بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على كثير نواله، والشكر له على إنعامه وإفضاله، والصلاة على سيدنا محمد مبين حرامه وحلاله، وعلى المعصومين من عترته وآله.
وبعد، يتول المحتاج إلى غفور به الباقي، أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر النراقي:
هذا كتاب مستند الشيعة في أحكام الشريعة، جعلته تذكرة لنفسي، وذخيرة ليوم فاقتي وفقري، مقتصرا فيه من المسائل على أهمها، ومن الدلائل على أتمها، وما اقتفيت فيه أثر أكثر من تقدم علي من بيان المسائل الغير المهمة، وإيراد الفروع الشاذة النادرة. واحترزت عن الاشتغال بوجوه النقض والابرام، والإكثار فيما لا اعتناء بشأنه ولا اهتمام. وتركت فيه ذكر المؤيدات الباردة، ورد القياسات الضعيفة الفاسدة، بل أوردت فيه أمهات المسائل الشرعية، وأودعت فيه مهمات الأحكام الفرعية. وذكرت عند كل مسألة من المسائل، ما ثبت عندي حجيته من الدلائل، ولم أتجشم في المسائل الوفاقية غالبا لعد النصوص والأخبار، وطلبت في كل حال ما هو أقرب إلى الايجاز والاختصار. وطويت عن ذكر المروي عنه في
Página 3
الأخبار، لعدم حاجة إليه ولا افتقار.
ورمزت إلى فقهائنا الأطياب، بما هو أقرب إلى الأدب وأبعد من الاطناب، وإلى كتبهم المشهورة بطائفة من أوائل حروفها منضمة معها لام التعريف، أو أواخرها بدونها، وربما عبرت عن بعضها بتمام اسمه حسب ما يقتضيه المقام. ومن الله استمد في الاتمام، فإنه جدير ببذل هذا الانعام، وإليه أبتهل للتوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.
ورتبته على كتب ذوات مقاصد، وأبواب، ومطالب، وفصول، وأبحاث، ومسائل، وفروع.
Página 4
كتاب الطهارة ولانقسامها إلى الطهارة من الخبث والحدث، وتوقفهما غالبا على المياه التي لها أقسام، ولكل قسم أحكام، جعلته مرتبا على ثلاثة مقاصد:
Página 5
المقصد الأول:
في المياه وينقسم إلى المطلق والمضاف فهاهنا بابان:
Página 7
الباب الأول:
في المطلق وينقسم باختلاف الأحكام، إلى الجاري، والمطر، وماء الحمام، والواقف، والبئر، والمستعمل، والمشتبه، والسؤر، نذكرها مع نبذة من متفرقات (1) مسائل المياه في عشرة فصول:
Página 9
الفصل الأول:
الماء المطلق ما يصح إطلاق الاسم عليه عرفا، وبعبارة أخرى: كل ما (1) لا يلزم تقييده في العرف، وبثالثة: ما لا يخطئ أهل الاستعمال من أطلق الاسم عليه من دون قيد.
وله أحكام نذكرها في مسائل:
المسألة الأولى: (الماء) (2) كله طاهر في أصل الخلقة بالأصل والاجماع والكتاب والسنة، ومطهر من الحدث والخبث بالثلاثة الآخرة. وتنجسه مطلقا، بتغير ريحه أو طعمه أو لونه بالنجاسة، إجماعي، وحكاية الاجماع عليه متكررة (3) والأخبار فيه مستفيضة.
فتدل على النجاسة بالأول. صحيحة ابن سنان: عن غدير أتوه وفيه جيفة، فقال: " إذا كان الماء قاهرا ولا يوجد فيه الريح فتوضأ " (4).
وبالثانيين: صحيحة القماط: في الماء يمر به الرجل وهو نقيع (5) فيه الميتة الحيفة، فقال: " إن كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه " (6).
وصحيحة حريز: " كلما غلب الماء ريح الجيفة فتوضأ منه واشرب، فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب " (7).
Página 11
وبالثالث: رواية ابن الفضيل: عن الحياض يبال فيها، قال: " لا بأس إدا غلب لون الماء لون البول " (1).
