وقد قال في ذلك الأستاذ بولدوين سميث: إنه كلما اشتجرت طائفتان، وتطاحن حزبان في أمة من الأمم كان ذلك منهما أشبه شيء بشطر الشخصية الإنسانية شطرين، وتجزئة الطبيعة جزأين، وليس في الدنيا من الوجهة الطبيعية أمر كهذا، ولا وقع في العالم شيء منه.
على أن في الكتاب فريقا يدافع عن وجود الأحزاب السياسية في الأمة، وله في ذلك آراء جد مختلفة، وتلك النظريات التي أقامها المعارضون الذين لا يرون فائدة منها، بل الضرر الأكبر، والشر الأعظم، فهم يقولون بأن شطر الإنسانية أجزاء أمر واقع يمشي مع الطبيعة، ويتفق مع النواميس، ويعللون مبدأهم هذا بأن الإنسان أربعة رجال؛ فرجل يريد العودة إلى سنن القديم، وأساليب الماضي، والاستمساك بأنظمة العصر المنصرم، وعنده أن ما كان هو الحق، وأن ما سيكون الباطل الذي لا نفع منه، وذلك هو الذي تسميه أنظمة اليوم «بالرجل الرجعي»، ورجل يود أن يستمسك بأنظمة الحاضر، وما يعيش في عصره من السنن، والشرائع والقوانين، وذلك هو «الرجل المحافظ»، ثم رجل آخر يبتغي إصلاح الأنظمة الحاضرة، وذلكم هو «الرجل الحري»، وآخر يريد أن يلغيها ويمحوها، ويأتيها من القواعد هدما ونقضا، وهو «الراديكالي»، أي الهدام من الأساس في عرف لغة الاجتماع الحديث، فإذا اتفق في أمر حديث من أمور الشعب الطائفتان الأوليان، واتحد الحزبان الأخيران كان من اتحادهما حزبان سياسيان خطيران، يرتكز كل منهما على مبادئ أساسية يقرها العقل، ويرتضيها علم النفس، وهم كذلك يؤيدون وجود الأحزاب في الأمم بقولهم أنها ليست مخالفة لروح الديمقراطية، بل هي محورها، والعامل الأكبر في نمائها؛ لأنه لا يتيسر للشعب بجملته أن يتولى الزعامة في شؤونه في وقت واحد، بل معنى الشعب وحكومته ورأيه «الأغلبية»، ولا يتيسر لجماعة من الناس أن يصلوا إلى ذلك إلا إذا «اتفق أفرادها على أن ينفقوا»، وتلكم الرابطة على رغم ما يتخللها من روح المصانعة والكذب والتكلف، هي اللازمة الأولى للنظام في الشعب، ولولاها لراحت الأمة فوضى من الآراء الفردية المتباينة، المشتجرة المتعارضة.
على أنه ليست حالنا الحاضرة شبيهة بحال تلك الشعوب حتى تكون لدينا أحزاب متنافرة، فأولئك إنما يتخاصمون على مصلحة وطنهم؛ لأن كلا منهم يمسك بطرف منها، ويريد أن يمشي بها إلى غاية يراها السبيل القويمة الرشيدة، وليسوا أمام عدو قوي ليس من صفوفهم، يريدون أن يستردوا منه حقا مضيعا، وحرية سليبة، ونحن في حرب أدبية، ونزاع ساكن على الحياة أو الموت، أمام غاصب مستأسد، مستحصد العزم، داهية كثير الحيلة، ولذلك كنا خلقاء بأن نقف صفا صفا حياله، ننازعه ونجالده، ونناضل في سبيل ما أردنا أو نهلك دونه، ونحشد كل قوتنا لنرد قضيتنا ناجحة فائزة موفقة، أما أن ينطلق فريق منا في ناحية، ويسير فريق في وجهة؛ فتتشعب المسالك، وتختلف الطرق، وتتناوح السبل؛ فتلك ضلة وجهالة وطيش، وما رأينا أمة طلبت من مغتصب حقها الذي اغتصب، ثم وقفت في وجهه، وعلى عينه تشتجر أمامه، وتتصايح وتتعارض، وتتفرق منها الصفوف، وليست طلبة هذا البلد غامضة؛ فتختلف في تأويلها الأذهان، وليست هدية نريد أن نستهدي الإنكليز إياها؛ فينفس فريق على فريق ما نال الشعب منها على يد الآخر، بل الحق فيها واضح، والغاية بلجاء صريحة ظاهرة، وليس أحد بطامع في مجد؛ لأن المجد للشعب ذاته، والفخار للأمة وحدها، والخلود للضحايا والشهداء الذين سالت دماؤهم في فزعة الثورة، ووطيس النهضة.
