El Manantial Antiguo: Cuadros Narrativos
النبع القديم: لوحات قصصية
Géneros
ضحك فجأة، وقال: ما زلت لا أفهم ... نبع ورماد وذات ... ماذا تريد أن تقول؟
قلت: كنت في تلك اللحظات السرابية القليلة، أجد نفسي في قصة أو مسرحية أو خاطرة أكتبها وأستمتع بها قبل أن أكتشف أن السراب هو السراب، وأن قيظ الصحراء وضياع المتاهة لن يلبثا أن يجراني كالعبد المغلول بالسلاسل والقيود.
قال، وعلى فمه بسمة ساخرة : وصرت قصاصا وكاتبا مسرحيا يتحدث عنه.
قاطعته، وأنا أشير بيدي ساخطا: النقاد؟ باستثناء اثنين أو ثلاثة يذكر القصاصون فلا يذكر اسمي، ويعد كتاب المسرح فلا يتذكرني ناقد ولا مسرح ... وإذا ذكرني أحد فأنا عنده مترجم الشعر وشارحه، أو معلم الحكمة الذي قضى شبابه على أبوابها. وهكذا تراني الآن أيها الصبي الطيب الحبيب، تراني شيخا هده المرض والغدر والتجاهل وخيبة الأمل.
اقترب مني، وثبت عينيه في عيني: ألست أنت الذي تجاهلت نفسك وانشغلت عن نبعك ... لا تلم إذن إلا نفسك.
قلت: معك الحق، لا يصح أن ألوم إلا نفسي ... ولا ينبغي علي إلا أن أتدارك ما فاتني ... هل تتصور أن البقية الباقية ...
لم أكد أقول هذه الكلمات حتى خيل إلي كأن الصبي قد كبر فجأة في السن، وطالت قامته، ووقف أمامي متحديا ومحذرا. مد يده في جنب صداره، فأخرج ساعة كبيرة مستديرة تشبه الساعة العتيقة التي كان أبي يضعها في جيب جلبابه، ويخرجها منه كلما أراد أن يعرف مواقيت الصلاة. وبدأ الرجل الطويل الشامخ القامة، الذي كان قبل قليل صبيا غريرا، دائم الحزن والشرود، بدأ يهتف بصوت مرتفع: الحياة وقت، ولكل وقت قلب؛ أي له مركز ومنتصف. من أراد الحقيقة وصمم عليها استجاب لنبض هذا القلب، لزم المركز ولم ينحرف عنه. ألا يقاس الوقت بالسنين والشهور والأيام واللحظات؟ الحياة سنة ومركزها وقلبها هو أجمل شهورها، لكنك ضيعت على نفسك هذا الشهر. والحياة يوم له مركزه وقلبه ومنتصفه، لكنك ضيعت اليوم وأنت تحلم مفتوح العينين. والحياة آن أو لحظة لها مركزها وقلبها ومنتصفها، لكنك فوت على نفسك الفرصة فلم تعشها ولم تتذوقها، ولم تغترف كما ينبغي من نبعها. لكن انس هذا الآن، انسه وامنع أسنانك أن تعض لحمك. فها هي الحياة ما زالت تقدم لك قلبها ومركزها ونبعها المتدفق من أعماقها. قم ولا تضيع هذه اللحظة كما ضيعت غيرها.
نظرت إليه مذهولا من هيئته وكلامه. ويبدو أن الدموع التي ملأت عيني منعتني من أن أنتبه لاختفائه المفاجئ، كمجيئه المفاجئ. لم أجد أمامي ولا حولي إلا الكتب التي تنظر إلي صامتة خرساء من فوق الرفوف. ومع ذلك، فربما ناديت الشبح المتلاشي، وأنا أسائله بصوت هامس: وهل بقيت في العمر بقية ...؟!
1
نيشت فيرشتاندن
Página desconocida