وبالطرفين: الصحيح المروي في البصائر: " جئت لتسأل عن الماء الراكد في البئر قال: فإذا لم يكن فيه تغيير أو ريح غالبة - قلت: فما التغيير؟ قال:
الصفرة - فتوضأ منه، وكلما غلب عليه كثرة الماء فهو طاهر " (2).
واختصاص السؤال بالراكد من البئر بعد عموم الجواب غير ضائر.
والثلاثة رواية أبي بصير: " عن الماء النقيع تبول فيه الدواب، فقال: إن تغير الماء فلا تتوضأ منه، وإن تغيره أبوالها فتوضأ منه، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه " (3).
والنبوي المتواتر بتصريح العماني (4)، المتفق على روايته بشهادة الحلي (6):
" خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ، إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه " (1).
والمرتضوي المروي في الدعائم: " وليس ينجسه شئ ما لم يتغير أوصافه، طعمه ولونه وريحه " (7).
وفيه أيضا: " فإن كان قد تغير لذلك طعمه أو ريحه أو لونه فلا تشرب منه ولا تتوضأ ولا تتطهر منه " (8).
Página 12
والرضوي: " وكل غدير فيه من الماء أكثر من كر بلا ينجسه ما يقع فيه من النجاسات، إلا أن يكون فيه الجيف فتغير لونه وطعمه وريحه " (1).
وتعارض بعضها مع بعض مفهوما أو منطوقا غير ضائر، لكونه على سبيل العموم والخصوص مطلقا، فيخصص العام.
وبما مر ظهر ضعف ما قيل من أن الأخبار الخاصية أو المعتبرة منها خالية عن ذكر اللون (2)، مع أن غيرها أيضا بكفي في المحل، لانجباره بالعمل.
نعم لا عبرة بالتغير في غير الثلاثة إجماعا، للأصل والعمومات واختصاص غير رواية أبي بصير من أدلة التنجيس بالثلاثة، وهي وإن عمت ولكنها بالبواقي مخصوصة.
فروع:
الأول: المعتبر في التغير بالثلاثة هل هو حصول كيفية النجاسة، أو يكفي التغير بسببها وإن كان بحصول كيفية ثالثة؟ مقتضى الاطلاقات المتقدمة هو الثاني، فعليه الفتوى.
الثاني: إذا تغير بأحد أوصاف المتنجس، فإن غيره بوصف النجاسة ينجس إجماعا، وإلا فلا على الأظهر الأشهر، للأصل والاستصحاب، خلافا للمحكي عن ظواهر المبسوط والمعتبر والسرائر (3)، لاستصحاب نجاسة المتنجس، واتحاده مع النجاسة (4)، في التنجيس، وعموم النبوي، وأحد المرتضويين، وصحيحة القماط، ورواية أبي بصير.
ويضعف الأول: بمعارضته باستصحاب طهارة الماء. وقيل بتغير الموضوع أيضا، لفرض إطلاق الماء. وفيه نظر.
Página 13
والثاني: بمنعه إن أريد الكلية، وعدم الفائدة إن أريد في الجملة.
والثالث: بمنع إفادتهما العموم، لكون لفظة " ما " الموصولة في منطوق أحدهما، والشئ في مفهوم الآخر، نكرة في سياق الاثبات.
والأخيران: بظهورهما في الميتة والبول، مع أن قوله: " لا تشرب ولا تتوضأ " فيهما للنفي محتمل، فيكون قاصرا عن إفادة النجاسة، لعدم ثبوت كون الاخبار في مقام الانشاء مفيدا للحرمة.
الثالث: المعتبر في التغير: الحسي، وفاقا للمعظم، للأصل والاستصحاب والعمومات المتقدمة الحاصرة للتنجيس بالتغير الذي هو حقيقة في الحسي، للتبادر وصحة السلب بدونه.
