وكان على أثر ما وقع من تلك الأحداث الرهيبة في جو هذا البلد الهادئ الساكن، وما كان من فعل السياسة الغاشمة من الوقوف في سبيل أمة مجيدة، احتملت نصيبها من ويلات الحرب، واضطلعت بسهم من وحشة المجزرة، ونكبة الكارثة الإنسانية الكبرى؛ فأنكرت حكومة الإنكليز عليها ما فعلت؛ واحتالت على تجاهل ما أحدثت، وناءت بجانبها فما استمعت، ولا احتفلت؛ وارتدت على الذين أعانوها على أمرها في خلال الحرب، وانتصروا لها؛ وساقوا بفتيانهم إلى ساحاتها، فنصبت المدافع للفتك بهم، وأرسلت مدمراتها لتعفية آثارهم، وخنق أصواتهم المرتفعة بتلك الكلمة الحلوة العذبة، التي طالما سالت النفوس مترنمة بها؛ تلك الكلمة التي خرجت من فم الطبيعة يوم خلقت الكون، ويوم أسست نظام العالم، ووضعت خطة بناء الدنيا، تلك الكلمة التي جن الناس بها جنونا على محتضر القرن الثامن عشر؛ فهدموا كل شيء في طريقهم إليها ... نعم كلمة الحرية المقدسة الرهيبة المعسولة الجليلة، الموسيقية في أذن السليب منها، المجاهد للوثوب إليها من ذلة الإسار، ومعرة القيد، والبقاء في سجن ضيق، وحصير أليم.
وذهبت الوفود، وانطلقت البرد إلى الغرب، مجاهدة في سبيل بلوغ تلك الأمنية التي ظللنا نتعلل بها في صمت، ونناجيها في سكون، ونتلهف على نوالها، ولا نجد الطريق إليها معبدا ذلولا مواتيا، وراحت تحمل على نفسها، وتنشر الدعوة في بلاد الحضارة، وتستصرخ أهل القلوب الكبيرة من الساسة، والحريين من الكتاب، وبدأت على أثر ذلك المفاوضات، واستمرت المجادلات والمباحثات، وأخفق فيها من أخفق، وأفلح من أفلح.
وذهب وفد أهلي، ومضى وفد رسمي، واشتبك الوفدان، وتناوحت السبيل، وهي جميعا مفضية إلى ثنية واحدة، ومعلم فذ، إلى ربوة عالية أسففنا دونها، وانحدرنا عنها، وسقط مكاننا عن ذؤابتها.
ولسنا نحن بسبيل بسط ذلك الجهاد العظيم المستمر المستطيل، الذي جاهد الشعب وقادته في سبيل قضية مصر ووادي النيل الخصيب، فذلكم لا يزال في ذاكرة كل رجل منا، ولا يني وحيه يستفيض في الفؤاد، وينبعث من قرارة النفس، وإنما نحن تصدينا في هذه الرسالة الموجزة إلى تحليل تاريخ عظيم مصر الذي وثب في بهرة الثورة الأهلية؛ فقاد الجموع إلى البقية التي طالما تاقت النفوس إلى الدنو منها، ومشى في الطليعة جريئا مستبسلا؛ فعاجل النهضة، وهي على مستشرف من الخمود والموت، فأنقذ مواتها، ورد إليها حياتها، وأجرى أمواهها إلى نبعة الأمل القوي الناضر الأغن.
وقد جاهد قبله الرجل الكريم الشعور الوثاب، الباسل الأروع عدلي باشا يكن، وكافح في وفد كبير سياسة الاستعمار التي أرادت أن تدمج هذا البلد مرنا لينا، مطواعا ذليلا في حلقة الإمبراطورية «المطاطية» الناعمة المظهر، وأبت عليه نفسه أن يتطامن لتلك العظمة المعجبة بنفسها، المؤمنة بقوتها؛ الجبارة الغاشمة من ناحية؛ الملاينة المصانعة من الأخرى، فلما رمى كيرزون رميته؛ وألقى علينا نذيره وكلمته؛ وتجهم لنا، وظن أنه المنتصر علينا، الآخذ بأعنة نفوسنا، وأننا سنروح خافضي الرؤوس لنذره مقبعين في جلودنا حذر الموت على يده، تجلت يومذاك وطنية هذا اليكني المنحدر من تلك الأصلاب المتينة الصخرية، وبدت بسالته، وعظم في الحق إباؤه، واشتدت غضبته؛ فعاد إلى مصر من المفاوضة أبيا شهما، أشد في الخيبة فخارا من الزهو بالانتصار لو أنه انتصر.
وسقطت الوزارة العدلية بعد ذاك، وبقي المكان خاليا لا يدنو أحد منه، ولا تسول لأحد نفسه بقبوله، وظلت الحكومة بلا وزارة أياما طوالا، وما كان الناس يخشون أن تقع الوزارة لهم، ولم يكن إباء كبارنا، وأهل الأسماء الضخمة فينا عن زهد في المنصب، ورغب عن الترؤس، وإحساس عميق في حبة النفس؛ ووطنية جميلة أخذت باللب؛ وامتلكت الروح، وإنما كانت جبانة من الكثيرين، وضعفا في الآخرين؛ وتنصلا واستكانة، وبلادة شخصية في فريق، وعجزا عن احتمال المسؤولية في فئة.
إذ ذاك نهد لها هذا الرجل لا عن رغبة فيها ومحبة في زهوها، وطلاوة مظهرها، وروعة ما حولها؛ إذ كان له قبل ذاك شيء من ذلك؛ وبشمت من قبل نفسه بالمناصب، ولم يكن ليحفل بها، أو تجري شهوته وراءها، ولكن جرأة الرجل العظيم دفعته، وحمية الوطني الذي يرى نفسه قديرا على المسؤولية، وأكبر منها أغرته، فتقبل رئاسة الوزارة، وجاهد وكافح حتى حمل عن مصر العبء كله، واضطلع بالأمر جملته، ووقف على الصخرة يستشرف البحر وصخبه، والأنواء وعصفها؛ وركب سفينة الأمل تحبوه قوته، وتغريه شخصيته، وجرأته بالمضي في العباب، واختراق اللج المتقاذف المعتلج، وكان فضله في الناس أن جد حتى رفع عن أهل هذا البلد تلك الحماية البغيضة التي كانت أكبر معرة لهذه الأهرام، التي وقفت تنبئ الإنسانية عن مجد أربعة آلاف عام، وحضارة أدهشت الأجيال الماضية جمعاء.
ونحن نمهد لعمل هذا الرجل بنشر الخطاب الذي أرسلته الحكومة البريطانية إلى صاحب عرش هذه البلاد، يعرض عليه التصريح لمصر بما تريد من الجهاد، وما تبتغي من النضال.
خطاب الحكومة البريطانية إلى عظمة السلطان - تصريح لمصر
يا صاحب العظمة: (1)
Página desconocida