وفي الحق، لقد سقطت الحماية، وتداعى بنيانها إلى الأرض بضربة من عزمات رجل من أهل هذا البلدة، وقد أصبحت بعد ذلك أمة متحررة من الوصاية، متخلصة من معرة الأبد، نقية الكرامة من ذلة المحمي، فإذا كان ما سيتلو سقوط الحماية، وما سيعقب تلك الخطوة الكبرى منقوصا في نظر جماعات من الناس ، ضئيلا مغالطا فيه، ممنوحا في سبيل ظفر الإنكليز بأكثر منه، ومخادعتنا في بقية الحقوق، وإكراهنا على النزول عن عدة من مطالب الحرية، ومستلزمات الاستقلال، فليس على الشعب بجملته إلا أن يقف وراء هذا الوزير متساندين جميعا متصافين، وإلا أن تأتلف القلوب كلها، وتتوحد الكلمة، وتتضامن الأيدي، وتتحاب الأرواح، وتتهادن النفوس حتى يكون الجهاد في سبيل نوال الحق كاملا غير منتقص، ولا مبتور من جوانبه، مستكملا تاما، وحتى نكون جميعا إلبا واحدا على عدونا، لا يرى في صفوفنا ثغرة؛ فيأخذ في توسيعها، ولا يشهد منا فرجة فيزيد هذا النفار احتداما، وينفخ في نار هذا هذا الشجار؛ لكي يكتسب منا الميدان على طول الفترة، وسكون نأمة الحمية، وانصرافنا إلى ما يهدم بناءنا، ويذهب بريح قوميتنا.
ولم يكن صاحب هذه الترجمة رجلا محتكرا في السياسة، يريد أن يستفرد بالجهاد، وتكون الوطنية شعاره وحده، ولم يكن بالمتجافي الغليظ الكبد، حتى ندعه وحيدا يناضل عنا، ونحن من خلفه متحزبون متفرقون، متصايحون مختلفون، فإذا جاء ببعض الحق قلنا له: لقد بعت بهذا البعض بقيته، وإذا رد إلينا قطعة من أملنا المعسول عيبناه بأنه لم يأت بها جملة، وإذا وقف مستبسلا أمام مغتصبي الحق، ينازعهم عليه، ويناهضهم دونه جعلنا نظنه ممالئا لهم على وطنه، وقرفناه بمصانعتهم على مغالطتنا، كأنما كان الرجل يمت إلى أولئك بقرابة، أو يتصل من الاستعماريين بسبب، وكأنه وليد مستعمرة من مستعمراتهم، ومحسوب من محاسيب عظمائهم، وكأنه هو ممن أنجبتهم مالطة، أو نيوزيلنده؛ فانحدر إلى مصر ليبيعها الإنكليز؛ ليتسع سلطانهم، فيتسع مدى زهوه بهم، وعجبه بإمبراطوريتهم، وكأنما كل ذلك الجهاد الشريف الذي حمل أعباءه، واضطلع بخطوبه؛ لكي يظل في رئاسة الوزارة، ويتمتع بسلطان منصبه، وعظمة نفوذه الدهر كله، والأبد بطوله؛ لأنه اتخذ على الله عهدا أن يعمر رئيس وزارة، وينسأ في أجله، وأجل وزارته؛ فتتصل إلى ختام هذا الجيل، وتبلغ الجيل الذي بعده منحدرة إلى القرن الذي يتلوه.
إن أولئك الذين يدسون على هذا الرجل، ويتحيفون جوانب ما فعل في سبيل أمته، لا يريدون بذلك أن يقهروه لكي يستفردوا هم بالعمل، ويخلصوا هم بالميدان، وتنفسح لهم الحومة وحدهم، فلو أن تلك كانت بغيتهم، وذلك كان ما قصدوا إليه لقلنا لهذا الرجل الخطير: اترك لهم ما صنعت لنرى ماذا يصنعون، ودع لهم عملك ليتموه، ويجعلوا ما فعلت بحسن جهادهم، وشرف ديباجتهم، وعظمة وطنيتهم، ونزل عن مكانه لهم، ونهض عن مجلسه لجلوسهم، لما خسر شيئا، ولما شعر بنقص في مكانته من التاريخ، ونصيبه من الخلود، ولكان أحب إليه أن يكون صاحب الصنيع على هذا البلد، وملاقي النكران منه، والجحود من أهله، ولكنا لا نزال نهيب به أن لا تفتر أمام هذا اللجاج عزيمته، ولا تهن حيال تلك الضجة الجوفاء إرادته، وأن يسترسل في وجهه، ويتابع ما هو متابعه، والتاريخ باق يشهد، والحياة ناظرة إليه، والحسنات تكتب له؛ والسيئات تحصى في كتاب لا يضل محصيها ولا ينسى؛ والرجل ليس بالباقي الذي لا يموت، والمعمر الذي لا يفنى.
وقد أدرك هو ذلك، وما كان مثله لينسى هذه الطبيعة الآدمية الواهية التي وقعت في قالب من الفخار الصلصال، ولا تستطيع أن تجلد على عواصف الدهر، ومطالع الشيب، وهجمات الحدثان، وهو القائل في خطبة له: «لقد نسوا أو تناسوا أننا أشخاص زائلون، وأننا لن نبقى متربعين في دست الأحكام إلا برهة من الزمان، ثم نخلي السبيل لغيرنا ...».
الوزير الأول كخطيب سياسي
في حفلة عيد جلالة الملك وقف صاحب الترجمة في وليمة كبرى في فندق الكونتنتال أدب رجل من سروات هذه الأمة، وألقى خطابة له ظلت حديث الناس زمنا ليس بالقصير.
وقد تجلت في تلك الخطبة للمرة الأولى في تأريخ حكومتنا روح الديمقراطية التي فاضت في نفس رأسها، والوزير الأول الذي في يده دفة أمورها؛ إذ ظهر في وسط جمهور منا يحدثهم عن مبادئ حكومته، ويشرح لهم خطط عمله، ويلقي إليهم أنظمة العهد الجديد، وأساليب التشريع فيه والتنفيذ.
Página desconocida