وخلافا للفاضل (1)، وولده (2)، والكركي (3)، والمحكي عن الموجز (4)، واستقر به بعض المتأخرين (5)، فاكتفوا بالتقديري، لكون التغيير حقيقة النفس الأمري، وهو في التقديري موجود. وكون سبب التنجس غلبة النجاسة، والإناطة بالتغير لدلالته عليها، وهي هنا متحققة. وإفضاء عدم الاكتفاء به إلى جواز الاستعمال مع زيادة النجاسة أضعافا.
ويجاب عن الأول: بمنع وجود التغيير النفس الأمري، فإنه ما تبدل الوصف في الخارج.
وعن الثاني: بمنع سببية مطلق الغلبة، ولذا ينجس بما كانت رائحته مثلا أشد بأقل مما كانت أخف.
Página 14
وعن الثالث: بمنع الافضاء إن أريد زيادتها بحيث يستهلكه، وتسليم الجواز إن أريد غيره.
ثم الظاهر عدم الفرق في عدم اعتبار التقديري (1) بين ما إذا كانت النجاسة مسلوبة الأوصاف، أو عرض للماء مانع عن ظهور التغير مخالف للنجاسة في الوصف، أو موافق لها.
والأكثر في الثاني على النجاسة، محتجا بتحقق التغير وإن كان مستورا عن الحس.
وفيه: أنه إن أريد تغير الماء المعروض لهذا المانع فتحققه ممنوع، وإن أريد تغيره لولاه فهو تقديري غير معتبر.
وعدم صلاحية المانع لدفع النجاسة أو سببها محض استبعاد.
قيل: لو سلب المانع، لكان الماء متغيرا، ولولا تحققه أولا لما كان كذلك قلنا: لو سلب لتغير الماء لا أن يظهر كونه متغيرا.
(نعم يشترط في الطهارة على جميع الصور بقاء الاطلاق) (2) وعدم (حصول) (3) الاستهلاك، وإلا فينجس قولا واحدا.
ولو فقد الاطلاق خاصة فهل تزول الطهارة؟ الظاهر نعم، لزوال استصحاب الطهارة باستصحاب النجاسة، فإن ما يستصحب طهارته لخروجه عن الاطلاق لا يصلح للتطهير، بخلاف ما تستصحب نجاسته، فإنه يوجب التنجيس.
المسألة الثانية: تطهر الماء النجس مطلقا غير البئر بالكثير والجاري وماء المطر، بعد زوال التغير إن كان متغيرا وإلا فمطلقا، إجماعي، ونقل الاجماع عليه متكرر،
Página 15
وهو دليل عليه، مع قوله عليه السلام في مرسلة الكاهلي: " كل شئ يراه ماء المطر فقد طهر " (1).
واختصاصه بالمطر بعد ضم الاجماع المركب لا يضر.
وقوله عليه السلام: " ماء النهر يطهر بعضه بعضا " (2).
وكذا البئر على الأصح (للروايتين) (3).
وفي اشتراط الممازجة وعدمه قولان: الأول - وهو الأقوى - للتذكرة (4) والأولين (5)، والثاني للنهاية والتحرير (6) والثانيين (7).
لنا: أصالة عدم المطهرية، واستصحاب النجاسة. وكون مجرد الاتصال رافعا غير ثابت، والمرسلة لاثباته قاصرة، إذ غير ما مزج معه لم يره، وطهارة بعض من ماء دون بعض ممكنة، فطهارة السطح الفوقاني لتطهير ما سواه غير مستلزمة.
وتطهير ماء النهر بعضه بعضا لا يفيد العموم، فإن تطهير ماء النهر بعضه بعضا لا يفيد أزيد من أنه يطهره، أما أن تطهير إياه هل بالملاقاة أو الممازجة أو بهما؟ فلا دلالة عليه.
للمخالف: كفاية الاتصال في الدفع فيكفي للرفع.
وامتناع الممازجة الحقيقية فتكفي العرفية - أي ملاقاة بعض الأجزاء للبعض - فالبعض الآخر يطهر بالاتصال فيكون مطهرا مطلقا.
واستحالة المداخلة فلا يوجد (8) سوى الاتصال.
Página 16
وطهارة المتصل بالملاقاة لطهورية الماء، فيطهر ما يتصل به أيضا.
