تاريخ الموسيقى‏

الغناء في الإسلام‏

تعليم الغناء‏

أجناس الغناء‏

آلات الطرب والرقص وأربابها‏

الرقص وآلاته‏

علم الموسيقى‏

المخطوطات الموسيقية العربية‏

الموسيقى أشرف العلوم وألطف الفنون‏

أرجوزة في علم الموسيقى‏

مصطلحات موسيقية‏

الغناء العربي‏

محاولات لتطوير الموسيقى‏

تاريخ الموسيقى‏

الغناء في الإسلام‏

تعليم الغناء‏

أجناس الغناء‏

آلات الطرب والرقص وأربابها‏

الرقص وآلاته‏

علم الموسيقى‏

المخطوطات الموسيقية العربية‏

الموسيقى أشرف العلوم وألطف الفنون‏

أرجوزة في علم الموسيقى‏

مصطلحات موسيقية‏

الغناء العربي‏

محاولات لتطوير الموسيقى‏

الموسيقى والغناء عند العرب

الموسيقى والغناء عند العرب

تأليف

أحمد تيمور باشا

العلامة المحقق المغفور له أحمد تيمور باشا.

تاريخ الموسيقى

لا يخفى أن بين الفنون المنتشرة في العالم فنونا خمسة تعرف بالفنون الجميلة؛ لأنها أجمل الفنون، ولا تتأتى إجادتها إلا لذوي المواهب المختصة بها، وهذه الفنون الخمسة هي: الموسيقى، والرسم، والنقش، وهندسة البناء، والشعر.

ويظهر من مراجعة أقدم التواريخ أن الموسيقى أقدمها كلها، فقد ورد في التوراة (سفر التكوين، الفصل الرابع، العدد الحادي والعشرين) أن «بوبل بن لامك بن متوشائيل بن محويائيل بن عيراد بن أخنوخ بن قايين بن آدم، أبو كل عازف بالكمارة والمزمار.»

وفي التوراة نصوص كثيرة تؤيد شيوع الآلات الموسيقية قديما بين اليهود ومن عاصروهم ... وترى على جدران الهياكل وغيرها من الآثار المصرية القديمة رسوم كثير من الآلات الموسيقية التي كانت شائعة بين المصريين قبل الميلاد بأجيال، كما يرى مثل ذلك أيضا على الآثار الآشورية وغيرها.

والآلات الموسيقية كثيرة تعد بالمئات، وتختلف شكلا وحجما باختلاف الزمان والمكان، ولو أردنا تعدادها ووصفها لضاق دون ذلك المقام، ولكنا نقول: إنها ترجع إلى ثلاثة أشكال أولية، أو هي ثلاثة أنواع: (1)

ذوات الأوتار، ومنها العود والقانون والكمنجا والرباب وغيرها. (2)

الآلات الصفيرية: وهي التي يضربون بها نفخا بالفم، أو ما يقوم مقامه، ومنها المزمار والنفير والفلوت والناي وما جرى مجراها. (3)

الآلات الصدمية: وهي التي يستخدمونها ضربا أو خشخشة، مثل: الطبل والدف والصنوج وما شاكلها.

ومن أنواع الآلات الموسيقية التي صنعها قدماء المصريين، ووجدت في معابدهم وهياكلهم: (1)

القرن: وهو أبسط أنواع الآلات الصفيرية؛ لأنه موجود في الطبيعة خلقة كما هو. (2)

النفير: وهو مصنوع على مثال «القرن». (3)

المزمار: وهو نوعان: المفرد والمزدوج. (4)

الطبل: وهو من الآلات الصدمية. (5) «آلة من ذوات الأوتار» تشبه آلة موسيقية حديثة كثيرة الاستعمال عند الإفرنج. (6) «آلة كثيرة الشبه بالعود» ويتبين من كيفية حملها أن الضرب بها مثل الضرب بالعود تماما.

وتحت كل من هذه الأقسام أنواع كثيرة ليس هنا محل الكلام عليها، وإنما نقول إن الآلات الموسيقية قديمة جدا لا يمكن الوصول إلى مخترعها إلا من قبيل ما تقدم، ولم تخرج الآلات الموسيقية الحديثة كالعود والقانون عن كونها متخلقة عن تلك، فالعود مثلا كثير الشبه بالآلة الفرعونية السالفة الذكر، والقانون يغلب على الظن أنه متخلق عن الشكل الخامس، وهو من صنع المصريين القدماء أيضا، وكلاهما من ذوات الأوتار، فقس عليهما الآلات الأخرى المتخلقة عن الآلات الصفيرية والصدمية ومنها «الفلوت والدف وغيرهما».

أما زمن تخلقها أو تنوعها فغير معروف؛ لتباعد عهدها. (1) علم الألحان عند العرب

أما العرب فإن علم الألحان قديم عندهم، أو هو مرافق لنظم الشعر؛ لأنهم يقولون: «إن العرب إنما جعلت الشعر موزونا لمد الصوت فيه والدندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور، وأما الآلات الموسيقية فربما كان عندهم البسيط منها كالمزمار والطبل والنفير، وأما العود والقانون فقد أخذهما العرب عن الفرس أو الروم في صدر الإسلام، وهاموا بهما وبالغناء كثيرا حتى كان ما نسمعه عن الرشيد ومجالس الغناء عنده.»

وقد نظم شعراء العرب في صدر الإسلام أبياتا كثيرة في مدح العود وغيره، وقام في صدر الإسلام علماء اشتغلوا في فن الموسيقى وألفوا فيه كتبا، أشهرهم أبو نصر محمد خان الفارابي التركي، الفيلسوف المشهور صاحب التصانيف في المنطق والموسيقى وغيرهما (توفي سنة 339ه) وكان كثير البراعة في الموسيقى وضرب الآلات.

ومما يحكى أنه حضر في مجلس سيف الدولة في دمشق، فأراد سيف الدولة إكرامه، فأمر بإحضار القيان، وكل ماهر في صناعة ضرب الألحان، فلم يحرك أحد منهم آلة إلا عابه الفارابي، وقال له: أخطأت. فقال له سيف الدولة: هل تحسن في هذه الصنعة شيئا؟ فقال: نعم. ثم أخرج من «وسطه» خريطة، ففتحها وأخرج منها عيدانا وركبها، ثم لعب بها فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها، وضرب بها ضربا فبكى كل من كان في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها، وضرب بها ضربا آخر فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نياما وخرج ...

ويقال أيضا إن «القانون» إنما هو من صنع «الفارابي المشار إليه»، وهو أول من ركبه على الأسلوب الذي هو عليه. (2) الموسيقى وأصول الألحان

في «محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر» ص189، الفصل الثاني والثلاثون، في الأوائل المتعلقة بالغناء والحداء وما يتعلق بهما، قال المؤلف: أول من وضع علم الموسيقى وأصول الألحان فيثاغورث الهرمس، أدرك بالقوة الذهنية حركات الأفلاك، فاستمع الأصوات، ورتب الألحان الثمانية، بحسب الأدوار الفلكية وأصواتها.

وفي «تاريخ الحكماء»: إن أول من وضع العود للغناء «لامك بن قابيل بن آدم، عليه السلام» وبكى به على والده، ويقال إن صانعه «بطليموس الحكيم» صاحب الموسيقى أو كتاب اللحون الثمانية.

وفي «بهجة التواريخ»: أول من غنى من العرب قينتان يقال لهما «الجرادتان»، ومن غنائهما حين حبس الله عنهما المطر:

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعل الله يصبحنا غماما

ذكره صاحب «المستطرف»، وأول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق «طويس»، وكان أصله من اليمن وهو الذي علم الغناء «ابن سريج»، وقيل: أول من تغنى «جرادة بن جدعان» وقيل غيره، أخذ من أهل الفرس أيام الزبير، وكانوا يبنون المسجد الحرام، ويتغنون بالفارسية فقلبه بالعربية ابن سريج. (3) أول من غنى على العود

أما أول من غنى من العرب على العود، فقد ذكر الإمام العالم الفاضل جمال الدين محمد بن محمد بن نباتة المصري في ص127 من كتابه «مسرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون»، أن النضر بن الحارث بن كلدة هو أول من غنى من العرب على العود بألحان الفرس، وذلك حين وفد على «كسرى» بالحيرة؛ فتعلم ضرب العود والغناء، ثم قدم مكة فعلم أهلها.

وفيه أن أول من غنى في الإسلام بألحان الفرس «سعيد بن مسجح»، وقيل «طويس». وذلك أن عبد الله بن الزبير لما وهى بناء الكعبة رفعها وجدد بناءها، وكان فيها صناع من الفرس يغنون بألحانهم، فوقع عليها ابن مسجح - الغناء العربي - ثم دخل إلى الشام فأخذ الألحان عن الروم، ثم دخل إلى فارس فأخذ الغناء وضرب العود، واتبعه من بعده، وبدئ هذا العلم ببطليموس، وختم بإسحاق بن إبراهيم الموصلي.

وفي «نهاية الأرب للنويري» ج5 ص22: ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعي: هو العباس عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، والربيع على ما يدعيه أهله ابن يونس بن أبي فروة، وآل أبي فروة يدفعون ذلك ويزعمون أنه لقيط وجد منبوذا كفله يونس، فلما خدم المنصور ادعى عليه، قال أبو الفرج الأصفهاني: وكان شاعرا مطبوعا ومغنيا محسنا جيد الصنعة نادرها، وهو أول من غنى «بالكنكلة» في الإسلام. (4) أول من أفسد الغناء

وكانت العرب تسمي القينة: الكرنية، والعود: الكران، والمزهر أيضا هو: البربط، وكان أول ما غني به في الإسلام:

قد براني الشوق حتى

كدت من شوقي أذوب

وفي «غذاء الألباب» للسفاريني ج1 ص147: أول من غنى في العرب قينتان لعاد يقال لهما الجرادتان، هكذا في أوائل «علي دده» و«المستطرف» وغيرهما. والصواب أن الجرادتين كانتا بمكة، وأن وفد عاد لما ذهبوا لمكة لأجل أن يستسقوا في الحرم كانت الجرادتان تغنيانهم، وكان سيدهما قد أمرهما أن تغنياهم بهذا الشعر:

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعل الله يصبحنا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا

قد امسوا ما يبينون الكلاما

وأول من أفسد الغناء القديم: إبراهيم بن المهدي. ذكر هذا أبو الفرج الأصبهاني في كتابه «الأغاني» ص35 عند الكلام على «صنعة أولاد الخلفاء الذكور منهم والإناث»، قال:

فأولهم وأتقنهم صنعة، وأشهرهم ذكرا في الغناء إبراهيم بن المهدي، فإنه كان يبتذل نفسه ولا يستتر منه ولا يحاشي أحدا، وكان أول أمره لا يفعل ذلك إلا من وراء ستر، وعلى حال تصون عنه وترفع، إلا أن يدعوه إليه «الرشيد» في خلوة ، «والأمين» بعده، فلما أمنه المأمون تهتك بالغناء، وأكثر شرب النبيذ بحضرته والخروج من عنده ثملا، ومع المغنين، خوفا منه وإظهارا له أنه قد خلع ربقة الخلافة من عنقه، وهتك ستره فيها حتى صار لا يصلح لها.

وكان من أعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات، وأطبعهم في الغناء وأحسنهم صوتا، وهو من المعدودين في طيب الصوت في الدولة العباسية مع ابن جامع، وعمرو بن أبي الكنات، ومخارق، وهؤلاء من الطبقة الأولى وإن كان بعضهم يتقدم.

وكان إبراهيم مع علمه وطبعه مقصرا عن أداء الغناء القديم وعن أن ينحوه في صنعته، فكان يحذف نغم الأغاني الكثيرة العمل حذفا شديدا ويخففها على قدر ما يصلح له ويفي بأدائه؛ فإذا عيب ذلك عليه قال: «أنا ملك وابن ملك أغني كما أشتهي، وعلى ما ألتذ.» فهو أول من أفسد الغناء القديم، وجعل للناس طريقا إلى الجسارة على تغييره، فالناس إلى الآن في ذلك صنفان: صنف على مذهب إسحاق وأصحابه ممن ينكرون تغيير الغناء القديم ويعظمون الإقدام عليه، ويعيبون من فعله؛ فهم يغنون الغناء القديم على جهته أو قريبا منها، وصنف أخذوا بمذهب إبراهيم بن المهدي أو اقتدوا به. (5) من الفارسية إلى العربية

ولا ريب أن الغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب قبل ذلك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمونه الركبانية.

وأول من نقل الغناء العجمي إلى العربي من أهل مكة سعيد بن مسجح، ومن أهل المدينة سائب خاثر، وأول من صنع الهزج طويس، كذلك قال النويري في «نهاية الأرب» ج4 ص256.

وفي أوائل محاضرات السيوطي: وأول من غنى الغناء العربي «طويس» وكان يكنى أبا عبد الرحيم، كان اسمه طاوس فلما تخنث صغروه، وضرب به المثل في المدينة المشرفة بالشآمة، فيقال: أشأم من طويس، وهو أول من اتخذ «الرمل»، كان يقول عن نفسه: «أنا طاوس الجحيم، أنا أشأم من يمشي على ظهر الحطيم.» يعني على ظهر الأرض، وله مناقب متعلقة بالشآمة.

وفيها أيضا: وأول صوت غني به في الإسلام كان يغني به طويس هو:

قد براني الشوق حتى

كدت من وجدي أذوب

وفيها أيضا: أول من تغنى على وجه الأرض إبليس، ثم زمر بعد الغناء، ثم حدا، ثم ناح.

وفيها: أول من اتخذ المغاني وتغنى له من الملوك «نمروذ»، وأول من اتخذ المغاني والندامى في مجالس الخمر «يزيد المرواني» من ملوك الجبابرة، وأول من تغنى من الأنصار على الطنبور في الإسلام رجل بالكوفة يقال له «أحمد بن أمامة الكوفي»، وأول من دون الغناء والرمل للمخنثين طويس المذكور، وقيل رجل يقال له «يونس الكاتب»، وأول من وضع الآلة المعروفة للغناء المسماة بالقانون ورتبها أبو نصر الفارابي أستاذ ابن سينا.

وفي «بهجة التاريخ»: أول من ضرب بالعود على الغناء العربي ابن سريج، أخذه من العجم الذين أقدمهم ابن الزبير لبناء المسجد الحرام.

وفي أوائل محاضرات السيوطي: أول من ضرب بالدف كلثوم أخت موسى عليه السلام لما جاوز البحر، كذا ذكره السيوطي رحمه الله نقلا عن جابر رضي الله عنه.

وكان الغناء في خرسان حتى العصر العباسي بالفارسية، وفي «نهاية الأرب» (ج5 ص116-121) كثير مما قيل في الغناء، وما وصفت به القيان، ومنه أن بعض المحدثين سمع غناء بخراسان - بالفارسية - فلم يدر ما هو، غير أنه شوقه لشجاه وحسنه. (6) الضرب بالدف والحداء

وأول من ضرب بالدف عند ظهور الإسلام بالمدينة المنورة فتيات من بني النجار، استقبلن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

عند هجرته إليها من مكة وهن يضربن بالدف وينشدن مرتجزات:

نحن جوار من بني النجار

يا حبذا محمد من جار

كما ذكره السيوطي وغيره.

وأول غناء تغنت به النساء والصبيان في المدينة عند قدوم رسول الله

صلى الله عليه وسلم

هو:

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا

جئت بالأمر المطاع

جئت شرفت المدينة

مرحبا يا خير داع

وفي أوائل محاضرات السيوطي: وأول من جعل للمغنين مراتب وطبقات هارون الرشيد.

وأول من تغنى من العرب الحجازية خزيمة بن سعد، ويلقب بالمصطلق؛ لحسن صوته في غنائه.

وأول من أحدث الحداء غلام من مضر ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله

صلى الله عليه وسلم

في مضر، فسمع صوت حاد يحدو، فقال رسول الله

صلى الله عليه وسلم : ميلوا بنا إليه، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من مضر، فقال رسول الله

صلى الله عليه وسلم : أتدرون متى كان الحداء؟ قالوا: لا، بأبينا وأمنا أنت يا رسول الله، فقال

صلى الله عليه وسلم :

إن أباكم مضر خرج في مال له، فوجد غلامه قد تفرقت عليه إبله فضربه على يده بالعصا، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: «وا يداه! وا يداه!» فسمعت الإبل صوته فعطفت عليه واجتمعت، فقال مضر: لو اشتق من هذا الكلام مثل هذا لكان كلاما تجتمع عليه الإبل، فاشتق الحداء من ذلك.

وكان «سلام الحادي» في الدولة العباسية يضرب المثل بحدائه، فقال يوما للمنصور: يا أمير المؤمنين، مر الجمالين بأن يظمئوا الإبل ثم يوردوها الماء، فإني آخذ في الحداء فترفع رءوسها وتترك الشرب، ففعلوا ما قال، فأجرى ما التزم، وارتجز:

ألا يا بانة الحادي

بشاطئ نهر بغداد

شجاني فيك صياح

طروب فوق مياد

يذكرني ترنمه

ترنم ربة الوادي

إذا سوت مثالثها

فلا نذكر أخا الهادي

وإن جادت بنغمتها

فمن «أنجشة» الحادي؟

و«أنجشة الحادي» هذا هو أول من اشتهر بالحداء في الإسلام ويضرب به المثل فيه، وكانت الإبل تتهلل بحسن صوته، وروي أنه كان يحدو في زمن رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، ولقي قوما فيهم حاد يحدو فقال: ممن القوم؟ قالوا: من مضر. فقال رسول الله

صلى الله عليه وسلم : وأنا من مضر، قال: أي العرب حدا أولا؟ قالوا: إن رجلا منا - وسموه له - عزب عن إبله في الربيع، فبعث غلاما له مع الإبل فأبطأ، فضربه بعصا على يده، فانطلق الغلام يقول: وايداه! أو قال: هبيبا هبيبا، فتحركت الإبل لذلك، فسارت وانبسطت، ففتح الحداء.

وقال أهل الطب: إن الصوت الحسن يسري في الجسم والعروق فيصفو الدم، وتنمو له النفس، وترتاح الروح، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات بالسماع، ويعلل به المريض، ويشغله عن التفكر؛ فمن ثم أخذت العرب الغناء كما مر، وكانت ملوك الفرس تلهي المحزون بالسماع، فتستريح جوارحه وتستهدي فيه كوامن النفس عند الاندفاع.

الغناء في الإسلام

قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى:

يزيد في الخلق ما يشاء : هو الصوت الحسن.

وذكر بعضهم في قوله تعالى:

فهم في روضة يحبرون

يلتذون بالسماع فيها. قال الأوزاعي وغيره: «إذا أخذ أهل الجنة في السماع لم تبق شجرة في الجنة إلا غنت.»

وورد في الخبر: «ليس في خلق الله تعالى أحسن صوتا من إسرافيل، فإذا أخذ في الغناء قطع على أهل السموات صلاتهم وتسبيحهم.»

وقال رجل لرسول الله

صلى الله عليه وسلم : حبب إلي الصوت الحسن، فهل في الجنة صوت حسن؟ فقال الرسول الكريم: إي والذي نفسي بيده، إن الله تعالى ليوحي إلى شجرة في الجنة: أن أسمعي عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي عن عزف البرابط والمزامير، فترفع صوتا لم تسمع الخلائق مثله في تسبيح الرب وتقديسه.

وقال أعرابي: يا رسول الله، هل في الجنة من سماع؟ فقال - عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: نعم يا أعرابي، إن في الجنة لنهرا على حافتيه الأبكار من كل هيفاء بيضاء خمصانة، فيتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط، فلذلك هو أفضل نعيم أهل الجنة.

وفي الخبر: إن في الجنة أشجارا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله تعالى ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار، فتتحرك الأجراس التي عليها بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا.

وكان أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة يحضر مجلس «الرشيد» وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور بكاء كأنه يتذكر نعيم الآخرة.

وقد تحن القلوب والأرواح إلى حسن الصوت، حتى الطير والبهائم.

وقيل: النحل والإبل أطرب الحيوان إلى الغناء؛ لأنهما يجتمعان بصفير الغناء، قال أفلاطون: من حزن واغتم فليسمع الأصوات الحسنة؛ فإن النفس إذا حزنت خمدت نارها، فإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمد .

والصيادون يصيدون الفيل والغزال بالسماع وآلات الطرب؛ إذ الملاهي تلهيها عن رعيها فتسهو عن الرعي والهرب حتى تؤخذ وتصاد، وكذلك السماكون يصطادون السمك بأصوات شجية، وكثير من الطيور تصاد بالغناء لما فيه من الجذبة السارية الشاغلة.

واختلف العلماء قديما وحديثا في الغناء؛ فأجازه عامة أهل الحجاز، وكرهه عامة أهل العراق، ولكل مقاصد ومحامل حسنة، كاختلافهم في الأشعار، حسنها حسن وقبيحها قبيح، بحسب المقاصد والمجالس، وأهاليها من أرباب الأحوال وأهل الأهواء، كما ذكره الغزالي والنووي بتفصيله في كتبهما، كل وفق ما يسر له، ولله في خلقه شئون.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «لأهل الجنة سماع من شجرة أصلها من ذهب، وثمرها اللؤلؤ والزبرجد، يبعث الله ريحا فتحرك بعضها بصوت ما سمع أحد صوتا أحسن منه.» ذكره الإمام الثعلبي في تفسيره.

وقال مالك بن دينار:

1

بلغنا في الخبر أن الله تبارك وتعالى يقيم داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش فيقول: يا داود، مجدني اليوم بذلك الصوت الرخيم. وجاء في الخبر أن داود عليه السلام كان يخرج إلى صحراء بيت المقدس يوما في الأسبوع ويجتمع الخلق؛ فيقرأ الزبور بالقراءة الرخيمة، وكانت له جاريتان موصوفتان بالقوة فكانتا تضبطان جسده خيفة أن تنخلع أوصاله مما كان ينتحب، وكانت الوحوش والطيور تجتمع لاستماع قراءته.

وقال

صلى الله عليه وسلم

لأبي موسى الأشعري لما أعجبه حسن صوته: «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود.»

وكان السلف يستمعون ويحضرون مجالس الغناء؛ قال رجل للحسن البصري رحمه الله: ما تقول في الغناء؟ فقال الحسن: نعم العون على طاعة الله، يصل الرجل به رحمه، ويواسي به صديقه.

وقال أحد الشعراء يصف غناء غلامين:

ومغنيين يقربان لذي الهوى

ما شئت في معنى الهوى المتباعد

نطقا لنا بلطافة وتوافق

فكأنما نطقا بصوت واحد (1) الغناء عند الفقهاء

وقد عقد مؤلف كتاب «غذاء الألباب» فصلا عن الغناء وما يتعلق به من أحكام، قال: أما الإمام مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب، وسئل مالك عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.

وأما الإمام أبو حنيفة النعمان، فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب، وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم، لا اختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافا بين أهل البصرة في المنع منه، قال الإمام ابن القيم في «إغاثة اللهفان»: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية توجب الفسق وترد به الشهادة، وقالوا: إن السماع فسق والتلذذ به كفر، ويجب على المسلم أن يجتهد في ألا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره.

وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: الدار التي يسمع منها صوت المعازف والملاهي يجوز دخولها بغير إذن؛ لأن النهي عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول بغير إذن؛ لامتنع الناس من إقامة الفروض.

أما الإمام الشافعي فقال في كتاب «أدب القضاء»: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال، من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته، وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ، قال الشيخ أبو إسحاق في «االتنبيه»: الإجارة لا تصح على منفعة محرمة كالغناء والزمر وحمل الخمر. ولم يذكر فيه خلافا.

وأما مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فقد تقدمت الإشارة إليه، وقد أفتى في أيتام ورثوا جارية مغنية فأرادوا بيعها، فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة، فقالوا: إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفا أو نحوها، وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين! فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. فلو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام. (2) الخلفاء والغناء

وفي «الأغاني» (ج8، ص149) أن الغناء العربي لم يكن معروفا زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إلا ما كانت العرب تستعمله من الحداء ونحوه. قال: المنسوب إلى الخلفاء من الأغاني والملصق بهم منها لا أصل لجله ولا حقيقة لأكثره، لا سيما ما حكاه ابن خرداذبة فإنه بدأ بعمر بن الخطاب رضى الله عنه فذكر أنه تغنى بقول الشاعر: كأن راكبها غصن بمروحة. ثم والى بين جماعة من الخلفاء واحدا بعد واحد، كأن ذلك عنده ميراث من مواريث الخلافة، أو ركن من أركان الإمامة لا بد منه ولا معدل عنه، يخبط خبط العشواء ويجمع جمع حاطب الليل، فأما عمر بن الخطاب فلو جاز هذا أن يروى عن كل أحد لبعد عنه؛ وإنما روي أنه تمثل بهذا البيت وقد ركب ناقة فاستوطأها، لا أنه غنى به، وما كان الغناء العربي قد عرف في زمانه إلا ما كانت العرب تستعمله من النصب والحداء، وذلك جار مجرى الإنشاد إلا أنه يقع بتطريب وترجيع يسير، ورفع للصوت، والذي صح من ذلك عن رواة هذا الشأن فأنا ذاكر منه ما كان متقن الصنعة، لاحقا بجيد الغناء قريبا من صنعة الأوائل، وسالكا مذاهبهم، لا ما كان ضعيفا سخيفا، وجامع منه ما اتصل به خبر له يستحسن، ويجري مجرى هذا الكتاب وما تضمنه، فأول من رويت له صنعة منهم عمر بن عبد العزيز، فإنه ذكر عنه أنه صنع في أيام إمارته على الحجاز سبعة ألحان، فيها كلها ذكر سعاد، فبعضها عرفت الشاعر القائل له فذكرت خبره، وبعضها لم أعرف قائله فأتيت به كما وقع إلي، فإن مر بي بعد وقتي هذا أثبته في موضعه وشرحت من أخباره ما اتصل بي، وإن لم يقع لي ووقع إلى بعض من كتب هذا الكتاب، فمن أقل الحقوق عليه أن يتكلف إثباته ولا يستثقل تجشم هذا القليل، فقد وصل إلى فوائد جمة تجشمناها له ولنظرائه في هذا الكتاب، فحظي بها من غير نصب ولا كدح، فإن جمال ذلك موقر عليه إذا نسب إليه، وعيبه عنا ساقط مع اعتذارنا عنه إن شاء الله ...

ومن الناس من ينكر أن تكون لعمر بن عبد العزيز هذه الصنعة، ويقول إنها أصوات محكمة العمل لا يقدر على مثلها إلا من طالت دربته بالصنعة، وحذق الغناء ومهر فيه وتمكن منه، ولم يوجد عمر بن عبد العزيز في وقت من الأوقات، ولا حال من الحالات اشتهر بالغناء ولا عرف به ولا بمعاشرة أهله، ولا جالس من ينقل ذلك عنه ويؤديه، وإنما هو شيء تحسن المغنون نسبته إليه، وروي من غير وجه خلاف ذلك، وإثبات لصنعته إياها، وهو أصح القولين لأن الذين أنكروا ذلك لم يأتوا بحجة أكثر من هذا الظن والدعوى، ومخالفوهم قد أيدتهم أخبار رويت ...

وذكر النويري في «نهاية الأرب» (ج5، ص220) بعض من غنى من الخلفاء وأبنائهم، أو نسبت لهم أصوات من الغناء ونقلت عنهم، وذكر ما أورده أبو الفرج الأصفهاني في كتابه المترجم بالأغاني ونسبته أصواتا لجماعة منهم عمر بن عبد العزيز، ثم قال: ومنهم من أنكر ذلك، ولعل ما نقل عنه كان منه قبل الخلافة، وكان رحمه الله من أحسن الناس صوتا، فكان مما نسب إليه من الغناء:

علق القلب سعادا

عادت القلب فعادا

كلما عوتب فيها

أو نهي عنها تمادى

وهو مشغوف بسعدى

وعصى فيها وزادا

ومما نسب إليه من الغناء ما قيل إنه غناه من شعر «جرير»:

قفا يا صاحبي نزر سعادا

لوشك فراقها ودعا البعادا

لعمرك إن نفع سعاد عني

لمصروف ونفعي عن سعادا

إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى

ومروان الذي رفع العمادا

ومن ذلك ما قيل إنه غناه من شعر الأشهب بن رميلة:

ألا يا دين قلبك من سليمى

كما قد دين قلبك من سعادا

هما سبتا الفؤاد وهاجتاه

ولم يدرك بذلك ما أرادا

قفا نعرف منازل من سليمى

دوارس بين حومل أو عرادا

ذكرت لها الشباب وآل ليلى

فلم يزد الشباب بها مزادا

فإن تشب الذوائب أم عمرو

فقد لاقيت أياما شدادا

وممن غنى من خلفاء الدولة العباسية، ممن دونت له صنعته؛ الواثق بالله أبو جعفر هارون بن المعتصم بالله بن الرشيد.

حكى أبو الفرج الأصفهاني بسند رفعه إلى «إسحاق بن إبراهيم الموصلي» قال: دخلت يوما دار الواثق بالله بغير إذن إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا، فسمعت صوت عود من بيت، وترنما لم أسمع أحسن منه، فأطلع خادم رأسه ثم رده وصاح بي، فدخلت وإذا أنا بالواثق بالله، فقال: أي شيء سمعت؟ فقلت: الطلاق - كاملا - لازم لي، وكل مملوك لي حر إن لم أكن قد سمعت ما لم أسمع مثله قط حسنا!

فضحك وقال: وما هو؟ إنما هذه فضلة أدب، وعلم مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، والتابعون بعدهم، وكثر في حرم الله عز وجل ومهاجر رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، أتحب أن تسمعه؟

قلت: إي والله الذي شرفني بخطابك وجميل رأيك، فقال: يا غلام، هات العود وأعط إسحاق رطلا، فدفع الرطل إلي وضرب وغنى في شعر لأبي العتاهية بلحن صنعه فيه:

أضحت قبورهم من بعد عزتهم

تسفي عليها الصبا والحرجف الشمل

لا يدفعون هواما عن وجوههم

كأنهم خشب بالقاع منجدل

فشربت الرطل ثم قمت فدعوت له، فاحتبسني وقال: أتشتهي أن تسمعه بالله؟ فقلت: إي والله، فغنانيه ثانية وثالثة، وصاح ببعض خدمه وقال: احمل إلى إسحاق الساعة ثلاثمائة ألف درهم، ثم قال لي: يا إسحاق، قد سمعت ثلاثة أصوات، وشربت ثلاثة أرطال، وأخذت ثلاثمائة ألف درهم، فانصرف إلى أهلك مسرورا ليسروا معك، فانصرفت بالمال.

وقال أبو الفرج بسنده إلى «عريب المأمونية» قالت: صنع الواثق بالله مائة صوت، ما فيها صوت ساقط، ولقد صنع في هذا الشعر:

هل تعلمين وراء الحب منزلة

تدني إليك فإن الحب أقصاني

هذا كتاب فتى طالت بليته

يقول يا مشتكى بثي وأحزاني

قال: وكان الواثق بالله إذا أراد أن يعرض صناعته على إسحاق نسبها إلى غيره فقال: وقع إلينا صوت قديم من بعض العجائز؛ فاسمعه، وأمر من يغنيه إياه، وكان إسحاق يأخذ نفسه بقول الحق في ذلك أشد أخد، فإن كان جيدا رضيه واستحسنه، وإن كان فاسدا أو مطرحا أو متوسطا، ذكر ما فيه، فإن كان للواثق فيه هوى سأله «تقويمه» وإصلاح فاسده وإلا طرحه.

وقال إسحاق بن إبراهيم: كان «الواثق» أعلم الناس بالغناء، وبلغت صنعته مائة صوت، وكان أحذق من غنى بضرب العود، ثم ذكر أغانيه.

وذكر أبو الفرج الأصفهاني منها أصواتا، منها:

ولم أر ليلى غير موقف ليلة

بخيف منى ترمي جمار المحصب

ويبدي الحصى منها إذا حذفت به

من البرد أطراف البنان المخضب

ألا إنما غادرت يا أم مالك

صدى أينما تذهب به الريح يذهب

وأصبحت من ليلى الغداة كناظر

مع الصبح في أعجاز نجم مغرب

وروى أبو الفرج الأصفهاني عن جعفر بن سليمان الهاشمي قال: حدثنا إبراهيم بن المهدي قال: دخلت يوما على «الرشيد» وبي فضلة خمار، وبين يديه ابن جامع وإبراهيم الموصلي فقال: بحياتي يا إبراهيم غن؛ فأخذت العود ولم ألتفت إليهما لما في رأسي من الفضلة فغنيت:

أسري لخالدة الخيال ولا أرى

شيئا ألذ من الخيال الطارق

إن البلية من يمل حديثه

فانقع فؤادك من حديث الوامق

أهواك فوق هوى النفوس ولم يزل

مذ بنت قلبي كالجناح الخافق

شوقا إليك ولم تجاز مودتي

ليس المكذب كالحبيب الصادق

فسمعت إبراهيم يقول لابن جامع: لو طلب هذا بهذا الغناء ما نطلب لما أكلنا خبزا أبدا، فقال ابن جامع: صدقت، فلما فرغت من غنائي وضعت العود ثم قلت: خذا في حقكما ودعا باطلنا ...

تعليم الغناء

في «الأغاني» (ج5، ص9، تعليم الجواري للغناء) كانوا لا يعلمونه إلا للصفر والسود من الجواري، وإبراهيم الموصلي أول من علم الجواري المثمنات. قال المؤلف: أخبرني الحسين بن يحيى، قال: حدثنا حماد عن أبيه، وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبة، وأخبرني إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبه، جميعا عن ابن إسحاق، قال: لم يكن الناس يعلمون الجارية الحسناء الغناء، وإنما كانوا يعلمون الصفر والسود، وأول من علم الجواري المثمنات أبي، فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ، ورفع من أقدارهن، وفيه يقول أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة المهلبي، وكان قد هوي جارية يقال لها «أمان» فأغلى بها مولاها السوم، وجعل يرددها إلى إبراهيم وإسحاق ابنه، فتأخذ عنهما ، فكلما زادت في الغناء، زاد في سومه، فقال أبو عيينة:

قلت لما رأيت مولى أمان

قد طغى سومه بها طغيانا

لا جزى الله الموصلي أبا إس

حاق عنا خيرا ولا إحسانا

جاءنا مرسلا بوحي من الشي

طان أغلى به علينا القيانا

من غناء كأنه سكرات ال

حب يصبي القلوب والآذانا

وقال فيه ابن سبابة، وهو (صوت) غني به:

ما لإبراهيم في العلم بهذا الشأن ثان

إنما عمر أبي إسحاق زين للزمان

جنة الدنيا أبو إسحاق في كل مكان

فإذا غنى (كلما شاء) أجابته المثاني

1

منه يجنى ثمر اللهو وريحان الجنان

لإبراهيم في هذا الشعر لحنان: خفيف ثقيل بالبنصر، وخفيف رمل بالوسطى، عن عمرو والهشامي.

وفي «الأغاني» (ج5، ص25): السماع من وراء الستار، شيء من عادة الخلفاء في ذلك.

وفي ص32 (إذن الرشيد خلف الستار، لإبراهيم الموصلي بعد استماع غنائه) قال دعبل بن علي: لما ولي «الرشيد» الخلافة وجلس للشرب بعد فراغه من إحكام الأمور، دخل عليه المغنون، وكان أول من غناه إبراهيم الموصلي بشعره فيه وهو:

إذا ظلم البلاد تجللتنا

فهارون الإمام لها ضياء

بهارون استقام العدل فينا

وغاض الجور وانفسح الرجاء

رأيت الناس قد سكنوا إليه

كما سكنت إلى الحرم الظباء

تبعت من الرسول سبيل حق

فشأنك في الأمور به اقتداء

فقال له الرشيد من خلف الستارة: أحسنت يا إبراهيم في شعرك وغنائك، وأمر له بعشرين ألف درهم.

