وقد علمت - أرشد الله أمرك - أن التشبيه وإن كان أهله مقموعين ومهانين وممتحنين، فإن عدد الجماجم على حاله، وضمير أكثرهم على ما كان عليه، والذين ماتوا قليل من كثير. ونحن لا ننتفع بالمنافق، ولا نستعين بالمرتاب، ولا نثق بالجانح، وإن كانت المبادأة قد نقصت فإن القلوب أفسد ما كانت.
وقد كانوا يتكلمون على السلطان والقدرة، وعلى العدد والثروة، وعلى طاعة الرعاع والسفلة؛ فقد صاروا اليوم إلى المنازعة أميل، وبها أكلف؛ لأنهم حينما يئسوا من القهر بالحشوة والسفلة، وبالباعة، وبالولاة الفسقة، وقلوبهم ممتلئة ونفوسهم هائجة. ولا بد لمن كانت هذه صفته، وهذا نعته، من أن يستعمل الحيلة والحجة، إذ أعجزه البطش والصولة. وكل من كان غيظه يفضل عن حلمه، وحاجته تفضل عن قناعته، فواجب أن ينكشف قناعه، ويظهر سره، ويبدو مكنونه.
وقد أطمعني فيهم مناظرتهم لنا، ومقايستهم لأصحابنا. وقد صاروا بعد السب يحفون، وبعد تحريم الكلام يجالسون، وبعد التصام يستمعون، وبعد التجليح يدارون؛ والعامة لا تفطن لتأويل كفها، ولا تعرف مقاربتها. فقد مالت إلينا على قدر ما ظهر من ميلها، وأصغت لما ترى من استماعها.
Página 288