واستلزام الاتصال للامتزاج في الجملة، فيطهر بعض النجس، وهو لامتزاجه بما يليه يطهره، وهكذا...
وعدم اختلاف حكم المتصلين من أجزاء الكر والنجس لامتزاجهما لا محالة، فإما تنجس أجزاء الطاهر أو تطهر أجزاء النجس، والأول باطل، فتعين الثاني، فننقل الكلام إلى ما يلي الأجزاء المطهرة، وهكذا...
ويجاب عن الأول: بكونه قياسا مع تغاير حكمي الأصل والفرع.
وعن الثاني: بأنه لا يلزم من ترتب حكم علي الاتصال مع الامتزاج العرفي ترتبه عليه بدونه، لجواز مدخلية ملاقاة أكثر الأجزاء.
ومنه يظهر الجواب عن الثالث.
وعن الرابع. بمنع عموم طهورية الماء.
وعن الخامس: بمنع امتزاج الأجزاء المتصلة، ومغايرته - مع التسليم - للامتزاج الذي وقع الاجماع عليه.
وعن السادس: بالمعارضة بالزائد على، الكر المتغير بعضه الزائد بالنجاسة.
ومنع امتزاج المتصلين هنا اعتراف بانفكاكه عن الاتصال، فيحتمل في محل النزاع. مضافا إلى منع عدم جواز اختلاف حكم الممتزجين.
ثم بما ذكرنا يظهر اشتراط الدفعة العرفية في إلقاء الكر، كما هو مذهب المحقق في الشرائع (1)، والفاضل في جملة من كتبه (2)، وهو المشهور بين المتأخرين.
ولا يكفي إلقاء الكر تدريجا مع اتصال أجزائه، كالذكرى (3) ووالدي في اللوامع.
وصدق الوحدة لا يفيد، لأن الثابت عليتها للدفع دون الرفع.
Página 17
والتفصيل باعتبار الدفعة على القول باشتراط مساواة السطوح في تقوي بعض أجزاء الماء بالبعض، وعدمه على القول بعدمه - كما في المعالم (1) - ضعيف من وجوه.
وهذا الشرط إنما هو في الكر دون أخويه، للاجماع، ولأنه لا يتصور الدفعة فيهما.
والمراد بالجاري هنا هو النابع، لأنه مورد الاجماع، ولأنه الظاهر من ماء النهر.
ولا يبعد اشتراط مساواة السطوح أو علو المطهر، عند التطهير بالجاري، اقتصارا على موضع الوفاق.
المسألة الثالثة: الحق عدم تنجس الماء مطلقا ، قليلا كان أم كثيرا، جاريا أم راكدا، بالورد على النجاسة، كما يأتي بيانه في بحث القليل (2).
* * *
Página 18
الفصل الثاني: في الجاري وهو - لغة -: ماء يجري على الأرض مطلقا، سواء كان نابعا أم لا. بل وكذلك في العرف العام والشرعي، لصدقه على ما لا نبع فيه من الشطوط المذابة من الثلوج، والسيول، والمياه المجتمعة في موضع الجارية بعده.
وفي العرف الخاص للفقهاء: النابع غير البئر، إما بشرط الجريان على الأرض كبعضهم (1)، أو بدونه كآخر (2).
وهنا ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الجاري النابع لا ينجس بالملاقاة إجماعا، إن كان كرا، للأصل والاستصحاب والأخبار الخالية عن المعارض (3).
وإلا فعل الأشهر الأظهر، وعليه الاجماع في الغنية والمعتبر وشرح القواعد (4)، بل عن ظاهر الخلاف (5) أيضا، وفي الذكرى: لم نقف على مخالف في ذلك ممن سلف (6)، لما مر من الأصلين المؤيدين بالمحكي من الاجماع.
مضافا إلى عمومات طهارة كل ماء لم يعلم نجاسته، كالأخبار الثلاثة للحمادين (7) واللؤلؤي (8).
Página 19
أو غير متغير، أو غالب على النجاسة كما تقدم (1).