لحن إبراهيم في هذا الصوت ثقيل أول بالسبابة والوسطى، عن أحمد بن المكي. (1) مدح وهجاء

وقد ذم الشعراء ومدحوا كثيرا من المغنين والمغنيات، قال أحدهم يذم مغنيا:

ومغن بارد النغ

مة مختل اليدين

ما رآه أحد في

دار قوم مرتين

صوته أقطع للذ

ات من سطوة بين

وقال ابن الرومي أيضا في هجو مغن:

فظلت أشرب بالأرطال، لا طربا

عليه، بل طلبا للسكر والنوم

وقال آخر في هجاء مغنية، غنت قبيحا، وضربت قبيحا:

غناء تستحق عليه ضربا

وضرب تستحق به غناها

وقال الصاحب بن عباد في هجو مغن اسمه «ابن عذاب »:

أقول قولا بالاحتشام

يفهمه كل من يعيه

ابن (عذاب) إذا تغنى

فإنني منه في أبيه

ولأبي تمام في وصف مغنية عوادة :

حمدتك ليلة شرفت وطابت

أقام سهادها ومضى كراها

سمعت بها غناء كان أولى

بأن يقتاد نفسي من عناها

ومسمعة يحار السمع فيها

ولم تصممه لا يصمم صداها

مرت أوتارها فشفت وشاقت

فلو يسطيع حاسدها فداها

ولم أفهم معانيها ولكن

ورت كبدي فلم أجهل شجاها

فكنت كأنني أعمى معنى

يحب الغانيات وما رآها

وقال كشاجم في بحة حلق المغني:

أشتهي في الغناء بحة حلق

ناعم الصوت متعب مكدود

كأنين المحب أضعفه الشو

ق فضاهى به أنين العود

لا أحب الأوتار تعلو، كما لا

أشتهي الضرب لازما للعمود

وأحب المجنبات كحبي

للمبادي موصولة بالنشيد

كهبوب الصبا توسط حالا

بين حالين: شدة وركود

وقال الناجم:

شدو ألذ من ابتدا

ء العين في إغفائها

أحلى وأشهى من منى

نفس وصدق رجائها

وقال محمد بن بشير:

وصوت لبني الأحرا

ر أهل السيرة الحسنى

شج يستغرق الأوتا

ر حتى كلما تفنى

فما أدري اليد اليسرى

به أشقى أم اليمنى؟

وقلنا لمغنيه

وقد غنى على المثنى

ألا يا ليت هذا الصو

ت حتى الصبح لا يفنى

فقد أيقظت اللذا

ت عينا لم تزل وسنى

وما أفهم ما يعني

مغنيه إذا غنى

ولكني من حبي

له أستحسن المعنى

وفي «خلوة المذاكرة» للصفدي (ص4) مقطعات في المغنين، وفي «نهاية الأرب» (ج5) ما قيل في مدح الغناء. قال الثعالبي:

غناؤك يهزم جيش الكروب

وعيناك للناس عذر الذنوب

فويل القلوب إذا ما رنوت

وإما شدوت فويل الجيوب

وقال أيضا:

وسائلة تسائل عنك، قلنا

لها في وصفك العجب العجيبا

رنا ظبيا وغنى عندليبا

ولاح شقائقا ومشى قضيبا

وقال عكاشة يصف قينة:

من كف جارية كأن بنانها

من فضة قد طرقت عنابا

وكأن يمناها إذا نطقت به

تلقي على يدها الشمال حسابا

وقال ابن الرومي:

وقيان كأنها أمهات

عاطفات على بنيها حواني

مطفلات وما حملن جنينا

مرضعات ولسن ذات لبان

كل طفل يدعى بأسماء شتى

بين عود ومزهر وكران

أمه دهرها تترجم عنه

وهو بادي الغنى عن الترجمان

وقال أيضا:

كأنما رقة مسموعها

رقة شكوى سبقت دمعه

غنت فلم تحتج إلى زامر

هل تحوج الشمس إلى شمعة؟

كأنما غنت لشمس الضحى

فألبستها حسنها خلعة

وقال كشاجم أبو الفتح محمود:

أفدي التي أهدت لنا

شمس الضحى والليل حالك

مملوكة جلت فلي

س يفي بقيمتها الممالك

عرضت فأعطت عودها

ضربا يعرض للمهالك

وتبعتها فتصرفت

بالضرب في كل المسالك

ويئست من إدراكها

فجعلت صوتي عند ذلك

قصرت يدي عنك الغدا

ة فكيف لي بيد تنالك

وقال أيضا:

بدت في نسوة مثل ال

مها أدمجن إدماجا

يجاذبن من الأردا

ف كثبانا وأمواجا

ويسترن من الأبشا

ر في الديباج ديباجا

وقضبانا من الفض

ة قد أثمرت العاجا

وقد لاثت من الكور

على مفرقها تاجا

فلما طفن بالمجل

س أفرادا وأزواجا

تجاوبن فغنين

ك أرمالا وأهزاجا

وحركن من الأوتا

ر إمساكا وإدماجا

فلا لوم على قلب

ك إن هيج فاهتاجا

وفي «لطف السمر في القرن الحادي عشر» (ص377): سماع الطير لصوت «مصطفى بن تنكر» وتهافتها عليه حين كان يغني، لإجادته ألحان ما يغنيه، ومشاهدة المؤلف ذلك.

وفي «الأغاني» (ج21، ص237): كون الظباء النافرة كانت تأتي لاستماع ألحان صوت مخارق، فإذا سكت عادت لنفارها وشردت.

وفي ص211: ص214 من مجموعة شعرية يرجح أنها للعصفوري ولعلها منقولة من «مطالع البدور»: مقطعات في المغنين والعوادين مدحا وهجوا.

وقال الناجم مادحا:

طفقت تغنينا فخلنا أنها

لسرورنا بغنائها تعنينا

وقال أبو هلال العسكري:

وهيجت لي من شجو ومن فرح

أيد نثرن على الأوتار عنابا

لا عيب في العيش إلا خوف غيبتكم

إن السرور إذا ما غبتمو غابا

وقال أبو عون الكاتب:

تشدو فيرقص بالرءو

س لها ويزمر بالكئوس

وقال علي بن عبد الرحمن بن يوسف المنجم في عوادة:

غنت فأخفت صوتها في عودها

فكأنما الصوتان صوت العود

غيداء تأمر عودها فيطيعها

أبدا، ويتبعها اتباع ودود

أندى من النوار صبحا صوتها

وأرق من نشر الثنا المعهود

فكأنما الصوتان حين تمازجا

ماء الغمامة وابنة العنقود

أجناس الغناء

في «الأغاني» (ج5، ص52 وص53: تصحيح إسحاق الموصلي أجناس الغناء): وكان قبلا يقال الثقيل، وثقيل الثقيل إلخ، فأخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني علي بن يحيى المنجم قال: «كنت عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فسأل إسحاق الموصلي، أو سأله محمد بن الحسن بن مصعب، بحضرتي، فقال له: يا أبا محمد، أرأيت لو أن الناس جعلوا للعود وترا خامسا للنغمة الحادة التي هي العاشرة على مذهبك، أين كنت تخرج منه؟ فبقي إسحاق واجما ساعة طويلة مفكرا، واحمرت أذناه، وكانتا عظيمتين، وكان إذا ورد عليه مثل هذا احمرتا وكثر ولوعه بهما، فقال لمحمد بن الحسن: الجواب في هذا لا يكون كلاما، إنما يكون بالضرب، فإن كنت تضرب أريتك أين تخرج؛ فخجل وسكت عنه مغضبا؛ لأنه كان أميرا وقابله من الجواب بما لا يحسن، فحلم عنه.

قال علي بن يحيى: فصار إلي به، وقال لي: يا أبا الحسن، إن هذا الرجل سألني عما سمعت، ولم يبلغ علمه أن يستنبط مثله بقريحته، وإنما هو شيء قرأه من كتب الأوائل، وقد بلغني أن التراجمة عندهم يترجمون لهم كتب الموسيقى، فإذا خرج إليك منها شيء فأعطنيه، فوعدته بذلك، ومات قبل أن يخرج إليه شيئا منها.»

وإنما ذكرت هذا بتمام أخباره كلها ومحاسنه وفضائله؛ لأنه من أعجب شيء يؤثر عنه أنه استخرج بطبعه علما رسمته الأوائل، لا يوصل إلى معرفته إلا بعد علم كتاب «أقليدس الأول» في الهندسة، ثم ما بعده من الكتب الموضوعة في الموسيقى، ثم تعلم ذلك وتوصل إليه واستنبطه بقريحته، فوافق ما رسمه أولئك ولم يشذ عنه شيء يحتاج إليه منه، وهو لم يقرأه، ولا له مدخل إليه ولا عرفه.

ثم تبين بعد هذا، بما أذكره من أخباره ومعجزاته في صناعته، فضله على أهلها كلهم، وتميزه عنهم وكونه سماء هم أرضها، وبحرا هم جداوله.

وأم إسحاق امرأة من أهل الري يقال لها: «شاهك»، وذكر قوم أنها «ذو شار» التي كانت تغني بالدف، فهويها إبراهيم وتزوجها، وهذا خطأ، تلك لم تلد من إبراهيم إلا بنتا، وإسحاق وسائر ولد إبراهيم من «شاهك» هذه.

وفي (ص54) منه أيضا «كلام في أجناس الغناء وأنغامه» جاء فيه: تناظر المغنون يوما عند «الواثق» فذكروا الضراب وحذقهم، فقدم إسحاق زلزلا على ملاحظ، ولملاحظ في ذلك الحين الرياسة على جميعهم، فقال له الواثق: هذا حيف وتعد منك. فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، اجمع بينهما وامتحنهما، فإن الأمر سينكشف لك فيهما؛ فأمر بهما فأحضرا، فقال له إسحاق: إن للضراب أصواتا معروفة أفأمتحنهما بشيء منها؟

قال: أجل افعل، فسمى ثلاثة أصوات كان أولها «علق قلبي ظبية السيب»، فضربا عليه، فتقدم زلزل وقصر عنه ملاحظ، فعجب الواثق من كشفه عما ادعاه في مجلس واحد، فقال له ملاحظ مما ناله: يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس، ولم لم يضرب هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لم يكن أحد في زماني أضرب مني، إلا أنكم أعفيتموني فنقلت مني، على أن معي بقية لا يتعلق بها أحد من هذه الطبقة، ثم قال: يا ملاحظ، شوش عودك وهاته، ففعل ذلك ملاحظ، فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، هذا يخلط الأوتار تخليط متعنت فهو يفسدها، ثم أخذ العود فجسه ساعة حتى عرف مواقعه، فغنى ثم قال: يا ملاحظ، غن أي صوت شئت، فغنى ملاحظ صوتا وضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية؛ فلم يخرجه عن لحنه في موضع واحد حتى استوفاه عن نقرة واحدة ويده تصعد وتنحدر على الدساتين.

فقال الواثق لإسحاق: لا والله ما رأيت مثلك ولا سمعت به، اطرح هذا على الجواري.

فقال إسحاق: هيهات يا أمير المؤمنين، هذا شيء لا تعرفه الجواري ولا يصلح لهن، إنما بلغني أن «الفهليذ» ضرب يوما بين يدي كسرى فأحسن، فحسده رجل من حذاق أهل صنعته، فترقبه حتى قام لبعض شأنه ثم خالفه إلى عوده فشوش بعض أوتاره، فرجع فضرب وهو لا يدري، والملوك لا تصلح في مجالسها العيدان، فلم يزل يضرب بذلك العود الفاسد إلى أن فرغ، ثم قام فأخبر الملك بالقصة، فامتحن العود فعرف ما فيه، ثم قال مستحسنا: زه ... زه، ووصله بالصلة التي كان يصل بها من خاطبه هذه المخاطبة.

ثم قال إسحاق: فلما توطأت الرواية بهذا، أخذت نفسي وروضتها عليه، وقلت: لا ينبغي أن يكون الفهليذ أقوى على هذا مني. فما زلت أستنبطه بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأرض موضع على طبقة من الطبقات إلا وأنا أعرف نغمته كيف هي، والمواضع التي تخرج النغم كلها منها، من أعاليها إلى أسافلها، وكل شيء منها يجانس شيئا غيره، كما أعرف ذلك في مواضع الدساتين، وهذا شيء لا تغني به الجواري.

قال له الواثق: صدقت ولئن مت لتموتن هذه الصناعة معك.

وأمر له بثلاثين ألف درهم.

وفي (ص57) منه: استخراج إسحاق للحن رومي غنوه به، وتعجبهم من معرفته ذلك.

وفي (ص61) منه «تحريك الغناء وهو أن يكون كثير النغم»: سمع محمد بن راشد الخفاف؛ علوية يقول لإسحاق بن إبراهيم الموصلي: إن إبراهيم بن المهدي يعيبك بتركك تحريك الغناء. فقال له إسحاق: ليتنا نفي بما علمناه فإنا لا نحتاج إلى الزيادة فيه. قال له: فإنه يزعم أن حلاوة الغناء تحريكه، وتحريكه عنده أن يكون كثير النغم، وليس يفعل ذلك إنما يسقط بعض عمله لعجزه عنه، فإذا فعل ذلك فهو بالإضافة إلى حاله الأولى بمنزلة الاسكدار للكتاب، وهو حينئذ جدير بأن يسمى المحذوف أشبه منه بأن يسمى المحرك؛ فضحك علوية ثم قال: فإن إبراهيم يسمي غناءكم هذا «الممسك المدادي»، قال إسحاق: هذا من لغات الحاكة لأنهم يسمون الثوب الجافي الكثير العرض والطول «المدادي» وعلى هذا القياس ينبغي لنا أن نسمي غناءه «المحرك الضرابي» وهو الخفيف السخيف من الثياب في لغة الحاكة؛ حتى ندخل الغناء في جملة الحياكة ونخرجه عن جملة الملاهي.

ثم قال لعلوية: بحياتي عليك إلا ما أعدت عليه ما جرى؟ فقال: لا وحياتك لا فعلت؛ فإنه يعلم ميلي إليكم، ولكن عليك بأبي جعفر محمد بن راشد الخفاف، فكلمه إسحاق وأقسم عليه أن يؤيده فقبل، وسار إلى إبراهيم فأخبره ... فجعل كلما أخبره شيئا، تغيظ وشتم إسحاق بأقبح شتم ثم رجع ابن راشد إلى إسحاق فأخبره، فجعل كلما أخبره بشيء من ذلك ضحك وصفق سرورا لغيظ إبراهيم من قوله.

وفي (ص79) منه: إسحاق أول من أحدث التخنث في الغناء ليوافق صوته. (1) ما يستحسن من الغناء

وفي «نهاية الأرب» للنويري (ج5، ص122-ص124): «ما يحتاج إليه المغني ويضطر إلى معرفته، وما قيل في الغناء والقيان من جيد الشعر» ومنه:

قال مالك بن أبي السمح: سألت ابن أبي إسرائيل عن المحسن المصيب من المغنين، فقال: «هو الذي يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدل الأوزان، ويفخم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسن مقاطع النغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواضع النبرات، ويتوقى ما يشاكلها من النقرات.» فعرضت ما قال على «معبد» فاستحسنه وقال: «ما يقال فيه أكثر من هذا.» وقد رويت هذه المقالة عن «ابن سريج».

وقال إبراهيم الموصلي: «الغناء على ثلاثة أضرب: فضرب مله مطرب يحرك ويستخف، وضرب ثان له شجى ورقة، وضرب ثالث به حكمة وإتقان صنعة.» وقال: كان هذا كله مجموعا في غناء ابن سريج.

وقال أبو عثمان الناجم: بحوحة الحلق الطيب تشبه مراض الأجفان الفاترة ...

وقال الناجم «شعرا»:

ما صدحت عاتب ومزهرها

إلا وثقنا باللهو والفرح

لها غناء كالبرء في جسد

أضناه طول السقام والترح

تعبدها الراح فهي ما صدحت

إبريقنا ساجد على القدح

وقال أيضا:

ما تغنت إلا تكشف هم

عن فؤاد وأقشعت أحزان

تفضل المسمعين طيبا وحسنا

مثلما يفضل السماع العيان

وقال أبو عبادة البحتري:

وأشارت على الغناء بألحا

ظ مراض من التصابي صحاح

فطربنا لهن قبل المثاني

وسكرنا لهن قبل الراح

وانظر «خلاصة الأثر» (ج2، ص397-ص404): «قطعة نظمها السيد عبد الكريم النقيب في ذكر الندماء وأرباب الغناء من المشاهير» والقطعة هي هذه:

كلما جدد الشجي ادكاره

أزعج الشوق قلبه واستطاره

ليت شعري أين استقل عن اللهو

بنوه وكيف أخلوا مزاره

بعدما راوحتهم صفوة العيش

ونالوا وفق الهوى أوطاره

وجروا في مطارد الأنس طلقا

واجتلوا من زمانهم أبكاره

بين كأس وروضة وغدير

وسماع ولذة وغضارة

أين حلوا ... فمعشب ومقيل

أو أناخوا ... فوردة وبهارة

من مليك زفت بحضرته الكا

س قيان يعزفن خلف الستارة

ووزير قد بات يسترق اللذا

ت وهنا، والليل مرخ إزاره

وأمير ممنطق بنداماه

وكأس الطلا لديهم مدارة

كم فتى من بني أمية أمسى

وخيول الهوى به مستطارة (2) طريقة (معبد)

وفي «الأغاني» (ج1، ص21) بيان كيف كان معبد يصوغ الغناء، قال: حدثنا أبو غسان عن يونس الكاتب قال: أقبلت من عند معبد، فلقيني ابن محرز فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من عند معبد، ثم لقيني ابن أبي عباد فقال: ما أخذت عنه؟ قلت: غنى صوتا فأخذته، قال: وما هو؟ قلت:

ماذا تأمل واقف جملا

في ربع دار عابه قدمه

والشعر لخالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد، فقال لي: ادخل معي دار ابن هرمة وألقه علي، فدخلت معه فما زلت أردده عليه حتى غناه، ثم قال: ارجع معي إلى ابن عباد، فرجعنا إليه، ثم لم يبرح ابن محرز حتى صنع فيه لحنا آخر:

ماذا تأمل واقف جملا

في ربع دار عابه قدمه

أقوى وأقفر غير منتصب

لبد الوسادة ناصع حممه

غناه معبد، ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى، وفيه خفيف ثقيل أول بالوسطى ينسب إلى «الغريض» وإلى ابن محرز، وذكر عمر بن بانة أن الثقيل الأول «للغريض»، وذكر «حبش» أن فيه «لمالك» ثاني ثقيلا بالوسطى، وفيه رمل بالوسطى ينسب إلى «سائب خاثر» وذكر «حبش» أنه «لإسحاق».

قال ابن الكلبي: قدم «ابن سريج والغريض» المدينة، يتعرضان لمعروف أهلها ويزوران من بها من صديقهما من قريش وغيرهم، فلما شارفاها تقدما ثقلهما ليرتادا منزلا، حتى إذا كانا بالمغسلة - وهي جبانة على طرف المدينة يغسل فيها الثياب - إذا هما بغلام ملتحف بإزار، وطرفه على رأسه، بيده حبالة يتصيد بها الطير وهو يتغنى ويقول:

القصر فالنخل فالجماء بينهما

أشهى إلى النفس من أبواب جيرون

وإذا الغلام معبد، قال: فلما سمع «ابن سريج والغريض» معبدا، مالا إليه واستعاداه، فأعاد الصوت، فسمعا شيئا لم يسمعا بمثله قط، فأقبل أحدهما على صاحبه فقال: هل سمعت كاليوم قط؟ قال: لا والله، فما رأيك؟ قال ابن سريج: هذا غناء غلام يصيد الطير، فكيف بمن في الجوية - يعني: المدينة - قال: أما أنا فثكلتني والدتي إن لم أرجع.

قال: فكرا راجعين.

وقال «معبد»: قدمت مكة فذهب بي بعض القرشيين إلى «الغريض» فدخلنا عليه وهو متصبح، فانتبه من صبحته فقعد، فسلم عليه القرشي وقال له: هذا «معبد» قد أتيتك به، وأنا أحب أن تسمع منه، قال: هات، فغنيته أصواتا، فقال: إنك يا معبد لمليح الغناء، فجثوت على ركبتي ثم غنيته من صنعتي عشرين صوتا لم يسمع بمثلها قط، وهو مطرق واجم قد تغير لونه حسدا وخجلا.

قال إسحاق: أخبرت عن (حكم الوادي) قال: كنت أنا وجماعة من المغنين نختلف إلى «معبد» نأخذ عنه ونتعلم منه، فغنانا يوما صوتا صنعه وأعجب به وهو:

القصر فالنخل فالجماء بينهما

أشهى إلى النفس من أبواب جيرون

فاستحسناه وعجبنا منه، وكنت في ذلك اليوم أول من أخذه عنه واستحسنه مني، فأعجبتني نفسي، فلما انصرفت من عند «معبد» عملت فيه لحنا آخر وبكرت على «معبد» مع أصحابي وأنا معجب بلحني، فلما تغنينا أصواتا قلت له: إني قد عملت بعدك في الشعر الذي غنيناه لحنا، واندفعت فغنيته صوتي، فوجم «معبد» ساعة يتعجب مني، ثم قال: قد كنت أمس أرجى مني لك اليوم، وأنت اليوم عندي أبعد من الفلاح. قال حكم الوادي: فأنسيت يعلم الله صوتي ذلك منذ تلك الساعة فما ذكرته إلى وقتي هذا ... اه. (3) مدن «معبد» وحصونه

وفي «الأغاني» (ج1، ص3): مدن معبد سبعة أصوات جعلت بإزائها سبعة أصوات لابن سريج.

وفي (ج8 منه، ص109): ومن مدن معبد صوت، وقد أضيف إليه غيره من القصيدة:

سلا هل قلاني من عشير صحبته

وهل ذم رحلي في الرفاق رفيق

وهل يجتري القوم الكرام صحابتي

إذا اغبر مغشي العجاج عميق

ولو تعلمين الغيب أيقنت أنني

لكم والهدايا المشعرات صديق

تكاد بلاد الله يا أم معمر

بما رحبت يوما علي تضيق

أذود سوام الطرف عنك وهل لها

إلى أحد إلا إليك طريق

وحدثتني يا قلب أنك صابر

على البين من لبنى فسوف تذوق

فمت كمدا أو عش سقيما فإنما

تكلفني ما لا أراك تطيق

بلبنى أنادي عند أول غشية

ولو كنت بين العائدات أفيق

إذا ذكرت لبني تجلتك زفرة

ويثني لك الداعي بها فتفيق

عروضه من الطويل، الشعر لقيس بن ذريح، والغناء لمعبد، في اللحن المذكور ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر، وعند إسحاق في الأول والثاني والثالث.

وذكر في موضع آخر أن معبد له في هذا اللحن ثقيل أول بالبنصر في مجرى الوسطى أوله (صوت):

أتجمع قلبا بالعراق فريقه

ومنه بأطلال الأراك فريق

فكيف بها لا الدار جامعة النوى

ولا أنت يوما عن هواك تفيق

ولو تعلمين الغيب أيقنت أنني

لكم والهدايا المشعرات صديق

البيتان الأولان يرويان لجرير وغيره، والثالث لقيس بن ذريح أضافه إليهما «معبد».

وذكر عمرو ويونس أن لحن معبد الأول في الأبيات الخمسة الأولى من الشعر، وذكر عمرو بن بانة أن (بذل) الكبيرة لها خفيف رمل بالوسطى في الرابع من الأبيات، وبعده:

دعونا الهوى ثم ارتمينا، قلوبنا

بأعين أعداء وهن صديق

وبعده الخامس من الأبيات وهو:

أذود سوام الطرف عنك وهل لها

إلى أحد إلا إليك طريق

وزعم «حبش» أن لابن سريج خفيف رمل بالبنصر في لحن «معبد» الثاني الذي أوله «أتجمع قلبا بالعراق ...» وذكر أيضا أن للغريض في الأول والثاني والسابع ثاني ثقيل بالبنصر، ولابن مسجح خفيف رمل بالبنصر، وفي السادس وما بعده «لحكم الوادي» ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وذكر «حبش» أن للغريض فيها ثقيلا أول بالوسطى.

وفي ص111 منه صوت من مدن معبد، جمع معه سائر ما يغني فيه من القصيدة وهي:

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

وعمى صباحا دار عبلة واسلمي

وتحل عبلة بالجواء وأهلنا

بالحزن فالصمان فالمتثلم

كيف القرار وقد تربع أهلها

بعنيزتين وأهلنا بالغيلم

حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

ولقد نزلت فلا تظني غيره

مني بمنزلة المحب المكرم

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر

للحرب دائرة على ابني ضمضم

الشاتمي عرضي ولم أشتمهما

والناذرين إذا لم ألقهما دمي

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

ما زلت أرميهم بثغرة نحره

ولبانه حتى تسربل بالدم

هلا سألت الخيل يا ابنة مالك

إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

يخبرك من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوغى وأعف عند المغنم

يدعون عنتر والرماح كأنها

أشطان بئر في لبان الأدهم

فشككت بالرمح الطويل ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرم

فإذا شربت فإنني مستهلك

مالي وعرضي وافر لم يكلم

وإذا صحوت فما أقصر عن ندى

وكما علمت شمائلي وتكرمي

الشعر لعنترة بن شداد العبسي، وغنى إسحاق في البيت الأول - على ما ذكره ابن المكي - خفيف ثقيل أول بالوسطى، وما وجدت هذا في رواية غيره.

وغنى معبد في البيت الثاني والثالث خفيف ثقيل أول، بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق، وهو الصوت المعدود في مدن معبد، وغنى سلام الغسال في السابع والثامن والثالث والعاشر رملا بالسبابة في مجرى البنصر، ووجدت في بعض الكتب أن له أيضا في السابع وحده ثاني ثقيل أيضا، وذكر عمرو بن بانة أن هذا الثقيل الثاني بالوسطى لمعبد، ووافقه يونس، وذكر ابن المكي أن هذا الثقيل الثاني للهندلي، وذكر غيره أنه لابن محرز، وذكر أحمد بن عبيد أن في السابع ثقيلا أول للهذلي، ووافقه حبش، وذكر حبش أن في الثاني ثقيلا أول وأن لابن سريج فيه رملا آخر غير رمل ابن الغسال، وأن لابن مسجح أيضا فيه خفيف ثقيل بالوسطى، وفي كتاب أبي العنبس: له في الثالث لحن.

وفي كتاب أبي أيوب المدني: لابن جامع في هذه الأبيات لحن، ولمعبد في الحادي عشر والثاني عشر والخامس عشر والسادس عشر خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى، عن إسحاق أيضا.

وفي (ص135) منه: نسبة الأصوات التي جعلت مكان بعض هذه الأصوات في مدن معبد ومنها «صوت»:

تقطع من ظلامة الوصل أجمع

أخيرا على أن لم يكن يتقطع

وأصبحت قد ودعت ظلامة التي

تضر وما كانت مع الضر تنفع

الشعر لكثير، والغناء لمعبد: خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو ويونس. (4) المسايرة والهنكرة

في «بغية الملتمس» (ص190) قال «محمد بن الحسن»: كان «أسلم» من أجمل من رأته العيون، وكان يجيء معنا إلى محمد بن خطاب؛ أحمد بن كليب، وكان من أهل الأدب البارع والشعر الرايق، فاشتد كلفه بأسلم وفارق صبره، وصرف فيه القول مستترا بذلك، إلى أن فشت أشعاره فيه وجرت على الألسنة وتنوشدت في المحافل، فلعهدي بعرس في بعض الشوارع بقرطبة، والنكوري الزامر قاعد في وسط الحفل، وفي رأسه قلنسوة وشي، وعليه ثوب خز عبيدي، وفرسه بالحلية المحلاة، وغلامه يمسكه، وكان فيما مضى يزمر لعبد الرحمن الناصر، وهو يزمر في البوق.

يقول أحمد بن كليب «في أسلم»:

وأسلمني في هواه أسلم هذا الرشا

غزال له مقلة يصيب بها من يشا

وشى بيننا حاسد سيسأل عما وشى

ولو شاء أن يرتشي على الوصل روحي ارتشى

ومغن محسن يسايره فيها، فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته والجلوس على بابه، وكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب دار أسلم سايرا مقبلا نهاره كله ... فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهارا، فإذا صلى المغرب واختلط الظلام خرج مستروحا وجلس على باب داره، فعيل صبر أحمد بن كليب فتحيل في بعض الليالي ولبس جبة من جباب أهل البادية، واعتم بمثل عمايمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجا، وبالأخرى قفصا فيه بيض، وتحين جلوس أسلم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه وقبل يده وقال: يأمر مولاي بأخذ هذا، فقال له أسلم، ومن أنت؟ فقال: صاحبك في الضيعة الفلانية، وكان قد تعرف أسماء ضياعه وأصحابه فيها، فأمر أسلم بأخذ ذلك منه، ثم جعل أسلم يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام، وتأمله فعرفه، فقال له: يا أخي، إلى هذا بلغت بنفسك وتبعتني إلى هنا! أما كفاك انقطاعي عن مجالسي ... وعن القعود على بابي نهارا حتى قطعت علي جميع مالي؟!

وفي (ص224) من «بغية الملتمس» ترجمة لزرياب في «من اسمه أسلم» قال: هو أسلم بن عبد العزيز بن هاشم أبو الحسن، له أدب وشعر ، من أهل بيت علم وجلالة، وله كتاب معروف في أغاني «زرياب»، وكان زرياب عند الملوك بالأندلس كالموصلي وغيره من المشهورين، برز في صناعته وتقدم فيها، ونفذ بها، وله طرائق تنسب إليه، وأسلم هذا هو الذي ذكرنا قصته مع أحمد بن كليب، وكنيته «أبو الجعد»، وقد ولي قضاء الجماعة بالأندلس لعبد الرحمن الناصر، وكانت له رحلة روى فيها عن يونس بن عبد الأعلى وأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى، وأبي محمد الربيع بن سليمان، وسمع محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيره، وله سماع بالأندلس من تقي بن مخلد ومحمد بن عبد الرحمن الخشني، وقاسم بن محمد ونحوهم، وكان جليلا في القضاء ثقة من الرواة، يميل إلى مذهب الشافعي، ومات في يوم السبت، وقيل يوم الأربعاء لتسع بقين من رجب سنة 939ه، وهو أخو أبي خالد هاشم بن عبد العزيز، وروى عنه جماعة، منهم خالد بن سعد.

وفي «الأغاني» (ج17 ص123): من المغنين طبقة الخيناكرين، والخنكرة هي: الهنكرة، ومنها: فلان يهنكر في الفرح.

حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال: كان سبب دخولي في الغناء، وتعلمي إياه أنى كنت أهوى جارية لعمتي رقية بنت الفضل بن الربيع، فكنت لا أقدر على ملازمتها والجلوس معها خوفا من أن يظهر ما لها عندي؛ فيكون ذلك سبب منعي منها، فأظهرت لعمتي أنني أشتهي أن أتعلم الغناء ويكون ذلك في ستر عن جدي، وكان جدي وعمتي في حال من الرقة علي والمحبة لي لا نهاية وراءها؛ لأن أبي توفي في حياة جدي الفضل، فقالت عمتي: يا بني، وما دعاك إلى ذلك؟ فقلت: شهوة غلبت على قلبي، إن منعت منها مت غما، وكان لي في الغناء طبع قوي، فقالت لي: أنت أعلم وما تختاره، والله ما أحب منعك من شيء، وإني لكارهة أن تحذق ذلك وتسهر به فتسقط ويفتضح أبوك وجدك.

فقلت: لا تخافي ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به، ولازمت الجارية لمحبتي إياها بعلة الغناء، فكنت آخذ عنها وعن صواحباتها، حتى تقدمت الجماعة حذقا، وأقررن لي بذلك، وبلغت ما كنت أريد من أمر الجارية، وصرت ألازم مجلس جدي، فكان يسر بذلك، ويظنه تقربا مني إليه، وإنما كان وجدي فيه أخذ الغناء، فلم يكن يمر لإسحاق ولا لابن جامع، ولا للزبير بن دحمان ولا لغيره صوت إلا أخذته، فكنت سريع الأخذ، وإنما كنت أسمعه مرتين أو ثلاثا، وقد صح لي وأحسست من نفسي قوة في الصناعة فصنعت أول صوت صنعته في شعر العرجي:

أماطت كساء الخز عن حر وجهها

وأدنت على الخدين بردا مهلهلا

ثم صنعت صوتا آخر، في قول الشاعر:

أقفر من بعد حلة سرف

فالمنحني فالعتيق فالجرف

وعرضتهما على الجارية التي كنت أهواها وسألتها عما عندها فيهما؛ فقالت: لا يجوز أن يكون في الصنعة شيء فوق هذا، وكان جواري الحارث بن بشخير وجواري ابنه محمد يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جواري عمتي وجواري جدي ويأخذن أيضا مني ما ليس عندهن من غناء دارنا، فسمعنني ألقي هذين الصوتين على الجارية، فأخذنهما مني، وسألن الجارية عمن صنعهما فأخبرتهن أنهما من صنعتي، فسألنها أن تصححهما لهن، ففعلت، فأخذنهما عنها ثم اشتهرا حتى غنى الرشيد بهما يوما فاستظرفهما وسأل إسحاق: هل تعرفهما؟ فقال: لا، وإنهما لمن أحسن الصنعة وجيدها ومتقنها. ثم سأل الجارية عنهما، فتوقفت خوفا من عمتي، وحذرا أن يبلغ جدي أنها ذكرتني فانتهرها الرشيد، فأخبرته بالقصة، فوجه من وقته فدعا بجدي، فلما أحضر قال له: يا فضل، أيكون لك ابن يغني ثم يبلغ في الغناء المبلغ الذي يمكنه معه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين، ويتداولهما جواري القيان، ولا تعلمني بذلك؟ كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن.

فقال له جدي : وحق ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك، وإلا فأنا نفي منهما بريء من بيعتك وعلى العهد والميثاق والعتق والطلاق، إن كنت علمت بشيء من هذا قط إلا منك الساعة، فمن هذا من ولدي؟

قال له الرشيد: هو عبد الله بن العباس، فأحضرنيه الساعة.

فجاء جدي وهو يكاد ينشق غيظا، فدعاني، فلما خرجت إليه شتمني وقال : يا كلب، بلغ من أمرك ومقدارك أن تجسر على أن تتعلم الغناء بغير إذن ثم زاد ذلك حتى صنعت، ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري ثم تجاوزنهن إلى جواري الحارث بن بشخير، فاشتهرت وبلغ أمرك أن أمير المؤمنين تنكر لي ولامني، لقد فضحت آباءك في قبورهم، وسقطت الأبد إلا من المغنين وطبقة الخيناكرين.

فبكيت غما بما جرى، وعلمت أنه قد صدق، فرحمني وضمني إليه وقال: قد صارت الآن مصيبتي في أبيك مصيبتين: إحداهما به وقد مضى وفات، والأخرى بك وهي موصولة بحياتي، ومصيبتك باقية العار علي وعلى أهلي بعدي، وبكى ...

وفي «نهاية الأرب» للنويري (ج4، ص356، س12): إذا خنكرت فخنكر لمثل هؤلاء.

وفي «إرشاد الأريب» (ج1، ص383): «خيناكر: للمغني» خفيف ثقيل. في الأغاني (ج13 ص118): الابتداءات والأجوبة، وفي (ص128) نشيد خفيف ثقيل أول بالوسطى ... إلخ. أما خفيف الثاني بالوسطى فكان الناس زمن المؤلف يسمونه الماخوري وهو نوع من أناشيد الأغاني (الجزء السادس ص151)، وفي الأغاني (ج19 ص119): «غناء خفيف الثقيل، وهو مذموم؛ لأنه ينسب إلى الطبقة الدنيا من مرتادي المواخير.» (5) إسحاق الموصلي وألحانه

وفي الأغاني (ج5 آخر ص58): علي بن هارون حدث عن محمد بن موسى اليزيدي قال: حدثتني «دمن» جارية إسحاق الموصلي، وكانت من كبار جواريه وأحظى من عنده، ولقيتها فقلت لها: أي شيء أخذت من مولاك من الغناء؟

فقالت: لا والله ما أخذت عنه شيئا ولا أخذت عنه واحدة من جواريه صوتا، وكان أبخل بذلك، وما أخذت منه قط إلا صوتا واحدا، وذلك أنه انصرف من دار الخليفة وهو مثخن سكران فدخل إلى بيت كان ينام فيه، فرأى عودا معلقا ، فأخذه بيده وقال لخادمه: يا غلام صح لي بدمن، فجاءني الغلام، فخرجت، فلما بلغت الباب إذا هو مستلق على فراشه والعود في يده، وهو يصنع هذا الصوت ويردده، وقد استخفر في نغمة وتنوق فيها حتى استقام له (صوت):

ألا ليلك لا يذهب

ونيط الطرف بالكوكب

وهذا الصبح لا يأتي

ولا يدنو ولا يقرب

فلما سمعته علمت أني إن دخلت إليه أمسك، فوقفت أستمعه حتى فرغ منه وأخذته عنه، فلما فرغ منه وضع العود من يده، وذكر أنه طلبني فقال: يا غلام، أين دمن؟ فقلت: ها أنا ذا، فقال: مذ كم أنت واقفة؟ فقلت: منذ ابتدأت بالصوت، وقد أخذته، فنظر إلي نظر مغضب أسف، ثم قال: غنيه، فغنيته حتى استوفيته، فقال لي وقد فتر وخجل: قد بقيت عليك فيه بقية أنا أصلحها لك، فقلت: لست أحتاج إلى إصلاحك إياه، وقد والله أخذته على رغمك، فضحك.

ولحن هذا الصوت من الهزج بالبنصر، والشعر والغناء لإسحاق. (6) الصيحة في اللحن

في «أزاهير الرياض المريعة» للبيهقي (ص154): الألحان عند المغنين، هي الطرق والجماعات من الغناء، وفي «الأغاني» (ج5 ص93): الصياح: رمل نادر وابتداؤه صياح.

وفي (ص102): وصف صنعة إسحاق وغنائه، وفيه كلمات من اصطلاح الغناء مثل: الصياح والإسجاح.

