Nafha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Géneros
المطلب الأول في الدولة الأموية
أقامت هذه الدولة إحدى وتسعين سنة (41-132 هجرية) تحت حكم أربعة عشر خليفة؛ أولهم معاوية بن أبي سفيان الذي كان ولاه عمر بن الخطاب عاملا على بلاد الشام، وأقره عليها عثمان بن عفان مدة خلافته، ثم خرج على علي بن أبي طالب حين تولى الخلافة، ووقعت بينهما حروب عديدة، فلما قتل علي وتنازل ابنه الحسن عن الخلافة استقر أمرها لمعاوية، فانتقل حينئذ مركز مملكة العرب إلى بلاد الشام بمدينة دمشق، وانحرفت المملكة العربية عن منهج الخلافة البسيط إلى أبهة الملك وعظمته، ثم انتقلت الخلافة أيضا من الحالة الانتخابية إلى الحالة الوراثية؛ حيث عهد بها معاوية إلى ابنه يزيد، فهاجت الأمة الإسلامية حينئذ، ولاقى بنو أمية من أهل العراق والحجاز مقاومة عظيمة؛ فإنه بموت معاوية أحضر أهل العراق الحسين بن علي من المدينة ليبايعوه بالخلافة، فقدم إليهم في سبعين نفرا من عائلته. غير أنه لما وصل إلى الفرات قابلته جيوش يزيد عند كربلا، فأحدقت به من كل جانب، فقتل هناك، وأما أهل المدينة ومكة فبايعوا عبد الله بن الزبير خليفة عليهم، فاستمر الاضطراب والشقاق إلى أن كانت أيام عبد الملك بن مروان خامس خلفاء هذه الدولة، فولى الحجاج بن يوسف عاملا على الحجاز، فحارب عبد الله بن الزبير، حتى ظهر عليه وقتله بمكة، ثم صرفه عبد الملك إلى العراق وخراسان وسجستان، فهدأ تلك البلاد، واستتبت الراحة فيها، وحينئذ تفرغت الأمة العربية للفتوحات ثانيا، فأمر عبد الملك حسنا عامله بمصر بفتوح شمال أفريقيا ثانيا الذي كان فتحه عقبة بن نافع في أيام معاوية، وتغلب عليه البربر ثانيا، ثم لما خلفه ابنه الوليد أذن لعامله على بلاد المغرب موسى بن نصير بأن يفتح بلاد إسبانيا، فأرسل موسى أحد المغاربة المدعو طارق بن زياد بجيش إلى تلك البلاد، ثم لحقه بجيش آخر، فأتما فتوحها ومدا مملكة العرب إلى جبال البرنات التي صارت آخر حدود الدولة العربية من جهة الغرب، فإن العرب لما عبروها ودخلوا فرنسا تحت قيادة عبد الرحمن الذي خلف موسى على ولاية المغرب، لم ينجحوا في مشروعهم؛ لأنهم بعد أن وصلوا إلى أواسط هذه البلاد هزمهم كارلوس مارتللو (شارل مارتل) بين طورس وبواطير، فتقهقروا ثانيا إلى الجبال المذكورة.
وأما من جهة الشرق فقد امتدت المملكة العربية إلى بلاد الهند؛ فإنه في عهد هذا الخليفة أرسل الحجاج محمد بن القاسم الثقفي لفتوح بلاد الهند الشمالية، فعبر محمد نهر السند، ووصل إلى جبال هماليا ونهر الكنك. غير أن العرب لم تحفظ هذه البلاد، فكانت هذه الفتوحات آخر تقدم العرب شرقا وغربا في فتوحاتهم التي انقطعت من يومئذ، وآخر ما وصلت إليه دولتهم من الامتداد، فإنها كانت إذ ذاك في غاية عظمها، ونهاية اتساعها ممتدة من نهر السند ووادي كشمير شرقا إلى الأقيانوس الأطلانطيقي غربا، ومن بلاد التركستان وبحر الخزر وجبال القوقاز والبحر الأبيض المتوسط (الذي يملكون فيه جزائر رودس وقبرص وكريد وجزائر الباليار) وجبال سوينة الجنوبية والبرنات شمالا إلى صحراء أفريقيا، وبلاد الإثيوبية وبحر الهند لغاية مصب نهر السند فيه جنوبا، وهذا الامتداد يبلغ طوله نحو الألف وثمانمائة فرسخا، وهو ما لم تصل إليه دولة قط، وقد وصلت إليه دولة العرب في أقل من مائة سنة.
