فوضعت يديها على كتفي زوجها ونظرت إليه نظرة طويلة نافذة كأنها تريد أن تخترق أعماق قلبه، فقال لها: بربك لا تنظري إلي هذه النظرات، بل قولي لي ما هذا الكتاب الذي تعنينه.
ولكنها لم تجب، بل فتحت فمها كأنها تريد أن تتكلم ثم لا ندري ما تراءى لعينيها فمنعها عن الكلام.
وقد رفعت يديها إلى السماء كأنها تستشهدها على يأسها، ثم خرجت من الغرفة بسرعة فبقي بوفور وحده وهو مكتوف اليدين مقطب الجبين يقول في نفسه: ترى ماذا تعني؟! وما هذا الجنون؟! بل ما هذا السر الذي تخفيه عني؟!
وقد أقام مدة طويلة على هذه الحالة، ثم انتبه ورأى أنها لم تعد إليه، فبحث عنها في جميع غرف المنزل فلم يجدها ، فقال في نفسه: قد تكون خرجت إلى الحديقة، فبحث عنها فيها فلم يرها، فخرج منها إلى الطريق وجعل يبحث عنها ويناديها، فلم يجب نداءه أحد، فعاد إلى القصر وسأل عنها الخدم فقالوا إنهم لم يروها.
وقد حار المنكود في أمره، فأرسل الخدم يبحثون عنها، وصبر وهو شبه المجانين إلى أن انتصف الليل دون أن تعود، ثم بزغت أشعة الفجر وأخذت الأدياك بالصياح، فقال: إنها ميتة لا شك، ولكن أين هي؟
وكان جميع الخدم لا يزالون ساهرين، فجعل يسألهم إذا كانت مصابة بمرض فيجيبون سلبا، ولكنهم يقولون إنها عصبية المزاج شأن أكثر النساء، فحار في أمره وجعل يناجي نفسه فيقول: ترى ألعلها هربت مني ... كلا فهذا محال؛ لأنها تحبني وتعلم أني أحبها أصدق حب، وأني لم أسئ إليها في شيء، إذن لا بد أن تعود، ولكنها قالت إنها أرسلت إلي كتابا، وأنا لم يصلني منها شيء، فما عسى أن يكون في هذا الكتاب، وما هذا السر الخطير الذي يتضمنه؟
وقد ركب مركبة وجعل يطوف بها وهو لا يقصد مكانا معينا، وكلما لقي فلاحا أو فلاحة سألهما عنها فلا يقف لها على أثر.
ولبث وهذا شأنه ثلاثة أيام إلى أن عجز عن لقائها، ورأى أنه لم يبق عليه سوى إبلاغ الحكومة أمر اختفائها، فجاء قاضي التحقيق وسأله أن يبسط له بالتدقيق التام جميع الحوادث التي جرت قبل اختفائها.
فامتثل بوفور وبسط له كل ما عرفه القراء، فسأله القاضي قائلا: متى عرفت السيدة مرسلين دي مونتكور؟ - منذ بضعة أشهر. - أين تعرفت بها؟ - في سويسرا؛ إذ كانت تتجول فيها مع عمتها، فأحببتها وتزوجت بها، وهذه كل حكايتي معها، على أني بالرغم عن هذه المصيبة التي قصمت ظهري وبالرغم عن اختفائها الغريب لا أزال واثقا من أنها تحبني كما أحبها.
ولا بد لي أن أقول لك إني غني وهي فقيرة، وإنها كانت ترى أن فقرها يحول دون زواجها برجل من أهل المقامات، فكانت تنظر إلى زواجنا بشيء من الامتنان. - إذن لم يكن لها مهر؟ - بل إني خصصت لها من ثروتي ريعا قدره عشرة آلاف فرنك في العام. - كيف كانت خطتها بإزائك حين دنو موعد الزواج؟ - كان السرور يتألق في عينيها قبل وفاة أبيها. - ألم تر عليها شيئا من علائم الحزن دون سبب؟ - نعم؛ فقد كانت أحيانا تنظر إلي فتجول في عينيها الدموع، وذلك في أوائل عهد اتصالنا، ثم لم أعد أرى منها غير علائم الفرح، ولكنها لم تكن تخلو من السويداء. - كيف كنت تعلل ذلك؟ ألم تسألها شيئا عن هذا الموضوع؟ - لماذا؟ وأية فائدة من هذا السؤال بعد يقيني أنها أطهر فتاة؟ - ألم تجد منها ما لم تألفه قبلا منذ زواجك إلى عهد اختفائها؟ - كلا. - ألا تعرف لها مبغضا أو عدوا؟ - إنها محبوبة من الجميع في هذه البلاد، ومن يكره الملائكة؟! - هو ذاك، ولكن البغض قد يتولد من الحب، ألم يخطبها قبلك أحد؟ - لم يخبرني أبوها ولا هي بشيء من هذا.
Página desconocida