وفي الأغاني أيضا (ج13 ص170): الصيحة التي في لحن «حنين» من الصدر، ثم من الحلق ... إلخ. (صوت):

لمن الدار أقفرت بمعان

بين شاطئ اليرموك فالصمان

فالقريات من بلاس فداريا

فسكاء فالقصور الدواني

ذاك مغنى لآل جفنة في الدا

ر وحق تصرف الأزمان

صلوات المسيح في ذلك الدي

ر دعاء القسيس والرهبان

والشعر: لحسان بن ثابت، والغناء: لحنين بن بلوع، خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى، وهذا الصوت من صدور الأغاني ومختارها، وكان إسحاق الموصلي يقدمه ويفضله، ووجدت في بعض كتبه بخطه، قال: الصيحة التي في لحن «حنين»: لمن الدار أقفرت بمعان، أخرجت من الصدر، ثم من الحلق، ثم من الأنف، ثم من الجبهة، ثم ثبرت فأخرجت من القحف، ثم بوئت إلى الأنف ثم قطعت ... اه. (7) المقرون والنصب

وفي «العقد الثمين» للفاسي (ج3 ص93): قلت: ثم استوطن القاهرة وساءت أخلاقه فالله يغفر له. اه، وصح لي عن الشيخ شهاب الدين أحمد بن لولو المعروف بابن النقيب، مؤلف شرح «مختصر الكفاية» «لابن الرفعة» أنه قال ما معناه: رجلان من أهل عصرنا: أحدهما، يؤثر الخمول، جهده؛ وهو الشيخ عبد الله بن خليل المكي - نعني المذكور - وآخر يؤثر الظهور جهده؛ وهو الشيخ عبد الله اليافعي. وسمعت شيخنا الشريف عبد الرحمن بن أبي الخير الفاسي يقول : إن الشيخ عبد الله بن خليل هذا أعطاه دريهمات لما رآه بمنزله بسطح جامع الحاكم بالقاهرة، قال: فاشتريت منها وريقات وكتبت في بعضها قصصا بأمور أردتها، فيسر الله قضاها وعددت ذلك من بركة الشيخ رضي الله عنه، وذكر أنه: كان يميل إلى سماع الغناء الذي يسميه أهل الحجاز «المقرون» وهو نوع من النصب

1

الذي كان بعض السلف تغنى به، وبلغني أنه: كان يأتيه شيء من غلة ماله بوادي مر (من أرباض مكة) وتوفي يوم الأحد ثاني جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وسبعمائة بمنزله بسطح الجامع الحاكمي بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى بالقرب من الشيخ تاج الدين بن عطاء الله. (8) صوت من المائة المختارة

في «الأغاني» (ج1 ص125-126): وصف الغناء الجيد كيف يكون، وهو الثالث من الثلاثة المختارة:

أهاج هواك المنزل المتقادم

نعم، وبه مما شجاك معالم

مضارب أوتاد، وأشعث داثر

مقيم «وسفع» في المحل جواثم

عروضه من الطويل، الشعر لنصيب، والغناء في اللحن المختار لابن محرز، ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وله فيه أيضا «هزج» بالسبابة في مجرى البنصر، وذكر جحظة عن أصحابه أنه هو المختار، وحكى عن أصحابه أنه ليس في الغناء كله نغمة إلا وهي في الثلاثة الأصوات المختارة التي ذكرها، ومن قصيدة نصيب هذه مما يغني فيه قوله:

لقد راعني في البين نوح حمامة

على غصن بان جاوبتها حمائم

هواتف، أما من بكين فعهده

قديم، وأما شجوهن فدائم

الغناء لابن سريج، ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن يونس ويحيى المكي وإسحاق، وأظنه مع البيتين الأولين، وأن الجميع لحن واحد ولكنه تفرق - لصعوبة اللحن وكثرة ما فيه من العمل - فجعلا صوتين ... (9) غناء الإمام مالك

في الأغاني (ج2 ص78): حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: سمعت إبراهيم بن سعد يحلف للرشيد وقد سأله عمن بالمدينة يكره الغناء، فقال: مالك بن أنس، ثم حلف له أنه سمع مالكا يغني في عرس رجل من أهل المدينة يكنى «أبا حنظلة»:

سليمى أزمعت بينا

فأين بقولها أينا

وفي (ج4) منه (ص39) قصة مالك في تصحيحه لحنا ، وهذا نصها: قال «صاحب الأغاني»: أخبرني محمد بن عمرو العباسي القرشي قال: حدثني إسحاق بن محمد بن أبان الكوفي قال: حدثني حسين بن دحمان الأشقر قال: كنت بالمدينة، فخلا لي الطريق وسط النهار فجعلت أتغنى:

ما بال أهلك يا رباب

خزرا كأنهم غضاب

قال: فإذا خوخة قد فتحت، وإذا وجه تتبعه لحية حمراء، فقال: يا فاسق أسأت التأدية، ومنعت القائلة، وأذعت الفاحشة، ثم اندفع الفاحشة، ثم اندفع يغنيه، فظننت أن «طويسا» قد نشر بعينه، فقلت له: أصلحك الله من أين لك هذا الغناء؟ فقال:

نشأت وأنا غلام حدث أتبع المغنين، وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: يا بني، إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه فإنه لا يضر معه قبح الوجه، فتركت المغنين، واتبعت الفقهاء فبلغ الله بي عز وجل ما ترى.

فقلت له: فأعد جعلت فداك، قال: لا، ولا كرامة، أتريد أن تقول أخذته عن مالك بن أنس، وإذا هو مالك بن أنس ولم أعلم. (10) غناء الوليد بن يزيد

في «الأغاني» (ج8، ص161): كان للوليد بن يزيد أصوات «صنعها» مشهورة، وقد كان يضرب بالعود، ويوقع بالطبل، ويمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز، كما أخبر الحسن بن علي عن محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد عن القطراني عن محمد بن جبر، قال: حدثني من سمع خالد بن صامة يقول: كنت يوما عند الوليد بن يزيد، وأنا أغنيه «أراني الله يا سلمى حياتي»، وهو يشرب حتى سكر، ثم قال لي: هات العود، فدفعته إليه، فغناني أحسن غناء، فنفست عليه إحسانه، ودعوت بطبل فجعلت أوقع عليه وهو يضرب، ثم دفع العود وأخذ الطبل فجعل يوقع به أحسن إيقاع، ثم دعا بدف فأخذه ومشي به وجعل يغني أهزاج طويس، حتى قلت: قد عاش، ثم جلس وقد انبهر، فقلت: يا سيدي كنت أرى أنك تأخذ عنا، ولكنا الآن نحتاج إلى الأخذ عنك، فقال: اسكت ويلك، فوالله لئن سمع هذا منك أحد ما دمت حيا لأقتلنك.

قال خالد: فوالله ما حكيته عنه، حتى قتل. (11) غناء إبراهيم بن المهدي

في «الأغاني» (ج6، ص166): إبراهيم بن المهدي كان يغني (الأهزاج).

وذكر أحمد بن المكي عن أبيه: أن حكما لم يشهر بالغناء ويذهب له الصيت به حتى صار الأمر إلى بني العباس فانقطع إلى محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين، وذلك في خلافة المنصور، فأعجب به واختاره على المغنين، وأعجبته أهزاجه.

وكان يقال: إنه من أهزج الناس، ويقال: إنه غنى الأهزاج في آخر عمره، وأن ابنه لامه على ذلك وقال له: أبعد الكبر تغني غناء المخنثين؟ فقال له: اسكت فإنك جاهل، غنيت الثقيل ستين سنة فلم أنل إلا القوت، وغنيت الأهزاج منذ سنيات فأكسبتك ما لم تر مثله قط.

وفي «الأغاني» (ج9، ص71): حدث بعض الكتاب عن «ريق» قال: خرجت يوما إلى سيدي - يعني إبراهيم بن المهدي - وقد صنع لحنه في:

وإذا تباع كريمة أو تشترى

فسواك بائعها وأنت المشتري

وإذا صنعت صنيعة أتممتها

بيدين ليس نداهما بمكدر

وجارية لنا رومية أعجمية لا تفصح، في أقصى الدار تكنس، وهو يطرح الصوت على جاريته شادية، والأعجمية تبكي أحر بكاء سمعته قط، فجعلت أعجب من بكائها وأنظر إليها حتى سكت، فلما سكت قطعت البكاء، فعلمت أن هذا من غلبته بحسن صوته لكل طبع، فصيح وأعجمي.

وفي «الأغاني» (ج9، ص72): كان محمد بن موسى المنجم يقول: حكمت أن إبراهيم بن المهدي أحسن الناس كلهم غناء ببرهان؛ وذلك أني كنت أراه بمجالس الخلفاء - مثل: المأمون والمعتصم - يغني، فإذا ابتدأ الصوت لم يبق من الغلمان والمنصرفين في الخدمة وأصحاب الصناعات والمهن الصغار والكبار أحد إلا ترك ما في يده، وقرب من أقرب موضع يمكنه أن يسمعه، فلا يزال مصغيا إليه، لاهيا عما كان فيه ما دام يغني، حتى إذا أمسك وتغنى غيره، رجعوا إلى التشاغل بما كانوا فيه ولم يلتفتوا إلى ما يسمعون.

ولا برهان أقوى من هذا في مثل هذا، من شهادة العصبة له، واتفاق الطبائع - مع اختلافها وتشعب طرفها - على الميل إليه والانقياد له. (12) تعليم ضرب الطبل

في «الأغاني» (ج14، ص52): أخبر جحظة أنه حدثه أبو حشيشة قال: كنت يوما عند عمرو بن بانة، وعنده طبل يحبه، وطلب في الدنيا كلها من يضرب عليه فلم يجد أحدا، فقال له جعفر الطبال: إن أنا غنيتك اليوم على عود يضرب به عليك أي شيء لي عندك؟ قال: مائة درهم ودن نبيذ، وكان جعفر حاذقا متقدما نادرا في بذل الهمة، فقال: أسمعني مخرج صوتك، ففعل، فسوى عليه طبله كما يسوي الوتر واتكأ عليه بركبته ووقع عليه، ولم يزل عمرو يغني بقية يومه على إيقاعه، لا ينكر منه شيئا حتى انقضى يومنا، ودفع إليه مائة درهم، وأحضر الدن فلم يكن له من يحمله، فحمله جعفر على عنقه، وغطاه بطيلسانه، وانصرفنا.

قال أبوحشيشة: فحدثت بهذا إسحاق بن عمرو، وكان صديق إبراهيم بن المهدي، فحدثني أن إبراهيم قال لجعفر: حذق فلانة جاريتي ضرب الطبل ولك مائة دينار، أعجل لك منها خمسين، فقبل وعجلت له الخمسون.

ولما حذقت الجارية الضرب، طالب جعفر إبراهيم بتتمة المائة، فلم يعطه، فاستعدى عليه أحمد بن أبي داود الحسني خليفته فأعداه، ووكل إبراهيم وكيلا، فلما تقدموا للقاضي مع الوكيل، أراد الوكيل أن يكسر حجة جعفر فقال: أصلح الله القاضي، سله من أين له هذا الذي يدعي وما سببه؟

فقال جعفر: أصلح الله القاضي، أنا طبال، وشارطني إبراهيم على مائة دينار على أن أحذق جاريته فلانة، وعجل لي خمسين دينارا، ومنعني الباقي بعد أن رضي حذقها، فيحضر القاضي الجارية وطبلها، وأحضر أنا طبلي، ويسمعنا القاضي، فإن كانت مثلي قضى لي عليه، وإلا حذقتها فيه حتى يرضى القاضي.

فقال له القاضي: قم عليك لعنة الله وعلى من يرضى بذلك منك ومنها.

فأخذ الأعوان بيده فأقاموه. (13) مناظرة بين إسحاق وإبراهيم

في «الأغاني» (ج9 ص73-77): (المناظرة التي كانت بين إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي في الغناء، مع مكاتباته في ذلك وغيره)، قال: حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال: حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال: قلت للمعتصم: كانت لأبي أشياء لم يكن لأحد مثلها، فقال، وما هي؟ قلت: شادية المغنية، وزامرتها معمعة.

فقال: أما شادية فعندنا، فما فعلت الزامرة؟ قلت: ماتت.

قال: وماذا غيرهما؟ قلت: ساقيته (مكنونة) ولم ير أحسن وجها ولا ألين ولا أظرف منها، قال: فما فعلت؟ قلت: ماتت.

قال: وماذا؟ قلت: نخلة كانت تحمل رطبا، طول الرطبة منها شبر. قال: فما فعلت؟ قلت: جمرتها بعد وفاته.

قال: وماذا؟ قلت: قدحه (الضحضاح)، قال: وما فعل؟ قلت: الساعة والله حجمني فيه أبو حرملة، فسألته أن يهبه لي ففعل، ووجهت به إلى منزلي فغسل ونظف وأعيد إلى خزانتي.

قال هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: فرأيت أبي فيما يرى النائم في ليلتي تلك، وهو يقول لي:

أينزع «ضحضاحي» دما بعدما غدت

علي به (مكنونة) مترعا خمرا

فإن كنت مني، أو تحب مسرتي

فلا تغفلن قبل الصباح له كسرا

فانتبهت فزعا، وما فرق الصبح حتى كسرته.

قال صاحب «الأغاني»: فأما المناظرة التي كانت بين إبراهيم بن المهدي وبين إسحاق، فقد مضى في خبر إسحاق منها طرف، ونذكر ها هنا منها ما جرى مجرى محاسن إبراهيم والقيام بحجته إن كانت له، وعذره فيما عيب عليه؛ لأنه بذلك حقيق.

فمن ذلك ما نسخته من كتاب أعطانيه أبو الفضل العباس بن أحمد بن ثوابه رحمه الله، بخط إسحاق في قرطاس، وأنا أعرف خطه، وجواب لإبراهيم بن المهدي في ظهره بخط ضعيف، وأظنه خطه لأنه لو كان خط كاتب آخر لكان أجود من ذلك الخط، وقد ذهب أول الكتاب وذهب أول الابتداء والجواب، ونسخت بقيته، فكان ما وجدته من ابتداء إسحاق قوله:

وكنت - جعلت فداءك - كتبت في كتابك إلى محمد بن واضح تذكر أنك مولى وسيد، فمتى دفعت ذلك؟ وهل لي فخر غيره، أو لأحد علي وعلى أبي رحمه الله من قبلي نعمة سواكم؟ وما أحب ذلك أن يكون، وأرجو أن أموت قبل أن يبتليني الله بذلك إن شاء الله، فأما ذكرك - جعلت فداءك - الصناعة، فقد أجل الله قدرك عن الحاجة إلى دفعها والاعتذار منها، وأما أنا المسكين فأنت تعلم أني لم أتخذ ما نحن فيه صناعة قط، وأني لم أردها إلا لكم شكرا لنعمتكم وحبا للقرب منكم وإليكم، فليس ينبغي أن يعيبني ذلك عندكم، ولا يجوز لأحد أن يعيبني به إذ كان لكم، وقد علمت أنك لم تضعني من «علوية» و«مخارق» بحيث وضعتني إلا بغضب أحوجك إلى ذلك، وإلا فأنت تعلم أنهما لو كانا مملوكين لي لآثرت تعجيل الراحة منهما بعتقهما أو تخلية سبيلهما، على ثمن أصعبه ببيعهما، أو حمد أكتسبه بثمنهما، فكيف أظن أني عندك مثلهما، أو أنك تقربني إليهما وتذكرني معهما، أو تلومني الآن على أن أخرس فلا أنطق بحرف، وأن أفر من الغناء فرارك من الخطأ فيه، وأمتعض منه امتعاضك ممن يخفي عليك شيئا من علومه؟! كيف ترى - جعلت فداءك - الآن سبابي، وأنت ترى أن أحدا لا يحسن السب غيرك، وقد أحدثت لي - جعلت فداءك - أدبا، وزدتني بصيرة فيما أحب من تركه وترك الكلام فيه، فإن ظننت أن هذا فرار من الحجة، ونفض يد من المناظرة كما قلت؛ فقد ظفرت وصرت إلى ما أصبت، وإلا فإنه لا ينبغي للحر أن يتلهى بما لا تقوم لذاته بمعرفته، ولا لعاقل أن يبذل ما عنده لمن لا يحمده، ولعله لا يقلب العين فيه حتى يلحقه ما يكره منه.

وأما ما قاله أبي رحمه الله من أنه لم يزل يتمنى أن يرى من سادته من يعرف قدره حق معرفته، ويبلغ علمه بهذه الصناعة الغاية العظمى حتى رآك فقد صدق، وما زال يتمنى ذلك، وما زلت أتمناه، فهل رأيت - جعلت فداءك - حظي منه إلا أن ساويت فيه من لم يكن يساوي شسعه، ولعلك لا ترضى في بعض القوم حتى تفضله عليه، لا تنفعه عندك معرفة به ولا رعاية لطول الصحة والخدمة، ولا حفظ لآثار محمودة باقية تذكرها وتحتج بها؛ ثم ها أنا من بعده تضعني بالموضع الذي تضعني به، وتنسبني إلى ما تنسبني إليه؛ لأني توخيت الصواب، واجتهدت في البذل والمناصحة، لا يدفعك عني حفظ لسلف، ولا صيانة لخلف، ولا استدامة لقديم ما تعلم، ولا مصانعة لما تطلب، ولا ولاء مما أكره أن أقوله.

فما أرى - جعلت فداءك - من معرفتك بما في أيدينا إلا تجرع الحسرات وتطلبك لنا العثرات، والله المستعان.

كيف أصنع - جعلت فداءك؟ إن سكت لم تقبل ذلك، وإن صدقت كذبتني، وإن كذبت ظفرت بي، وإن مزحت لأطربك وأضحكك وأقرب من أنسك وآخذ بنصيبي من كرمك؛ غضبت وسببت، ولو كنت قريبا منك لضربت، وليتك فعلت، فكان ذلك أيسر من غضبك.

ثم من أعظم المصائب عندي: أمرك إياي أن أسأل محمد بن واضح عن قول قلته في عند عمرو بن بانة! فوالله - جعلت فداءك - إني لأبشع بذكره، فكيف أحب أن أذكره وأذكر له، وإني لأرثي لك من النظر إليه، وأعجب من صبرك عليه، مع أني أعوذ بالله من ذلك، ولو رغبت في هذا منه ومن مثله لكفيتك ونفسي ذلك بأن أكسوه ثوبين أو أهب له دينارين، أو أقول له: أحسنت في صوتين حتى يبلغ أكثر مما أردت لي، أو أريده لنفسي.

فالحمد لله الذي جعل حظي منك هذا ومثله، غير مستصغر لشأنك، ولا مستقل لقليل حسن رأيك، والله أسأل أن يطيل بقاءك، ويحسن جزاءك، ويجعلني فداءك.

قد طال الكتاب وكثر العتاب، وجملة ما عندي من الإعظام والإجلال اللذين لا أخاف أن أجعلهما عندك، والمحبة التي لا أمتنع منها، ولا أعرف سواها، والسمع والطاعة في تسليم ما تحب تسليمه، والإقرار بما أحببت أن أقر به، وسأشهد على ذلك محمد بن واضح وأشهد لك به من أحببت، وأؤدي الخراج، ولكن لا بد من فائدة؛ وإلا انكسر، فهات - جعلت فداءك - وخذ، وأوف واستوف، فإنك واجد صحة واستقامة إن شاء الله. مد الله في عمرك، وصبرني عليك، وقدمني قبلك، وجعلني من كل سوء فداءك. (14) غناء الموصلي للرشيد

في «الأغاني» (ج5، ص39): حدثني مزيد قال: حدثني حماد عن أبيه قال:

حدث إبراهيم الموصلي قال: قال لي جعفر بن يحيى يوما، وقد علم أن «الرشيد» أذن لي وللمغنين في الانصراف يومئذ: صر إلي حتى أهبك شيئا حسنا، فصرت إليه فقال لي: أيما أحب إليك: أهب لك الشيء الحسن الذي وعدتك به، أو أرشدك إلى شيء تكسب به ألف ألف درهم؟

فقلت: بل يرشدني الوزير - أعزه الله - إلى هذا الوجه، فإنه يقوم مقام إعطائه إياي هذا المال.

فقال: إن أمير المؤمنين يحفظ شعر ذي الرمة حفظ الصبا، ويعجبه ويؤثره، فإذا سمع فيه غناء أطربه أكثر مما يطربه غيره مما لا يحفظ شعره، فإذا غنيته فأطربته وأمر لك بجائزة فقم على رجليك قائما، وقبل الأرض بين يديه وقل له: حاجة لي غير هذه الجائزة أريد أن أسألها أمير المؤمنين، وهي حاجة تقوم عندي مقام كل فائدة ولا تضره ولا ترزؤه.

وسيقول لك: أي شيء حاجتك؟ فقل: قطيعة تقطعينها، سهلة عليك لا قيمة لها ولا منفعة فيها لأحد.

فإذا أجابك إلى ذلك، فقل له: تقطعني شعر ذي الرمة أغني فيه ما أختاره، وتحظر على المغنين جميعا ألا يداخلوني فيه؛ فإني أحب شعره وأستحسنه فلا أحب أن ينغصه علي أحد منهم، وتوثق منه في ذلك.

فقبلت ذلك القول منه، وما انصرفت من عنده بعد ذلك إلا بجائزة، وترقبت وقت الكلام في هذا المعنى حتى وجدته، فقمت فسألت كما قال لي، وتبينت السرور في وجه الرشيد وقال: ما سألت شططا، وقال: أقطعتك سؤلك.

قال الموصلي: فجعلوا يتضاحكون من قولي، ويقولون: لقد استضخمت القطيعة، والرشيد ساكت، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في التوثق؟ قال: توثق كيف شئت، فقلت: بالله وبحق رسوله، وبتربة أمير المؤمنين المهدي، ألا جعلتني على ثقة من ذلك، بأنك لا تعطي أحدا من المغنين جائزة على شيء يغنيه في شعر ذي الرمة، فإن ذلك وثيقتي.

فحلف مجتهدا بهم، لئن غناه أحد منهم في شعر ذي الرمة، لا أثابه بشيء ولا برة، ولا يسمع غناءه، فشكرت فعله وقبلت الأرض بين يديه وانصرفنا.

قال الموصلي: فغنيت مائة صوت وزيادة عليها من شعر ذي الرمة، فكان الرشيد إذا سمع منها صوتا طرب وزاد طربه ووصلني فأجزل ولم ينتفع به أحد منهم غيري، فأخذت منه والله بها ألف ألف درهم وألف ألف درهم. «وفي الأغاني» (ج8 ص20): ما غنى إبراهيم الموصلي في شعر أكثر من شعر ذي الرمة - أخبرني جعفر بن أبي قدامة بن زياد الكاتب قال: حدثني هارون بن عمرو الجرجاني قال:

قال إبراهيم الموصلي: أرتج علي فلم أجد شعرا أصوغ فيه غناء أغني فيه الرشيد، فدخلت إلى بعض حجر داري مغموما، فأسبلت الستور علي وغلبتني عيني، فتمثل لي في البيت شيخ أشوه الخلقة فقال لي: يا موصلي، ما لي أراك مغموما؟ قلت: لم أصب شعرا أغني فيه الرشيد الليلة، قال: فأين أنت من قول ذي الرمة:

ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى

ولا زال منهلا بجرعائك القطر

وإن لم تكوني غير شام بقفرة

تجر بها الأذيال صبغية كدر

أقامت بها حتى ذوى العود في الثرى

وساق الثريا في ملاءته الفجر

قال: وغناني فيه بلحن، وكرره حتى عقلته، فانتبهت وأنا أديره، فناديت جارية لي وأمرتها بإحضار عود، وما زلت أترنم بالصوت، وهي تضرب حتى استوى؛ ثم صرت إلى الرشيد، فغنيته إياه، فسكت المغنين، ثم قال: أعد؛ فأعدت، فما زال ليلته يستعيدنيه، فلما أصبح أمر لي بثلاثين ألف درهم، وبفرش البيت الذي كنت فيه، وقال: عليك بشعر ذي الرمة فغن فيه، فصنعت غناء كثيرا، فكنت أغنيه به ويجزل صلتي. (15) التخنث في الغناء

في «الأغاني» (ج5، ص79): حدثني جحظة قال: حدثني محمد بن المكي قال: قلت لزرزور الكبير: كيف كان إسحاق يتقدم عند الخلفاء معكم، وأنت وإبراهيم بن المهدي ومخارق أطيب أصواتا وأحسن نغمة؟ قال: كنا والله يا بني نحضر معه فيجتهد في الغناء أشياء من مرانه وحذقه ولطفه، حتى يسقطنا كلنا، ويقبل عليه الخليفة ويصغي إليه دوننا، ونرى أنفسنا اضطرارا دونه.

وقال محمد بن أحمد المكي: حدثني أبي قال: كان المغنون يجتمعون مع إسحاق الموصلي، فكلهم أحسن صوتا منه، ولم يكن فيه عيب إلا صوته، فيطمعون فيه، فلا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم وينبذهم جميعا، ويفضلهم ويتقدمهم. قال: وهو أول من أحدث التخنيث ليوافق صوته ويشاكله، فجاء معه عجبا من العجب، وكان في حلقه نبو عن الوتر.

وأخبر أبو العنبس بن حمدون أن إسحاق أول من جاء بالتخنيث في الغناء، ولم يكن يعرف، وإنما احتال به بحذقه لمنافرة حلقه الوتر، حتى صار يجيبه ببعض التخنيث، فيكون أحسن له في السمع. (16) إعجاب المأمون بإسحاق

في «النوادر والذيل» (ج2، ص90): كان إسحاق الموصلي لكثرة علمه وفنونه موضع إعجاب المأمون. قال صاحب النوادر: حدثني أبو الحسن قال: سمعت ميمون بن هارون يقول: قال حميد الطوسي: كنت حاضرا دهليز المأمون، فدعا بالناس لقبض أرزاقهم، فكان أول من دخل إسحاق الموصلي مع الوزراء، ثم دعا بالقواد، فكان أول من دخل إسحاق الموصلي مع القواد، ثم دعا بالقضاة، فكان أول من دخل إسحاق، ثم دعا بالفقهاء والمعدلين، فكان أول من دخل هو، ثم دعا بالشعراء فكان أول من دخل هو، ثم دعا بالمغنين، فكان أول من دخل هو، ثم دعا بالرماة في الهدف، فكان أول من دخل هو.

فأعجب المأمون أيما إعجاب لكثرة علمه وفنونه.

قال: وحدثنا أبو الحسن قال: أنشدني خالد الكاتب لنفسه:

كتبت إليك بماء الجفون

وقلبي بماء الهوى مشرب

فكفي تخط وقلبي يمل

وعيناي تمحو الذي أكتب

فليس يتم كتابي إليك

لشوقي فمن ههنا أعجب (17) حذق إسحاق في الضرب على العود

وحدث يحيى بن معاذ قال: كان إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي إذا خلوا فهما أخوان، وإذا التقيا عند خليفة تكاشحا أقبح تكاشح، فاجتمعا يوما عند المعتصم، فقال لإسحاق: إن إبراهيم يثلبك ويغض منك ويقول إنك ترى أن مخارقا لا يحسن شيئا، ويتضاحك منك.

فقال إسحاق: لم أقل يا أمير المؤمنين إن مخارقا لا يحسن شيئا، وكيف أقول ذلك وهو تلميذ أبي، وتخريجه وتخريجي، ولكن قلت: إن مخارقا يملك من صوته ما لا يملكه أحد، فيتزايد فيه تزايدا لا يبقي عليه، ويغير في كل حال، فهو أحلى الناس مسموعا وأقلهم نفعا لمن يأخذ عنه، لقلة ثباته على شيء واحد، ولكني أفعل الساعة فعلا إن زعم إبراهيم أنه يحسنه فلست أحسن شيئا، وإلا فلا ينبغي له أن يدعي ما ليس يحسنه.

ثم أخذ عودا فشوش أوتاره، وقال لإبراهيم: غن على هذا، أو يغني غيرك وتضرب عليه.

فقال المعتصم: يا إبراهيم قد سمعت، فما عندك؟ قال: ليفعله هو إن كان صادقا، فقال له إسحاق: غن حتى أضرب عليك، فأبى، فقال لزرزور: غن، فغنى، وإسحاق يضرب على العود المشوشة أوتاره، حتى فرغ من الصوت وما علم أحد أن العود مشوش.

ثم قال إسحاق: هاتوا عودا آخر، فشوشه، وجعل كل وتر منه في الشدة واللين على مقدار العود المشوش الأول فلما استوفى ذلك قال لزرزور: خذ أحدهما، فأخذه، ثم قال: انظر إلى يدي واعمل كما أعمل واضرب. ففعل.

وجعل إسحاق يغني ويضرب، وزرزور ينظر إليه ويفعل كما يفعل، فما ظن أحد أن في العود شيئا من الفساد لصحة نغمهما جميعا، إلى أن فرغ من الصوت، ثم قال لإبراهيم: خذ الآن أحد العودين فاضرب به مبدأ أو عمود طريقة أو كيف شئت إن كنت تحسن شيئا، فلم يفعل وانكسر انكسارا شديدا، فقال له المعتصم: أرأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله ما رأيت ولا ظننت أن مثله يكون. (18) أثر الغناء في غير الإنسان

في «الأغاني» (ج9 ص56): قال هبة الله بن إبراهيم المهدي: حدثني عمي منصور بن المهدي أنه كان عند أبي في يوم كانت عليه فيه نوبة لمحمد الأمين.

فتشاغل أبي بالشرب في بيته ولم يمض، وأرسل إليه عدة رسل فتأخر، قال منصور: فلما كان من غد قال: ينبغي أن تعمل على الرواح إلي لنمضي إلى أمير المؤمنين فنترضاه، فما أشك في غضبه علي، ففعلت ومضينا، فسألنا عن خبره فأعلمنا أنه مخمور، يتفقد ما عنده من الوحوش، وكان من عادته ألا يشرب إذا لحقه الخمار، فدخلنا وكان طريقنا على حجرة تصنع فيها الملاهي، فقال لي أخي إبراهيم: اذهب فاختر منها عودا ترضاه وأصلحه غاية الإصلاح حتى لا تحتاج إلى تغييره البتة عند الضرب، ففعلت وجعلته في كمي، ودخلنا على «الأمين» وظهره إلينا، فلما بصرنا به من بعيد قال لي إبراهيم: أخرج عودك، فأخرجته، واندفع يغني:

وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها

وشاهدنا الجل والياسمي

ن والمسمعات بقصابها

وإبريقنا دائم معمل

وأي الثلاثة أزرى بها

فاستوى الأمين جالسا، وطرب طربا شديدا وقال: أحسنت والله يا عم، وأحييت لي طربا، ودعا برطل فشربه على الريق، وامتد في شربه.

قال منصور: وغنى إبراهيم يومئذ على أشد طبقة يتناهى إليها في العود وما سمعت مثل غنائه يومئذ قط، ولقد رأيت منه شيئا عجيبا، لو حدثت به ما صدقت، كان إذا ابتدأ يغني أصغت الوحش إليه، ومدت أعناقها ولم تزل تدنو منا حتى تكاد أن تضع رءوسها على الدكان الذي كنا عليه، فإذا سكت نفرت وبعدت منا حتى تنتهي إلى أبعد غاية يمكنها التباعد فيها عنا، وجعل الأمين يعجبنا من ذلك، وانصرفنا من الجوائز بما لم ننصرف بمثله قط.

وفي «الأغاني» (ج6، ص71) نسبة بعضهم صوتا إلى أنه أخذه من الجن مع أنه أخذ من ابن جامع، قال إسحاق عن بعض أصحابه: كنا عند أمير المؤمنين الرشيد يوما، فقال الغلام الذي كان على الستارة: يا ابن جامع تغن بأبيات السعدي:

فلو سألت سراة الحي سلمى

على أن قد تلون بي زماني

لخبرها ذوو الأحساب عني

وأعدائي فكل قد بلاني

بأني لا أزال أخا حروب

إذا لم أجن كنت مجن جان

قال: فحرك ابن جامع رأسه، وكان إذا اقترح عليه الخليفة شيئا قد أحسنه وأكمله طار فرحا، فغنى به، فاربد وجه إبراهيم لما سمعه منه.

وكذا كان ابن جامع أيضا يفعل، فقال له صاحب الستارة: أحسنت والله يا أميري أعد، فأعاد، فقال: أنت في حلبة لا يلحقك أحد فيها أبدا.

ثم قال صاحب الستارة لإبراهيم: تغن بهذا الشعر، فتغنى، فلما فرغ قال: مرعى ولا كالسعدان، لم أخطأت في موضع كذا وفي موضع كذا؟

قال إبراهيم: فلما انصرفنا قلت لابن جامع: والله ما أعلم أن أحدا بقي في الأرض يعرف هذا الغناء معرفة أمير المؤمنين، فقال: حق له والله، لهو إنسان يسمع الغناء منذ عشرين سنة مع هذا الذكاء الذي فيه.

قال إسحاق: كان ابن جامع يحب أن يغني في هذا الشعر (صوت):

من كان يبكي لما بي

من طول سقم رسيس

فالآن من قبل موتي

لا عطر بعد عروس

بنيتمو في فؤادي

أوكار طير النحوس

قلبي فريس المنايا

يا ويحه من فريس

الشعر لرجل من قريش، والغناء لابن جامع في طريقة الرمل. (19) الجن تعلم الغناء

وفي «الأغاني» (ج2، ص135): أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية عن مولى لآل الغريض قال: حدثني بعض مولياتي وقد ذكرن الغريض فترحمن عليه وقلن: جاءنا يوما يحدثنا بحديث أنكرناه عليه، ثم عرفنا بعد ذلك حقيقته، وكان من أحسن الناس وجها، صغيرا وكبيرا، وكنا نلقى من الناس عنتا بسببه، وكان ابن سريج في جوارنا، فدفعناه إليه فلقنه الغناء، وكان من أحسن الناس صوتا، ففتن أهل مكة بحسن وجهه مع حسن صوته، فلما رأى ذلك ابن سريج نحاه عنه.

وكانت بعض مولياته تعلمه النياحة فبرز فيها، فجاءني يوما فقال: نهتني الجن أن أنوح، وأسمعتني صوتا عجيبا قد ابتنيت عليه لحنا، فاسمعيه مني، واندفع يغني بصوت عجيب في شعر المرار الأسدي:

حلفت لها بالله ما بين ذي الغضا

وهضب القيان من عوان ومن بكر

أحب إلينا منك دلا، وما نرى

به عند ليلى من ثواب ولا أجر

فكذبناه، وقلنا: شيء فكر فيه، وأخرجه على هذا اللحن، فكان في كل يوم يأتينا فيقول: سمعت البارحة صوتا من الجن بترجيع وتقطيع وقد بنيت عليه صوت كذا بشعر فلان، فلم يزل على ذلك، ونحن ننكر عليه، فإنا لكذلك ليلة وقد اجتمع جماعة من نساء أهل مكة في جمع لنا سهرنا فيه ليلتنا، والغريض يغنينا بشعر «عمر بن أبي ربيعة»:

أمن آل زينب جد البكور

نعم فلأي هواها تصير

إذ سمعنا في بعض الليل عزيفا عجيبا وأصواتا مختلفة ذعرتنا وأفزعتنا، فقال لنا الغريض: إن في هذه الأصوات صوتا إذا نمت سمعته، وأصبح فأبني عليه غنائي، فأصغينا إليه، فإذا نغمته نغمة الغريض، فصدقناه تلك الليلة.

وفي «الأغاني» (ج2، ص141): قال إسحاق: سمعت جماعة من البصراء عند أبي يتذاكرون الغريض وابن سريج، فأجمعوا على أن الغريض أشجى غناء، وأن ابن سريج أحكم صنعة.

قال إسحاق: حدثني أبو عبد الله الزبيري قال: حدثني بعض أهلي قال: حججنا، فلما كنا بجمع سمعنا صوتا لم نسمع أحن منه ولا أشجى، فأصغى الناس كلهم إليه تعجبا من حسنه، فسألت: من هذا الرجل؟ فقيل لي: الغريض، فتتابع جماعة من أهل مكة، فقالوا: ما نعرف أحدا أحسن غناء من الغريض، ويدلك على ذلك أنه يعترض بصوته الحجاج وهم في حجهم فيصغون إليه، فسألوا الغريض عن ذلك، فقال: نعم، فسألوه أن يغنيهم فأجابهم، وخرج فوقف حيث لا يرى ويسمع صوته، فترنم ورجع صوته وغنى في شعر عمر بن أبي ربيعة:

أيها الرائح المجد ابتكارا

قد قضى من تهامة الأوطارا

فما سمع السامعون شيئا كان أحسن من ذلك الصوت، وتكلم الناس فقالوا: طائفة من الجن حجاج.

وفي «الأغاني» (ج2، ص148) قال إسحاق: حدثني محمد بن سلام عن أبي قابيل - وهو مولى لآل الغريض - قال: شهدت مجتمعا لآل الغريض إما عرسا أو ختانا، فقيل له: تغن، فقال: ابن زانية أنا إن فعلت، فقال له بعض مواليه: فأنت والله كذلك، قال: أوكذلك أنا؟ قال: نعم . قال: أنت أعلم بي والله، ثم أخذ الدف فرمى به وتمشى مشية لم أر أحسن منها، ثم تغنى:

تشرب لون الرازقي بياضه

أو الزعفران خالط المسك رادغه

فجعل يغنيه مقبلا ومدبرا حتى التوت عنقه وخر صريعا، وما رفعناه إلا ميتا، وظننا أن فالجا عاجله.

قال إسحاق: حدثني ابن الكلبي عن أبي مسكين قال: إنما نهته الجن أن يتغنى بهذا الصوت، فلما أغضبه مولاه تغناه، فقتلته الجن في ذلك.

