Estudios en Lengua y Literatura
مطالعات في اللغة والأدب
Géneros
ثم ذكر ما قيل في المساواة والإيجاز والإطناب والتفاضل بينها، فقال: وذهب قوم إلى أن الإطناب أرجح، واحتجوا لذلك بأن المنطق إنما هو بيان، والبيان لا يحصل إلا بإيضاح العبارة، وإيضاح العبارة لا يتهيأ إلا بمرادفة الألفاظ على المعنى حتى تحيط به إحاطة يؤمن معها من اللبس والإبهام، وإن الكلام الوجيز لا يؤمن وقوع الإشكال فيه، ومن ثم لم يحصل على معانيه إلا خواص أهل اللغة العارفين بدلالات الألفاظ. (ليتذكر القارئ أن منشور الوفد السوري لم يكن موجها إلى خواص أهل اللغة فقط؛ بل العوام من قرائه أكثر من الخواص) بخلاف الكلام المشبع الشافي؛ فإنه سالم من الالتباس لتساوي الخاص والعام في جهته.
ويؤيد ذلك ما حكي أنه قيل لقيس بن خارجة: «ما عندك في جمالات ذات حسن؟» قال: «عندي قرى كل نازل ورضا كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع.» فقيل لأبي يعقوب الجرمي: هلا اكتفى بقوله: «آمر فيها بالتواصل» عن قوله: «وأنهى عن التقاطع»، فقال: «أوما علمت أن الكناية والتعريض لا تعمل عمل الإطناب والتكشف؟ ألا ترى أن الله تعالى إذا خاطب العرب والأحزاب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطا، وقلما تجد قصة لبني إسرائيل في القرآن إلا مطولة مشروحة ومكررة في مواضع معادة لبعد فهمهم وتأخر معرفتهم، بخلاف الكلام المشبع الشافي فإنه سالم من الالتباس لتساوي الخاص والعام في فهمه.»
قال: وذهبت فرقة إلى ترجيح مساواة اللفظ المعنى واحتجوا لذلك بأن منزع الفضيلة من الوسط دون الأطراف، وإنما الحسن إنما يوجد في الشيء المعتدل» قال: قال في «مواد البيان» والذي يوجبه النظر الصحيح أن الإيجاز والإطناب والمساواة صفات موجودة في الكلام، ولكل منها موضع لا يخلفه فيه رديفه إذا وضع فيه انتظم في سلك البلاغة ودل على فضل الواضع، وإذا وضع غيره دل على نقص الواضع وجهله برسوم الصناعة.
ومنه يستنتج أن منشورا طبعت منه ألوف وألوف من النسخ ليوزع على ملايين من الأمة العربية في المدر والوبر لو جاء يكتبه الإنسان كما يكتب رسالة إلى رجل من طبقة عبد القادر الجرجاني ويجتهد في إيداع أوسع المعاني أقصر الألفاظ لكان ذلك من باب وضع الشيء في غير موضعه ولدل على نقص الواضع وجهله برسوم الصناعة.
ثم قال في صبح الأعشى: «فأما الكلام الموجز فإنه يصلح لمخاطبة الملوك وذوي الأخطار العالية والهمم المستقيمة والشئون السنية، ومن لا يجوز أن يشغل زمانه بما همته مصروفة إلى مطالعة غيره.»
إذن ليست هناك مسألة تطويل ممل وإيجاز مخل؛ بل مسألة الإيجاز في محل الإيجاز، والإطناب في محل الإطناب، فإذا خوطب الحكماء والعظماء والملوك بالكلام المشبع المبسوط المؤكد كان ذلك خللا بأصول الكتابة ومنافيا للذوق السليم ... كما أنه إذا خوطب الجماهير الذين لا تجد فيهم خاصيا إلا كان بجانبه ألف عامي، بدقائق من البلاغة وإشارات وكنايات تقتضي إعمال الفكر، ولا يدرك الجمهور مغزاها كان ذلك مخالفا لآداب الكتابة وفات الغرض المقصود من الخطاب. نعم كان العرب يميلون إلى الإيجاز، ولكن كانوا يميلون أكثر من ذلك إلى وضع الشيء في محله.
قال في صبح الأعشى: «وأما الإطناب فإنه يصلح للمكاتبات الصادرة في الفتوحات مما يقرأ في المحافل والعهود السلطانية ومخاطبة من لا يصل المعنى إلى فهمه بأدنى إشارة ... إلخ.»
إلى أن قال نقلا عن «مواد البيان» قال: «أما أنه لو استعمل كاتب ترديد الألفاظ ومرادفتها على المعنى في المكاتبة إلى ملك مصروف الهمة إلى أمور كثيرة متى انصرف منها إلى غيرها دخلها الخلل لرتب كلامه في غير رتبه ، ودل على جهله بالصناعة. وكذا لو بنى على الإيجاز كتابا يكتبه في فتح جليل الخطر حسن الأثر يقرأ في المحافل والمساجد الجامعة على رءوس الأشهاد من العامة ومن يراد منه تفخيم شأن السلطان في نفسه لأوقع كلامه في غير موقعه ونزله في غير منزله؛ لأنه لا أقبح ولا أسمج من أن يستنفر الناس لسماع كتاب قد ورد من السلطان في بعض عظائم أمور المملكة أو الدين، فإذا حضر الناس كان الذي يمر على أسماعهم من الألفاظ واردا مورد الإيجاز والاختصار لم يحسن موقعه وخرج من وضع البلاغة ... إلخ.»
ولا أظن منتقدنا يقول إنما هذا ينطبق على الكتب الواردة من السلطان في أخبار الفتوحات، ومنشوركم هذا ليس عن السلطان ولا هو في فتح، فالجواب عند ذلك أن المنشور الذي يوجه إلى أمة كبيرة من وفد من وفودها في الاستنفار إلى تلافي خطب أو سد خرق أو مقصد من تلك المقاصد العالية التي تتعلق بها حياة تلك الأمة هو أيضا في حكم كتب الفتوحات وأجدر منها بمراعاة أصول المناشير العامة.
ولقد ورد في رسائل أبي إسحق الصابئ الذي كان رئيس كتاب ديوان الخلافة في بغداد كثير من الكتب التي تتشابه في المعنى أسجاعها وتتوالى مترادفاتها، وقد أوضحت يومئذ في حاشية تلك الرسائل التي طبعتها أن هذا المذهب هو خلاف قاعدة الإيجاز، ولكنه مما يستحب في خطاب الأمة ونداء الجمهور ممن لا بد للكاتب أن يعيد المعنى عليهم ويصقله مرارا حتى يتشربوا معناه ويشتفوا مغزاه.
Página desconocida