أو ملاق لها، كخبر ابن مسكان أو صحيحته: عن الوضوء مما ولغ فيه الكلب والسنور، أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك، يتوضأ منه أو يغتسل؟
قال: " نعم " (2).
وخبر سماعة: عن الرجل يمر بالميتة في الماء، قال: " يتوضأ من الناحية التي ليس فيها الميتة " (2).
والمروي في الدعائم: عن الماء ترد ه السباع والكلاب والبهائم، فقال: " لها ما أخذت بأفواهها ولكم ما بقي " (4).
أو كل ماء جار مطلقا أو ملاق للنجاسة، كالمرويين في نوادر الراوندي:
أحدهما: " الماء الجاري لا ينجسه شئ " (5).
والآخر: " الماء يمر بالجيف والعذرة والدم، يتوضأ منه ويشرب وليس ينجسه شئ " (6).
والرضوي: " كل ماء جار لا ينجسه شئ " (7).
أو مع عدم التغير، كالمروي في الدعائم: " الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم، يتوضأ منه ويشرب، وليس ينجسه شئ ما لم يتغير أوصافه: طعمه ولونه وريحه " (8).
أو كل ماء قليل، كخبر ابن ميسر: عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل
Página 20
في الطريق، ويريد أن يغتسل منه، وليس معه إناء يغترف به ، ويداه قذرتان، قال: " يضع يده ويتوضأ ويغتسل " (1).
وعدم ثبوت الحقيقة الشرعية في القليل لا يضر الشمول.
ويؤيده: الأخبار المصرحة بأن ماء الحمام كماء النهر أو الجاري (2)، أو بمنزلته (3)، أو سبيله سبيله (4).
ولا يضر ضعف سند بعض هذه الروايات، لانجبارها بالعمل واعتضادها بحكايات الاجماع.
والاستدلال بصحيحتي ابن بزيع: " ماء البئر واسع لا يفسده شئ، إلا أن يتغير (5)، وزيد في إحداهما: " ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه، لأن له مادة " (1) حيث إن العلة موجودة في المورد أيضا، وصحيحة الفضيل: " لا بأس أن يبول الرجل في الماء الجاري، وكره أن يبول في الراكد " (7) مردود.
أما الأول: فلجواز أن يكون التعليل لما يفهم من الأمر بالنزح من التطهر
Página 21
بزوال التغير، حيث إنه باطلاقه لا يوجب التطهر، لا لعدم الافساد، أو الحكمين.
والتمسك بالأولوية - حيث إن المادة لو صلحت للرفع فصلوحها للدفع والمنع أولى - ضعيف، لمنع الأولوية.
مع أنه يمكن أن يكون تعليلا لذهاب الريح وطيب الطعم بالنزح، حيث إن مجرد النزح لا يستلزم ذلك، وليس ذلك معلوما، إذ ما ليس له مادة ربما لم يزل تغيره بالنزح إلى أن لا يبقى منه شئ، فترتبه على النزح كليا إنما هو مع وجود المادة.
وأما الثاني: فلان عدم البأس في البول لا يستلزم عدم التنجس.
خلافا للمحكي عن جمل السيد (1)، والفاضل في أكثر كتبه، ومنها.
المنتهى (2)، ونفيه (3) عنه اشتباه، وأسنده في الروضة (4) إلى جماعة ومال إليه، وفي الروض (5) إلى جملة من المتأخرين، وتردد فيه بعض من تأخر (6).
لما دل على تنجس كل ماء بالملاقاة، كموثقتي الساباطي، إحداهما: " كل شئ من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن ترى في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا
Página 22
تشرب " (1) وقريبة منها الأخرى (2) وصحيحة ابن عمار: " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (3).
ورواية علي: عن الحمامة والدجاجة وأشباههن تطأ العذرة ثم ندخل في الماء، يتوضأ منه للصلاة؟ قال: " لا، إلا أن يكون الماء كثيرا " (4)، وغير ذلك من المستفيضة الآتية.