وفي «الأغاني» (ج2، ص20): حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثتني نشوة الأشنانية قالت: أخبرني أبو عثمان يحيى المكي قال: تشوق يوما إبراهيم الموصلي إلى سرداب له، وكانت فيه بركة ماء تدخل من موضع إليه وتخرج إلى بستان، فقال: أشتهي أن أشرب يومي وأبيت ليلتي في هذا السرداب، ففعل ذلك، فبينا هو نائم في نصف الليل إذا سنورتان قد نزلتا من درجة السرداب: بيضاء وسوداء، فقالت السوداء: هو نائم، واندفعت فغنت بأحسن صوت:

عفا مزح إلى لصق

إلى الهضبات من هكر

إلى قاع البقير إلى

قرار حلال ذي حذر

قال: فمال إبراهيم فرحا وقال لنفسه: يا ليتهما أعادتاه مرارا حتى آخذه، ثم تحرك فقامت السنورتان، وسمع إحداهما تقول للأخرى: والله لا يطرحه على أحد إلا جن، فلما كان من غد طرحه إبراهيم على جارية له فجنت.

وقيل: إن البيتين اللذين أخذ إبراهيم لحنهما عن السنورتين هما:

وتفاحة من سوسن صيغ نصفها

ومن جلنار نصفها وشقائق

كأن الهوى قد ضم من بعد فرقة

بها خد معشوق إلى خد عاشق

وفي «الأغاني» (ج9، ص53): حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي عن أبيه قال: غضب علي محمد بن الأمين في بعض هناته، فسلمني إلى كوثر، فحبسني في سرداب وأغلقه علي، فمكثت فيه ليلتي، فلما أصبحت إذ أنا بشيخ قد خرج علي من زاوية السرداب، ودفع إلي طعاما وقال: كل، فأكلت، ثم أخرج قنينة شراب وقال: اشرب، فشربت، ثم قال لي: غن:

لي مدة لا بد أبلغها

معلومة فإذا انقضت مت

لو ساورتني الأسد ضارية

لغلبتها ما لم يج الوقت

فغنيته، وسمعني كوثر فصار إلى محمد، قال: قد جن عمك وهو جالس يغني بكيت وكيت، فأمر محمد بإحضاري، فأحضرت وأخبرته بالقصة فأمر لي بسبعمائة ألف درهم ورضي عني، اه. (20) مجلس المغنين مع إبليس

وفي «حلبة الكميت» (ص156 : 160)، حكى أن إسحاق الموصلي قال: بعث إلي الرشيد يوما فذهبت إليه، فإذا بين يديه ثماني عشرة مغنية، وعنده إبراهيم بن المهدي، فجلست وسمعت غناءهن كلهن، فقال لي الرشيد: ما تقول يا إسحاق؟ قلت: خطأ كله يا أمير المؤمنين، فقال: ولم ذلك؟ فقلت له: إن أذنت لي غنيتك يا أمير المؤمنين، فقال: نعم افعل.

قال إسحاق: فأخذت العود وغنيته بطريقة أعرفها، فلم يملك نفسه أن دعا بالشراب ، ولم يكن عزم على ذلك، ومر لنا يوم طيب، وأقمنا حتى دخل الليل فغنيت الرشيد حتى طرب ونام، فوضعت العود من يدي أنتظر انتباهه، إذ دخل علي شاب حسن الوجه طيب الرائحة، فسلم وجلس، ثم ضرب بيده إلى الشراب فشرب ثلاثة أقداح، ثم أخذ العود فجسه وأصلحه أحسن ما يكون ثم غنى:

ألا غنياني قبل أن تتفرقا

وهات اسقني صرفا شرابا مطهرا

فقد كاد ضوء الصبح أن يفضح الدجى

وكاد قميص الليل أن يتمزقا

فوالله لقد أذهلني ولم أسمع مثله قط، ثم وضع العود بين يده وقال: إذا غنيت الخلفاء فغنهم هكذا، وقام وخرج، فقمت في إثره وقد كاد أن يذهب عقلي حيرة من حسن غنائه، فلم أجده، فقلت لأصحاب الستارة: من هذا الرجل الذي خرج؟ فقالوا: ما دخل أحد حتى يخرج، فرجعت إلى موضعي وعلمت أنه إبليس!

وانتبه الرشيد فحدثته الحديث، وغنيته الصوت، فلم يزل يستعيده طربا حتى نام، فلما أفاق قال: وددت والله لو أمتعنا هذا الرجل بغنائه من غير أن يعرفنا بنفسه، وأمر لي بجائزة ما أمر لي بمثلها قط، واصطبحنا على الصوت أياما.

وحكى إسحاق عن أبيه إبراهيم الموصلي نظير ذلك، قال إبراهيم: استأذنت الرشيد أن يهب لي يوما من أيام الجمعة لأنفرد فيه بجواري وإخواني، فأذن لي يوم السبت، وقال: هو يوم أستثقله فاله فيه بما شئت، قال: فأقمت يوم السبت بمنزلي، وأخذت في إصلاح طعامي وشرابي بما احتجت إليه، وأمرت البواب أن يغلق الأبواب وألا يأذن لأحد في الدخول علي، فبينما أنا في مجلسي والحرم قد حففن بي، إذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال عليه خفان قصيران، وقميصان ناعمان، وعلى رأسه قلنسوة، وبيده عكازة مقمعة بفضة، وروائح الطيب تفوح منه حتى ملأت الدار والرواق، فدخلني غيظ عظيم لدخوله علي، وهممت بطرد بوابي، فسلم علي أحسن سلام، فرددت عليه، وأمرته بالجلوس، فجلس وأخذ في أحاديث الناس وأيام العرب وأشعارها، حتى سكن ما بي من الغضب، وظننت أن غلماني تحروا مسرتي بإدخال مثله علي لأدبه وظرفه ، فقلت: هل لك في الطعام؟ قال: لا حاجة لي فيه، قلت: فالشراب؟ قال: ذلك إليك، فشربت رطلا وسقيته مثله، فقال: يا أبا إسحاق، هل لك أن تغنينا شيئا فنسمع من صنعتك ما قد فقت به عند الخاص والعام؟ فغاظني قوله، ثم سهلت الأمر على نفسي فأخذت العود فجسست ثم ضربت وغنيت، فقال: أحسنت يا إبراهيم، فازددت غيظا وقلت: ما رضي بما فعله في دخوله بغير إذن، واقتراحه علي حتى سماني باسمي، ولم يجمل مخاطبتي، ثم قال: هل لك أن تزيد ونكافئك؟

قال إبراهيم: فتعجبت من قوله، وقلت في نفسي: بم يكافئني؟ ثم أخذت العود فغنيت وتحفظت بما غنيته، وقمت به قياما تاما لقوله لي: أكافئك؛ فطرب وقال: أحسنت سيدي، ثم قال: أتأذن لعبدك في الغناء؟ فقلت: شأنك، لكن استضعفت عقله في أن يغني بحضرتي بعد ما سمعه مني، فأخذ العود وجسه؛ فوالله لقد خلت أن العود ينطق بلسان عربي فصيح في يده، واندفع يغني:

ولي كبد مقروحة من يبيعني

بها كبدا ليست بذات قروح؟

أباها علي الناس لا يشترونها

ومن يشتري ذا علة بصحيح؟

أئن من الشوق الذي في جوانحي

أنين غصيص بالشراب قريح

قال إبراهيم: فوالله لقد ظننت أن الحيطان والأبواب والسقوف وكل ما في البيت يجيبه ويغني معه من حسن صوته، حتى خلت والله أني أسمع أعضائي وثيابي تجاوبه، وبقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام ولا الحركة لما خالط قلبي من اللذة التي غيبتني عن الوجود، فلما رآني كذلك أخذ العود ثانيا واندفع يغني بقوله:

ألا يا حمامات اللوى عدن عودة

فإني إلى أصواتكن حزين

فعدن فلما عدن كدن يمتنني

وكدت بأسراري لهن أبين

وعدن بترداد الهدير كأنما

شربن الحميا أو بهن جنون

فلم تر عيني مثلهن حمائما

بكين ولم تدمع لهن عيون

فكاد عقلي أن يذهب طربا، ثم غنى:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

لقد زادني مسراك وجدا على وجد

أئن هتفت ورقاء في رونق الضحى

على غصن غض النبات من الرند

بكيت كما يبكي الحزين صبابة

وذبت من الوجد المبرح والجهد

وقد زعموا أن المحب إذا نأى

يمل وأن النأي يشفي من الوجد

بكل تداوينا فلم يشف ما بنا

على أن قرب الدار خير من البعد

ثم قال: يا إبراهيم، هذا الغناء الماخوري، خذه وانح نحوه في غنائك وعلمه جواريك، فقلت: أعده علي، فقال: لست بمحتاج، قد أخذته وفرغت منه، ثم غاب من بين عيني؛ فارتعت لذلك، وقمت إلى السيف فجردته ثم عدوت نحو أبواب الحرم فوجدتها مغلقة، فقلت للجواري: أي شيء سمعن عندي؟ فقلن: سمعنا غناء لم نسمع قط أحسن منه، فخرجت متحيرا إلى باب الدار فوجدته مغلقا، فسألت البواب عن الشيخ الذي خرج، فقال: أي شيخ؟ والله ما دخل اليوم عليك أحد! فرجعت لأتأمل أمري فإذا هو قد هتف بي من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك يا إسحاق، أنا أبو مرة إبليس، وقد كنت نديمك اليوم، فلا ترع، فركبت إلى الرشيد وأخبرته بالحديث، فقال: ويحك، أعد الأصوات التي أخذتها، فأخذت العود وغنيتها كما هي راسخة في صدري، فطرب الرشيد، وجلس يشرب ولم يكن عزم على الشراب، وقال: كان الشيخ أعلم بما قال أنك قد أخذتها وفرغت منها، فليته أمتعنا بنفسه يوما واحدا كما متعك، وأمر لي بصلة فأخذتها وانصرفت.

وقال كشاجم الكاتب في كتابه المسمى بأدب القديم: إنما سمي الماخوري لأن إبراهيم بن ميمون الموصلي كان يكثر الغناء في المواخير، والخبر الذي يذكره العوام عن إسحاق وتمثل إبليس له وتعليمه إياه هذه الطريقة حديث خرافة.

وفي «المنتقى من جامع الفنون» (ص9) نكتة غريبة هي: زعم قوم أن النبات له حس وحركة إرادية، وذلك لما رأوا منه ما يميل مع الشمس، كالشقايق والخبازي.

وزعم آخرون أن له مع الحس والحركة الإرادية عقلا وفهما. ومما يوهم صحة دعواهم وما زعموه، ما حكاه جمال الدين محمد بن إبراهيم الوراق الملقب بالوطواط قال: حكى لي القاضي فخر الدين إبراهيم بن علي قال: مررت بقرية من قرى بعلبك تسمى «الرمانة»، فرأيت في بقعة منها نبتا يشبه المنثور في لونه ونوره، فوقفت متعجبا من حسنه، فقال لي بعض الظرفاء: إنه يريك منه عجبا، قلت: وما هو؟ قال: يغنى له بيتان معروفان، فلا يزال يهتز حتى تسقط أوراقه ويذبل، وسأريك ذلك، ثم اندفع يغني البيتين ويوقع بكفه:

يا ساكنا بالبلد البلقع

ويا ديار الظاعنين اسمعي

ما هي أطلالي ولكنها

ديار أحبابي فنوحي معي

قال فخر الدين: فوالله لقد رأيت ما حولنا من ذلك النبات يهتز كأنما أصابته ريح عاصفة حتى تناثرت ورقاته وذبلت طاقاته. (21) دنانير مولاة البرامكة

في «الأغاني» (ج16، ص36) أن «دنانير» مولاة يحيى بن خالد البرمكي كانت صفراء مولدة، وكانت من أحسن النساء وجها، وأظرفهن وأكملهن أدبا، وأكثرهن رواية للغناء والشعر، وكان الرشيد لشغفه بها يكثر مصيره إلى مولاها، ويقيم عندها ويبرها، ويفرط؛ حتى شكته «زبيدة» إلى أهله وعمومته فعاتبوه على ذلك، ولدنانير هذه كتاب في الأغاني مشهور، وكان اعتمادها في غنائها على ما أخذته من «بذل» التي خرجتها، وقد أخذت أيضا عن أكابر أهل الصناعة الذين أخذت «بذل» عنهم مثل: «فليح» و«إبراهيم بن المهدي» و«ابن جامع» و«إسحاق الموصلي» ونظرائهم، (أخبرني) جحظة قال: حدثني المكي عن أبيه قال: كنت أنا وابن جامع نناظر دنانير جارية البرامكة، فكثيرا ما كانت تغلبنا. (22) غناء ابن جامع

في «الأغاني» (ج14 ص102) غناء أوله نشيد وقصته، قال: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن موسى قال: حدثت عن المدائني أن زيادا الأعجم دعا غلاما له ليرسله في حاجة، فأبطأ، فلما جاءه قال له: «منذ دأوتك إلى أن كلت لابيكا، ما كنت تسنأ؟» يريد: «منذ دعوتك إلى أن قلت لبيك ماذا كنت تصنع؟» فهذه ألفاظه كما ترى في نهاية القبح واللكنة، وهو الذي يقول يرثي المغيرة بن الملهب:

قل للقوافل والقري إذا قروا

والباكرين وللمجد الرائح

إن المروءة والسماحة ضمتا

قبرا بمرو على الطريق الواضح

فإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم الهجان وكل طرف سابح

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح

يا من لبعد الشمس من حي إلى

ما بين مطلع قربها المتنازح

مات المغيرة بعد طول تعرض

للموت بين أسنة وصفائح

والقتل ليس إلى القتال ولا أرى

حيا يؤخر للشفيق الناصح

وهي طويلة، وهذا من نادر الكلام ونقي المعاني ومختار القصائد.

وهي معدودة من مراثي الشعراء في عصر زياد ومقدمها. ولابن جامع في الأبيات الأربعة الأول: غناء أوله نشيد كله، ثم تعود الصنعة إلى الثاني والثالث في طريقة الهزج بالوسطى، وقد أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد بن حبيب، أن من الناس من يروي هذه القصيدة للصلتان العبدي، وهذا قول شاذ، والصحيح أنها لزياد قد دونها الرواة غير مدفوع عنها.

وفي «الأغاني» (ج6، ص70): ابن جامع كان يعد صيحة الصوت قبل أن يصنع عمود اللحن. وقال حماد عن أبي يحيى العبادي قال: قدم حواره غلام حماد الشعراني، وكان أحد المغنين المجيدين.

قال: حدثني بعض أصحابنا قال: كنا في دار أمير المؤمنين الرشيد فصاح بالمغنين: من فيكم يعرف أن يغني بشعر الأعشى:

وكعبة نجران حتم عليك

حتى تناخي بأبوابها

فبدرهم إبراهيم الموصلي فقال: أنا أغنيه، وغناه فجاء بشيء عجيب، فغضب ابن جامع وقال لزلزل: دع العود أنا من جحاش وجرة لا أحتاج إلى بيطار، ثم غنى الصوت فصاح به مسرورا ثلاث مرات: أحسنت يا أبا القاسم. (23) بين معبد وابن سريج

في «الأغاني» (ج8، ص147): ذكر أن الصنعة لبعض من كثرت دربته بالغناء، وعظم علمه، وأتعب نفسه حتى جمع النغم العشر في هذا الصوت، وذكر أن طريقته من الثقيل الأول، وأنه ليس يجوز أن ينسبه إلى إصبع مفردة، إلا أن ابتداءه على المثنى مطلقا، ثم بسبابة المثنى، ثم وسط المثنى، ثم بنصر المثنى، ثم خنصر المثنى، ثم سبابة الزبر ثم وسطاه ثم بنصره، ثم خنصره، ثم النغمة الحادة وهي العاشرة.

وفيه (لابن محرز) ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر، وفيه (لابن الهرمز) رمل بالوسطى (عن عمرو)، وهذا الصوت من الثقيل الثاني، وهو الذي ذكر إسحاق في كتاب «النغم وعللها» أن لحن ابن محرز فيه يجمع ثمانية من النغم العشر، وأنه لا يعرف صوتا يجمعها غيره، وأنه يمكن من كان له «علم ثاقب» بالصناعة أن يأتي في صوت واحد بالنغم العشر بعد تعب شديد ومعاناة شديدة.

وذكر عبيد الله أن صانع هذا الصوت الذي كنى عنه فعل ذلك، وتلطف له حتى أتى بالنغم العشر فيه متوالية من أولها إلى آخرها، وأتى بها في الصوت الذي بعده، متفرقة على غير توال إلا أنها كلها فيه.

وذكر أن ذلك أحسن مسموعا وأحلى، وحكى ذلك عن يحيى بن علي بن يحيى في كتاب النغم.

وإذ فرغت من حكاية ما ذكره وحكاه عبيد الله في نسبة هذا الصوت، فقد ينبغي ألا أجري الأمر فيه على التقليد، دون القول الصحيح فيما ذكره وحكاه.

والذي وصفه من جهة النغم العشر متوالية في صوت واحد، لا حقيقة له، ولا يمكن أحدا بتة أن يفعله، وأنا أبين العلة في ذلك على تقريب إذ كان استقصاء شرحها طويلا، وقد ذكرته في رسالة إلى بعض إخواني في علل النغم، وشرحت هناك العلة بأنه قسم الغناء قسمين وجعله على مجريين: الوسطى والبنصر، دون غيرهما؛ حتى لا تدخل واحدة منهما على صاحبتها في مجراها قرب مخرج الصوت، إذا كان على الوسطى منه أو إذا كان على البنصر، وشبهه به، فإذا أراد مريد إلحاق هذا بهذا لم يمكنه بتة على وجه ولا سبب، ولا يوجد في استطاعة حيوان أن يتلو إحداهما بالأخرى، وإذا أتبعت إحداهما بالأخرى في ناي أو آلة من آلات الزمر انفصلت إحداهما من الأخرى، وإنما قلت النغم في غناء الأوائل لأنهم قسموها قسمين بين هاتين الإصبعين فوجدوها إذا دخلت إحداهما مع الأخرى في طريقتها، لم يمكن ذلك إلا بعد أن يفصل بينهما بنغم أخرى للسبابة والخنصر يدخل بينهما، ثم لا يكون ذلك الغناء ذا ملاحة ولا طيبا للمضادة في المجريين، فتركوه ولم يستعملوه.

فإن صح لعبيد الله عمل النغم العشر في صوت، فلعله صح له في الصوت الذي ذكر أنه فرقها فيه، فأما المتوالية وعلى ما ذكره ها هنا فمحال، ولست أقدر في هذا الموضع على شرح أكثر من هذا، وهو في الرسالة التي ذكرتها مشروح. (24) غناء الحنين

في «الأغاني» (ج14، ص42): الحسنين، نسب إلى أحدهم وهو محمد بن حمزة بن نصير الرصيف مولى منصور، ويكنى أبا جعفر ويلقب «وجه القرعة»، وهو أحد المغنين الحذاق الضراب الرواة، وقد أخذ عن إبراهيم الموصلي وطبقته وكان حسن الأداء، طيب الصوت لا علة فيه، إلا أنه إذا تعرض للحنين في جنس من الأجناس، فلا يصح له فيه، فذكر محمد بن الحسن الكاتب أن إسحاق بن محمد الهاشمي حدثه عن أبيه أنه شهد إسحاق بن إبراهيم الموصلي عند عمه هارون بن عيسى، وعنده محمد بن الحسن بن مصعب، قال: فأتانا محمد بن حمزة (وجه القرعة) فسمى به عمي، وكان شرس الخلق، أبي النفس، فكان إذا سئل الغناء أباه، فإذا أمسك عنه كان هو المبتدئ به، فأمسكنا عنه حتى طلب العود فأتي به فغنى:

مر بي سرب ظباء

رائحات من قباء

قال: وكان يحسنه ويجيده، فجعل إسحاق يشرب ويستعيده، حتى شرب ثلاثة أرطال: ثم قال: أحسنت يا غلام، هذا الغناء لي وأنت تتقدمني فيه، ولأدعن الغناء ما دام مثلك ينشر لحنه.

آلات الطرب والرقص وأربابها

في «الكنز المدفون» (ص180): أن الصفي الحلي نظم هذين البيتين في (أنغام الموسيقى) وهما:

رست رهوي وبوسليك حسيني

وحجاز وزنكلا وعراق

والنوى والبزرك مع زرفا كن

دة والأصبهان والعشاق

وذكر البيتان في أواخر ص203 من الكتاب، وفي الحديث عن (ضبط أسماء أنغام الموسيقى). (1) الأغاني الأفريقية «وفي نفح الطيب» (ج1، ص530) قال المؤلف في ترجمة عبد العزيز بن أبي الصلت: ومنهم سابق فضلا زمانه أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الأشبيلي، يقال إن عمره ستون سنة، منها عشرون في بلدة أشبيلية، وعشرون في أفريقية عند ملوكها الصنهاجيين، وعشرون في مصر محبوسا في خزانة الكتب.

وكان صاحب المهدية قد وجهه إلى ملك مصر، فحبسه طول تلك المدة في خزانة الكتب، فخرج في فنون العلم إماما، وأمتن علومه الفلسفة والطب والتلحين، وله في ذلك تآليف تشهد بفضله ومعرفته، وكان (يلقب) بالأديب الحكيم، وهو الذي لحن (الأغاني الأفريقية) وإليه تنسب إلى الآن كما قال ابن سعيد.

وذكره العماد في «الخريدة»، وله كتاب «الحقيقة» على أسلوب «يتيمية الدهر» للثعالبي، وتوفي بالمهدية سنة 520ه، وقيل سنة 528ه، وقيل مستهل السنة بعدها. ودفن بها، وله فيمن اسمه «واصل»:

يا هاجرا سموه عمدا واصلا

وبضدها تتبين الأشياء

ألفيتني حتى كأنك «واصل»

وكأنني من طول هجري «الراء»

يشير بذلك إلى «واصل بن عطاء» وتحاشيه النطق بحرف الراء للثغة في لسانه.

وقوله وهو من بدائعه:

لا غرو إن سبقت لهاك مدائحي

وتدفقت جدواك ملء إنائها

يكسى القضيب ولم يحن إثماره

وتطقطق الورقاء قبل غنائها

وله أيضا:

إذا كان أصلي من تراب فكلها

بلادي وكل العالمين أقاربي

ولا بد لي أن أسأل العيس حاجة

تشق على شم الذرى والغوارب

وقال:

دب العذار بخده ثم انثنى

عن لثم مبسمه البرود الأشنب

لا غرو أن خشي الردى في لثمه

فالريق سم قاتل للعقرب

وقال:

لا تدعني ولتدع من شئته

إليك من عجم ومن عرب

فنحن أكالون للسحت في

ذراك سماعون للكذب

وقال في الأفضل:

يردى بكل قنا إذا شهد الوغى

نثر الرماح على الدروع كعوبا

الإيقاع:

في «تصحيح التصحيف وتحرير التحريف» للصفدي نقلا عن «تثقيف اللسان» للصقلي: ويقولون: يغني باللقاع، والصواب بالإيقاع - مصدر أوقع، من أثلج ما أنشدنيه الشيخ أبو بكر رحمه الله لبعض البغداديين:

غنى وللإيقاع قب

ل بيان منقطه بيان

فكأنما يده فم

وقضيبه فيها لسان

وفي «أنس الوحيد» أول ص90: بيت في الإيقاع، وهو:

ولا تعتب علي فإن رقصي

على مقدار إيقاع الزمان

أماج:

وفي «شفاء الغليل» ص20: «أماج» موضع اللعب والرقص، عامية مستهجنة، قال قائلهم:

رمى ولم يخط قلبي

قل لي: إلام الأماجا؟

وهو لفظ فارسي الأصل معناه: ما يرمى إليه السهام، وكان ممدودا فقصر ...

الكبر:

الطبل ذو الوجه الواحد، كذا في «شفاء الغليل» ص197، وفي القاموس: الكبر الطبل ج كبار وأكبار، وفي «المصباح»: الكبر عربية أصف.

وفي «قضاة قرطبة» للخشني ص117: فأمر القاضي بكسر الكبر، وفي «القاموس»: العامة تقول كبار ، ولعله يريد النبات.

كراعة:

في «شفاء الغليل» ص198 (كراعة مغنية تغني على طبل صغير) قال ابن الرومي:

ألق إليها أذنا واستمع

أبرد ما غنته كراعة

كذا رأيته في بعض كتب العرب.

الكران:

العود أو الصنج.

الكرنية:

تطلق على القينة التي تغني على القيان.

الكرك:

في صلة تاريخ الطبري (تعريب رقم 687، تاريخ ص35، س5): «وبين يديه الكرك، ومن يضرب بالصنوج.» وأورده «دوزى» بلفظ «كريج» وقال: آلة موسيقية إلخ.

والكنارات:

العيدان أو الدفوف أو الطبول أو الطنابير - كالكنانير والكنارات - بالكسر والشد، وتفتح.

الكنكلة:

آلة من آلات الطرب، وقد ذكر أول من غنى بها وهو عبد الله بن العباس الربيعي إلخ.

الكوبة (بضم الكاف):

الطبل الصغير المخصر، في شفاء الغليل ص193: الكوس: الطبل أو عدة الطبالة، تجاوزا. «وفي الأغاني» (ج5، ص161): «الأنصاب: نوع من أنواع الغناء، والنصيبي أول من غنى بها.»

وفي (ج8، ص25) من «الأغاني» تحت عنوان «صوت» ما نصه:

توهمت بالخيف رسما محيلا

لعزة تعرف منه الطلولا

تبدل بالحي صوت الصدى

ونوح الحمامة تدعو هديلا

الشعر لكثير، وعروضه من المتقارب، والخيف الذي عناه كثير ليس بخيف منى، بل هو موضع آخر في بلاد ضمرة، والطلول جمع طلل وهو ما كان له شخص وجسم عال من آثار الديار، والرسم ما لم يكن له شخص، والصدى ها هنا: طائر، وفي موضع آخر: العطش، ويزعم أهل الجاهلية أن الصدى طائر يخرج من رأس المقتول فلا يزال يصيح حتى يدرك ثأره، وقال طرفة:

كريم يروي نفسه في حياته

ستعلم إن متنا صدى أينا الصدى

والحمام:

القماري ونحوها من الطير، والهديل أصواتها.

والغناء لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر، ونسبه إلى جاريته وكنى عنها.

بخجلة:

في كتاب «المعرب والدخيل» لمصطفى المدني: بخجلة: طنبور له ثلاثة أوتار، أول من ضرب بها عبد الله بن الربيع، كذا نقل من خط الصفدي وضبطه، ولم يذكره الخفاجي في «شفاء الغليل».

بديح:

مغن كان إذا غنى قطع غناء غيره لحسن صوته.

بظ:

بظ المغني: حرك أوتاره ليهيئها للضرب.

بزم:

البزم أن تأخذ الوتر بالسبابة والإبهام، ثم ترسله، في «اللسان» أنه في القوس، ولكن يمكن التعبير به في العود على التشبيه.

تراسل:

تراسل الناس في الغناء: إذا اجتمعوا عليه، يبتدئ هذا ويمد صوته، فيضيق عن زمان الإيقاع فيسكت، ويأخذ غيره في مد الصوت، ويرجع الأول إلى النغم، وهكذا حتى ينتهي إلخ.

التربال:

طبل كبير بالمغرب الأقصى (كما ذكره «صبح الأعشى» ج5، ص208): والتربال: بالمغرب الأقصى: الطبل الكبير.

الجحدلة:

الحداء الحسن المولد، وانظر شوارد اللغة في رسائل الصاغاني ص44.

جراد:

في «شفاء الغليل» ص75: جراد بمعنى مغن، وهو مأخوذ من الجرادنين إلخ.

زلزل:

اسم عواد، في زمن المهدي إلخ، كما ذكر في «شفاء الغليل» ص117.

الزمارة:

زمارة كجبانة، ما يزمر به كالزمار.

الزمجرة:

الزمارة وصوتها، وجمعها زماجر وزماجير.

زفافة:

هي الرقاصة بثياب فاخر، ويرادفها: طنبورية وكراعة وربابية وصناجة إلخ، في «نشوار المحاضرة» ص192.

زمزم:

الزمزمة: ترديد الصوت في النفس لتقويم اللحن أو نحو ذلك، في ص132 من «نشوار المحاضرة».

ساز:

تركية بمعنى صوت أو لحن، استعملت في (زجل): «وفي غير ساز رقصوني.»

السطاعة:

في ابن بطوطة (ج4، ص405، باريس): السطاعة: تضرب بها آلات الطرب بالسودان.

السفسير (بالكسر):

العالم بالأصوات.

السكت:

الفصل بين نغمتين بلا تنفس.

مشط العود:

هو الشبيه بالمسطرة التي تشد عليه الأوتار تحت أنف العود، وهو يجمع الأوتار من فوق.

الإبريق:

اسم لعنق العود بما فيه من الآلات.

المضراب:

الذي تضرب به الأوتار.

الجس:

هو نقر الأوتار بالسبابة والإبهام دون المضراب.

الحزق:

شد الوتر وضبطه، ونقيضه: الإرخاء والحط. (2) من آلات الطرب

الماصول:

في «ابن إياس» (ج2، ص638): آلة طرب، وفي «الكواكب السائرة» (ج3، ص150): كان يعمل بالماصول، وبعده أنه: نوع يزمر به، وفي «كف الرعاع» (ص63): «الماصول» نوع من المزاميز.

المربع:

هو الدف، أي: الطار (عند العامة)، وفي «الأغاني» (ج2، ص173): «ثم أخذ المربع، فتمشى به وأنشأ يغني.» ومن هنا يفهم أنه الدف أو نوع من الدفوف.

المزكلش:

في «الذيل على الروضتين» (ج1، آخر ص28): «باليمين المزكلش، ثم في اليسار: إنه كان يقول: كان وكان.» وبعده أنه كان يسحر و«يزكلش».

المزمار:

هو ما يزمر به إطلاقا، واسمه أيضا الزمخر، والزنبق، والصلبوب، والنقيب والقصابة والهنبوقة، وقد مضى ذكر بعضها.

المزهر:

في «تصحيح التصحيف وتحرير التحريف» نقلا عن «ما تلحن فيه العامة» للزبيدي: ويقولون لبعض الملاهي: مزهر. والمزهر: العود الذي يضرب به، وقال الصفدي: يريد به الدف الصغير.

المستقة:

آلة يضرب بها الصنج ونحوه.

المعزف:

نوع من الصنابير يتخذه أهل اليمن، قال: وغير الليث يجعل العود معزفا، مادة (عزف) من المصباح، وفي «شرح شواهد الشافية» للبغدادي (ص305): المعزف من آلات الطرب وقد تقدم الكلام على (المعزفة) وأنها آلة موسيقية إلخ.

المهبرج:

مهبرج، كمسرهد: الفاسد المختلف من الأوتار.

الحجاز:

نغمة من أنغام الغناء.

الحسيني:

اسم وتر من أوتار العود، كما ذكر في «فض الختام عن التورية والاستخدام» للصفدي (ص68). •••

الطبن:

الطنبور أو العود، ويروى بكسر الطاء وفتحها.

الطنبور:

هو القنين، كسكين، وفي الشرح أنه: طنبور الحبشة إلخ.

وقال بعضهم يصف الطنبور:

مخطف الخصر أجوف

جيده نصف سائره

أنطقته يدا فتى

فاتر اللحظ ساحره

فجلا عن ضميره

ما حوى في خواطره

الطنبورة:

من آلات الطرب، وهي مشهورة في السودان.

الطربرب:

في «تحفة الألباب» ص68: الطربرب، وفي الحاشية أنه يقال: الطربروب أيضا، وفسره «دوزى»: آلة موسيقية.

العتيدة:

الطبلة الكبيرة، ولعلها معروفة في السودان.

العربطة:

العود أو الطبل أو نحوهما في «شفاء الغليل» ص154.

وفي «الزواجر» لابن حجر (أوائل ص217): العربطة قيل: إنها العود، ويقال لها أيضا: العرباطة.

العرطبة:

العود أو الطنبور أو الطبل، أو طبل الحبشة.

العزف والمعزف:

في «شرح شواهد الشافية» للبغدادي (ص305): العزف والمعزف من آلات الطرب.

المعزفة:

في «الموشى» ص691، وقد قرأت على معزفة:

إن كنت تهوى وتستطيل

فإنني عبدك الذليل

أعرضت عني وخنت عهدي

وجرت في الصد يا ملول

كيف احتيالي وليس يأتي

منك كتاب ولا رسول

وعلى أخرى:

ألذ عندي من الشراب

تقبيل أنيابك العذاب

ولثم خد كلون خمر

قد شفه كثرة العتاب

الدبداب:

الطبل، وفي «رحلة ابن جبير» (ص104) ذكر للدبداب والطبول.

الدرداب:

صوت الطبل، ويرادفه الدردار أيضا.

الدعبب (كقنفد):

هو المغني المجيد.

الدنقرة:

شبه طست من نحاس يضرب بحديدة:

وفي «رحلة ابن بطوطة» (ج2، ص126): الدنقرة شبه طست من نحاس، تضرب بحديدة في جزيرة «ذيبة المهل» أي «ملديف»، وفيها الدنقرة ووصفها تفصيلا. قال المؤلف:

ومن عاداتهم ألا يركب أحد هنالك إلا الوزير، ولقد كنت لما أعطوني الفرس فركبته يتبعني الناس رجالا وصبيانا، يعجبون مني، حتى شكوت له، فضربت «الدنقرة» وأعلن في الناس ألا يتبعني أحد، والدنقرة بضم الدال وسكون النون وضم القاف وفتح الراء: شبه طست من النحاس تضرب بحديدة، فيسمع لها صوت على البعد، فإذا ضربوها حينئذ يعلن في الناس ما يراد، فقال لي الوزير: إن أردت أن تركب فعندنا حصان ورمكة فاختر أيهما شئت، فاخترت الرمكة، فأتوني بها في تلك الساعة وأتوني بكسوة، فقلت له: وكيف أصنع بالودع الذي اشتريته؟ فقال: ابعث أحد أصحابك ليبيعه لك ببنجالة، فقلت له: على أن تبعث أنت من يعينه على ذلك، فقال: نعم، فبعث حينئذ رفيقي أبا محمد بن فرحان، وبعثوا معه رجلا يسمى الحاج عليا، فاتفق أن هاج البحر فرموا بكل ما عندهم حتى الزاد والماء والصاري والقربة، وأقاموا ست عشرة ليلة لا قلع لهم ولا سكان، ولا غيره، ثم خرجوا إلى جزيرة سيلان بعد جوع وعطش وشدائد، وقدم علي صاحبي أبو محمد بعد سنة وقد زار القرم، وزارها مرة ثانية معي.

قضيب القول:

في «اليتيمة» (ج4، ص111): قضيب القول: لعله عصا ينقر بها على الأرض وقت الغناء، وللمأموني أبيات فيه:

أهيف قد زاحم الحسان على

أخص أسمائه إذا اقتضبا

من الملاهي وليس ينكره

ذو ورع حين ينكر اللعبا

يلهو به من لها وما اقترف ال

ذنوب في فعله ولا احتقبا

يضرب وجه الثرى به فترى

كل فؤاد به قد اضطربا

إذا تثنى ثنى القلوب وقد

أهدى إليها السرور والطربا

القاصب:

النافخ في «القصب» وهو: آلة من آلات الطرب.

القرقلة:

في «أنس الملا بوحش الفلا» (ص42): «قرقلة يصوت بها.» لعلها كالبوق. وفي (ص144-145) منه: عمل قدر داخلها شعر تخرج صوتا كزئير الأسد، ولعلها هي: القرقلة.

القصب:

في «نهاية الأرب» للنويري (ج4، ص166): ويقال له التغيير والقطقطة، أي الذي يزمر فيه القصاب. في «الأغاني» (ج10، ص142): أوتار العيدان.

القصاب:

الزمار، ومنه القصابة هي : الأنبوبة، كالقصيبة والمزمار.

القنابر:

في «ابن بطوطة» (ج2، ص190): «المغنون وبأيديهم القنابر.» وفي «دوزى»: إنها القيثارة ذات الوترين وهي بالإفرنجية تسمى:

Guitare .

وفي «ج4» من «ابن بطوطة» أيضا (ص106، باريس) أن القنابر آلات طرب، وفي الترجمة:

Qui signifie aliuete .

القنين: (كسكين) أي بكسر قافها والنون المشددة: الطنبور. (3) الملاهي في مختلف العصور

في «الجبرتي» (ج4، ص264): ذكر رجوع طوسون بن محمد علي من الديار الحجازية، ثم سفره إلى رشيد وبرمبال، حيث أخذ صحبته من مصر المغنين وأرباب الآلات المطربة بالعود والقانون والناي والكمنجات وهم: إبراهيم الوراق، والحبابي وقشوة، ومن يصحبهم من باقي رفقائهم، فذهب ببعض خواصه إلى رشيد ومعه الجماعة المذكورون فأقام أياما، وحضر إليه من جهة الروم جوار وغلمان أيضا، فانتقل بهم إلى قصر برمبال.

