته. - ضربته؟ - بالحذاء. - وهو ماذا فعل؟ - هددته أنني سأبلغ عنه وعن علوان، ورأى في عيني الجد وفعلا كنت أنوي أن أفعل ذلك، أنا عشت عمري كله أضيق على نفسي وعلى زوجتي وعلى ابنتي والولد لأكون شريفا، إذا كان هذا الولد سيلوث اسمي ليذهب في ستين داهية، شرفي ومستقبل أخته وسلام بيتي أهم منه، أمرته أن يذهب إلى البلد ويعيش مع عمته حتى أرسل له. - وأطاع؟ - لو لم يكن يخشى أن أبلغ عنه ما أطاع، الفلوس في متناول يده وعلوان عنده. أطاع غصبا عن عينيه وسافر. - لا حول ولا قوة إلا بالله. - لا حول ولا قوة إلا بالله، أتظنني أجهل هذا، أتظن أنني جئت إليك من مصر خاصة لمجرد أن أحكي لك. - أنا تحت أمرك. - الولدان الآخران. - ما شأنهما؟ - فؤاد أبو فكري طبعا لا يعرف شيئا وكذلك الولد الآخر، وأنا لا أعرفهما، وأخشى أن يضبطا ويذكرا اسم هشام. - الله! لقد نبهتني. - ألم تكن تنبهت؟ إذا أنا ذهبت إلى فؤاد وأخبرته ما الذي يجعله يصدقني، وحتى لو صدقني كيف أجابه الرجل على غير معرفة وأفجعه هذه الفجيعة؟ - لا عليك، ربنا معك، اترك الأمر لي. •••

قال لزوجته: لا بد أن نسافر إلى مصر. - خير يا مجدي؟ - ستعرفين حين أجد الوقت مناسبا، ولكن من حقك أن تعرفي أنها مسألة لا تمسني شخصيا، ولا تمس أي شخص يهمك، وكل ما أرجوه منك أن تثقي في. - أأعطيك حياتي كلها ولا أثق فيك، أنا تحت أمرك.

دهش سويلم وهو يرى ابنه وزوجته داخلين إلى البيت، وحاول أن يخفي دهشته ولكن نعمات لم تستطع: حسبت أنك ستمد الإجازة خمسة عشر يوما، خيرا يا بني، خيرا يا سميحة.

وضحكت سميحة وقالت: ابنك رجل مهم كل الأهمية، رئيسه طلب منه أن يقطع الإجازة.

وقال سويلم وهو يحاول أن يجد سببا لهذه العودة المفاجئة: فعلا لقد كلمني في المحل.

وقالت سميحة: ألم أقل لك يا ماما؟

ولم يستطع مجدي أن يقول لأبيه شيئا، وإنما صعد إلى شقته وقضى الليلة. وفي الصباح ذهب إلى أبيه في المحل، وروى له كل ما عرفه من درديري، ولم يتكلم سويلم وإنما أخذ ابنه فورا إلى محل فؤاد وانتحى به ناحية. •••

وجد فؤاد في دولاب ابنه ألفا وخمسمائة جنيه، ولم يعد فكري في الظهيرة وظل ساهرا خارج البيت حتى الثانية صباحا، وحين عاد فوجئ بأبيه وأمه جالسين في غرفة المعيشة ينتظرانه وتوجس. - خير يا بابا؟ خير يا ماما؟

وأخرج فؤاد النقود وألقى بها على المنضدة أمامه. - ما هذا يا فكري؟

وارتمى فكري على أقرب كرسي وصمت قليلا، ثم استجمع شجاعته، لقد كان ينوي أن يخبرهما بزواجه والآن جاء الوقت: أعيب أن أتاجر؟ - في المخدرات! - في أي شيء.

وصاحت وهيبة: في أي شيء يا فكري، حتى في البشر؟! - الفلوس فلوس مهما يكن الطريق الذي جاءت منه. - إذن تعمل قوادا. - لا أحتاج إلى هذا. - الذي يتاجر في السموم يتاجر في البشر، مثل علوان سلطان سيدك. - أنا ليس لي سيد. - إذن السهر حتى الصباح في التجارة والكباريهات. - أنا متزوج.

وصعق الأبوان وتمالكت وهيبة نفسها، وقالت: ماذا؟ - أنا متزوج. - عاهرة طبعا وإلا كنا خطبناها لك، عاهرة! - إن الله غفور رحيم وقد تابت.

