145

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Géneros

وهنا نعود إلى لورد لويد فنراه يقول في هذا الموضع من كتابه: «وتلبية لتعليمات وزير الخارجية دعوت النحاس باشا إلى لقائي، وعينت السادس والعشرين من الشهر موعدا، وفي خلال ذلك تحدثت إلى الملك في هذا الشأن حديثا طويلا، فنبأني الملك أنه قد بذل كل ما في إمكانه لحمل ثروت باشا على «الدخول في الشق؛ الفخ» ليلزمه عرض المعاهدة، ولكنه ظل على روغانه المألوف، ولا يزال على رأيه من بقاء باب المفاوضات مفتوحا، ولم يكن ثروت باشا في الواقع قد عرض حتى ذلك الحين نص المشروع على زملائه الوزراء.»

وقد جرت المقابلة بعد ذلك في موعدها المضروب بين لورد لويد ومصطفى النحاس باشا، فكانت وقفة الزعيم في الحق خليقة به، موائمة له، وقفة مصر كلها بسائر ذكريات ضحاياها وشهدائها، بل وقفة شجاعة وجرأة ووطنية عالية ورفيع ثبات. وقد قص مصطفى نفسه على الناس فيما بعد دقائق ما جرى بينه وبين لورد لويد، كما عرض لها لويد نفسه في كتابه، وإن خرج ببعض معانيها عن نصوصها الصحيحة ومراميها الحقيقية، رغبة في التجسيم، ونزوعا إلى التأويل.

يقول مصطفى في صدد ذلك اللقاء: «ولقد لقيت لورد لويد في مساء الأحد، فأخبرني أنه قد علم من ثروت باشا أنني سأعرض على الوفد في جلسة الغد مشروع المعاهدة ، وأنه قد تلقى رسالة من السير أوستن تشمبرلن لكي ينبهني إلى الخطورة التي تنجم عن رفض مشروع المعاهدة، والمسئولية العظمى التي تقع على عاتقي باعتباري زعيما للأغلبية. قلت إني آسف لأن هذا المشروع قد خيب أملي في نجاح المحادثات التي كتمها عني ثروت باشا زمنا طويلا؛ لأنه كان تحفظا مرتبا - بناء على اتفاق مع السير أوستن تشمبرلن إلى حين إتمامها - على أن يعرضها علينا عند نجاحها، وقد وعدته بالتأييد إذا هو حافظ فيها على حقوق البلاد في الاستقلال التام، وكانت الضمانات لصيانة المصالح البريطانية لا تتعارض مع هذا الاستقلال، فلما اطلعت على المستندات التي سلمت لي في نجع حمادي، وانقطعت إلى قراءتها طول إقامتي في الأقصر، رأيت أنها قد بنيت على أساس لا يتفق مع الاستقلال، بل أقرت شرعية الاحتلال، ولا يتفق احتلال مع استقلال.

قال: إن بقاء القوات العسكرية البريطانية في مصر لا يتعارض مع الاستقلال ما دامت مصر هي التي تقبل بقاءها في أرضها بمقتضى المعاهدة.

قلت: إن المصريين الذين عارضوا الاحتلال منذ وجوده لا يقبلون بحال بقاء القوات العسكرية الأجنبية في الأراضي المصرية لمنافاة ذلك لاستقلالهم الذي هو حقهم الطبيعي، قال: كأنك تقول إنه لا يمكن اتفاق قبل خروج الجنود البريطانية من مصر، قلت: محال أن يكون اتفاق مقبولا عند المصريين إذا لم يكن أساسه الجلاء، قال: وكيف نغادر البلاد بعد أن ثبتنا دعامات ماليتها. قلت: تغادرونها طبقا لوعود الشرف المتكررة التي وعدها رجالكم الرسميون، وفي الوقت ذاته نعقد معكم محالفة ود وصداقة. قال: وماذا يكون الحال إذا غادرت قواتنا البلاد، فأغارت عليها دولة أخرى، قلت: إن ذلك لن يكون ما دمتم حلفاءنا، فإننا نصد بقواتنا غارة الأجنبي إذا حدثته النفس بالإغارة، وتساعدوننا أنتم على ذلك بقواتكم بحكم المحالفة إذا احتاج الأمر إلى المساعدة، وأساطيلكم على مقربة منا في البحر الأبيض المتوسط، وهي سيدة البحار.