وفيه (ج1، ص100) ذكر موت الأمير عبد الرحمن بيك، وأنه كان كاشف الشرقية، وكان مشهورا بالفروسية والشجاعة، قلده الإمارة إسماعيل والي مصر سنة سبع ومائة وألف هو ويوسف بك المسلماني، ولما وقع الفصل في تلك السنة وغنم الباشا أموالا عظيمة من حلوان المحاليل والمصالحات، عمل عرسا عظيما لختان أولاده في سنة ثمان ومائة وألف، وهاداه الأعيان والأمراء والتجار بالهدايا، وكان مهما عظيما استمر عدة أيام لم يتفق نظيره لأحد من ولاة مصر، ونصبوا في ديوان الغوري وقايتباي الأحمال والقناديل، وفرشوهما بالفرش الفاخرة والوسائد والطنافس وأنواع الزينة، ونصبوا الخيام على حوش الديوان وحوش السراية، وعلقوا التعاليق بها مع خيام تركية، واتصل ذلك بأبواب القلعة التحتانية إلى الرميلة والمحجر، ووقف أرباب العكاكيز وكتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة والأمراء وباشجاويش الينكجرية والعزب والأغا والوالي والمحتسب، الجميع ملازمون للخدمة وملاقاة المدعوين وفي أوساطهم المحازم الزردخان، وأبو اليسر الجنكي ملازم بديوان الغوري ليلا ونهارا، وجنك اليهود بديوان قايتباي، وأرباب الملاعيب والبهالوية والخيال بالحيشان، وأبواب القلعة مفتوحة ليلا ونهارا، وأصناف الناس على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم من أمراء وأعيان وتجار وأولاد بلد طالعين نازلين للفرجة ليلا ونهارا، وختن مع أولاده عند انقضاء المهم مائتي غلام من أولاد الفقراء، ورسم لكل غلام بكسوة ودراهم، ودعوا في أول يوم المشايخ والعلماء، وثاني يوم أرباب السجاجيد والخرق، وثالث يوم الأمراء والصناجق ثم الأغوات والوجاقلية والاختيارية والجربجية.

وفي «تاريخ الدول والملوك» لابن الفرات: وفي هذا المولد أحضر إبراهيم بن الجمال رئيس المغنين، وشقيقه خليل رئيس المشببين، وعملا السماع لحضرة السلطان كما جرت عادتهما به في موالد السلطان، وخلع عليهما ومضيا لحال سبيلهما، فلما كانت ليلة الأحد ثاني عشر شهر ربيع الأول الشهر المذكور، أرسل شخص من أهل مصر إلى إبراهيم بن الجمال وشقيقه خليل ليحضرا عنده في مولد ويعملا سماعا، فحضرا إليه في طبقته مع أصحابهما، فلما فرغ المولد وعمل السماع نزل شخص من إيوان الطبقة إلى دور القاعة، وسأل إبراهيم بن الجمال أن يعيد ما غناه، ورقص بدور القاعة معهم جماعة، ومن كان بدور القاعة ممن يحسن الرقص طلع إلى ديوان الطبقة، ولم يطل بهم الوقوف حتى انكسرت أسهم السقف على دور القاعة الذي عليه الرقص، فتقور السقف وسقط بمن كان يرقص فيه، وبالمغاني، ونزلت الدكك على رءوسهم، ومات إبراهيم بن الجمال وشقيقه خليل وهما رئيسا صناعتهما، وستة أنفس سواهما، منهم: الشيخ عز الدين بن محمد العباسي المطابخي بمصر، وتهشم جماعة وحملوا إلى أهاليهم، فمن مات دفن في يوم الأحد ثاني عشر شهر ربيع الأول الشهر المذكور، ومن بقي حيا لاطفه أهله.

وفي «الضوء اللامع» (ج6، ص148): محمد البديوي السلكوتي القيراطي ويعرف بحمام - أصله نروجي ثم سكندري، سكن القاهرة. ممن أخذ فن النغمة والضرب عن الأستاذ ابن خجا عبد القادر الرومي العواد الآخذ عن أبيه عبد القادر، وتميز في ذلك وما يشبهه، وراج عند غير واحد من المباشرين، كابن كاتب المناخات، وأبناء الناس كابن تمرباي، ونالته دنيا طائلة، ومع ذلك فهو فقير لإذهابها أولا فأولا، وقد تخرج به جماعة كإبراهيم بن قطلوبك، وأحمد جريبات وهما في الأحياء، ومحمد لدويك، وانفرد كل منهم بشيء، فالأول أرأسهم، والثاني أحفظهم، والثالث أقدرهم على التصنيف والتوليد، وليس في الأحياء منهم سوى جريبات. وممن أخذ عنه أولا العفريت، وربما يتفقده الملك كما قيل، بل رتب له كسوة وتوسعة في رمضان، وطلبه للقبة الدوادارية غير مرة ، ولولا شهامته وعزة نفسه بحيث يثني على الرؤساء الماضين ويعيب على الباقين لكان ربما يزاد، وقد مسه من شاهين الغزالي لتحامقه عليه بعض المكروه حيث أمر من صفعه، وبالغ بما كان سببا لضعف بصره بل عمي؛ ولذا اطرح الناس وأقام منفردا بخلوة بمدرسة الزيادة على بركة الفهادة، هذا مع استتاره على الملق، ولكنه لا يرى أحدا يحاكي من خالطه، سيما مع إعجابه بنفسه، وبلغني أنه زائد الوسواس كثير التردد في النية والطهارة شديد الحرص على الصلوات جماعة ومنفردا، والاجتهاد في قضاء ما فات، بل توسع حتى قضى مدة حمله في بطن أمه، وعمر حتى قارب التسعين، وهو فريد في فنه رحمه الله.

وفي «الضوء اللامع» (ج2، ص260): حسين بن بير حاجي أبو بكر، التركستاني الأصل، الشيرازي ثم الرومي، الخصي، نزيل القبة الدوادارية من القاهرة، ويدعى بالأمير حسين، ولد بشيراز، نشأ بهراة، فخدم سلطانها أبا سعيد بن شاه رخ، وترقى عنده حتى صار من جملة خازندارياته، ثم تحول إلى الروم، واجتمع بمحمود باشا أجل أمراء محمد بن عثمان، فأحبه وحظي عنده، ودام ببلاده نحو ثماني سنين، ثم استأذنه في الحج فأذن له؛ فلما وصل لحلب وذلك في سنة سبع وسبعين، أو التي قبلها توصل بالدوادار الكبير يشبك بن مهدي، حيث مسيره لسوار، فلاق بخاطره حيث أكرمه وأنعم عليه، ورجع معه إلى القاهرة فزاد في إكرامه، ثم أنزله بقبته التي بناها، كل ذلك لما اشتمل عليه من حسن الصوت والإلمام الكبير بعلم الموسيقى، مع فهم وعقل ولطف عشرة، وذكر بأوراد، وقيام وبر للفقراء والواردين عليه بالقبة، وقد ذكر أنه قرأ على «سنان» شيخ قرية الدوادار في المتوسط على الكافية الحاجبية، وقد رأيته بالقبة - غير مرة - ثم بمكة، وقد طلع إليها في البحر سنة ثمان وتسعين.

وفي «الضوء اللامع» (ج2، ص315): حيدر بن أحمد بن إبراهيم أبو الحسن الرومي الأصل، العجمي الحنفي الرفاعي نزيل القاهرة، أتت إليه الرياسة في فني الموسيقى والألحان، وكان يعرف بشيخ التاج والسبع وجوه، وقد ولد بشيراز في حدود الثمانية وسبعمائة، وتسلك بأبيه وغيره، ورحل إلى البلاد، ووفد على ملوك الشام وعلمائه، وكان ممن اجتمع به النفتازاني والسيد الجرجاني والصدر تركا، وقدم القاهرة سنة أربع وعشرين بأخويه إبراهيم الشاب الظريف، والمولى جيران، وأمهم، فأكرمه «الأشرف» وأنزله المنظرة المشار إليها، وأنعم عليه برزقه عشرين فدانا بأراض ناحيتها، واستمر إلى أن أخرجه «الظاهر جقمق» حين ذكر له عنه محمد بن إينال قبائح، بل أمر بهدمها، ورسم للمرافع المشار إليه بأنقاضها مع وجود ابنه «المؤيد بالله»، وصارت بلاقع، وندم الظاهر على انجراره مع المشار إليه، وطلب صاحب الترجمة وأخذ بخاطره ووعده بالجميل وأنعم عليه بأشياء، ورتب له الذخيرة وغيرها مما يقوم بأوده، وصار يتردد إلى السلطان ويقعد بمجلسه، وأسكنه بالقرب من زاوية الرفاعية مدة إلى أن أنعم عليه بمشيخة زاوية قبة النصر بعد صرف محمود الأصبهاني منها، وسكنها إلى أن مرض وطال مرضه، ثم مات في ليلة الاثنين حادي عشر ربيع الأول سنة أربع وخمسين عن نحو السبعين، ودفن بباب الوزير على أخيه إبراهيم بعد أن صلي عليه بقبة النصر، وكان شكله حسنا منور الشيبة، إلى الطول أقرب، ضخما، حلو اللفظ والمحاضرة، حافظا لكثير من الشعر، فصيحا باللغتين التركية والعجمية، بل له فيهما النظم الجيد.

وفي «الضوء اللامع» (ج2، ص625): طوغان قيز العلائي علان، أحد المقدمين في الدولة الناصرية، ترقى بعدها حتى صار في الدولة المؤيدية رأس نوبة الجمدارية، ثم أمره (الظاهر جقمق) على عشرة، ثم عمله أميراخور ثالث، ثم استادار بعد الناصري محمد بن أبي الفرج سنة أربع وأربعين، ثم انفصل عنها حين خدع بطلبه الاستعفاء، وخرج إلى البلاد الشامية وتنقل في نيابة ملطية ثم أتابكية حلب ثم مقدما بدمشق، وسافر أميرا للركب الشامي، ورام القبض على بعض قطاع الطريق فاستجار بأحد أبواب المدينة النبوية فأراد أن يحرقه، بل يقال: إنه أوقد به النار، فلما بلغ ذلك السلطان قبض عليه وحبسه بقلعة دمشق، بل كتب إلى الاستادار لتخوفه من عوده إلى الوظيفة محضرا بكفره، وما بلغ قصده، بل دام في الحبس مدة، ثم أطلق واستمر حتى مات في أواخر سنة ثلاث وستين أو أوائل التي تليها، وكان رئيسا معظما في الدول، ذا ذوق ومحاضرة في الجملة ومعرفة بتأدية الموسيقى. (4) جوائز البرامكة للمغنين

في «نهاية الأرب» (ص356): قال مروان بن أبي حفصة يمدح جعفرا:

أفي كل يوم أنت صب وليلة

إلى أم بكر لا تفيق فتقصر

أحب على الهجران أكناف بيتها

فيا لك من بيت يحب ويهجر

إلى جعفر سارت بنا كل جسرة

طواها سراها تحوه والتهجر

إلى واسع للمجتدين فناؤه

تروح عطاياه عليهم وتبكر

وهو شعر مروان بن أبي حفصة يمدح جعفرا، قال مخارق: قال لي إبراهيم: هل سمعت مثل هذا قط؟ فقلت: ما سمعت قط مثله! فلم يزل يردده علي حتى أخذته، ثم قال لي: امض إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأبيه وأخيه. قال: فمضيت ففعلت مثل ذلك، وأخبرته بما كان وعرضت عليه الصوت فسر به، ودعا خادما فأمره أن يضرب الستارة، وأحضر الجارية وقعد على كرسي، ثم قال: هات يا مخارق، فألقيت الصوت عليها حتى أخذته. فقال: أحسنت يا مخارق وأحسن أستاذك، فهل لك في المقام عندنا اليوم؟ فقلت: يا سيدي هذا آخر أيامنا، وإنما جئت لوقع الصوت مني حتى ألقيته على الجارية. فقال: يا غلام، احمل معه ثلاثين ألف درهم وإلى الموصلي ثلاثمائة ألف درهم، فصرت إلى منزلي وأقمت ومن عندي مسرورين نشرب طول يومنا ونطرب، ثم بكرت إلى إبراهيم فتلقاني قائما ثم قال لي: أحسنت يا مخارق، فقلت: ما الخبر؟ قال: اجلس، فجلست، وقال لمن خلف الستارة: خذوا فيما أنتم عليه، ثم رفع السجف فإذا المال، فقلت: ما خبر الضيعة؟ فأدخل يده تحت مسورة وهو متكئ عليها فقال: هذا صك الضيعة، اشتراها يحيى بن خالد وكتب إلي: قد علمت أنك لا تسخو نفسك بشراء هذه الضيعة من مال يحصل لك ولو حويت الدنيا كلها، وقد ابتعتها من مالي. ووجه إلي بصكها، وهذا المال كما ترى.

ثم بكى وقال: يا مخارق، إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء، وإذا احتكرت فاحتكر لمثل هؤلاء، ستمائة ألف، وضيعة بمائة ألف، وستون ألف درهم لك، حصلنا ذلك أجمع وأنا جالس في مجلسي لم أبرح منه، متى يدرك مثل هؤلاء؟! (5) صناعة القيان

في «الضوء اللامع» (ج5 ص214): أحد من عرف الموسيقى علما وعملا، محمد بن محمد بن أبي بكر بن مبارك شاه أبو النجا بن التاج، القمني الأصل، القاهري، ولد بالظاهرية القديمة في العشرين من ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وثمانمائة، وحفظ القرآن والربع من المنهاج، وسمع الحديث بالظاهرية وغيرها، وتدرب على صناعة القيان وتكسب بها دهرا، وسافر لجهات عدة، وحضر وقعتي سوار، ومن نظمه وقد عرض له ريح:

يا رب إن الريح أضعف بنيتي

فأضرها وأضر بي تبريحي

فاكشف بفضلك كربه عني ولا

تجعل دعائي رائحا في الريح

وله أيضا متغزلا:

قال حبيبي حين قبلته

ونلت منه رتبة عليا

تعشقني قم فاسقني خمرة

ولا تبح بألف لام يا

وهو القائل:

تفتي بعود كنيس

لمن طغى وتولى

وتدعي نقل علم

والله ما أنت إلا

وله في التصحيف عمل، وكذا في الموسيقى والنغمات والنقرات علما وعملا، كاد أن يجمع عليه في ذلك، وله تقدم في العوم بل هو بهلوان ونحو ذلك. (6) أخبار المغنيات

في «نهاية الأرب» (جزء 5): في «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني ذكر أخبار مغنيات كثيرات، منهن: «جميلة» مولاة بني سليم

ثم مولاة بطن منهم يقال لهم: بنو بهز، وكان لها زوج من موالي بني الحارث بن الخزرج، وكان ينزل فيهم، فغلب عليها ولاء زوجها فقيل لها «مولاة الأنصار»، وقد قيل إنها كانت لرجل من الأنصار ينزل بالسنح، وقيل: كانت مولاة الحجاج بن علاط السلمي، قال أبو الفرج الأصفهاني: هي أصل من أصول الغناء، أخذ عنها معبد، وابن عائشة، وحبابة، وسلامة، وعقيلة، والعتيقة، وغيرهم، وفيها يقول عبد الرحمن بن أرطاة:

إن الدلال وحسن الغنا

ء وسط بيوت بني الخزرج

وتلكم جميلة زين النساء

إذا هي تزدان للمخرج

إذا جئتها بذلت ودها

بوجه منير لها أبلج

عزة الميلاء

وكانت مولاة للأنصار ومسكنها المدينة، وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من نساء الحجاز، وماتت قبل «جميلة» قال: وقد أخذ عنها معبد ومالك بن أبي السمح وابن محرز وغيرهم من المكيين والمدنيين، وكانت من أجمل النساء وجها وأحسنهن جسما؛ وسميت الميلاء لتمايلها في مشيتها.

وقال معبد: كانت من أحسن النساء صوتا بعود: مطبوعة على الغناء، لا يعييها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغني أغاني القيان مثل: شيرين وزرياب وخولة والرباب وسلمى ورائعة، وكانت رائعة أستاذتها، فلما قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنيا أغاني الفارسية: فأخذت عزة عنهما نغما وألفت عليها ألحانا عجيبة؛ فهي أول من فتن أهل المدينة بالغناء وحرض رجالهم ونساءهم عليه.

وكان حسان بن ثابت معجبا بها، وكان يقدمها على سائر قيان المدينة ، وتقدم ذكر خبرها مع النعمان بن بشير وحسان بن ثابت، وأن كل واحد منهما سمع غناءها فبكى حسان واستعاد النعمان بن بشير صوتها مرارا.

سلامة القس

وهي مولدة من مولدات المدنية وبها نشأت، وأخذت الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبي السمح ومن دونهم، فمهرت فيه، وإنما سميت سلامة القس لأن رجلا يعرف بعبد الرحمن بن أبي عمار بن جشم بن معاوية كان منزله بمكة، وهو من قراء أهل المدينة ويلقب بالقس لعبادته، شغف بها وشهر بحبها، وكان يشبه بعطاء بن أبي رباح، وله فيها أشعار كثيرة منها قوله:

إن التي طرقتك بين ركائب

تمشي بمزهرها وأنت حرام

لتصيد قلبك أو جزاء مودة

إن الرفيق له عليك ذمام

باتت تعللنا وتحسب أننا

في ذاك أيقاظ ونحن نيام

ومن شعر الأحوص فيها:

سلام إنك قد ملكت فأسجحي

قد يملك الحر الكريم فيسجح

مني على عان أطلت عناءه

في الغل عندك والعناة تسرح

إني لأنصحكم وأعلم أنه

سيان عندك من يغش وينصح

حبابة

ومنهن «حبابة» وكانت تسمى «الغالية»، وهي جارية مولدة من مولدات المدينة لرجل من أهلها يعرف بابن دبابة، وقيل: بل كانت لآل لاحق المكيين، وقيل: كانت لرجل يعرف بابن مينا، وكانت تسمى «الغالية» فسماها يزيد بن عبد الملك لما اشتراها «حبابة»، وكانت حلوة جميلة الوجه ظريفة حسنة الغناء ، طيبة الصوت ضاربة بالعود، أخذت الغناء عن ابن سريج وابن محرز ومالك ابن أبي السمح ومعبد، وعن جميلة وعزة الميلاء.

وكان يزيد بن عبد الملك يقول: ما تقر عيني بما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة جارية مصعب بن سليم، وحبابة جارية ابن لاحق المكية، وأرسل فاشتريتا له، فلما اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قيل:

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر

قال: وارتفع قدر حبابة عند يزيد، وتمكن حبها من قلبه تمكنا عظيما، وكان أول ذلك أنه أقبل يوما إلى البيت الذي هي فيه، فقام من وراء الستر فسمعها تترنم وتغني:

كان لي يا يزيد حبك حينا

كاد يقضي علي لما التقينا

خليدة المكية

ومنهن «خليدة المكية» وهي مولاة لابن شماس، كانت هي وعقيلة وربيحة يعرفن بالشماسيات، وقد أخذت الغناء عن ابن سريج ومالك ومعبد.

وروى أبو الفرج بسنده إلى الفضل بن الربيع أنه قال: ما رأيت ابن جامع يطرب للغناء كما يطرب لغناء «خليدة المكية» وكانت سوداء، وفيها يقول الشاعر:

فتنت كاتب الأمير رباح

يا لقومي خليدة المكية

متيم الهاشمية

ومنهن «متيم الهاشمية» قال أبو الفرج: كانت متيم مولدة صفراء من البصرة، وبها نشأت وتدربت وغنت، وأخذت عن إسحاق وأبيه، وعن طبقتهما من المغنين، وكانت من تخريج «بذل» وتعليمها، واشتراها علي بن هشام بعد ذلك فازدادت أخذا ممن كان يغشاه من أكابر المغنين، وكانت من أحسن الناس وجها وغناء وأدبا، وحكي أن علي بن هشام مولاها كلفها بشيء فأجابته جوابا لم يرضه، فدفع في صدرها فغضبت ونهضت وتثاقلت عن الخروج إليه؛ فكتب إليها:

فليت يدي بانت غداة مددتها

إليك ولم ترجع بكف وساعد

فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا

فلست إلى يوم التنادي بعائد

ساجي

ومنهن «ساجي» مولاة عبيد الله، قال أبو الفرج: كانت ساجي إحدى المحسنات المبرزات المتقدمات، وهى تخرج مولاها عبيد الله، وكان مهما صنع من الغناء نسبه إليها، وكان قد بلغ من ذلك الغاية، لكنه كان يترفع عن ذكره ويكره أن ينسب إليه.

بصبص

ومنهن «بصبص» جارية ابن نفيس. قال أبو الفرج: كانت جارية من مولدات المدينة، حلوة الوجه، حسنة الغناء، قد أخذت عن الطبقة الأولى من المغنين، وكان يحيى بن نفيس مولاها صاحب قيان، يغشاه الأشراف ويسمعون غناء جواريه، ثم اشتريت للمهدي وهو ولي عهد بسبعة عشر ألف دينار، وقيل: إنها ولدت له علية بنت المهدي، وقيل: أم علية غيرها، قال: وكان عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير يأتيها فيسمع منها، وكان يأتيها فتيان قريش فيسمعون منها، فقال عبد الله بن مصعب حين قدم المنصور منصرفا إلى الحج ومر بالمدينة يذكر «بصبص»:

أراحل أنت أبا جعفر

من قبل أن تسمع من بصبصا

هيهات قد تسمع منها إذا

جاورت العيس بك الأعوصا

فخذ عليها مجلسي لذة

ومجلسا من قبل أن تشخصا

عجيبة

ومنهن «عجيبة» وكان غناؤها بالجنك على الدف، وفي «طبقات السبكي» ذكر عجيبة وقصتها مع الكامل والقاضي عين الدولة، قال: كانت عجيبة مغنية بمصر على عهد السلطان الملك الكامل بن أيوب، وكان الكامل مع تصميمه بالنسبة إلى أبناء جنسه تحضر إليه وتغنيه بالجنك على الدف في مجلس يحضره ابن شيخ الشيوخ وغيره، وأولع الكامل بها جدا ثم اتفقت قضية شهد فيها الكامل عند ابن عين الدولة، وهو في مملكته، فقال ابن عين الدولة: السلطان يأمر ولا يشهد، فأعاد عليه السلطان الشهادة، فأعاد القاضي القول، فلما زاد الأمر وفهم السلطان أنه لا يقبل شهادته، قال: أنا أشهد تقبلني أم لا؟ فقال القاضي: لا، ما أقبلك، وكيف أقبلك وعجيبة تطلع إليك بجنكها كل ليلة وتنزل ثاني يوم بكرة وهي تتمايل سكرا على أيدي الجواري، وينزل ابن الشيخ من عندك أنجس مما نزلت، فقال له السلطان: يا كنواخ! وهي كلمة شتم بالفارسية. فقال: ما في الشرع يا كنواخ، اشهدوا على أني قد عزلت نفسي، ونهض؛ فجاء ابن الشيخ وقال للملك الكامل: المصلحة إعادته لئلا يقال لأي شيء عزل القاضي نفسه، وتطير الأخبار إلى بغداد، ويشيع أمر «عجيبة». فقال له: قم إليه، فنهض إلى القاضي وترضاه وعاد إلى القضاء.

خديجة الرحابية

ومنهن «خديجة الرحابية»، وفي «ابن إياس» (ص76-77): قبض يشبك بن حيدر والي القاهرة على امرأة يقال لها خديجة الرحابية، وكانت من أعيان مغنيات مصر، ولها إنشاد لطيف، وكان أصلها من مغنيات العرب، ثم عظم أمرها جدا وحظيت عند أرباب الدولة ورؤساء مصر، وكانت جميلة حسنة الغناء، فافتتن بها الناس، وقد قال فيها بعض الشعراء:

رحابية يخفي الشموس جمالها

لها حسن إنشاد يزيد مقالها

وقد خايلت بالبدر ليلة تمه

فما زال من عيني وقلبي خيالها

وكانت في بعض الأفراح، فبعث يشبك من قبض عليها، وقال لها: أنت التي أفسدت عقول الناس، ثم أمر بضربها نحوا من خمسين عصا، وقرر لها مبلغا، وكتب عليها قسامة بأنها لا تغني ولا تحضر في مقام، فلما خلصت من ذلك أقامت مدة مريضة من الرجفة التي وقعت لها، ثم ماتت عقب ذلك، وكان لها من العمر نحو ثلاثين سنة، فتأسف عليها الكثير من الناس. (7) قراء وموسيقيون «وفي الضوء اللامع» (ج3 ص29): عبد الله بن الحسن بن علي بن محمد بن عبد الرحمن الجمال الدمشقي الأصل، القاهري الأذرعي، أخو الشهاب أحمد الماضي، ووالد البدر محمد الآني، قرأ القرآن وبرع في الموسيقى، ونادم عبد الباسط بل كان أحد موقعي «الدست».

ولما سافر يحيى بن العطار وهو على مشيخة الباسطية القدسية، رغب له عن أشياء من وظائفه رغبة أمانة لوثوقه به، فلما عاد أعطاه ما اجتمع له منها، وقد مات في شوال سنة ست وأربعين، وأرخه «العيني» ووصفه «الخيضري» بالقاضي.

وفي (ص382) منه، قال: علي ابن بطيخ القاهري الضرير أحد رؤساء قراء الجوق، ممن جود على الشيخ حبيب وبرع في الموسيقى؛ ولذا كان يسلك في قراءته اقتفاء الأنغام، وغير ملاحظ أدب التجويد، وما كنت أحمده في ذلك، ولكنه كان أستاذا، وليس بطيخ اسم أبيه، وإنما هو لقب اشتهر به وكتبته هنا لعدم معرفة اسمه، مات في عاشر المحرم سنة ست وخمسين عن نحو السبعين، وهو عم الشهاب أحمد بن البدر محمد ابن بطيخ أحد الأطباء وقراء السبع هو ووالده. (8) العيدان الشبابيط

في «الأغاني» (ج5 ص24): أول من أحدث العيدان الشبابيط، وكانت العادة قديما تجري على عمل عيدان الفرس.

وذكر أحمد بن أبي طاهر أن حماد بن إسحاق حدثه عن أبيه قال: كان الرشيد قد وجد على منصور زلزل؛ لشيء بلغه عنه، فحبسه عنه عشر سنين أو نحوها، فقام الرشيد يوما لحاجة فجعل إبراهيم الموصلي يغني صوتا صنعه في شعر كان قاله في حبس «زلزل» وهو:

هل دهرنا بك راجع يا زلزل

أيام يبغينا العدو المبطل

أيام أنت من المكاره آمن

والخير متسع علينا مقبل

يا بؤس من فقد الإمام وقربه

ما ذابه من زلة لو يعقل

ما زلت بعدك في الهموم مرددا

أبكي بأربعة كأني مثكل

الشعر والغناء: لإبراهيم، خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو، قال: ودخل الرشيد وهو في ذلك، فجلس في مجلسه، ثم قال: يا إبراهيم، أي شيء كنت تقول؟ فقال: خيرا يا سيدي، فقال: هاته، فتلكأ، فغضب الرشيد وقال: هاته فلا مكروه عليك، فردد الغناء، فقال له: أتحب أن تراه؟ فقال: وهل ينشر أهل القبور؟!

فقال الرشيد: هاتوا زلزلا، فجاءوا به وقد ابيض شعر رأسه ولحيته، فسر به إبراهيم، وأمره الرشيد فجلس، وأمر إبراهيم فغنى على ضربه؛ فزلزلا الدنيا، وشرب الرشيد على ذلك رطلا، وأمر بإطلاق زلزل، ورضي عنه، وأسنى جائزتهما.

قال: وزلزل أول من أحدث العيدان الشبابيط، وكانت أخته تحت إبراهيم، وله ولد منها. (9) الأنغام الهندية وأوقاتها

في «نزهة الجليس» (ج2، أول ص20): الأنغام الهندية وأسماؤها وذكر معانيها، وما يقابلها عند العرب والفرس، وهي أنغام الهند الستة:

أولها: (راك بهيرون) وهو عند العرب والفرس شعبة يسمونها: «المخالف».

وثانيها: (سرى راك) وهو نغم: «السيكاه» عند العرب والفرس.

وثالثها: (مالكوس) وهو عند العرب والفرس كوشة يسمونها: «الركبى».

ورابعها: (ميك ملهار) وهو شعبة عند العرب والفرس يسمونها: «النيرين».

وخامسها: (راك هندول) وهو شعبة يسميها الفرس والعرب: «نيشابور»، وعرب الحجاز يسمونها: «نشاورك».

وسادسها: (راك دبيك) والعرب والفرس يسمونه: «نوروز الصباح»، وهو نغم لا يحسن أحد عمله في زماننا هذا.

وأما أوقات عمل الأنغام الهندية، فوقت «بهيرون» من الفجر الكاذب إلى الصباح، ووقت «سرى راك» من اصفرار الشمس إلى وقت الغروب، ووقت «مالكوس» من الساعة الرابعة من الليل إلى أول الخامسة، ووقت «ميك ملهار» في فصل الأمطار، ووقت «هندول» عندما تزهر الأشجار.

أما الشعب والبهرجات - يعني الكوشات بالقاف العجمية - فلكل واحد منها وقت في الليل لا حاجة إلى بيانه خوفا من الإطالة. (10) مراهنة بين أرباب الفن

في «ابن إياس» (ج3 ص247): قصة مراهنة بين جماعة من أرباب الفن وأحد المغنين بمصر وما فعلوه ببركة الرطلي، وهذا نصها:

ومن الوقائع اللطيفة ما وقع في يوم الأحد تاسع الشهر، وذلك أنه وقع بين شخص من أرباب الفن يقال له: «محمد الأوجاقي»، ويعرف أيضا «بالشرابي» وشخص يقال له: «محمد بن سرية»، وقع بينهما رهان في فن الموسيقى، فقال محمد بن سرية: أنا أعرف قطعة من الفن ما سمعها أحد من أهل مصر قط، فقال محمد الأوجاقي: إن كان حقا ما تدعيه فنجمع مشايخ أرباب الفن ونجمع المغنين في البلدة قاطبة، ويكون ذلك يوم الأحد في وسط بركة الرطلى.

وكان ذلك في زمن الربيع، فلما كان يوم الأحد يوم الميعاد، حضر جماعة من أرباب الفن، وحضر مغاني البلد قاطبة وأتوا إلى بركة الرطلى، فجلسوا في وسطها، واجتمع هناك الجم الكثير من المتفرجين، وكان ذلك اليوم مشهودا، فغنى كل واحد من المغنين في ذلك اليوم نوبة من أحسن ما عنده من الغناء، وابتهح الناس غاية البهجة.

وأما محمد بن سرية، فإنه احتج بأنه ضعيف ولم يحضر، وقال: الرهان باق إلى يوم الأحد الثاني، فظهر عليه العجز ولم يف بما ادعاه مما تقدم، فكان كما قيل:

كل من يدعي بما ليس فيه

كذبته شواهد الامتحان

فانفض ذلك الجمع، وعد ذلك اليوم من النوادر في الفرجة والقصف.

الرقص وآلاته

الرقص: الدك، وصوابه: الدكر، وهو: رقص أو لعب للزنج أو الحبش إلخ، كما ذكر في «المقتبس» (ج1 أوائل ص438): ومن آلات الرقص: الكرج، ففي «المخصص» الكرج كقبر: المهر.

وفي اللسان: الكرج الذي يلعب به، فارسي معرب، وهو بالفارسية كره، قال الليث: الكرج دخيل معرب، لأ أصل له في العربية.

قال جرير:

لبست سلاحي والفرزدق لعبة

عليها وشاحا كرج وجلاجله

وقال:

أمسى الفرزدق في جلاجل كرج

بعد الأخيطل ضرة لجرير

وفي «اللسان»: «الكرك هو: الكرج الذي يلعب به.»

وفي «القاموس»: «الكرك، كدمل: لعبة للعرب، وفيه: الكركي.» وفي شرحه: هو الكرج الذي يلعب به.

وفي «المثالث والمثاني» (رقم 816، شعر، ص30): مقطوع لصفي الدين الحلي في «رقص القيان» قال:

بحر من الحسن لا ينجو الغريق به

إذا تلاطم أعطاف بأعطاف

ما حركته نسيم الرقص من مرح

إلا وماجت به أمواج أرداف

وقال هارون بن علي المنجم في راقصة:

غصن على دعص نقا منهال

سعى بكأس مثل لمع الآل

وفاتنات الطرف والدلال

هيف الخصور رجح الأكفال

يأخذن من طرائف الأرمال

ومحكم الخفاف والثقال

تجري مع الناس بلا انفصال

مثل اختلاط الخمر بالزلال

تدعو إلى الصبوة كل سال

تصرع كل فاتك بطال

بين حرام اللهو والحلال

أكرم من مصارع الأبطال

وفي «الأغاني» (ج16 ص136): كون دنانير مولاة البرامكة ألفت كتابا في الأغاني، وأنها كانت تجيد الرقص. (1) رقص الرشيد لغناء أخته

في «الأغاني» (ج9 ص92): قصة رقص الرشيد لغناء أخته علية.

قال المؤلف: أخبرني عبد الله بن الربيع قال: حدثني أحمد بن إسماعيل عن جعفر بن يحيى بن خالد قال:

شهدت أبا جعفر وأنا صغير، وهو يحدث يحيى بن خالد جدي، في بعض ما أخبره به من خلواته مع الرشيد، قال: يا أبت، أخذ بيدي أمير المؤمنين، ثم أقبل على حجرة يخترقها حتى انتهى إلى حجرة مغلقة، ففتحت له، ثم رجع من كان معنا من الخدم، ثم صرنا إلى حجرة مغلقة، ففتحها بيده ودخلنا وأغلقها من داخل بيده، ثم صرنا إلى رواق ففتحه، وفي صدره مجلس مغلق فقعد على باب المجلس، ونقر الباب بيده نقرات، فسمعنا حسا، ثم أعاد النقر فسمعنا صوت عود، ثم أعاد النقر ثالثة فغنت جارية ما ظننت والله أن الله خلق مثلها في حسن الغناء وجودة الضرب.

فقال لها أمير المؤمنين بعد أن غنت أصواتا: غني صوتي، فغنت صوته وهو:

ومخنث شهد الزفاف وقبله

غنى الجواري حاسرا ومنقبا

لبس الدلال وقام ينقر دفه

نقرا أقر به العيون وأطربا

إن النساء رأينه فعشقنه

فشكون شدة ما بهن فأكذبا

في هذا اللحن «خفيف رمل» نسبه يحيى المكي إلى ابن سريج ولم يصح له، وفيه «خفيف ثقيل» في كتاب علية أنه لها، وذكر عبد الله بن محمد بن عبد الله الزيات أنه لريق، واللحن مأخوذ من: «إن الرجال لهم إليك وسيلة» وهو «خفيف ثقيل» للهذلي، ويقال: إنه لابن سريج، وهو يأتي في موضع آخر.

قال: فطربت والله طربا هممت معه أن أنطح برأسي الحائط، ثم قال الرشيد: غني «طال تكذيبي وتصديقي»، فغنت (صوت):

طال تكذيبي وتصديقي

لم أجد عهدا لمخلوق

إن ناسا في الهوى غدروا

حسنوا نقض المواثيق

لا تراني بعدهم أبدا

أشتكي عشقا لمعشوق

لحن علية في هذا الصوت هزج، والشعر لأبي جعفر محمد بن حميد السوسي، وله فيه لحن «خفيف ثقيل»، ولعريب فيه «ثقيل أول»، و«خفيف ثقيل» آخر.

قال: فرقص الرشيد، ورقصت معه، ثم قال: امض بنا فإني أخاف أن يبدو منا ما هو أكثر من هذا، فمضينا، فلما صرنا إلى الدهليز، قال وهو قابض على يدي: أعرفت هذه المرأة؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، قال: فإني أعلم أنك ستسأل عنها ولا تتكتم ذلك، وأنا أخبرك أنها «علية بنت المهدي» ووالله لئن لفظت به بين يدي أحد وبلغني لأقتلنك.

قال: فسمعت جدي يقول له: فقد والله لفظت به، ووالله ليقتلنك، فاصنع ما أنت صانع. (2) عمل العود ووصفه وما قيل فيه

العود: آلة من المعازف، وضاربها: عواد.

في الأغاني (ج8، ص188-189): سائب خاثر هو أول من عمل العود بالمدينة وغنى بالعربية الغناء الثقيل.

وفي (ج9 منه ص51): طبقة العود، والإسجاح، وإسجاح الإسجاح، وهذه من اصطلاحات الغناء إلخ.

وفي «خلاصة الأثر» (ج1، ص329-330): العود: مقطعات فيه.

قال أحد الشعراء:

سقى الله أرضا أنبتت عودك الذي

ذكت منه أنفاس وطابت مغارس

تغنت عليه الورق والعود أخضر

وغنت عليه الطير والعود يابس

وفي «نهاية الأرب» (ج5، ص122-125): ذكر ما قيل في وصف آلات الطرب - فمن ذلك ما وصف به العود، نظم أبو الفتح محمود المعروف بكشاجم - قول الحكماء: العود مركب على الطبائع الأربعة، فقال:

شدت فجلت أسماعنا بمخفف

يحدثها عن سره وتحدثه

مشاكلة أوتاره في طباعها

عناصر منها أحدث الخلق محدثه

فللنار منه الزير، واليم أرضه

وللريح مثناه، وللماء مثلثه

وكل امرئ يرتاح منه لنغمة

على حسب الطبع الذي منه يبعثه

شكا ضرب يمناها فظلت يسارها

تطوقه طورا وطورا ترعثه

فما برحت حتى أرتنا (مخارقا)

يجاوبه في أحسن النقر عثعثه

وحتى حسبت (البابليين) ألقيا

على لفظها السحر الذي فيه تنفثه

وقال آخر:

جاءت بعود تناغيه فيسعدها

انظر بدائع ما تأتى به الشجر

غنت على عوده الأطيار من طرب

رطبا، فلما ذوى غنت به البشر

فلا يزال عليه أو به طرب

يهيجه الأعجمان: الطير والوتر

وقال آخر:

لا تحسب العود إن غنتك شادنة

جاءتك بالطيف فيه نغمة الوتر

وإنما الطير ألقت عنده خبرا

فعذبوه فنم العود بالخبر

وقال آخر وهو ابن الرومي:

فكأنه في حجرها ولد لها

ضمته بين ترائب ولبان

طورا تدغدغ بطنه فإذا هفا

عركت له أذنا من الآذان

وفي «حلبة الكميت» (ج5، ص160): «فأتى بعود جديد فكساه، أي: شد أوتاره عليه.»