ومنع عموم الماء في الصحيحة، إما لمنع إفادة المفرد المعرف له، أو لأن عمومه في المفهوم غير معلوم، لكفاية نجاسة بعض أفراد غير الكر في صدقه كمنع عموم المنجس، حيث إن لفظ سئ في المفهوم مثبت فلا يعم، فيحمل على المغير، ضعيف:
أما الأول فلثبوت عموم المفرد المعرف في موضعه، ولولاه لم يتم التمسك بكثير من أخبار الطهارة أيضا. ووجوب تنزيل الماء في المفهوم على المراد منه في المنطوق، ضرورة اتحادهما في الموضوع والمحمول.
وأما الثاني فلأن الشئ في المنطوق مخصوص بغير المغيرة للاجماع على تنجس الكر بالتغير. فكذا في المفهوم، لما مر.
وعدم عمومه حينئذ غير ضائر، لعدم القول بالفصل.
والجواب: أن بعد ملاحظة اختصاص غير أخبار الجاري من روايات
Página 23
الطهارة بغير القليل الراكد (1)، واختصاصها بغير المتغير، واختصاص الموثقتين (2) من أخبار النجاسة بغير الكر، كل ذلك بقرينة الاجماع والأخبار، وكون غير ، الموثقتين مخصوصا بالقليل يتعارض الفريقان بالعموم من وجه.
فإن رجحنا الأولى بالأصل، والاستصحاب، والشهرة والأكثرية، والاجماعات المنقولة، وإلا فيكون المرجع إلى الأصل، وهو أيضا مع الطهارة.
المسألة الثانية: ظاهر الأكثر بل صريحهم الحاق الجاري لا عن نبع بالواقف، وعليه الاجماع في شرح القواعد (3) وغيره (4).
وألحقه بعض المتأخرين من المحدثين (5) بالنابع، فلا ينجس إلا بالتغير، ونقله في الحدائق (6) عن المعالم، وجعل هو المسألة محل إشكال، والأصل يعاضده، وعمومات الطهارة المتقدمة (7) بأسرها تشمله.
وتخصيص أخبار الجاري منها (8) بالنابع لا شاهد له، وتبادره منه - لو سلم - عرف طار، فالأصل تأخره.
وخروجه عنها بعمومات النجاسة غير ثابت، لتعارضها مع الأولى بالعموم من وجه، فيرجع إلى أصل الطهارة.
مضافا إلى ترجح عمومات الطهارة بأخبار أخر، كصحيحة حنان: إني أدخل الحمام في السحر، وفيه الجنب وغير ذلك، وأقوم فأغتسل فينضح علي بعد ما أفرغ من مائهم، قال: " أليس هو جار؟ " قلت: بلى، قال: " لا بأس " (9).
Página 24
وصحيحة محمد: " لو أن ميزابين سالا، أحدهما ميزاب بول والآخر ميزاب ماء، فاختلطا، ثم أصابك، ما كان به بأس " (1).
والتخصيص بماء المطر لا دليل عليه، مع أنه أيضا أعم من حال التقاطر، فيدل عليه أيضا صحيحة ابن الحكم: " في ميزابين سالا، أحدهما بول والآخر ماء المطر، فأصاب ثوب رجل، لم يضره ذلك " (2).
وعلى هذا فالترجيح للطهارة، إلا أن يثبت الاجماع على خلافها، والاحتياط في كل حال طريق النجاة.
المسألة الثالثة: لو تغير بعض الجاري فنجاسة المتغير منه إجماعي. كطهارة ما يتصل منه بالمنبع، وعموم أدلة الحكمين يدل عليه.
وما تحته مع الكثرة أو عدم قطع النجاسة لعمود الماء كالثاني ومع القلة وقطع العمود كالأول عند الأكثر، لكونه قليلا لاقى النجاسة، فتشمله أدلة نجاسته.
ويخدشه: أنه إن أريد أنه قليل راكد فممنوع، وإن أريد غيره فلا دليل على نجاسته بخصوصه. والعام - لو سلم - لم يفد، لتعارضه مع بعض ما مر من عمومات الطهارة بالعموم من وجه، فيرجع إلى أصل الطهارة، فالحق طهارته أيضا، وفاقا لبعض من تأخر (3) * * *
Página 25