ساد صمت طويل ثم قال فؤاد: تخرج الآن من هذا الباب، ولا تعد إليه إلا في واحدة من اثنين، إما أن تكون طلقت زوجتك وتركت تجارتك إلى الأبد، وإما أن أكون أنا ميتا.

وفي حسم قالت وهيبة: وأكون أنا أيضا مت، لست أما لقواد.

وقال فؤاد: أسمعت؟

وأطرق وهو يقول: نعم. - ففيم انتظارك، اخرج، وإذا مت قبل أن تعود إلى الطريق الذي سرنا جميعا فيه، والذي يسير فيه خلق الله الأشراف، فستجد أنني لم أترك لك مليما واحدا من مالي.

وأكملت وهيبة: ولا مالي أنا أيضا.

وصاح فؤاد في لهجة حاسمة قاطعة: امش لا تدخل هذا البيت ولا تجلس فيه لحظة واحدة!

وقام فكري وخرج. •••

بعد أيام ثلاثة كان سويلم ومجدي يجلسان إلى فؤاد ووهيبة في بيتهما.

وقال فؤاد: أنا كتبت نصيب فكري باسمك يا مجدي.

ووقف مجدي صائحا: ماذا؟

وقال فؤاد في هدوء: اقعد واسمع، إذا حدث لي شيء وظل فكري على ما هو عليه يظل المال باسمك، ولا تعطه منه مليما واحدا ، وإذا عرفت وتأكدت أنه رجع عن المصيبة التي هو فيها، لك أن تعطيه المال والريع، والغالب أنه لن يرجع، والغالب أيضا أنه سيقبض عليه، في هذه الحالة إذا كان عنده أولاد من العاهرة التي تزوجها، تنفق على الأولاد من المال، وتحاول أن تشترط على هذه العاهرة أنك لن تعطيهم شيئا إلا إذا دخلوا مدرسة داخلية وابتعدوا عنها، فما دمت قد فشلت في ابني، فلعلي أوفق في الجيل الذي يجيء بعده، بعد عشر سنوات من وفاتي، إذا ظل الحال على ما هو عليه، تعيد المال جميعه بيعا وشراء إلى إلهام فهي أحق به.

وقال سويلم: أنت تحمل مجدي فوق ما يطيق. - ماذا تقول يا سويلم، إذا لم يقف مجدي ابنك معي في مصيبتي هذه فمن يقف؟ أنا ليس لي إلا أنت!

وقال سويلم: بشرط واحد. - أعرفه. - ما هو؟ - لقد أعددت ورقة ضد سأحتفظ بها إلى أن أموت، فإن شعرت بقرب الأجل سأقطعها، وإذا لم أستطع ستقوم وهيبة بهذا.

والتفت سويلم إلى وهيبة: أنت موافقة على هذا يا ست وهيبة؟

وابتسم فؤاد وابتسمت وهيبة في مرارة: أنا التي دبرت هذا التدبير.

وقال سويلم في دهشة: أمعقول هذا؟ - والدليل على ذلك أنني سجلت نصيبي من ميراث أبي في الشهر العقاري اليوم لمجدي، والذي سيفعله مجدي مع فؤاد سيعمله معي، وجهزت ورقة أيضا.

وأطرق سويلم ومجدي، وقال سويلم: إذن فلا حديث لنا.

وقالت وهيبة: في كل جيل الشرفاء وغير الشرفاء، الأمر لله من قبل ومن بعد.

وقال مجدي: ألا تظنين يا عمتي أنكما تعجلتما بعض الشيء؟

وأطرقت وهيبة: أنا أم يا مجدي ولكني أيضا مثقفة، العضو الفاسد إذا لم يبتر يقتل، ونحن أسرة لها بنت واستطعنا والحمد لله أن نحيطها بسمعة كلها شرف ونقاء، قررنا أنا وفؤاد هذا الذي قررناه لنحافظ على سمعتنا.

وقال سويلم: ولكنه مع ذلك يظل ابنكما.

وقال فؤاد: لم ننس هذا، وإنما نصنع ما نصنع حتى إذا قبض عليه، أو عرف الناس أمره، عرفوا أيضا أننا بترناه من أسرتنا، ونستطيع أن نقول ما قاله سبحانه وتعالى لنوح

إنه عمل غير صالح ، فحتى الأنبياء يمتحنهم الله في أبنائهم.

وحسبي الله ونعم الوكيل.

Página desconocida