قال الناجم:

إذا احتضنت عودها (عابث)

وناغته أحسن أن يعربا

يدغدغ في مهل بطنه

فيسمعنا مضحكا معجبا

وقال الحمدوني:

وناطق بلسان لا ضمير له

كأنه فخذ نيطت إلى قدم

يبدي ضمير سواه في الحديث كما

يبدي ضمير سواه الخط بالقلم

وقال كشاجم:

جاءت بعود كأن نغمته

صوت فتاة تشكو فراق فتى

مخفف خفت النفوس به

كأنما الزهر حوله نبتا

دارت «ملاويه» فيه واختلفت

مثل اختلاف الكفين شبكتا

لو حركته وراء منهزم

على بريد ... لعاج والتفتا

يا حسن صوتهما كأنهما

أختان في صنعة تراسلتا

وهو - على ذا - ينوب إن سكتت

عنها، وعنه تنوب إن سكتا

وقال أيضا:

وجارية مثل شمس النهار

أو البدر بين النجوم الدراري

أتتك تميس بقد القضيب

وترنو بعين مهاة القفار

وترفل في مصمت أبيض

تلون من خدها جلناري

وتحمل (عودا) فصيح الجواب

يشارك أرواحنا في المجاري

له عنق كذراع الفتاة

و (دستانة) بمكان السوار

فجادت عليه وجادت له

بعسف اليمين، ولطف اليسار

فما أمهلته ولا نهنهته

من الظهر حتى تقضى نهاري

ولما تغنت غناء الوداع

بكيت وقلت لبعض الجواري

لئن عشت عند هزار اللقاء

لقد مت عند هزار الإزار

وقال أيضا:

وكثيرة النغمات تحسبها

في كل عضو أوتيت حلقا

غنت فظلت إخالني طربا

أسمو إلى الأملاك أو أرقى

وتكلمت أوتارها ... فأنا

فيها أخبر بالذي ألقى

تحكي أنيني وهي شاكية

مما أجن وتشتكي عشقا

وترى لها عودا تعانقه

وكلامه وكلامها وفقا

لو لم تحركه أناملها

كان الهواء يفيده نطقا

جسته عالمة بحالته

جس الطبيب لمدنف عرقا

فحبست يمناها تحركه

رعدا، وخلت يسارها برقا

وقال أيضا:

تميس من الوشي في حلة

تجرجر من فضل أذيالها

وتحمل عودا فصيح الجواب

يضاهي اللحون بأشكالها

له عنق مثل ساق الفتاة

ودستانة مثل خلخالها

فظلت تطارح أوتاره

بأهزاجها وبأرمالها

وتعمل جسا كجس العروق

وتلوي الملاوي بأمثالها

وقال ابن الوردي مقتبسا:

عوادة عواده

بالنغم الملذذ

قالت لنا أوتارها (أنطقنا الله الذي)

وفي المعنى قول آخر:

عجبي لهذا العود لا

ينفك عن غرد الأوانس

غنت عليه الطير رطب

والغواني وهو يابس

وللصفي الحلي فيه:

عود حوت في الروض أعواده

كل المعاني وهو رطب قديم

فحاز سجع الورق في شجوها

ورقة الماء ولطف النسيم

وقال ابن تميم في «عوادة»:

جاءت بعود كلما لعبت به

لعبت بي الأشواق والتبريح

غنت فجاوبها ولم يك قبلها

شجر الأراك مع الحمام ينوح

وقال فيه أيضا:

وعود به عاد السرور لأنه

حوى اللهو قدما وهو ريان ناعم

يغرد في تضريبه فكأنه

يعيد لنا ما لقنته الحمائم

وقال ابن الحجاج في «العودية»:

هذا ومحسنة بالعود عاشقها

بذلك الطيب في الإحساس مسرور

إذا انثنت ثم غنت خلت قامتها

غصنا عليه قبيل الصبح شحرور

وقال الصفدي مضمنا فيه:

جست مثاني عودها بأنامل

عبثت بلب الخاشع المتورع

وشدت فلو شاءت عذوبة لفظها

عطفت عنان البارق المتسرع

وعجبت من ريح الصبا إذ لم تقف

طربا ولكن ما لها أذن تعي

أبصرت يا عيني ما لم تبصري

وسمعت يا أذني ما لم تسمعي

وقال ابن تميم في عوادة:

وفتاة قد راضت العود حتى

عاد بعد الجماح وهو ذلول

خاف من عرك أذنه إن عصاها

فلهذا كما تقول ... يقول

وقال آخر وأجاد:

أشارت بأطراف لطاف كأنها

أنابيب در قمعت بعقيق

ودارت على الأوتار جسا كأنها

بنان طبيب في مجس عروق

وقال آخر في مغن عواد:

فتن الأنام بشدوه وبعوده

شاد تجمعت الفضائل فيه

حتى كأن لسانه بيمينه

وكأن ما بيمينه في فيه

وقال الشيخ برهان الدين القيراطي فيه مضمنا:

سمعت أوصاف عواد طربت لها

فبت أنشد إسرارا وإعلانا: «يا قوم أذني لبعض القوم عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانا»

وله فيه:

يا صاح قم فالكأس صح مزاجها

ووفت لك الأيام بالمقصود

والعود لاطفه طبيب بالغنا

درب إذا ما جس نبض العود

وقال فيه:

أقول إذ جس عودا مطرب حسن

يريك يوسف في أنغام داود

من حسن وجهك تضحى الأرض مشرقة

ومن بنانك يجري الماء في العود

وله فيه:

قلت إذ حرك عودا

عارفا بالنغمات

أنت مفتاح سروري

يا سعيد الحركات

وقال فيه مضمنا:

يا صاح قد نطق الهزار مؤذنا

أيليق بالأوتار طول سكاتها

أمحرك الأوتار إن نفوسنا

سكناتها وقف على حركاتها

وقال ابن نباتة فيه مضمنا:

تكاد تنبت عيدانا يوافقها

شاد يوافقه في نطقه الوتر

درى الأصول وأداها بنغمته

إن الأصول عليها تنبت الشجر

وله فيه مضمنا:

غنى على العود شاد سهم ناظره

أمسى به قلبي المضني على خطر

دنا إلي وجست كفه وترا

فراحت الروح بين السهم والوتر

وقال أبو عبد الله:

تناسب فيمن تعشقته

ثلاثة تعجب كل البشر

من مقلة سهم، ومن حاجب

قوس، ومن فمه صوت وتر

وقال بدر الدماميني:

يا عذولي في مغن مطرب

حرك الأوتار لما سفرا

ثم هز العطف منه طربا

عند ما تسمع منه وترا

وقال القيراطي يهجو عوادا:

عوادكم منطقه خارج

وضربه ضرب من الجبن

وعوده في الكف من قبحه

ما زال مثل العود في العين

وللقيراطي فيه أيضا:

لا عاد عواد غدا بيننا

فالأنس والراحة في بينه

في يده عود أعيذ الورى

منه فليت العود في عينه

وقال المصيصي الخياط فيه:

وإذا تربع لا تربع بعدها

وغدا يحرك عوده متقاعسا

فكأن جرذان المدينة كلها

في عوده يقرضن خبزا يابسا

وفي «عيون الأنباء» (ج1، أول ص110): «كان الحارث بن كلدة يضرب بالعود.» (3) تفصيل الدور وصنعته

في اللغة صوت فيه دور كثير، أي: صنعته كثيرة.

وفي «الأغاني» (ج1، ص6): تفصيل الدور وصنعته، قال المؤلف: أخبرني الحسن بن علي الأدمي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد الوراق، قال: حدثني أبو ثوابة صالح بن محمد، قال: حدثني محمد بن جرير المغني، قال: حدثني إبراهيم بن المهدي أن الرشيد أمر المغنين أن يختاروا له أحسن صوت غني فيه، فاختاروا له لحن «ابن محرز» في شعر نصيب:

أهاج هواك المنزل المتقادم

نعم، وبه ممن شجاك معالم

ثم قال: وفيه دور كثير، أي: صنعة كثيرة. والذي ذكره أبو أحمد يحيى بن علي أصح عندي، ويدل على ذلك تباين ما بين الأصوات التي ذكرها، والأصوات الأخرى في جودة الصنعة، وإتقانها وإحكام مباديها ومقاطعها، وما فيها من العمل، وأن الأخرى ليست مثلها، ولا قريبة منها.

وأخرى: أن جحظة حكى عمن روى عنه أصواتا لإبراهيم الموصلي، وهو أحد من كان اختار هذه الأصوات للرشيد، وكان معه في اختيارها إسماعيل بن جامع وفليح، وليس أحد منهما دونه إن لم يفقه، فكيف يمكن أن يقال: إنهما ساعدا إبراهيم على اختيار لحن من صنعته في ثلاثة أصوات اختيرت من سائر الأغاني وفضلت عليها؟ ألم يكونا - لو فعلا ذلك - قد حكما لإبراهيم بالحذق والتقدم والرياسة عليهما، وليس هو كذلك عندهما؟

وفي «الأغاني» (ج8، ص174): دعوه ثم غنوا دورا آخر، أي: مرة ثانية. (4) الدرادك والدفوف

الدرادك: الدفوف الكبيرة، جاء في «المنهل الصافي» (ج1، ص644): «ودار جوار في شوارع القاهرة بالدرادك، وأبكين الناس.»

ويظهر أن الدرادك: دفوف النواحة، ولعل الفرق بين دفوف الأفراح ودفوف النواحة أن الأولى صغيرة، والثانية كبيرة، ويرادفها: الدف المسمى بالبندير ونحوه.

الدف: من آلات الطرب وهو معروف عند العامة بالطار.

وقال سيف الدين المشد في (دف):

وطارية قرعت طارها

وغنت عليه بصوت عجيب

فعاينت شمس الضحى أقبلت

وبدر تقدمها عن قريب (5) مقطوعات في «القانون» وضاربه

وقال الصفدي فيمن يضرب بالقانون:

لي مطرب كملت جميع صفاته

متأدب الحركات والتسكين

فإذا دعاه لمجلس ندماؤه

يأتي ويجلس فيه بالقانون

وقال القاضي فتح الدين بن الشهيد: تورية في (قانون) الغناء:

غنى على القانون حتى غدا

من طرب يهتز عطف الجليس

فحنت الأرواح من شدوه

إلى أنيس يا له من أنيس

داوى قلوبا من غليل الأسى

وكان فيها من هواه رسيس

فصاحت الجلاس عجبا به

يا صاحب القانون أنت (الرئيس)

وفي آخر (ص99): وقال آخر فيه أيضا:

أهوى رشا أسمعنا القانونا

من حاجبه الأزج ألقى نونا

أقسمت بمن في اليم ألقى نونا

أعيا مرضي بقراط والقانونا (6) الكمنجا والرباب

في «صبح الأعشى» أواخر (ص380): «الكمنجا: آلة موسيقية وإنها نوع من الرباب.»

وفي «حلبة الكميت» (ص174): مقطوعات في «كمنجة»، وقال الشيخ شهاب الدين بن حجر في جارية تضرب بالكمنجا:

ما بالها هجرت وكم قد مر لي

منها الرضا في سالف الأعصار

وقضيت منها إذ شدت بكمنجة

ما بين سالف نغمة، أو (طارى)

وقال الشيخ شمس الدين النواجي مؤلف كتاب «حلبة الكميت»:

انهض خليلي وبادر

إلى سماع كمنجا

فليس من صد منا

وراح عنا كمن جا

وفي «نشوار المحاضرة» (ص192): قصة يفهم منها أنه لا يقال: يضرب بالرباب، بل يقال: يجر، وها هي:

سمعت القاضي أبا القاسم جعفر بن عبد الواحد الهاشمي يقول: كنت بحضرة القاضي أبى عمر بعد قبوله شهادتي بمدة، على خلوة وأنس، فجرى حديث الملاهي، فقلت:

فلان يضرب بالرباب، فصاح علي وقال: ها هو ذا تهزأ بنا، هو ذا تنمس علينا، ما هذا الكلام؟

فقلت: ما هو أيد الله القاضي، فوالله ما أدري أني قلت شيئا يتعلق بما قاله القاضي! فقال: قولك (يضرب)، كأنك لا تعلم أن الرباب يجر حتى يجيء صوته ولا يضرب به، فحلفت له بأيمان مغلظة أني ما علمت هذا ولا رأيت الرباب قط، فقال: إن هذا آفة، سبيل الصالح أن يعلم طرق الفساد فيجتنبها على بصيرة لا جهل.

فعدت إلى داري فقلت لسائس كان معي: ويلك اطلب لي ربابا، فطلبه وجاء به فجره بين يدي، فرأيته، وكان ما قاله أبو عمر صحيحا.

جندرة الصوت: أي تحسينه على ما يظهر، وفي «الأغاني» (ج5 ص63): جندرة مرتين، وبعده: حسنتها بجندرتك.

وفي «الدرر المنتخبات المنثورة» (ص140): جندرة وعربيتها: ملزمة، وعند العامة يقال للفظ تتمة إلخ. (7) الجغانة وجس الوتر

الجغانة: آلة طرب، ذكرت في بيت (يغني بجفانة).

وفي «ذخائر القصر» لابن طولون (ص22): قصة في «الجغانة» وأنها من آلات الطرب، فقد سئل المؤلف مرة عن جامع التوبة من أنشأه؟ فقال: أصله كان خانا يعرف بابن الزنجاري، جمع فيه جميع أنواع الفنون، فهدمه الملك الأشرف موسى بن العادل، وعمره جامعا، سماه الناس: جامع التوبة، كأنه تاب إلى الله مما كان فيه.

وجرت في خطابته نكتة وهي أن أول من وليها «الجمال البستي» وكان في صباه يلعب «بالجغانة»، ولما كبر عاشر العلماء حتى صار معدودا في الأخيار.

وفي «الدرر المنتخبات المنثورة» (ص139): «جغنة، وأن العرب قالت فيها: صغانة».

وفي «العزيز المحلى» (رقم 682، أدب ص231): «القصة وفيها: ويغني بجغانة» وانظر الجغانة في الفارسية، والصغانة في العربية.

الجس: نقر الأوتار بالسبابة والإبهام دون المضراب. (8) الجنك وما قيل في صفته

في «ديوان الصبابة» (رقم 147، أدب ص194) مقطوعان قد يفهم منهما صفة الجنك ومنطقته ويقال لها: جنكية.

قال النور الأسعردي في (جنكية):

لبنت شعبان جنك حين تنطقه

يغدو بأصناف ألحان الورى هازى

لاغرو أن صاد ألباب الرجال لها

أما تراه يحاكي مخلب البازي؟

وقال الصلاح الأربلي، وأحسن ما شاء:

الجنك مركب عقل في تشكله

والرق قلع له الأوتار أطناب

يجري بريح اشتياق في بحار هوى

يؤم ساحل وصل فيه أحباب (9) الجادم بوق هندي

في «سلسلة التواريخ» (ص34): ويقال إن لملك الصين من أمهات المداين أكثر من مائتي مدينة، ولكل مدينة ملك وخصي، وتحت كل مدينة مداين، فمن مداينهم «خانفوا» وهي مرسى السفن تحتها عشرون مدينة، وإنما تسمى مدينة إذا كان لها الجادم، والجادم مثل البوق ينفخ فيه، وهو طويل، وغلظه ما يجمع الكفين جميعا ، وهو مطلي بدواء الصينيات، وطوله ثلاثة أو أربعة أذرع، ورأسه دقيق بقدر ما يلتقمه الرجل، ويذهب صوته مدى ميل، ولكل مدينة أربعة أبواب، فعلى كل باب منها من الجادم خمسة تنفخ في أوقات من الليل والنهار، وعلى كل مدينة عشرة طبول تضرب معه، وإنما يفعل ذلك لتعلم طاعتهم للملك، وبه يعرفون أوقات الليل والنهار، ولهم علامات ووزن للساعات. اه.

جراد: في «شفاء الغليل» (ص75): «جراد بمعنى مغن، وهو مأخوذ من الجرادتين إلخ.» (10) الشبابة وهي: الأرغول

الشبابة بالتشديد - عند العامة هي: الأرغول - أي: مزمار من القصب في الريف، ويرادفها الأرغول، ولعله الأرغن.

وفي «المشرق» (ج18، ص1010). «الأرغن واسمه باليونانية وتعريبه الأرغول، ويرادفه: الشبابة.»

وفي «جلوة المذاكرة» للصفدي (ص43): مقطوع في (شبابة)، وبعده مقطوعان آخران.

وفي «نهاية الأرب» (ج5، ص125): قال سيف الدين المشد يصف شبابة:

وعارية من كل عيب حبيبة

إلى كل قلب بات بالبين مجروحا

لها جسد ميت يعيش بنفخة

متى داخلته الريح صارت به روحا

تعيد الذي يلقى عليها بلذة

تزيد فؤاد الصب وجدا وتبريحا

وينطقه السحر الحلال عن الهوى

وتوحي إلى الأسماع أطيب ما يوحى

وفي «مراتع الغزلان» (ص120): قال ابن قرناص مضمنا في مليح مشبب:

مشبب بجفاه راح يقتلنا

فإن تداركنا بالنفخ أحيانا

هويت تشبيبه من قبل رؤيته «والأذن تعشق قبل العين أحيانا»

وله أيضا فيه:

علقته مشببا مهفهفا

أخضع في حبي له فيشمخ

لا غرو إن نشبت من تشبيبه

نار الهوى، أما تراه ينفخ؟

وله في مليح مشبب:

هويته مشببا

جماله برح بي

تيم قلبي بالحجاز

من عيون القصب

وله في مليحين؛ مغن ومشبب:

مغنيا ... نافسه

مشببا حين جلس

فذاك لان قوله

وذا تكلم بنفس

وفي «حلبة الكميت» ص168: زخمة الشبابة من آلات الطرب أيضا.

وقال المعمار في «مشبب»:

ومشبب أبدى لنا

قولا بزخمته القويه

متغاشم فكأنه

متكلم بالفارسيه

وفي «المنهل الصافي» (ج5، ص299): قال محمد بن يعقوب بن علي بن محمد بن تميم، يصف رقص الأشجار وغناء الأطيار:

وروضة رقصت أغصانها، وشدت

أطيارها، وتولت سقيها السحب

وظل شحرورها الغريد تحسبه

أسيودا زامرا، مزماره ذهب (11) الشبور بوق اليهود

شبور - كتنور - وفي «شفاء الغليل» (ص130) اسمه أيضا: القبع، والقثع، والقنع، والصور.

وفي «الروض الأنف» (ج2، ص19): «شبور اليهود، ونادرة الأصمعي وأن القنع أصح من القبع.» وفي «الآثار الباقية» (ص275): «نفخ اليهود في البوق والسوافر في أول يوم من تشرين.»

وفي «الحيوان» للجاحظ (ج4، ص9): «معنى الشبور وهو: بوق اليهود وما كانوا يفعلونه به - والكلمة بالفارسية مأخوذة من العبرية.»

ولعل أول من انتبه إلى أصل هذه الكلمة هو ابن الأثير في مادة «شبر» ونقل عنه صاحب اللسان، وهي في العبرية: شوفار ومعناه عندهم: البوق الذي يستعمل في الأعياد الكبرى كرأس السنة، والعيد الأكبر عيد الصيام.

فإذا أراد رأس الجالوت أن يحترم كلام رجل منهم نفخوا عليه بالشبور، والمراد برأس الجالوت: رئيس الجالوت، وجاء في «مفاتيح العلوم» للخوارزمي المتوفى سنة 387: الجالوت هم الجالية؛ أعني الذين جلوا عن أوطانهم ببيت المقدس، ويكون رأس الجالوت من ولد داود عليه السلام، وتزعم عامتهم أنه لا يرأس حتى يكون طويل الباع تبلغ أنامل يديه ركبتيه إذا مدهما، قلت: وهو بالعبرية: روش جالويوت. (12) الشياع: مزمار الراعي

الصفارة:

هنة جوفاء من نحاس، يصفر فيها الغلام للحمام، وللحمار ليشرب. والصفارة: قصبة من الغاب ينفخ فيها فتصفر، انظر الجبرتي (ج4، ص73): «وسفافيرهم ... إلخ.»

الصلبوب:

المزمار - عند العرب قديما - منذ أقدم العصور، ولعله مأخوذ من العبرانيين اليهود الذين خالطوا العرب في العصور الجاهلية الأولى.

الصنج:

قطعتان من «نحاس» يضرب بإحداهما على الأخرى، وآلة بأوتار يضرب بها. معرب.

الصور بالضم:

القرن ينفخ فيه، وفي مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (ج3 ص50): (الصور - للآلة التي ينفخ بها - معرب إلخ). (13) آلات الطرب السبع

في «ابن إياس» (ج3، ص220) قال المؤلف ما نصه: وفي يوم الاثنين ثامن عشر توفيت زوجة المقر الشهابي أحمد بن الجيعان، وكانت جركسية الجنس تدعى «شهددار»، وكانت بديعة في الحسن والجمال، والغنج والدلال، من أجمل النساء حسنا، ذات طرف كحيل، وخد أسبل، وخصر نحيل، وردف ثقيل، فافتتن بها المقر الشهابي أحمد بن الجيعان حتى شغلته عن تدبير أحوال المملكة، وكادت تودي بحياته إلى التهلكة، لولا أن تداركته رعايتها لشئونه، وعنايتها بحفظ سر مكنونه، فبددت عن نفسه ما لحق بها من أوهام شكوك الرعية في مجونه، ومما اعترض أحاسيس شجونه، وفوق هذا أنها كانت تحسن الضرب بالسبع آلات المطربة وهي: (1) الجنك، و(2) العود، و(3) الصنطير، و(4) القانون، و(5) الدريج، و(6) الكمنجا، و(7) الصيني.

علم الموسيقى

في «الدرر المنتخبات المنثورة» (ص437-454): «علم الموسيقى وفيه رسوم النغم وذكر أسمائها.» وفي «المنهل الصافي» (ج5، ص650): «علم الموسيقى، وكون العالم تعيبه، ومدح هذا العلم.»

قلت: وعلماء عصرنا يستعيبون هذا الفن؛ لعدم معرفتهم به وظنهم أن هذا الفن هو ما يقوله العامة من الغناء والطرب، وليس هو كذلك، وإنما هو علم مستقل بذاته مشتق من العروض، وفيه أراجيز ومصنفات نظم ونثر، وهو فن صعب إلى الغاية لا يصل إليه إلا من له قوة في عصبه مع معقول جيد وذكاء وحسن صوت، ومن الأراجيز في هذا العلم قول بعضهم:

أصل علم الضروب على أربع انقسم وانحسب

فاصلة ومنفصلة والوتد والسبب

وأما علم النغمة فهو: بحر لا قرار له.

وقيل إن «ابن كر» كان لا يمر به صوت مما ذكره أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب «الأغاني» إلا ويجيء به ويجيده، وكان فيه شمم وعفاف لم يتخذ صناعة الموسيقى استرزاقا، بل فكاهة يروح بها نفسه. قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري، وله به صحبة أعرف حقها له: كان يتردد إلي يتودد ويتفقد، ولقد رأيته غنى فأضحك، وغنى فأبكى، وغنى فأنام، ورأيت بعيني منه ما سمعته أذني عن «الفارابي» فصدق الخبر الخبر، وحقق العين الأثر، ورأيت منه واحدا سبحان من وهبه ما لا هو في قدرة البشر. انتهى كلام ابن فضل الله.

قال الشيخ تقي المقريزي: وأخبرني خال أمي القاضي تاج الدين إسماعيل بن أحمد بن عبد الوهاب المخزومي الشهير بأبي الخطباء قال: أخبرني الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفي عن (ابن كر) هذا، أنه مر ببغلته على طائفة يغنون فحركها حتى مشت على الدف والإيقاع، وهذا شيء لم يبلغه أحد غيره.

وفي «أزاهير الرياض المريعة» في اللغة للبيهقي (ص159): «الموسيقى: تأليف الألحان، والموسيقار: المطرب، واللفظ يوناني.»

رسالة في علم الموسيقى

وفي «المقامات الجلالية الصفدية» (ص215-221): الموسيقى والكلام في أصلها، ومن بين هذه الصفحات - أوائل ص218 - معنى الموسيقار، وتعدد أسماء الأنغام، ثم قال: فحفظت عنه ضمائر الرسالة وكتبت منه جواهر المقالة، هذا وفي ضميري أن أسأله عن علم الموسيقى، وأصل ترتيبه في السر والإجهار، منشؤه، ومن أنشأه؟ ومن أين مبتداه؟ وإلى أين منتهاه؟ والخجل يمنعني أن أتفوه معه بذلك، والرجل يسلك لي في معناه أضيق المسالك، فظهرت له بارقة في أسارير وجه رجائي، وفهم عني ما أقصده من إيضاح سر معنائي، فقال: يا تامر، ألك مسألة أخرى، لأوضح لك بيان ما تكسبه في الدنيا والأخرى؟ فقلت: بمن فتق صحيح ذهنك بالحكم، ورتق فصيح عقلك بالنغم، إلا ما عرفتني بالأنغام، وأصلها بالإجهار والإدغام، وما هذا النفس الجاري في آلة الطرب للجوارح، والقبس الساري بنور الأرب بين الجوانح، وكيفية ما تتلذذ به الأسماع، ومعنوية ما تتنبذ به الطباع، وحنين النفوس لديه، وأنين إذهاب البؤس بالميل إليه، فقال:

يا سايلي عن حكمة العلام

في ساير الأحكام بالإحكام

وكيف قد أهدى إلى الأنغام

بفضله جوارح الأنام

والسر فيها كيف قد كان تدبرا

وصار عرفا واضحا بين الورى

اعلم بأن قد كانت الأرواح

في الذر لا تحصرها الأشباح

من يوم أن قال لها رب الملا

ألست أني ربكم؟ قالوا: بلى

كانت بفضل خالق الأملاك

تأنيسها بنغمة الأفلاك

وهي بما دارت لها ألحان

دبرها بعلمه الرحمن

لو سمعوها اليوم أهل الأرض

تمددوا بالطول ثم العرض

وكان ماتوا كلهم جميعا

بقدرة الله فكن سميعا

فعندما انتقلت إلى الجسد

في آدم بحكمة الفرد الصمد

انحصرت في باطن الكوارة

بعد اتساع الفلك الدوارة

فأطلق الله لها الأسماعا

فشاهدت من نوره شعاعا

واستأنست بنغمة الأفلاك

وسكنت ضيقة الشباك

هذا ولما خلق الجنين

في ظلمة الأحشاء يا ظنين

أطلق منه السمع حتى سكنا

ما بين ماء ودم قد سكنا

فصار يستأنس بالأنغام

في ضيقة الموطن والمقام

حتى إذا هو انتهى قام خرج

إلى الوجود ما عليه من حرج

لكنه باك على النغمات

إذ قطعت عنه ولم توات

فحننت وذكرته الدايه

بنغمة الأفلاك في البداية

فعندما أضحى الصغير ساكتا

وآنة فيما اعتراه باهتا

وإن هذا وضعوه الحكما

منوعا مركزا مستفهما

فصار بين الناس أمرا شايعا

وحاكيا فناطقا وسامعا

فكل من يعمل في الأثقال

مثل الفتى القصار والعتال

وساير الصنايع القوية

قد استعانوا بالغنا سوية

حتى الجمال في الحمول الوافرة

تحدو لها حداتها المسافرة

فعندما تسمعها تسير

بقوة أوهبها الخبير

وهكذا إذا اعترى المرء عرض

في ساير الأعضاء من نوع المرض

يهذبوا أخلاقه بالطرب

ويبسطوا آماله بالأدب

فإن رأيت راقصا في الطابق

وهو شبيه المستهام الآبق

وساير الحداة ذاك النغما

بحسن وضع أتقنوه الحكما

فدعه لا تعدو عليه ناكرا

فإنه لله ربي ذاكرا

وقصده يخرج من هذا الخلل

شرقا إلى ما كان فيه في الأزل

فاسمع بني هذه الأرجوزة

فإنها مكرومة معزوزة

قال تامر بن زمام: فقلت: يا من تعلق في العلوم، وتنمق في المنثور والمنظوم، اشرح لي معنى أصولها، وأوضح لي مدغم فصولها، وكيفية ترتيب البردات، ومعنوية تهذيب الأوازات، وفروع تركيب البحور والشواذات، وتنكيت أركانها المرصعة، على توقيت العناصر الأربعة، وقانونها بالاختلاط، للأربعة أخلاط، ومطابقتها للبروج الاثني عشر بالتخفيف، وإن كان ضعيف، وما هذا اللفظ المدغم، والحرف المعجم، الذي لم يكتمل منه كلمة لتعلم، فقال:

أما حديث الحرف بالإدغام

وأنه حرف من الكلام

فعندما الأرواح كانت في الأزل

كالذر في غيب قديم لم يزل

تأنيسها بنغمة الأفلاك

كما ذكرت أولا يا حاكي

فحين حلت في الجذيذ الفاني

انحصرت فيه بلا تواني

وأوجدت في ذا الوجود الزايل

نادمها في سرها مسايل

فقال: ما كان وكيف كنت؟

وما الذي من سره فهمت؟

قال الراوي: فتحققت معنى فضيلته، وتيقنت مجنى وسيلته، وقلت: عرفني بالفرق بين الموسيقة ، والموسيقي، والموسيقار من تنوع في فنون، فقال:

افهم كلامي يا سايلي وتدبره، الفرق بين الثلاثة ظاهر كضوء صباح.

الموسيقة هي الآلة من كل فن في الطرب، والموسيقي هو اللاعب بها بلا استقباح.

والموسيقار: حاوي العلوم المطرب، فافهم معاني كلامي ففيها الفلاح.

وخذ مجاني كلامي، أما الأصول فأربعة، لها فروع تليها كمثلها يا صاح.

وأربعة تتبعها، وهي فروع فروعها بعدها اثنا عشر برده ... غير مزاح.

الرست أولها ثم العراق لجانبه، والزيل فكند الثالث وطبعها الإصلاح.

والأصفهاني الرابع وهي الأصول الأربعة، ثم الفروع تليها كأنها مصباح.

الزنكلا أولها ثم البزرك قرابته رهوى حسينى عالي تطرب بها الأرواح.

ماياه حلو المجتنى مع بوسليك، مراسله نوى وعشاق صارت فروع فروع ملاح.

وثم وجه آخر من الأصول الأربعة، ظهر نتاج فايق يزيدنا إيضاح.

الزنكلا والعشاق من بردات الرست فرعا، فاسمع أخي واستعلم جواهر المرتاح.

واعلم بأن الماه وبوسليك تولدا، من العراق ... بالجد ... لا ... بمزاح.

وجاء بزوك ورهوى من زيلنكند بلا عنا، ثم النوى وحسيني من أصفهاني صلاح.

ثم الأوازات فافهم من أين معنى ظهورها، فيا لها من ستة تكمل بها الأفراح.

فكل اتنين بردا منها تولد لي نغم، واقف برسم الخدمة يناول الأقداح.

فالرست لما استجمع مع العراق بنت خالته، فمنهما قد تولد شنهازين نجاح.

من زنكلا يا حبيبي ومن برزك بلا عنا، عزيز الجماعة محرك الأشباح.

والزرلكشي من رهوى ومن حسيني قد طلع، داخل وما عليه جناح.

وهكذا ماياه وبوسليك بلا تعب، حجاز مصري عراقي طرب بغير نواح.

ومن نوى والمغنى عشاق زين الدسكره، كوشت حلو المجنى بادى الشذا مرواح. أما الشواذات أضحت فروع فروع فروعها، دوكاه شاكاه جركاه جميعهن صحاح. وبنجكاه الخامس مع الرمل ابن عمته، عزال أضحى ملازم للعكبري ملاح. فالسسكري يا معلم مع النهفت المختبرة، ثم المحير زوالى كردانيا بنجاح. فهذه الاثنا عشر منها البحور الواضحة ، فقس عليها تربح وسرهن مباح.

قلنا البحور تسعة من الشواذات التي

ركزت بالحكمة وقالوا لا صياح.

للرست منها خمسة بحور ما فيها خلل

وهي الأوايل منها للمطرب النواح.

وسبع نغمات تسع للرست عبر بحوره

لكنها صوت لابث يحنن الأرواح.

فأول البحر دوكاه يهبط على الرست بعدها

يطلب علو الحسيني يطرب به المرتاح.

وتاني البحور سيكاه تشيل منه بلا عنا، وللعراق تعالى ساكن بغير صياح.

وثالث البحر جركاه يشيل منه وينهبط دايم

على الرست يشبه للأصفهان صلاح.

وأنه متحرك وثم فرق بينهم

لأنه بالرست يعلو كما بدا المداح.

رابع البحور ظاهر هو البنجكاه بلا تعب

يشيل بخامس نغمه ولا يفض سراح.

وفي ذرا الرست يهبط وبعد يتحاشا عجب

وصار في الحال يشبه نوروز ابن سماح.

وخامس الوشتكاه يشبه حسيني مقتصد

وهو قليل المسلك وما عليه جناح.

وافهم معاني شرحي أن الأصول الأربعة، قد مازجت للعناصر كأسطر الألواح.

والرست مازج بطبعه بقدرة الفرد الصمد، وحكمة موضوعه قد قوبلت بفلاح.

نفس التراب كما غدا العراق ممازجا للماء، فافهم هذا والماء عذب قراح.

والزيل فكند تعالى إلى الهوى يستصحبه، والأصفهان تمادى للنار باستفتاح.

وهكذا يا مهذب قد طابقت بمزاجها، الأربع الأخلاط دانت لها بغير براح.

فالرست للسوداء إن كنت صاحب معرفة، افهم وقس واستفهم وخذ سلاف الراح.

وللعراق البلغم، والزيل فكند تدبره

للدم أضحى مطابقا بحكمة الفتاح.

وبعد ذلك للصفراء ومرها يا ذا النهى

الأصفهان فعالج ولا تقص جناح.

وثم قوم تمنعوا وطابقوا بعقولهم

لكل بردا منها برج بلا مفتاح.

فللحمل أولها الرست والكل هكذا

لآخر الاثني عشر، بعقد لا بسفاح.

والله يعفو عنا دائما وعنكم برحمته

وأسأل الله توبة بالخمسة الأشباح.

واترحموا يا جماعة على الذي قد صاغها، وحكها بمحكه ... وزادها إيضاح.

وكل واقف عليها ينظر إليها بحكمته، وإن تأمل يعمل لها إصلاح.

والحمد لله وحده، ثم الصلاة على النبي وآله والصحابة من فالق الإصباح.

قال الراوي: قلت: فاشرح لي ما ورد فيها، ومن اتخذها وأباح منها ما أباحه وما لا يباح. فقال : اسمع فصلا في المعنى، الأنغام هي الألحان، وقد وضعت ثلاثون لحنا؛ من البردات اثنا عشر، والإقرارات ستة، والشواذات اثنا عشر، وبعد الثلاثين مما عمل من التلحين فهو مسروق.

ومما ذكر عن «وهب بن منبه» عن الألحان أن نبي الله داود عليه السلام كان يقرأ «الزبور» - وهو أحد الكتب الأربعة - بسبعين لحنا، كل لحن لا يشبه الآخر، وكان يحنن الطيور إليه، وتصطف على رأسه، وتتساقط في مجلسه، وتستأنس الوحوش إليه، وتحف به الأنعام والهوام والجن والأنس، وتسبح معه الجبال، فلا ينفصل مجلسه إلا وقد مات من الناس خلق كثير، حتى إن الرجل كان إذا خرج إلى مجلس داود يوصي أخاه أو جاره: «إنني متوجه إلى مجلس داود، فإن أنا مت فوصيتي إلى أهلي كذا وكذا.»

وكان أيضا إذا قرأ «الزبور» يقف الماء الجاري، ويركد الهواء، ويعرق المحموم، ويفيق المغمى عليه، وكل هذا من حنين الأرواح إلى ما كانت تأنس في الأزل من نغمات دوران الأفلاك، فافهم ذلك.

ويروى أيضا أن إبليس - لعنه الله - لما رأى الناس في العبادة في زمن داود عليه السلام، صنع جنسا من الملاهي كالمزامير المختلفة الأصوات والأرغن والعيدان والمزاهر والجنوك، وغيرها من أصناف القوانين واللعب، وهي اليوم بأيدي الناس، ثم أمر أجناده من الشياطين أن تضرب بها بين السفهاء - من لا دين لهم - ليستميلهم عن العبادة ويشغلهم بالملاهي في زمن داود عليه السلام، حتى لا يمضوا إلى مجلسه حسدا من إبليس - لعنه الله - فكل من يصغي إليها على نوع من المنكر فهو مخطئ، وكل من سمعها اشتياقا إلى ما كان عليه في الأزل على الوجه المشروع من باب الفقر والتصوف والعبادة والتوحيد فهو مصيب، والله أعلم.

قال تامر بن زمام: فكسبت منه هذه الفائدة، وكتبت عنه الفضيلة الزائدة، وفارقته شاكرا، وللوذعيته ذاكرا، وودعته وداع الأحباب، وفارقته فراق الأصحاب.

