فلم يزل - أكرمك الله - كذلك حتى وضع الله من عزهم، ونقص من قوتهم. وليس لأمر الله مرد، ولا لقضائه مدفع. وحتى تحول إلينا رجال من قادتهم ومن أعلامهم، والمطاعين فيهم، وارتاب قوم ونافق آخرون. وحتى تحولت المحنة عليهم، والتقية فيهم. وذلك كله على يد شيخك وشيخنا بعدك - أعزه الله - بما بذل من جهده، وعرض من نفسه، وتفرد بمكروهه، وغرغر مراره، صابرا على جسيمه؛ يرى الكثير في ذلك قليلا، والإغراق تقصيرا، وبذل النفس يسيرا. على حين خار كل بطل، وحاد كل مقدم، وعرد كل رئيس، وأضاف كل مستبصر، وطاح كل نفاج، واستخفى كل مراء. وحتى صاروا هم الذين يشيرون عليه بالملاينة، ويحسنون عنده المقاربة، ويخوفونه العاقبة، ويزعمون أن لكل زمان تدبيرا ومصلحة، وأن إبعادهم أتقر لطبائعهم، وإن إطلاقها أنجع فيما يراد منهم. وحتى سموا المداهنة مداراة، وإعطاء الرضا تقية، والشدة عند الفرصة خرقا، والانحياز مع صواب الإقدام رفقا، وموالاة المخالف مخالفة، والمصافاة معاشرة، والمهانة حلما، والضعف في الدين احتمالا. كما سمى قوم الفرار انحيازا، والبخل اقتصادا، والجائر مستقصيا، والبلاء عارضا، والخطل بلاغة. فكذلك كانوا وكان. وعلى هذا افترق أمرهم؛ وذلك مشهور عنهم.
Página 286