قال: وما فائدتنا نحن من الجلاء؟! قلت: فوائد جمة، فأولا: تكسبون صداقتنا، وثانيا: توفرون على أنفسكم الرجال والأموال التي يضطركم إليها بقاء قواتكم المعسكرة في البلاد، ونحن كفيلون بالمحافظة على قناة السويس، ولا تتحملون أنتم غير مساعدتنا وقت الحاجة بحكم المحالفة، وثالثا: يتفرغ كل منا إلى مصالح بلاده، فلا يكون في شغل دائم بهذه الحالة الشاذة القائمة الآن، والتي لا يترتب عليها إلا استدامة النفور والمشادة والحذر، ورابعا: بحكم الصداقة والمحالفة يزداد تبادل المنافع المادية والأدبية بين البلدين، وخامسا: يروح ذلك أكبر فخر لكم يساعدكم على تخفيف أعباء متاعبكم في الشرق ...

هذا ما قلته ولم أشأ الدخول في تفاصيل المشروع، إذ لا فائدة من ذلك ما دام الأساس الذي بني عليه باطلا، وإنما قلت له إنني لم أفقد الأمل في أن يتم الاتفاق إذا ما حسنت النية من الجانبين، فإن ذلك هو اعتقادي الذي لم يفارقني في وقت من الأوقات حتى في أشدها حرجا، فإن مصلحة البلاد هي في إنهاء هذا الاتفاق، بشرط أن يكون اتفاقا مبنيا على العدل والمساواة واحترام الحقوق، اتفاق الصديق للصديق لا السيد للمسود. أما من جانبنا فإن حسن النية موفور، ولم يبق إلا توافره من جانب القائمين بالأمر في إنجلترا؛ فإن لم يتوافر الآن فسيتوافر على الأيام.

قال: إنك تقود البلاد بهذا الرفض إلى أمر خطير، فإن الحكومة البريطانية التي تساهلت إلى الآن في مشروعات بعض القوانين المصرية ستتشدد فيما بعد ذلك، قلت: إني إنما أعبر عن شعور البلاد الحقيقي وأؤدي واجبي، وللقوة أن تفعل ما تشاء ...»

هذا هو الحوار العجيب الذي جرى بين ممثل الحق، وممثل القوة؛ أو بين خصمين خطيرين، كل منهما معتد بذاته، معتز بجانبه. ولكن أولهما نازع إلى قوة الاقتناع في غير خوف، والتدليل في غير تراجع، والمحاجة في غير تحايل ولا اصطناع، وثانيهما جانح إلى التهديد لأنه هو وحده حجته، وإلى النذير لأنه كل سلاحه ومظهر قوته. وقد رأينا خلال هذا الحوار كيف كان مبلغ اعتداد مصطفى بحقوق بلاده، وكيف أبدى من العزة الصادقة بمكانه، وإباء التفريط في حق وطنه، وهو يعلم أن على الإباء عقابا، وأن مع الرفض نكبات وخطوبا ، وتجاريب قاسية وأياما غبرا مكفهرة المطالع، وأحداثا مروعة داهمة.

يرفض مصطفى النحاس مشروع ثروت - تشمبرلن، وهو في تلك الظروف الدقيقة للغاية، العليم بأن ثلاث محاولات من قبل قد حبطت وعوقبت البلاد على حبوطها؛ فكان العجب أن يأتي العقاب جزاء إباء تفريطها، وأن هذه هي المرة الرابعة التي يعتزم فيها الرفض ليتكرر الحبوط فيتكرر العقاب والتعذيب، وعرض البلاد من جديد على النار لتصهر صهرة الحديد، وقد كفاها ما قاست من اكتواء وبلاء.

Página desconocida