المخطوطات الموسيقية العربية

كتب المستر هنري جورج فارمر مقالة موضوعها «المخطوطات الموسيقية العربية في مكتبة جامعة أكسفورد» جاء فيها أن أهم هذه المخطوطات ما يأتي:

الأول:

رسالة الأربعة من القسم الأول من الرياضيات والموسيقى من «رسائل إخوان الصفا» للعارف المجريطي، وهي أربعة عشر بابا: (1)

في أصل صناعة الموسيقى للحكماء. (2)

في إدراك القوة السامعة للصوت . (3)

في امتزاج الأصوات وتنافرها. (4)

في تأثر الأمزجة بالأصوات. (5)

في أصول الألحان وقوانينها. (6)

كيفية صناعة الآلات وإصلاحها. (7)

في أن حركات الأفلاك نغمات كنغمات العيدان. (8)

في أن إحكام صنعه من الصنائع. (9)

في تناسب الأعضاء في الأصول الموسيقية. (10)

في حقيقة نغمات الأفلاك. (11)

في ذكر المربعات. (12)

في الانتقال من طبقات الألحان. (13)

في نوادر الفلاسفة في الموسيقى. (14)

في تلون تأثيرات الأنغام.

الثاني:

الكتاب الرابع في الموسيقى من «رسائل إخوان الصفا» للعارف المجريطي وهو كالأول.

الثالث:

الفن الثامن من كتاب «الشفا» في الموسيقى، وفيه ست مقالات ولكل منها فصول: المقالة الأولى في الصوت، والثانية في الأبعاد، والثالثة في الأجناس والأنواع، والرابعة في المجموع، والخامسة في الإيقاع، والسادسة في التأليف، والنسخة مضبوطة الشكل وبها يصلح ما في غيرها من الخطأ.

الرابع:

الفن الثالث من الجملة الثالثة من كتاب «الشفا» في الموسيقى وهو مثل ما قبله.

الخامس:

كتاب «الموسيقى» للشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا من كتاب «النجاة» وهي الأصوات، والأبعاد، والأجناس، والمجموع، والإيقاع، والانتقال، والصنج، والشاهر ورد، والطنبور، والمزمار، ودساتين البربط، وتأليف الألحان.

السادس:

كتاب «الموسيقى» للشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا من جملة كتاب «النجاة» وهو كالمتقدم.

السابع:

كتاب «الرسالة الشرقية في النسب التأليفية» لصفي الدين عبد المؤمن البغدادي، وهي مقسومة إلى مقالات وفصول: (المقالة الأولى) في الكلام على الصوت ولواحقه، وفي شكوك واردة على ما قيل فيه، و(الثانية) في حصر نسب الأعداد أو الأبعاد بعضها إلى بعض، واستخراج الأبعاد ونسبها المستخرجة من نسب مقاديرها ومراتبها في التلاؤم والتنافر، وأسمائها الموضوعة لها، و(المقالة الثالثة) في إضافات الأبعاد بعضها إلى بعض وفصل بعضها عن بعض، واستخراج الأجناس من الأبعاد «الوسطى»، (والرابعة) في ترتيب الأجناس في طبقات الأبعاد «العظمى» وذكر نسبتها وأعدادها، و(الخامسة) في الإيقاع وسبب أدواره والإرشاد إلى كيفية استخراج الألحان بالصناعة العملية، والكتاب مضبوط بالشكل.

الثامن:

كتاب «الرسالة الشرفية في معرفة النسب التأليفية»، وهو مثل ما قبله.

التاسع:

كتاب «الأدرار في الموسيقى» لصفي الدين عبد المؤمن، وهو مقسوم إلى خمسة عشر فصلا: (الأول ) في تعريف الأنغام، وبيان الحدة والنقل، و(الثاني) في أقسام الدساتين، و(الثالث) في تسبب الأبعاد، و(الرابع) في الأسباب الموجبة للتنافر، و(الخامس) في التأليف الملائم، و(السادس) في الأدوار ونسبها، و(السابع) في حكم الوترين، و(الثامن) في العود وتسوية أوتاره واستخراج الأدوار منه، و(التاسع) في أسماء الأدوار الشهيرة، و(العاشر) في تشارك نغم الأدوار، و(الحادي عشر) في طبقات الأدوار، و(الثاني عشر) في الاصطلاحات غير المعهودة، و(الثالث عشر) في أدوار الإيقاع، و(الرابع عشر) في تأثير النغم، و(الخامس عشر) في مباشرة العمل.

وفي هذا الكتاب صورة عود وصورة آلة قائمة الزوايا تسمى «نزهة»، قيل في «كنز التحف»: إن مخترعها صفي الدين ... مؤلف هذا الكتاب.

كتاب «الأدوار» هذا، بقي من أشهر الكتب عند العرب والفرس والهنود قرونا كثيرة، وكل الكتب التي وضعت بعده تعتمد عليه.

العاشر:

كتاب في علم الموسيقى الموسوم بالأدوار، وهو مثل ما تقدمه ولكنه خال من صور الآلات الموسيقية.

الحادي عشر والثاني عشر:

مثل كتاب «الأدوار» المذكور آنفا.

الثالث عشر:

كتاب تستخرج منه الأنغام تأليف الشيخ شمس الدين الصيداوي الذهبي، أكثره شعر، وفيه كلام على بحور الشعر، والأوازات ودوائر البحور.

الرابع عشر:

جزء من الكتاب الذي قبله.

الخامس عشر:

كتاب «كنز الطرب وغاية الأرب» وهو مثل الكتاب الثالث عشر، ولكنه غير تام، وفيه فصل زائد في استخراج الفروع من الأصول.

السادس عشر:

كتاب في علم الموسيقى ومعرفة الأنغام، وهو رجز وشرح عليه لمحمد بن محمد بن أحمد الذهبي الجزيري ابن الصباح.

السابع عشر:

كتاب «الميزان في علم الأدوار والميزان» لم يذكر اسم مؤلفه، وهو مبني على كتاب «الأدوار» المذكور آنفا، ومقسوم إلى ستة أبواب في ماهية الموسيقى، وماهية النغم المطلق والأوتار والمواجب ومعرفة الشدود والأوازات وأسماء الدساتين والإيقاع. انتهى. (1) مصطلحات لآلات الطرب والأغاني

في «المقتبس» ج5 ص208: كل من طالع كتاب الأغاني وبعض كتب الأدب القديمة التي تذكر الغناء وأنواعه وآلات الطرب وملاهيه، يقع على ألفاظ علمية اصطلاحية إذا نقر عنها في دواوين اللغة ومعاجمها المطولة لا يرجع عنها إلا بما رجع به حنين، ولقد حاول المستشرقون - غير مرة - البحث عنها في الكتب الأدبية التي ألفت في الصدر الأول من عصر زهو اللغة فلم يعثروا على ضالتهم، كما لم يعثر عليها أدباء الشرق وعلماؤه، وقد وفق العاجز في هذه الآونة إلى وجود الضالة فيها في كتاب مخطوط كنت قد وصفته في «المقتبس» ج2 ص382: 386، وعنوان البحث في كتابنا المذكور هو «العود ومصطلحاته» ... وها نحن أولاء ننقل إلى أدباء قراء المقتبس الأغر ما جاء من البحث تعميما للفائدة ونقشا لشوكة الجهل الناشبة في أذهاننا من هذا القبيل، قال صاحب الكتاب: «العود ومصطلحاته» في الصفحة 221 من المخطوط وما يليها:

كثيرا ما كنت أطالع في كتاب الأغاني ألفاظا في مصطلح الغناء وما كنت أتوصل إلى فهمها، حتى ظفرت أخيرا برسالة لعبد القادر بن غيبي الحافظ المراغي المشهور بعلم الألحان، فأخذت عنه ما يتعلق بفتح مغلق الكلام الخاص بهذا العلم فأقول: اعلم أن الألفاظ الواردة في كتاب الأغاني تتعلق كلها بالعود العربي، فإذا علمت تركيب هذه الآلة هان عليك فهم ما أشكل عليك من مصطلحات، فهذه الآلة طولها مثل عرضها مرة ونصفا، وغورها كنصف عرضها، وعنقها كربع طولها في الراحة وثخن الورقة من خشب خفيف، ووجهها أصلب، وتمد عليه أربعة أوتار أغلظها البم بحيث يكون غلظه مثل المثلث الذي يليه مرة وثلثا، والمثلث إلى المثنى كذلك، وقد ضبطوها بطاقات الحرير فقالوا:

يجب أن يكون البم أربعا وستين طاقة، والمثلث ثماني وأربعين، والمثنى ستا وثلاثين، والزير سبعا وعشرين، ويجعل رءوسها من جهة العنق في ملاو، والأخرى كمشط تتساوى أطوالها، ثم يقسم الوتر أربعة أقسام طولا ويشد على ثلاثة أرباعه مما يلي العنق وهذا دستان الخنصر، ثم ينقسم الآخر تسعة ويشد على تسعة مما يلي العنق وهذا دستان السبابة، ثم يقسم ما تحت دستان السبابة إلى المشط أتساعا متساوية، ويشد على التسع مما يلي المشط، ويسمى دستان البنصر، فيقع فوق دستان الخنصر مما يلي السبابة، ثم يقسم الوتر من دستان الخنصر مما يلي المشط ثمانية أقسام، وأضف إليها جزءا مثل أحدها مما بقي من الوتر وشده فهو دستان الوسطى، ويكون وقوعه بين السبابة والبنصر، فهذه الاصطلاحات هي المصححة للنسب، فإذا جذب وتر منها إلى غاية معلومة سمي الزير، فيجذب المثنى على نسبة قلبه في الانحطاط، وهذا مع الحبس بالخنصر، والضرب حتى يقع التساوي.

فالزير كعنصر النار في الطبع والتأثير، والمثنى كالهواء، والمثلث كالماء، والبم كالتراب، فانطبق على الأخلاط والأمزجة إفرادا وتركيبا، ويقوى ما يكون على الأخلاط من سجايا وأمراض وأمكنة وأزمنة حتى قيل: إن لطف النار مثل لطف الهواء مرة وثلثا، وهكذا الهواء بالنسبة إلى الماء، والماء بالنسبة إلى التراب كما مر في الأوتار، وأما وضعهم هذه الأوتار حتى جعلوها ثمانية فلما مر بك من أنها أول مكعب مجذور لأن الأرض كذلك فشاكلوا بذلك مزاجها، وقد قيل: إن هذه النسبة مستمرة إلى الفلك، فإن قطر الأرض ثمانية، والهواء تسعة، والقمر اثنا عشر، وعطارد ثلاثة عشر، والزهرة ستة عشر، والشمس ثمانية عشر، والمريخ أحد وعشرون ونصف، والمشتري أربعة وعشرون، وزحل سبعة وعشرون وأربعة أسباع، والثوابت ثلاثون، ولأن التثمين داخل في أشياء كثيرة منها تضاعف المزاج والطبائع، وبالجملة قد اختلف ميل طوائف العالم إلى مراتب الأعداد، كما عشقت الصوفية: «الواحد» فطوت الأشياء فيه، والمجوس: «الاثنين»، والنصارى: «الثلاثة»، وأهل الطبائع: «الأربعة»، وأهل الأوثان: «الخمسة»، والهندسة: «الستة»، والحكماء الفلكيون: «السبعة»، من حيث يستحسن النسب حتى إذا برزت إلى الخارج زادت النفس بسطا، فإن الكتابة تحسن بمناسبة حروفها استقامة وتدويرا وغلظا ورقة واستدارة ولو بمجرد الانحناء، فقد قيل: إن الحروف كلها وإن اختلفت بحسب الاسم لا تخرج عن خط مستقيم ومقوس مركب منها، ثم قوانين الغناء لا تخرج عن ثمانية: «ثقيل أول» ورسمه: تن تن تن. تن تن تن.

وهو مركب من تسع نقرات هي: ثلاث متواليات، وواحدة كالسكون، فخمس مطوية الأول.

و«ثقيل ثان» وهذا رسمه: تن تن تن. تن تن تن.

وهو مركب من ست: ثلاث متواليات، فسكون، ثم ثلاث .

و«رمل» ويسمى «ثقيل الرمل» وهذا رسمه: تن تن تن. تن تن تن.

وهو مركب من سبع وهي: ثقيلة أولى، فمتواليتان، فسكون وهكذا إلى آخره.

و«خفيفة» وهذا رسمه: تن تن. تن تن. تن تن.

وهو مركب من نقرة كالسكون، ثم سكون قدر نقرة، ثم بين كل اثنتين سكون، فهذه أصول التركيب، وإنما تكرر بحسب استيفاء الأدوار. (فالمسلى) بالتشديد، نسبة إلى «المسلة من آلات الخياطة» وتسمى هذه وما بعدها «الأجناس المركبة» وهي كثيرة لكن تعود إلى أصول منها على التاسع ثمانية:

أحدهما:

وهو المسلى سمي بذلك لرقة مدخله وغلظ وسطه، ويدل على اجتماع الأخلاط في الصدر والشراسيف والقلب، وكمال الربو والدبيلات وامتلاء المعدة، ويعرف به تحرير الخلط من باقي البسائط، وهو سهل.

وثانيها:

المائل وهو عكسه هيئة ودلالة.

وثالثها:

الموجي، وهو المختلف الأجزاء تدريجا بحيث يكون الأعظم الخنصر، ويظهر اختلافه عرضا فيشبه الأمواج، ومنه اسمه، وهو يدل على فرط الرطوبة، والاستقاء الزقي واللحمي، وذات الرئة، وغلبة الأمراض البلغمية.

ورابعها:

النملي: سمي بذلك لدقته وضعف حركته، ويقع رابع الحارة فيدل على الموت في الخامس، وبعد الموضع من وجود الحمى، فيدل على الموت في الحادي عشر، ويكون عن الدودي أيضا فيرد عليه إذا انتعشت القوى بشرب ما يقوي القوى كدواء المسك والبادزهر، وأنكر قوم انقلابه، والصحيح ما قلناه وكل ما دل عليه الدودي دل عليه النملي لكنه أشد رداءة وضعفا في القوى.

والخامس:

الدودي وهو موجي ضعفت حركته بإسهال إن طال، وإلا بالمجفف من داخل كأخذ نحو الأفيون وما يكثف المزاج إلى فساد الرطوبات، وقد يقع في البحارين لنقص الرطوبات، ويكون ابتداؤه عن الموجي كما في النيضة.

وسادسها:

المنشاري، وهو ما اختلفت أجزاؤه تواترا وسرعة وصلابة وعكسها، وكان قرعه للأصابع متفاوت التساوي كأسنان المنشار، ويدل على فرط اليبس، ويختص بذات الجنب والدبيلات والأورام.

وسابعها:

المرتعش، ويدل على الرعشة ونحوها من أمراض العصب بحسب مواقع أجزائه كما مر.

وثامنها:

المتشيخ، ودلالته كالمنشاري مطلقا في غير ما اختص ذات الجنب به.

هذا، واعلم أن اللحن يسمى مطلقا إذا لم يكن مقيدا بلفظة تدل على وصفه كالثقيل والخفيف وخفيف الخفيف. ويذكر بعد اللحن موقع الأصبع الذي يبتدأ به ليهتدي إلى قراره فيقال مثلا: ثاني ثقيل مطلق، أو ثاني ثقيل بالوسطى، أو بالخنصر في مجرى البنصر، أو خفيف رمل بالبنصر، أو خفيف ثقيل أول بالبنصر ... إلى غير ذلك، وهو المعروف عن أصحاب هذا الفن بمواقع الأصابع من الدساتين، والله الموفق.

الموسيقى أشرف العلوم وألطف الفنون

الحمد لله الذي شرف الإنسان بنطق اللسان، وفضله في اختلاف الألفاظ والألحان، وصرفه بتفضيل البيان والتبيان، وجعل طبعه لقيام الأوزان كالميزان، أحمده حمدا متلائم الأجزاء، وأصلي وأسلم على نبيه محمد

صلى الله عليه وسلم

الذي شرف بوطء قدمه ظهر البراق، وافتخر به الحجاز على العراق، وعلى آله وأصحابه الضاربين عند الإيقاع بالكفار، والآخذين من ذوي الشرك بموجب الأوتار، وصلى الله عليه وعليهم ما ضجت بصحيح مثلث ومثنى، وما اضجعت الحجيج مثلث ومثنى.

1

أما بعد، فلما كان علم الموسيقى من أشرف العلوم الرياضية، وألطف الفنون الواجبية، وهو حديث النفس وجلاء القلب ومجلي الكرب، ومحرك الهوى، ومسكن ومنشئ الأفراح، ومنفى الأتراح؛ لعظم موقعه الصحيح الطبيعي، وأخذه بمجامع القلب، وكنت تطلعت إلى معرفة هذا العلم وأتقنته علما وعملا وتدقيقا وتحقيقا، ورأيت من تقدم قد أشار إلى هذا العلم بإشارات ورموز، وسلك به طريق السيميا والكيميا وطلب الكنوز، فأبهم وما أفهم، فانقطع لذلك كثير من ذوي الأذهان الجامدة، ولم يصلوا إلى قليل من الفائدة، فأردت أن أوضح لهم هذا الطريق، وأسلك بهم نهج البيان والتحقيق والتصديق، فأقول، وبالله التوفيق: إن فن الموسيقى يفتقر إلى نغمات وضروب، وجعلتها نهاية للطالب والمطلوب. (1) الباب الأول

في ماهيته وموضوعه واشتقاق اسمه وفضله وبرهانه، ولم يوضع، ومن أخذ به من المتقدمين، وآراء الحكماء فيه وآدابه، وفيه فصول: الأول في ماهية الموسيقى وموضوعه، قال الفلاسفة: الموسيقى حكمة عجزت النفوس عن إظهارها في الألفاظ فأظهرتها الأصوات البسيطة، فلما أدركتها عشقتها فاسمعوا من النفس حديثها. وقال أفلاطون: الموسيقى معشوق النفس، وهو منها، فلا ينبغي أن تمنع من معاشقة بعضها بعضا، وقال أيضا: الموسيقى مدرج أبناء الفلاسفة والفلسفية إلى عالم العقل لأن ظاهره لهو الحواس، وباطنه لهو الحق، وسألت عن تفسير هذا التدريج فقيل: إن الموسيقى تحدث في النفس الفاضلة بالفعل ما كان عندها بالقوة، وهي كالصقال للثوب والوشي.

الثاني في اشتقاق لفظ الموسيقى والغناء واللحن، ويضاف إلى الفصل الأول لفظة الموسيقى يونانية ومعناها «علم الألحان»، وسماها المتأخرون: الغناء لأن النفس تستغنى به عن غيره من الملاذ البدنية في حال سماعه، واللحن ما ركب من نغمات، ورتب ترتيبا عجيبا وموزونا مقرونا ببيت من الشعر أو ما يوافقه من الكلام المسجع والقراءة باصطلاح العارف.

فضل الموسيقى ومنافعه

قال فيثاغورس: إن فضل الغناء على الكلام كفضل النطق على الخرس، والدينار المنقوش على القطعة من الذهب، وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن والنغم الصحيح يسري ويجري في العروق؛ فيصفو له الدم وتنقى له النفس ويرتاح إليه القلب، وتهتز له الجوارح وتخف له الحركات، ولا يخفى أنه ما ينبغي لأم الطفل أن تنومه إثر البكاء حتى تغني له، وترقصه وتطربه ثم تنومه على الصوت الشجي؛ خوفا من انقباض الروح الروحاني وتولد سوء الأخلاق، وقد ورد في ذلك غرائب شتى نختصر في ذكرها، منها ما ذكره ابن عبد ربه في «العقد» عن ليلى الأخيلية أنها قالت للحجاج بن يوسف حين سألها عن ولدها وقد رأى ما أعجبه من حسنه وذكائه: والله ما حملته سهوا، ولا وضعته بينا، ولا أرضعته غيلا، ولا أغنيه حنقا، قولها: ما حملته سهوا؛ أي: في بقايا الحيض، وقولها: ما وضعته بينا؛ أي: منكسا، ولا أرضعته غيلا؛ أي: ترضعه لبنا فاسدا وهي حامل بغيره، وقولها: ولا أغنيه حنقا؛ أي: باكيا.

وقيل: إن منافع الصوت والأنغام الشجية أنها يتوصل بها إلى نعيم الدنيا والآخرة؛ لأن منها ما يبعث على الشجاعة ويحدث النشاط ويؤنس الوحيد، ويريح التعبان ويسلي الكئيب ويبسط الأخلاق، ويحض على اصطناع المعروف.

ومنها ما يشوق إلى نعيم الآخرة والصلة بالعالم العلوي، ويحض على الورع والعبادة والتجرد عن تبعات الدنيا وعلائقها وغير ذلك؛ فأما ما يبعث على الشجاعة، فإنا لا ندري طائفة إلا ولها عند حروبها شيء من آلات الأنغام يجرونها مجرى السلاح في الحركات، كالرباب عند العرب، والكمنجا للكرد، والبوقات للفرنج وغير ذلك، وأما ما يحدث من النشاط فيكفي من ذلك ما نشاهده من نشاط الإبل بالحداء مما لا يشك فيه أحد فما ظنك بالبشر.

وأما ما يؤنس الوحيد فإن كل من استوحش في بر أو جدار يترنم أو يغني فيأنس بصوته، وها هنا دلائل أخر يضيق الوقت عنها، وأما ما يريح التعبان فإن سائر أرباب الصنائع إذا تعب أحدهم غنى فاستراح إلى صوته، ومنهم من لا يسكت أبدا كالبناء والقصاب.

2

وأما ما يسلي الكئيب فإنا نرى العاشق إذا ذكر أحبابه استشط، وكادت الحسرات والزفرات تحرق قلبه فيغني أو يترنم؛ فيبرد ما يجده حتى إنه لو أدام ذلك مدة نهاره وليله لم يشبع.

وأما ما يبسط الأخلاق ويحض على اصطناع المعروف فذلك شائع جدا، ولو بسطت ذلك لاستوعب معظم الأوراق.

وأما ما يشوق إلى نعيم الآخرة فأحوال سماعات المشايخ والصوفية والنساك والعلماء، فمن ذلك قول أحمد بن أبي دؤاد: إني كنت لأسمع الغناء عند «المعتصم» من «مخارق» فيقع علي البكاء، وأمثل في نفسي الملكوت. وكان أبو يوسف القاضي يحضر مجلس الرشيد وفيه الغناء فيجعل مكان السرور بكاء يتذكر فيه نعيم الآخرة.

وقد روي في هذا النمط كثير مما أورده ابن الجوزي وغيره في مصنفاتهم وفي اليسير منه كفاية، ومن فضل السماع أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من أكل ومشرب وملبس ومنكح وصيد إلا وفيه مغبات على البدن وتعب للجوارح، ما خلا السماع فإنه لا تعب فيه للجوارح ولا مغبات للبدن. ولما توفي الإسكندر وجد أرسطاطاليس ما خشي على نفسه منه، فدعا بعض تلاميذه وأمره بإصلاح العود وملازمته في كل يوم يضرب به نوبة يذكر فيها مرثية الإسكندر تعزية لأرسطاطاليس؛ فزال ما كان يجده. ومن أحسن فضائلها أنها تحرك الهوى الساكن وتسكن الهوى المتحرك، ومن برهان فضل الموسيقى وتأثير فعله في الأنفس وقوف الطير صافات لنغم داود عليه السلام، مما لا يمكن جحوده مع النص والأثر، حدثني جماعة ثابتو العدالة مسموعو القول من أهل زماننا هذا، أنهم حضروا مع الشيخ الإمام العالم قدوة أهل هذه الصناعة أولا وآخرا «صفي الدين عبد المؤمن» مجلسا ببستان بغداد وهو يضرب بالعود، وأن هزارا أتى لحسن النغم حتى سقط على غصن مقابله، ثم طار ونزل إلى الأرض مقابل الجماعة وهو يرفرف بجناحيه ويصيح، ولم يزل يفعل ذلك ويقرب منه قليلا حتى صار بين الجماعة، ومعظم الجماعة باقون إلى يومنا هذا.

وحدثني آخرون من أعيان بغداد أنهم حضروا بستان الصاحب «مجد الدين ابن الأثير» بقرية أبي حريم من نواحي بغداد، في خدمة الشيخ العلامة فريد عصره «شمس الدين السهروردي» فضرب بالعود مقابل غصن ورد، وبين أيديهم ساقية فجاء بلبل وأصغى لصوت العود، ثم دنا منهم حتى قعد على الساقية التي بين أيديهم، ولم يزل كلما ضرب بالعود أصغى وحرك جناحيه، وكلما سكت صاح ... إلى أن مضى من النهار عشر ساعات وتفرقت الجماعة حتى فارق موضعهم.

وأخبرني جماعة آخرون بالسلطانية أنهم شاهدوا مطربا جنكيا، وقد جرى له قريبا من ذلك لأن البلبل سقط على رأس جنكه، وهذا حال العجماوات، فأما حال البشر فكفى من ذلك أنا لا نجد إنسانا كائنا من كان إلا ويطرب من صوت نفسه ويعجبه طنين رأسه ويستريح لذلك وإن أتعب غيره كأصحاب الفلاحات، وقد ذكروا من ذلك في كتبهم أن النحل لتطرب للغناء، وأن أفراخها تستبرك بالصوت الحسن، وقد تقدم في الفصل الذي أمام هذه البراهين ما يدمج طي هذه النعوت مثل: استراحة أرباب الصناعات بأصواتهم، والإبل بالحداء، ونشاط الشجعان بالنغم، ونوم الطفل على النغم والصوت الحسن، وعلى ذلك دلائل كثيرة لا يخامرها شك، ومن أوضح هذه الدلائل شرب الخيل بالصفير.

فصل في أصل من وضع الموسيقى ومن ولع به عملا

ووجدت في أحد الكتب القديمة أن أول من أظهر العود واستنطقه وأخرج منه الأنغام نوح عليه السلام، وأنه عدم عند الطوفان، ثم في عهد داود عليه السلام استخرج وهذب وضرب به، وأما إجماع أهل هذه الصناعة أن أول من أحدث العود داود عليه السلام لم يثبت، وذكر العلماء أن العود الذي كان يضرب به لم يزل بعد وفاته معلقا ببيت المقدس إلى حين دخول بختنصر وإخرابه البيت.

وقيل: إن الإسكندر كان في صحبته عود، لما كان يطوف بالبلاد يضرب به تلميذ لأرسطاطاليس مؤدب الإسكندر، وكان الإسكندر إذا كان عنده ما يغير مزاجه من انقباض، أو حدث له كسل، دعا التلميذ فأحضر له العود وضرب به؛ فيزول عنه ما يجده.

وأما من غنى به من الحكماء فكثير جدا، مثل: أرسطاطاليس وبقراط وجالينوس وفيثاغورث، وهؤلاء أعنى به من غيرهم، ومن خلفاء بني أمية: يزيد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك، ومن بني العباس: إبراهيم بن المهدي، وله فيه تصانيف، وأبو عيسى بن الرشيد، وعبد الله بن الأمين، وصالح بن الرشيد، وعبد الله بن موسى الهادي، وإبراهيم بن عيسى بن جعفر المنصور، ومحمد بن جعفر المقتدر، وأبو أيوب الرشيد، وعبد الله المعتصم، وعبد الله بن إبراهيم المهدي، والمتوكل وولده المؤيد، وطلحة الموفق، والطائع والمقتدر، وأحمد المعتصم، رحمة الله عليهم أجمعين.

وقال أفلاطون: إن أهل العلم والحكماء لم تضع الموسيقى للهوى ولا اللهو بل للمنافع الذاتية، ولذة الروح الروحانية، وبسط النفس، وترطيب اليبوسات، وتعديل السوداء، وترويق الدم، وبنوه على الطبائع والاستقصات الأربعة والأمزجة، وزعموا أن ذلك مستخرج من البروج الاثني عشر.

وأما المنكرون لهذا العلم فذلك لأنهم لم يسمعوه إلا في الحانات والمسافر، وقد حرموه شرعا لظنهم أنه عمل لهذا فقط، ولم يقفوا على أصوله ومعانيه وقصد ما وضع له، فمن ذلك ما رواه «أبو نصر الفارابي»: أن هذا العلم استخرج من علم الهيئة وعلم الحكمة وعلم الطبيعة، فإن له تعلقا بجميع هذه العلوم ... فالمقاسات الاثنا عشر التي هي رأس هذه الصناعة: (الأول): راست، وله من البروج «الحمل»، (الثاني): العراق، وله من البروج «الثور»، (الثالث): أصفهان، وله من البروج «الجوزاء»، (الرابع): الزير افكند، وله من البروج «السرطان»، ومنهم من يسميه: كوجك، ومنهم من يسميه: زوركند، (الخامس): بزرك، وله من البروج «الأسد»، (السادس): زنكوله، وله من البروج «السنبلة»، (السابع): رهاوي، وله من البروج «الميزان»، (الثامن): الحسيني، وله من البروج «العقرب»، (التاسع): الحجاز، وله من البروج «القوس»، (العاشر): بوسليك، وله من البروج «الجدي»، (الحادي عشر): نوى، وله من البروج «المريخ»، (الثاني عشر): عشاق، وله من البروج «الحوت».

وأما الأوزات فهي عنده سبعة؛ الأول: كوشت، كوكبه (زحل) وهو بارد يابس، الثاني: نوروز، كوكبه (المشتري) وهو حار رطب، الثالث: سلمك، كوكبه (المريخ) وهو حار يابس، الرابع: شهناز، كوكبه (الشمس) وهو حار رطب، الخامس: الماياه، كوكبه (الزهرة) وهو بارد رطب، السادس: كردان، كوكبه (عطارد) وهو ممتزج، السابع: حصار، كوكبه (القمر) وهو بارد رطب.

وأما المقاسات فهي أربعة: الأول: يك كاه، طبعه «الصفرا» حار، يابس، الثاني: دوكاه، طبعه «الدم» حار رطب، الثالث: سيكاه، طبعه «البلغم» بارد رطب، الرابع: جاركاه، طبعه «السودا» بارد يابس.

وأما ما ذكره شيخ هذه الصناعة الشيخ صفي الدين بن عبد المؤمن فعما يقال من ذلك في الأوقات المناسبة لكل مقام، وذلك أن «الماياه» يناسب وقت الشروق، فإذا ارتفعت ناسبها «الراست»، فإذا صار ربع النهار ف «العراق» لأنه ما في المقامات أوسع منه ولا ألطف، وقيل وقت الظهر أيضا: «الراست»، وعند دخول وقت الظهر: «مخالف راست»، وبعد الزوال: «بوسليك» لكونه أسفل الطبقات، ومطلعه أول الهبوط، وأول البرودة كذلك إلى القرب من أول النهار، وقبل الغروب: «العشاق»، وبعد الغروب: «النواة» لأنه ما في الأوقات ألطف ولا أرطب ولا أروح ولا أفضل ولا أطيب من هذا الوقت، وكذلك هذا المقام موافق لهذا الوقت، وإذا انقضى «النصف الأول من الليل» ففي تلك الساعة: (أصفهان)، «وعند السحر»: (زنكلاه) فإنه موافق، وروي أن الرسول

صلى الله عليه وسلم

كان يقرأ القرآن وقت السحر من هذا المقام ، وإذا «قرب الصباح»: (رهاوي)، «وعند الصباح»: (حسينى).

فصل فيما ذكره أهل الفلسفة من أهل هذه الصناعة

اللون «الأبيض» يوافقه من الأنغام مثل: (المخالف والأشبه). «واللون الأسمر» يوافقه مثل: (العراق، ومثل: مخالف راست، ومثل: مرعك)، و«الحنطي اللون» و«الحسن الوجه» يوافقه: (الراست)، «والمشايخ الصوفية» يوافقهم: (بحر الثقيل)، «والشباب والصبيان» يوافقهم (بحر الخفيف) لموافقته طبعهم، والله سبحانه وتعالى أعلم ...

فصل في شرح الدائرة (الأول: الرصد) وهو كما قال الشيخ صفي الدين بن عبد المؤمن مأخذه من: (السيكاه)، وقال غيره: إنما مآخذه من (غير السيكاه)، وهو غليظ، والأصح أن مأخذه من (السيكاه) ويعلو (بحصار الرهاوي) ويحسن (بالرمل)، ومحطه على (الدوكاه)، ومنهم من قال: مأخذه من (السيكاه)، وهو حسن، وممن وافق على شيله من السيكاه ابن عروة، والمارديني، وغيرهما من أهل العلم والفن، وقالوا: إنه يكون مقدما على (الأصفهان)، الأصل التالي: (أصفهان) وشيله من (الرصد) ثم يعلو (بالههفتكاه) ويحسن (بالجاركاه) ويحط على (راست)، ومنهم من قال بأنه يحط على (الدوكاه) ولا فرق بينهم؛ لأن الدوكاه، تحط: (راست). وقال بعضهم: بتقديم: (الزايرافكند؛ لقربه من الرست «الرصد» في الشيل والحط).

فصل في الثماني بردات التي هي فروع الأصول الأربعة

الأول: (عشاق يعلو «بالنوروز»، ويحسن بالجاركاه، ويحط على الراست).

الثاني: (زنكوله، ومثيلها: «الجاركاه»، ويعلوها «بالحجاز بوسليك»، ويحسن «بالسلمك»، ويحط على «الراست»).

الثالث: (ماياه، وهي تعلو «بالزركشي»، ويحسن «بالنوا»، ويحط على «الراست»، ومن علماء هذا الفن من يحسن موضع: «النوار للحجاز»، وهو صواب).

الرابع: (بوسليك، يعلو «بالماياه» ويحسن «بالعشاق» ومثيله محطه، فإن لم يعل «بالماياه» كان: «دوكاه» ناطقة).

الخامس: (بزرك، ومثيله من «السيكاه»، ومخالفه: «الحجاز»، ومحطه: «الزيرافكند»).

السادس: (رهاوي، ويشيل من «الزيرافكند» ويعلو «بالحسيني»، ويحسن «بالحجاز» ويحط على «السيكاه»).

السابع: (حسيني، ومثيله من الأصفهان؛ لأنه فرعه، ويعلو «بالماياه» وتحسينه «بالجاركاه» ومحطه على «الراست»).

الثامن: (نوا، وشيله من الأصفهان، ويعلوه «بالماياه» ومحطه على «الراست» ويحسن به في العمل).

واعلم أن كل نغمتين من هذه البردات فرعان لكل أصل من الأصول المتقدم ذكرها؛ فالعشاق والزنكوله فرعا: (الراست)، والماياه، وبوسليك فرعا: (العراق)، والبزرك، والرهاوي فرعا: (الزيرافكند)، والحسيني والنواه فرعا: الأصفهان؛ تمت الفروع.

فصل في ذكر الست أوازات

الأول:

النوروز، وهو الرمل ، عند بني العرب، وهو أواز الرست والعراق، ومأخذه عراق ويحسن بالرهاوي ثم يعلو بالسيكاه والحجاز ومحطه على الدوكاه، ومنهم من قال: يحط راست، ولا فرق بينهم.

الثاني:

الشهناز وهو أواز الزيرافكند والأصفهان، ويشيل من الزيرافكند ومحطه على الأصفهان.

الثالث:

السلمك وهو أواز الزنكوله والبرزك، قال الشيخ صفي الدين بن عبد المؤمن: إن شيله من الزنكوله ويحسن البزرك ويعلو بالرهاوي وشيله محطه.

الرابع:

الزركشي، وهو أواز الحسيني والرهاوي، فإن مأخذه من الحسيني ويعلو بالنوروز ويحسن بالأصفهان ومحطه الرهاوي، وهو حسن.

الخامس:

الحجاز، وهو أواز الماياه وبوسليك، فإن مأخذه من الماياه، ويعلو بالعشاق ويحسن بالرهاوي ومحطه على دوكاه بوسليك.

السادس:

الكوشت، وهو أواز العشاق، محطه نوى.

فضل في ذكر أجزاء السبعة بحور

البحر الأول:

السيكاه، ومأخذه من: الراست، ويعلو: بالأصفهان والحجار ثم يحط على: الراست.

البحر الثاني:

الدوكاه، ومأخذها من: الراست، ثم تعلو: بالحسيني وتحسن بالرهاوي وتحط على: الراست.

البحر الثالث:

السيكاه، وتعلو بالزيرافكند، ويحسن بالحجاز ومحطه على: الراست.

البحر الرابع:

الجاركاه، وهي تعلو: بالهفتكاه، وتحسن: بالأصفهان، ومحطها على: الراست.

البحر الخامس:

البنجكاه، ومآخذها من الأصفهان، وتحسن: بالرهاوي، ومحطها على: الراست.

السادس:

السيكاه، وشيلها من: الزركشي، وتحسن: بالرهاوي، ومحطها على: الراست.

البحر السابع:

الهفتكاه، وهي تعلو: بالسيكاه، وتحسن: بالأصفهان، ومحطها على الراست.