وبعد أن بلغت دولة بني أمية هذه الدرجة القصوى في أيام الوليد ومن خلفه إلى آخر أولاد عبد الملك، اضطربت أمورها حتى تقوى حزب بني العباس وقدروا أخيرا على إظهار الدعوة لهم بجهة خراسان في أيام مروان الثاني ابن محمد آخر الخلفاء الأمويين، وبويع بالخلافة لأبي العباس السفاح بالكوفة في ربيع الأول سنة 132ه، فوقعت الحرب بين مروان وأبي العباس عند نهر الزاب بقرب الموصل، فانهزم مروان وهرب إلى مصر، فقبض عليه بأبو صير وقتل، فاستولى على الخلافة حينئذ أبو العباس وأوقع القتل في بني أمية، فلم ينج منهم إلا عبد الرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان؛ فإنه هرب إلى بلاد الأندلس، فأسس فيها دولة أموية جديدة بقرطبة تسمى بالدولة المروانية بعد أن انقرضت دولتهم من الشام وظهرت دولة بني العباس.
المطلب الثاني
في ذكر مصر في عهد الدولة الأموية
ولما آل أمر الخلافة إلى بني أمية دخلت مصر تحت حكم هذه الدولة أيضا، فكان يرسل إليها عمال من طرف الخلفاء ينتخبون أحيانا من أعضاء عائلة الخلافة، وكان مقرهم بمدينة الفسطاط عاصمة مصر في عهد هذه الدولة أيضا، إلا أن الخلفاء كانوا يسرعون في تغييرهم خوفا من أن يستقلوا بالبلاد إذا أقاموا فيها زمنا طويلا؛ فلكثرة تغييرهم كانت البلاد دائما في حالة تقلب واختلاف لم يستقر لها حال؛ ولذا لم نجد شيئا يستحق الذكر في حكم أغلبهم؛ فإن الواحد منهم كان يحضر إلى مصر ثم يصرف عنها بدون أن يبدي فيها شيئا، وقد اشتهر بعضهم بالعدل والإنصاف، والبعض - وهو الأكثر - بالجور والاعتساف.
وكان أشهر من يؤثر عنه بعض الحوادث منهم عبد العزيز بن مروان الذي ولاه عليها أبوه مروان بن الحكم رابع خلفاء هذه الدولة، وأقام بها أكثر من عشرين سنة، فلم تر مصر راحة ولا أمنا كما رأت في أيامه، وهو الذي بنى مقياس النيل الذي كان بحلوان؛ أول مقياس للنيل بناه المسلمون في مصر، وقد تولى بعده على مصر ابن أخيه عبد الله بن عبد الملك بن مروان، فجعلت في أيامه الكتابة في دواوين مصر باللغة العربية بعد أن كانت لا تزال إلى ذاك الحين باللغة القبطية، ثم أسامة بن يزيد الذي ولاه عليها سليمان بن عبد الملك سابع خلفاء هذه الدولة، ولقبه أمير الخراج، فقاست منه الأهالي جميع أنواع الظلم والجور، فإنه لم يهتم إلا في جمع الأموال ولو بقوة السلاح، وجعل على كل من سافر بالنيل ضريبة قدرها عشرة دنانير يشتري بها ورقة مرور بالنهر، حتى جلب عليه ذلك سخط جميع الأهالي، وهو الذي بنى سنة 97 هجرية - بإذن من الخليفة المذكور - مقياس النيل الموجود الآن في الجهة الجنوبية من جزيرة الروضة بدلا من المقياس الذي كان بحلوان وانهدم في السنة المذكورة.
الفصل الثالث
وفيه أربعة مطالب:
Página desconocida