142

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Géneros

وبويع مصطفى النحاس بالزعامة من بعده، كما أسلفنا عليك في موضعه بسبيل الحديث عن سعد وعظمته، وكان غائبا يوم منعاه، فكان اسم مصطفى في الخواطر للمبايعة وعلى الشفاه، ولكنه عقب قدومه من الخارج وعرض رياسة الوفد عليه، رفضها بتاتا على شدة إلحاح صحبه عليه، حتى لقد جعل يقول: «هاتوا رئيسا من بينكم وأنا أخدم القضية بجانبه كما خدمت سعدا من قبل، ودعوني في موضعي كما أنا، سكرتيرا للوفد!»

ولما اشتد رفضه دعته السيدة الجليلة أم المصريين، وألحت عليه هي كذلك في قبول رياسة الوفد، حتى لقد جاء في سياق حديثها إليه: «هل تريد أن أرأس أنا الوفد؟!» وراحت تذكره بحب فقيدها العظيم له وثقته به وركونه إليه. وغلبها الدمع فبكت، وبكى مصطفى من شدة التأثر، ولم يجد سبيلا أمامه غير القبول والإذعان.

ولم يلبث مصطفى أن راع في موضعه، وجل في مكانه، وأثبت استحقاقه الطبيعي لمحله الخطير، ومركزه الرهيب، حتى لقد شهده أحد مديري الأقاليم وهو يخطب عقب مبايعته بالزعامة فدار بعينه إلى من حوله قائلا: «لقد خلق مصطفى باشا خلقا جديدا! أين هذه الحكمة وأين هذه الرزانة وبعد النظر مما عرفناه عن النحاس رجل الثورة المتوثب الطافر حماسة، المشتعل نارا؟!»

وفي الحق لقد استحال مصطفى يومئذ رجلا جديدا، في جلاله وهيبته وروعة سمته، وإن ظل مع ذلك منبسط الصدر، رافع الرأس، ثابت الخطو، صورة ماثلة لمبلغ اطمئنان الضمير، والثقة بالنفس، والاعتزاز بحب الشعب ورضوانه.

وكان الملك فؤاد في ذلك الحين يطوف عواصم أوروبا زائرا في رحلة مستطيلة، واقترنت رحلته بمحادثات جرت بين ثروت باشا رئيس الوزراء وسير أوستن تشمبرلن بشأن المسألة المصرية في لندن؛ فلما نعي إليه سعد بادر بالعودة إلى البلاد.

وقد ظل الدستور بعد غياب سعد غرضا لسهام الرجعيين، وبقي الحكم النيابي إزاءهم الخصم المبين، فكان موقف مصطفى دقيقا خطيرا بالغ الخطر؛ لأنه الموطن النفس على حراسته، المتجشم الأخطار جميعا في سبيل الذياد عنه، والدفاع عن حياته، والحرص على قداسته، مستمدا لذلك من قوة الأمة التي أحاطته بسياج من أرواح أبنائها، وأسكنته القلوب، وارتضته أساسا للحكم لا تبغي عنه حولا ...

ولقد ظن خصوم الأمة من غاصبي حريتها واستقلالها، وأعوان الغاصب وأهل مودته، أن موت سعد قد هيأ السبيل أمامهم للكيد لها، والائتمار بوفدها، وتوهين إجماعها؛ فأعدت العناية الإلهية لهذه الأمة ذلك الرجل الصادق، والزعيم المختار، والصفي لحمل الرسالة؛ ليجعل سعيهم في تضليل، ويرد كيدهم في النحور، ويذهب بدسهم كل مذهب، وينتصر عليهم جميعا في كافة المعارك. وإن حياته العامة كلها من بداية زعامته لانتصار مستطيل لجانب الأمة على جانب خصومها، وفوز مبين لقضية الدستور والاستقلال.

مصطفى النحاس

زعيم الأمة وقائد الشعب

كانت ظروف مصطفى حين استقل بدور الزعامة معاكسة له، أو شديدة الخطر بالنسبة لموضعه؛ فلم يتقدم إلى مكان الزعيم على دفوف النصر، وأناشيد الفرح، وزفيف الجماهير؛ وإنما جاء إثر نكبة قومية شديدة ومصاب عام جلل، وهو رحيل الزعيم الأول سعد من هذه الحياة، وعلى ظن مشاء في نفوس خصوم البلاد بأن وفاته سوف تضعف الحركة الوطنية وتشلها، وتوهن الوفد وتحطم بنيانه؛ لأن خليفته، في تقديرهم لم يكن على غراره، ولم يطبع في مصنع الطبيعة على نسقه، ولم يسبك مثل سبكه، ووسط ائتلاف سياسي يخشى من انهياره، ويشفق من تداعيه، وخلال غمرة حزن عام تركت البلاد جميعا في غمة وحداد ...

Página desconocida