فصل في ذكر الشواذات «الهنفة»: يشيل محير، ويحط حجاز حصار. «الزيزافكند»: يشيل من الرهاوي إلى البزرك ومحطه رهاوي. «البستاه»: يأخذ أصفهان ويحط سيكاه. «المحير»: يشيل من النوروز ويعلو بالسيكاه ويحسن بالأصفهان، ومحطه على الحسيني. «العكبري»: وهو الغزل، يأخذ حسيني ويحط حجاز. «الأوج»: وهو الكبرى، يشيل نوروز ويعلو بالحجاز ومحطه بزرك. «ماوزنه»: يشيل من السيكاه ويحط دوكاه. «الغريب»: يشيل من العشاق ومحطه دوكاه. «المبرقع»: يشيل جاركاه ومحطه سيكاه. «المحجوب»: يأخذ نوروز ويهبط إلى الراست ويرجع إلى مأخذه. «الصعيد»: يشيل من النوروز ويعلو بالرهاوي ويحسن بالنوى ومحطه على الدوكاه، «الركبي»: يشيل من الجاركاه ويخالط الرمل ويلوح للزركشي ومحطه على الدوكاه، «الكردانيا»: يشيل من العشاق، ويحسن من الرهاوي ومحطه على الدوكاه، «الأوج راست » بين السيكاه وبين النوروز: يأخذ حجاز ومحطه على راست، «الشاورك»: يأخذ من الحجاز ويعلو بالحسيني ويحسن بالزيرافكند ومحطه على دوكاه يؤخذ عراق ومحطه على الراست، «نوروز عربان»: يأخذ من رمل ويهبط جاركاه، «نوروز جار» يأخذ نوروز ويهبط على راست، «عراق عجم» يأخذ على كردانيا ويحط رهاوي، «الرهنك»: يشيل من الرهاوي ويحط سلمك، «سكرساز»: يشيل من الزيرافكند، يلائم الحجاز ويحط على الدوكاه، «قوس قزق»: يشيل من النوى ويحسن بالبزرك ويحط على رهاوي، «نغم المخفى»: يشيل من العشاق ويحط على الحسيني.

قاعدة.

أ

ن

ع

ز

ب

ح

ر

ع

ز

ر

ب

ح

أصفهان

نوى

عراق

زنكر

بزرك

حجاز

راست

عشاق

زيرافكند

رهاوي

بوسليك

حسيني

تفرقت أحرفها على الاثني عشر نغما الأصلية من الدائرة، والله أعلم.

3

أرجوزة في علم الموسيقى

للشيخ عبد الرحمن الحباك العودي

الحمد لله ولي النعمة

من جاد لي منه بعلم النغمة

وأشكر الله على عطاه

شكرا جزيلا ناميا يرضاه

ثم الصلاة دائما مع الرضا

على النبي الهاشمي المرتضى

وآله وسائر الأصحاب

الأصفياء الأتقيا الأنجاب

وبعد حمد الله والصلاة

قد جاءني خل من الثقات

يسألني في نظم ذي الرسالة

وشرحها فلم أدع مقاله

وأمره ونهيه عندي أجل

من أن أحيل وعده إلى أجل

أجبته سمعا له وطاعة

ثم نظمت هذه البراعه

كتبت ما جاء على التيسير

معترفا بالعجز والتقصير

يا سائلي أصغ لما أقول

وافهمه فهم من له معقول

فصل: أصول أربع للنغم

أوضحتها في ذا المقال فافهم

اعلم بأن الرست أصل مستقل

جميع هذا العلم منه ينتقل

وبعده العراق أصل ثاني

والزرفكند ثالث المباني

والأصفهان رابع قد ختمت

به أصول قبله تقدمت

فصل: فروع هذه الأصول

وهي ثمان فاكتفي بقولي

والبعض سماها ببردوات

وقال ذا الاسم لها مواتي

للرست فرعان بالاتفاق

الزنكلا ونغمة العشاق

كذا العراق خص بالمايات

والبوسليك بعدها سياتي

والزرفكند بالبزرك متصل

وليس عنه الرهوي منفصل

والأصفهان فاق في التحسين

بنغمة النوى مع الحسيني

فصل: أوزات لهن جامع

ست فلا يبقى لهن سابع

نيروز قد وافى بالاتفاق

أواز للرست وللعراق

شهنازنا أواز زرفكند

والأصفهان بعده فعد

والسلمك المعروف ما بين الملا

أواز للبزرك ثم الزنكلا

وللرهاوي والحسيني قد نشى

بينهما أواز وهو الزركشي

أواز ماياه وبوسليك

خذه حجازا رائق الهنوك

كذا الكوشت معشر الحذاق

أوار للنوى وللعشاق

وبعد ذي الأصول والفروع

والستة الرايقة المسموع

أجريت فصلا في البحور منطلق

إن خاض فيه جاهل القوم غرق

فهي بحور سبعة تدور

في نغمة الرست ولا تعور

أولها الياكاه فالدوكاه

بعدهما السيكاه فالجركاه

والبنجكا فهن بحر وافر

كاملة ليس بها تنافر

فالششتكاه بحرها زلال

فالهفتكاه ما لها مثال

والبعد بالكل جواب الرست

من تحته تلك البحور تأتي

كم عام فيه مكتس وعاري

لا يختشى في عومه من عار

كتاب شرح سائر الأصول

وما عداها فاهتدى لقولي

جعلته كنزا لكل طالب

أوجزت فيه كل بعد طال بي

مستوفيا جميع ما صرفته

من همتى فيه فقد جمعته

ولم أدع يا سيدي مقالة

في ضمن شرح هذه الرسالة

لأنها ليس لها نظير

بفضل رب فضله غزير

أول فصل في الأصول الأربعة

ونعتها فاسمع مقالي واتبعه

للرست صوت مستقيم أين حل

يجري عليه حكمنا إذا انتقل

وكلما تلقاه مستقيما

فإنه الرست فكن فهيما

وهو طنين واحد أنظاره

يظهر منها كلما تختاره

ست ترى من بعده لما علت

أفرادها يجمعها قد نقلت

ما بين كل منهم أوزان

لا ميل فيها لا ولا نقصان

لكنها في الارتقاء تختلف

في اللون لا في الوزن ثم تأتلف

كل له ثامنه جواب

كذا سؤالي تحته جواب

فالبعد ما كل جواب الرست

لأنه ثامنه بالثبت

وبعد تالي ثامن الأبعاد

جواب ثاني ثامن الأعداد

وإن عفقت عاشر الأعداد

فهو جواب ثالث الأبعاد

وبعد حادي العشر في الأبعاد

جواب تالي ثالث الأعداد

وثاني العشر من الأعداد

خذه جواب خامس الأبعاد

وثالث العشر جواب السادس

مقامه يطرب في المجالس

ورابع العشر من الطنيني

فهو جواب سابع التلحين

وخامس العشر من الأبعاد

جواب ثاني سابع الأعداد

والأربعاء هكذا لا حد له

فاجهد على ترتيبه واعتد له •••

فصل: لما يختص كل نغمه

من هذه الأبعاد فاتبع رسمه

فالرست إن شئت له تحسينا

فاصعد به لثالث تبيينا

وأسقط الثاني في الرجوع

واركز على أوله الموضوع

وعدم الإسقاط فهو واجب

والقول فيه لائق مناسب

والبعض قال إنه السيكاة

بهذه الأبعاد يا ثقات

وبعده يا معشر الحذاق

ثاني الأصول نغمة العراق

مأخذها من بيت تالي الرست

واهبط إليه مسرع ثم أت

واصعد بكل يا فتي للرابع

مبادرا واهبط كذا وسارع

إلى طنيني أول الأبعاد

ومده مدا لطيفا هادي

واهبط بكل لتوالي الخامس

برتبة وقف وقوف الآيس

واصعد بهم لأول الأبعاد

من غير إسراع ولا تمادي

ومده يا صاح باتصال

وتحته إركز بلا انفصال

وفيه وجه واضح المعاني

يظهر بالنقل مع البيان

فهاك ساز واحد يقال

وهو غريب ما له مثال

تركيبه من خامس الأبعاد

محسنا برابع الأعداد

واصعد بهم لسابع الطنيني

بسرعة يا صاح في التحسين

واهبط بكل يا فتى وسارع

محسنا إلى الطنيني الرابع

وصل به الباقي مع التأني

إلى طنيني الرست وارو عني

فاصعد بهم لرابع الأبعاد

برتبة في سائر الأعداد

وارجع كذا لثالث الأعداد

واركز ولا تخش من النقاد

والزرفكند ثالث الأصول

من رابع أبدل به في القول

واهبط إلى الثالث واعفق سادسا

واهبط إلى الثاني سريعا آيسا

وعد به لبيت تالي الثاني

واركز على الثاني مع الإمكان

مستوفي الجميع في الرجوع

لكي يطيب الساز في الوقوع

والأصفهان رابع الأصول

من خامس خذه وحسن قولي

واستعمل السادس في التحسين

وعد إلى خامس في التبيين

واهبط بكل للطنيني الثاني

واركز عليه يا أخا الفتيان •••

فصل: وشرح سائر الفروع

من كل أصل طيب الوقوع

فالزنكلا مبدأ فرع الرست

مأخذها من الرباعي يأتي

واصعد لتاليه مع التبيين

واحفظهما لثالث الطنيني

والحق به ما فوق بيت الرست

يحلو به تحسينه بالثبت

واصعد بهم أيضا لبعد الخامس

وتحته إركز وكن موانسي

وبعضهم قد زاد في التحسين

من ثالث في غاية التبيين

ثم ارتقى لرابع بديع

ورده للرست بالجميع

من غير إسراع ولا مطال

فاركز ولا تخش من الإملال

ثاني فروع الرست بعد الزنكلا

مقام عشاق بقلبي قد علا

مأخذه من أول موانس

واسرع بكل صاعدا للسادس

واهبط بهم إلى الطنيني الثاني

واركز على الثالث بالإمكان

وبعده يا معشر الرفاق

ميدا فروع نغمة العراق

مايات قد جاءت مع البيان

من سادس وخامس وثاني

واركز عليه واستمع مقالي

وخذه بالبشر وبالإقبال

والبوسليك فهو فرع ثاني

لنغمة العراق يا إخواني

مأخذه قد جاء في التبيان

من سادس وخامس وثاني

وخذ طنين الرست واهبط تحته

إلى سؤال سابع قد شزته

واصعد بكل للطنيني الثاني

من غير إسراع ولا تواني

واهبط بهم إلى سؤال السادس

فالركز يحلو فيه في المجالس

وبعد، فالبزرك عند السامع

مبدأ فروع الزرفكند الرابع

في سادس الأبعاد مأخذه اعترف

واهبط بكل للثلاثي ثم قف

من غير إسراع ولا تواني

واعفق طنين خامس الألحان

واهبط بكل للطنين الثاني

مرتبا فاركز مع الإمكان

والرهوي فهو فرع ثاني

للزرفكند فالحظ المعاني

مأخذه الثاني من الأعداد

واصعد به لثالث الأبعاد

وكرر الثالث في الرجوع

وتحته اركز أنت في المسموع

ثم النوى يا زائد الأصول

أول فرع رابع الأصول

تركيبه يظهر للمباحث

من سادس وخامس وثالث

وصل إلى الثاني وعد إليه

واركز على الرست بما يليه

كذا الحسيني بعده يا سامعي

ثاني فروع الأصفهان الرابع

مأخذه من سادس الألحان

واهبط بكل مسرعا للثاني

واظفر لبعد رابع موافى

واركز على الثاني بلا انحراف •••

فصل: لشرح ستة تقدمت

أعني الأوازات التي قد عملت

أولها النيروز يا ذا الطالب

مأخذه من خامس مناسب

ثم اعفق الثالث في الترجيع

مع رابع وخامس بديع

وقف عليه لحظة ولا تخف

واركز على الثاني فمن ذاق عرف

وفيه وجه مسرع من خامس

لرابع لثالث مؤانس

مستوفي الترتيب في الصعود

من رابع وخامس مقصود

ثانيهما الشهناز بالتمكين

خذ سازه من ثامن الطنيني

واهبط إلى السابع حسن فيه

وسابع الأبعاد فاستقريه

وخامس الأبعاد مل إليه

محسنا ثم فقف عليه

هنيهة، وبعد ذا حل عنه

وارجع إليه عاجلا خذ منه

واهبط بترتيب لبيت الثاني

واركزه ركزا ثابت البنيان

وبعضهم قد زاد في التحسين

من بعده بأول الطنيني

ثم ارتقى بهم لبيت الرابع

بسرعة محسنا للسامع

واركز به في ثالث الأبعاد

في غاية الإيضاح والإرشاد

وفيه وجه واضح المعاني

من سادس يأخذ بالبنيان

واهبط بهم لثالث الأبعاد

من غير إسراع ولا تمادي

وقف عليه ثم خل عنه

هنيهة ثم استمد منه

واهبط بكل لسؤال السابع

مرتبا واركز بلا ممانع

وبعضهم قد زاد في التحسين

إلى سؤال سادس الطنيني

ثم ارتقى لأول الأبعاد

بسرعة الركز فيه بادي

ثالثهن سلمك يا صاحبي

من رابع وثان مناسب

واصعد إلى الثالث واستوفيه

والأول اعفق للذي يليه

واعفق الرابع مع تاليه

محسنا بالقول واحمد فيه

واهبط بكل لسؤال السابع

برتبة واطفر لتحت الرابع

واركز بكل تحت بعد الحادي

من غير إسراع ولا تمادي

رابعهن الزركشي يا فتى

مأخذه من السداسي قد أتى

واهبط بكل مسرعا للثاني

محسنا فيه مع البيان

واصعد إلى تاليه بالتمكين

كذا الرباعي زده بالتحسين

واسقط طنيني ثالث الأبعاد

واركز على الثاني من الأعداد

مأخذها من خامس البنيان

واهبط بكل مسرعا للثاني

خامسهن نغمة الحجاز

واصعد إلى الخامس بالإيجاز

وارجع بكل للثلاثي وقف

مرتبا واركز على الثاني تخف

سادسهن نغمة الكوشت

من سادس وخامس ستأتي

ثم لثاني وثالث الابعاد

واركز هنا في ثالث الأعداد •••

فصل: وشرح أبحر النغمات

حررته من سبع أبعادات

أولهن نغمة السيكاة

مأخذها من أول مواتي

واصعد بكل مسرعا للخامس

وقف عليه وقفة المستانس

واهبط بكل مسرعا للثالث

وقف عليه يا أخا المباحث

ومل إلى الثاني مع التبيين

واركز به من أول الطنيني

ونغمة الدوكاة بحر ثاني

من ثاني وأول الألحان

واصعد بهم لرابع الأبعاد

بسرعة وارجع بلا تمادي

إلى طنيني ثالث الألحان

محسنا فيه كذا والثاني

واركز لها في الساز ركزا محتكم

لأنها في الساز أم للنغم

ثالثهن نغمه السيكاه

مقامها في الساز بانتباه

مأخذها من ثالث الأعداد

محسنا برابع الأبعاد

ثم ارتق لخامس الألحان

واستعمل الرابع في الأتيان

واهبط إلى الثالث حسن فيه

واركز على الرست بما يليه

والجاركاه رابع البحور

مأخذها من رابع مأثور

واهبط بكل مسرعا للرست

واصعد كذا لخامس ثم ائت

وارجع إلى الثالث بالرباعي

محسنا فيه مع الإسراع

وبعده خذ رابع الأبعاد

محسنا فيه مع التمادي

واصعد إلى الخامس بالترجيع

وارجع بإسراع وكن مطيعي

إلى طنيني ثالث الأعداد

ومره مرا لطيفا هادي

واحذف طنيني ثاني الأبعاد

واركز على الحادي مع التمادي

والبنجكاه خامس البحور

خذ سازها بالبشر والسرور

من سابع وسادس وخامس

ورابع وثالث مؤانس

وثاني الإبعاد لا تنساه

واركز على الرست تحز معناه

سادسهن الششتكاه يا أخي

مأخذها من سادس فاصغ إلي

واهبط بكل مسرعا للثاني

وعد إلى تاليه بالإمكان

وصل به الباقي مع التأني

إلى طنيني الرست وارو عني

سابعهن الهفتكاه يأتي

مأخذها من سابع بالثبت

واهبط بكل مسرعا للرابع

وزده تحسينا بأذن السامع

واهبط به كذا لبعد الرست

واذكر ولا تخش عدوا يأتي

واختم نظامي بالصلاة تسعد

على النبي الهاشمي أحمد

صلى عليه الله طول الدهر

وما تغنى بلبل أو قمري •••

فصل: لتحرير رموز حصرت

في ضمن هذا الشرح قد تكررت

وضع لكل منهم إشارة

يفهم منها القصد والعبارة

فهذه الأبعاد قد تسطرت

باللون والكم وقد تشطرت

أعدادها قد حررت في الضبط

من أول إلى طنين يأتي

وضعتها في رقعة جلية

جعلتها قاعدة كلية

ثم استعرت من سما الإرشاد «أهلة» لضبط ذي الأبعاد

وضعتها يا صاحبي أدوارا

لجمع ما لاح وما توارى

ضمت إشارات رموز ست

عن فهم كل حاذق وثبت

أولها: الدخول في الأدوار

جبهتها إلى يسار القاري

كل مقام قد تولى نظمه

إشارة الدخول فيها اسمه

محلها في طرف البعد الذي

كلونها وهو طنين المأخذ

ثم وضعت يا أخي من بعد ذا

إشارة المأخذ «ميما» هكذا «م»

ولونها يحكي للون بعدها

مخالفا لما سيأتي بعدها

من بعدها إشارة الصعود

تأتي كذا أصعد في الحدود

ولونها أحمر كالعقيق

قد رتبت يا صاح للتحقيق

لها معان يا أخي ست

صورت بالترتيب أو أسرعت

كل لها قاعدة تركبت

أوصافها في الشرح قد تقدمت

فهذه «3» إشارة الترتيب

بالكل أو بالبعض في التركيب

ولونها أحمر كالعنقود

حيث أتت في الحد والمحدود

وكل ما جاءك في معناه

فالحكم فيه واحد تلقاه

وإن يك الصعود للإسراع

فهي كذا في البعض والإجماع

من بعدها إشارة الهبوط «هاء» كذا في نغم مضبوط «ه»

ولونها أصفر أقحواني

تأتي لها من بعدها معاني

وإن يك الهبوط بالترتيب

بالكل أو بالبعض في التركيب

تلقى على كل من الأبعاد

بحسب ما يأتي من الأعداد

إشارة كذا كلون الهاء

يلحظها الطالب بالإيماء

وإن يك الهبوط بالإسراع

بالبعض أو بالكل بالإجماع

يرى له إشارة في الهاء

من لونها كذا بلا مراء

وكل ما يذكر للإسراع

من تحت هذا الخط في الإيقاع

وفي الصعود والهبوط قدمت

في بعض أبعاد مدود ثبتت

صغت لها إشارة تلقاها

كذا وما يكون في معناها

وإن يكن تأتي إلى الصعود

فلونها كلونه المعهود

وإن تكن تأتي إلى الهبوط

فلونها كلونه المخطوط

وبعده إشارة المظافرة «طاء» كذا لون الصعود ظاهره

والركن يأتي آخر المقام

صفاتها أركز بها ختامي

ولونه أحمر كالمرجان

في سائر الأبعاد للمعاني

وللمقامات التي تقدمت

في الشرح أدوار لقد تأخرت

أفردت كلا منهم بنغمة

وما لها من ضابط وقسمة

ولونها يحكى للون أمها

موافقا لضبطها ورسمها

وبعد ذا دائرة الجمع ترى

صفاتها مدور تسطرا

وهذه كيفية الأدوار

قد وضعت ورتبت للقاري

رموزها شبه نجوم زاهرة

قد نثرت على سطور باهرة

مختلفات اللون والأعداد

منعوتة في الشرح بالأبعاد

والحمد لله على التمام

والشكر لله على الدوام

مصطلحات موسيقية

وقد رأينا إتماما للفائدة أن نذكر بعض المصطلحات الموسيقية مع الكلمات التي ترجمها بها الكاتب الإنجليزي فارجو، حاسبين أنها تؤدي معناها:

الاصطحاب

Accordature

التأليف

Composition

امتزاج الأصوات

Consonent

تنافر الأصوات

Dissonent

الدساتين

Frets

الأبعاد

Internals

بربط أو عود

Lute

الأوزان

Measures

الألحان

Melodies

الأدوار

Mode

الأنغام

Notes

النغم المطلق

Open notes

الإيقاع

Rhythm

طبقات الأدوار

Scales

الأوازات

Secondary notes

المجموع

System (1) عريب جارية المأمون

في «العزيز المحلى»: أن جارية من جواري المأمون كانت تدعى «عريب» بفتح العين المهملة وكسر الراء وبالباء الموحدة، وكانت بارعة الحسن كاملة الظرف رقيقة الشعر لا نظير لها، وكان قد اشتراها «المعتصم» بخمسمائة ألف درهم وأعتقها.

ومن شعر عريب:

وأنتم أناس فيكم الغدر شيمة

لكم أوجه شتى وألسنة عشر

عجبت لقلبي كيف يصبو إليكم

على عظم ما يلقى وليس له صبر

وهذه الجارية من محاظي المأمون، وقد كان شديد الكلف بها، فأنشدها في بعض الأيام مداعبا لها:

أنا المأمون والملك الهمام

على أني بحبك مستهام

أيرضيك أموت عليك وجدا

ويبقى الناس ليس لهم إمام؟

فقالت له: يا أمير المؤمنين، أبوك الرشيد أعشق منك حيث يقول:

ملك الثلاث الآنسات عناني

وحللن من قلبي بكل مكان

ما لي تطاوعني البرية كلها

وأطيعهن وهن في عصيان

ما ذاك إلا أن سلطان الهوى

وبه قوين أعز من سلطان

فقدم ذكرهن على ذكر نفسه، وأنت قدمت نفسك على من تزعم أنك تهواها.

فقال لها المأمون: غير أني منفرد لك بحبي، وحب والدي مقسم بين ثلاث.

قالت: أعرفهن؛ الواحدة المقصودة وهي فلانة، والثنتان محبوبتان لها، فأحبهما ليسرها، وقربهما بسببها، وهذا مخرج لعذر الرشيد، فأين المخرج لعذرك؟

وقال خالد بن يزيد بن معاوية في «رملة» جاريته:

أحب بني العوام من أجل حبها

ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا

وقال آخر:

أحب لأجلها السودان حتى

أحب لأجلها سود الكلاب

وفي «الأغاني» (ج13، ص30-31) قال أبو الفرج: حدثني ابن حمدون قال: كنا يوما مجتمعين في منزل أبي عيسى بن المتوكل، وقد عزمنا على الصبوح، ومعنا جعفر بن المأمون، وسليمان بن وهب، وإبراهيم بن المدبر، وحضرت عريب وشارية وجواريهما ونحن في أتم سرور، فغنت بدعة جارية عريب:

أعاذلتي أكثرت جهلا من العذل

على غير شيء من ملامي ومن عذلي

والصنعة لعريب. وغنت عرفان:

إذا رام قلبي هجرها حال دونه

شفيعان من قلبي لها جذلان

والغناء لشارية، وكان أهل الظرف في ذلك الوقت صنفين: عريبية، وشروية، فمال كل حزب إلى من يتعصب له منهما، من الاستحسان والطرب والاقتراح، وعريب وشارية ساكتتان لا تنطقان، وكل واحدة من جواريهما تغني صنعة ستها لا تتجاوزها، حتى غنت عرفان:

بأبي من زارني في منامي

فدنا مني وفيه نفار

فأحسنت ما شاءت، وشربنا جميعا، فلما أمسكت قالت عريب لشارية: يا أختي، لمن هذا اللحن؟ قالت: لي، فقد كنت صنعته في حياة سيدي (تعني إبراهيم بن المهدي) وغنيته إياه فاستحسنه وعرضه على إسحاق وغيره فاستحسنوه، فأسكتت عريب، ثم قالت لأبي عيسى: أحب - بأبي فديتك - أن تبعث إلى «عثعث» فتجيئني به، فوجه إليه، فحضر وجلس، فلما اطمأن وشرب وغنى، قالت له: يا أبا وليجة، تذكر صوت الزبير بن دحمان عندي وأنت حاضر وسألته أن يطرحه عليك؟

قال: وهل تنسى العذراء أبا عذرها، نعم والله إني لذاكره حتى كأننا أمس افترقنا عنه.

قالت: فغنه، فاندفع فغنى الصوت الذي ادعته شارية حتى استوفاه، وتضاحكت عريب ثم قالت لجواريها: خذوا في الحق ودعونا من الباطل وغنوا الغناء القديم، فغنت بدعة وسائر جواري عريب، وخجلت شارية وأطرقت، وظهر التأثر فيها ولم تنتفع هي يومئذ بنفسها، ولا انتفع أحد من جواريها، ولا متعصبيها أيضا بأنفسهم. (2) أصيل القلعية المغنية

وفي «ابن إياس» (ج3 ص312): كانت من أعيان مغاني البلد، وكان لها إنشاد لطيف بديع، واشتهرت بأنها كانت بارعة في غناء الخفائف التي هي من فرح الزمان، ورأت من الأعيان وأرباب الدولة غاية الحظ والإحسان لها. (3) ست الفخر مغنية الملك الأشرف

في «تاريخ ابن الفرات» (رقم 2110، تاريخ، ج10، ص35): كانت ست الفخر مغنية الملك الأشرف، تمدحه وتذكر كسره الفرنج حين هزيمتهم على دمياط، لما اجتمع الملوك الأيوبية لنجدة الكامل صاحب مصر.

وقد أبدعت في المغنى:

ولما طغى فرعون عكا وقومه

وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض

أتى نحوهم موسى وفي يده العصا

فغرقهم في اليم بعضا على بعض

الغناء العربي

تحقيق للمؤلف نشر سنة 1914م

من التغيرات التي قضت بها الظروف الحاضرة، فأفضت إلى تطورات مختلفة في حياتنا الاجتماعية: تقلص الملاهي الإفرنجية إلى ما يداني الصفر تقريبا، وتوسع الملاهي العربية حتى أصبحت ملتقى جميع القاصدين من الوطنيين، اللهم إذا ضربنا صفحا عن ملاهي الصور المتحركة، فأجواق التمثيل العربي المتعددة وجوقات المغنين كلها صادفت رواجا عظيما، ناهيك عن أن هذه الأجواق تعددت إلى ما جاوز الضعفين، وكان من انفساح المجال لها أنها أخذت تتطور تطورا جديدا يعلو من بعض الوجوه متجها إلى الأجمل والأفضل، وربما عد في المستقبل القريب «نهضة» ولا سيما إذا قورنت هذه الجوقات العربية بالجوقات الإفرنجية.

لا يسعني مجال القول هنا أن أقول كل ما أريد أن أقوله بهذا الموضوع، فأقصر الكلام على شيء أو أشياء مما يلوح في ضميري دائما عن الغناء العربي، ولا أتصدى لنقد الغناء العربي، لا مقرظا ولا ذاما؛ لأني لست من أبناء الفن الذين يحق لهم أن يفوهوا بكلمة من هذا القبيل، وإنما أنا واحد من الألوف الذين يسمعون الغناء، فما أقوله بهذا الشأن ربما كان مجمل الصدى المردود عن الآذان، لا نتيجة تفاعل الأذهان بفن أهل الألحان.

وبعبارة أبسط أقول: إني أتكلم من جهة طائفة السامعين، لا من جهة المغنين والملحنين، وللسامعين مجال واسع للكلام وربما كان أوسع من مجال ذوي الفن.

لا أتعرض هنا للقضية التي هي موضوع مناقشة دائمة عند المتقلبين بين الموسيقتين الشرقية والغربية وهي: أيتهما أرقى تطورا؟ ولا أقول أفضل لأن لي مقالة ضافية بهذا البحث نشرت في «ضياء» المرحوم اليازجي، برهنت فيها بمقتضى نواميس الأصوات النغمية أن الموسيقى الشرقية أرقى، ولا يمكن تلخيص تلك المقالة هنا من غير إضعاف قوة البراهين فيها.

ولا أقول: إن إحداهما أفضل وأوقع في النفس من الأخرى؛ لسبب طبيعي أشرت إليه في إحدى مقالاتي عن (تحول الحركة)، وفيها بينت أن كل موسيقى جميلة لأهلها فقط لا لغيرهم.

وإنما يمكن القول بالإجمال أن الغناء العربي تحسن جدا في العصر الأخير، ولي جرأة أن أقول: إنه ارتقى ارتقاء محسوسا، واكتشف جماله وارتقاؤه على الخصوص في مدة الحرب، حين قضت الأحكام العرفية بتنظيف مغاني الغناء من عربدة السكارى وتهتك الراقصات، وأصبح مغنى الغناء لمجرد الغناء، لا يقصد إليه إلا من يحب السماع فقط.

في هذه الحالة صار يمكن الناقد أن ينقد الغناء، صادرا من الأوتار الجمادية أو الحيوية، وراجع الصدى من ملامح السامعين.

أجل، الغناء العربي حلا ولطف، ورق ورخم، وطرب جدا، حتى يمكن القول إنه ارتقى ارتقاء بينا لولا ما يعتوره من بعض العيوب التي لو تلوفيت لجاز القول إنه قارب الكمال، وتلافيها ليس بالمستحيل.

تنقسم هذه العيوب إلى ثلاثة أنواع بحسب مواضعها: أولا: عيوب السمع، وثانيا: عيوب الغناء، وثالثا: عيوب التلحين. (1) عيوب السمع

أقدم عيوب السمع على العيوب الأخرى؛ لأنها عيوب أمثالي من السامعين، ونحن أولى بنقد أنفسنا من نقد سوانا.

فلا أقصد أن أعيب على السامعين لغط بعضهم وقت الغناء وانشغالهم في الكلام، في حين إجادة المغنين والعازفين؛ لأن الذين لا يصغون ولا ينعطفون بكل جوارحهم إلى الغناء ليسوا من فئة السامعين بل هم غرباء عن نعيم الغناء، وما دخلوا المغنى إلا في صحبة آخرين أو لملاقاة آخرين، أو لأنهم لم يجدوا مؤنسين لهم في غير ذلك المكان.

ولا أستهجن «تهييص المهيصين» من بعض الفتيان الذين عذرهم خفة الشبيبة وطيش الصبا؛ لأن هؤلاء لا يهيصون لجمال الغناء، وإنما يهيصون لنكتة خليعة في لفظ المغني، أو المغنية على الخصوص، أو لحركة تهتك تردف بها المغنية «نهقتها»، فهؤلاء لا يحسبون في فئة السامعين بل يعدون من فئة الفتيان المتظرفين.

ولا ألحي الأفراد الذين يقترحون على المغني أو المغنية دورا غير الذي ينوي أن يقوله أو هو شارع في قوله، أو «طقطوقة» - وبعض الطقطوقات فنية جميلة - لأن هؤلاء لا يميزون الغث من السمين؛ فلا يعدون في صف السامعين أيضا.

ولا أقرع بعض السامعين الذين يحاولون أن يتظرفوا لدى الجمهور بنكات يرمون بها المغنية تارة والعازف أخرى، والمجلس مجلس طرب لا مجلس لعب، وهؤلاء بالرغم من ظرفهم الشخصي فقدوا خفة روحهم بوضعها في غير موضعها!

لا أعيب ولا ألوم ولا ألحي ولا أقرع هؤلاء ولا أمثالهم ممن شذوا عن قاعدة السمع؛ لأن عيوبهم واضحة ولا يجهلها أحد حتى ولا هم أنفسهم يجهلونها!

وإنما أعيب على السامعين عيبا خطيرا، وربما كان خطرا على تدرج الفن في مدارج الارتقاء، وهو «قلتهم»، فإن الذين يحبون السمع ويفهمون السمع ويعرفون كيف «يسمعون» قليلون جدا، والنسبة بين رقي التلحين والغناء ورقي السمع في بلادنا غريبة لا تكاد تعلل بتعليل علمي عقلي أو طبيعي.

وإذا علم الأجنبي أن بيننا موسيقيين بكل معنى الكلمة كثيرين، وأن السامعين الحقيقيين فينا قليلون بالنسبة إلى المجموع، دهش وشق عليه أن يصدق؛ لأن السنة الطبيعية هي أن تتحسن البضاعة كلما طلبت ورغبت فيها.

والذي لاح لي من تعليل هذا التناقض الغريب أن سر ارتقاء الفن كان مجرد تنافس أهله في الاختراع، والإبداع في التلحين والغناء والعزف، وربما وجدوا مضمارا لهذا التنافس في مجالس الكبراء الخصوصية.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن الفن خلقة أو سجية طبيعية في «الشرقي» ولا سيما المصري رأينا هذا التعليل معقولا.

هذا من جهة ارتقاء أهل الفن، وأما من جهة جمود فئة السامعين، فالغالب في تعليله أن دور الغناء العمومية كانت دائما في إدارة أجانب، لا يعرفون منها إلا ابتزاز أموال ذوي الطيش من الفتيان، وأهل الشهوات من غيرهم، فأصبحت هذه الدور بلا نظام؛ وتغلب فيها اللهو والبطالة على محاسن الفن؛ فانكمش عنها السامعون، وبدل أن تتربى أذواق الجمهور على الذوق الموسيقي السليم كانت تتربى على شواذه مما يتغنى به المقلدون والمتطفلون، فكاد ذوق الجمهور الموسيقي يفسد.

نرى أن العلاج الشافي لجعل الجمهور برمته صالحا للسمع - السمع الفني الصحيح - إنما هو تربية ذوقه على السمع، ولا تتسنى هذه التربية له إلا إذا جعل فن الغناء في البلاد نظاميا في إدارته طاهرا في قصده. (2) عيوب الغناء

لا أقصد بعيوب الغناء العيوب الفنية - معاذ الله - وإنما أقصد العيوب التي ينفر منها «السمع» أو «السامعون»، وقد تستغرب القول أن للمغنين عيوبا تنفر منها النفوس، وهم بمقتضى الفن الجميل يجب أن يكونوا مثال الذوق.

دع خلاعة بعض المغنيات أو المغنين في خلال الغناء، ودع تلاعب بعضهم ببعض ألفاظ الأغنية أو الدور «استفزازا» للمهيصين ، وخل الممازحة التي تتخطى الجمهور من دفة الجوقة إلى بعض الجلاس، فإن كل ذلك ونحوه مما جرى مجراه معلوم أنه مستنكر، وهو يكثر ويقل بحسب طبقة جمهور الحضور، وربما كان الذنب فيه على الحضور أكثر، وإن كان أهل الغناء أولى باللوم فيه.

وإنما نعين من عيوب المغنين والمغنيات انتقاءهم الأغاني «الأدوار»، فالمعروف أن الأغاني لا تتساوى في جمال ألحانها، بل بعضها أجمل وأوقع في النفس وأطرب لها من بعض، بحكم الأكثرية من السامعين، وبين الأدوار ما لا يمل ليليا، وبعضها لا يطاق أن يسمع، أفليس من الغريب أن يكرر المغني أو المغنية هذا ليلة بعد ليلة ولا يفطن لذاك مرة في الدهر؟

أجل، إن الناس يختلفون في استحسان الألحان اختلافهم في الحكم على الجميل، وما اللحن إلا ضرب من الجمال، ولكن هناك قواعد عمومية لجمال الألحان الذي يشترك في استحسانه جميع أذواق الشعب الواحد؛ لأنها تمرست على نمط واحد، وربما أمكن إجمال هذه القواعد هكذا:

أولا:

تنوع الأنغام في دور واحد، ويجب أن تكون الأنغام المتنوعة متآلفة غير متنافرة، ومن مزايا الموسيقى العربية تعدد الأنغام فيها بحيث يتسنى للملحن الاختيار بسهولة، وفي وسعه أن يتحاشى الضرب على وتيرة واحدة.

ثانيا:

أن يكون روح النغم متفقا مع معنى الكلام الشعري.

ثالثا:

قلة التكرار الممل، ونعني به بالأكثر تكرار العبارات الموسيقية لا تكرار العبارات الشعرية، مع أن تكرار هذه عيب أيضا، هذا مجمل ما يقال الآن بشأن هذه القواعد «من قبيل السامعين»، ولأهل الفن أحكام أخرى في قواعد التلحين ليست من شأن بحثنا، وإنما يصح القول هنا إن للسامعين الحق في النفور من «الدور» الذي يشذ عن هذه القواعد، واستحسان «الدور» الذي ينطبق عليها، ولا ريب أن هناك أدوارا يتفق معظم القوم على استحسانها، وأدوارا أخرى يتفق معظمهم على تجافيها والنفور منها.

فلا نظن أحدا سمع دور «الفؤاد مخلوق لحبك» مثلا، إلا طرب له لأول مرة، خلافا لبعض الأدوار التي لا نطرب لها إلا بعد أن نألفها، فكأن ذوقنا الموسيقي مهيأ بالفطرة لتشرب هذا اللحن، وما سمعت هذا الدور مرة إلا أستحضر لذهني مقدرة ملحنه وروحه الموسيقية، وأعجبت بالملحن قبل المغني، فالدور جليل اللحن رصينه، كأنه أمير بين أماثل الألحان وأشرافها، كذا «مذهبه» وكذا قفلته.

وأما سائر جسمه فرخيم شجي مطرب مبهج، ولا أظن أن المغنين يجدون فيه عيبا، فهو من القبيل الفني تام، وجمهور السامعين يعدونه تحفة الغناء العربي العصري، وقد استتم جماله في نظمه الشعري الرقيق.

ولا بأس من ذكره هنا برمته من قبيل الفكاهة الشعرية:

الفؤاد مخلوق لحبك

والعيون على شان تراك

والنفوس تحيا بقربك

والملوك تطلب رضاك

راع ربك

رق قلبك

تشفى صبك

من لماك

الجمال منسوب لشكلك

والقمر محسوب ضياك

مين يطول في الملك وصلك

وانت في باهي علاك

مين يماثلك

مين يعادلك

مين يليق لك

في سماك

ويليه في الجمال الموسيقي دور «المحاسن واللطافة». ومعظم الأدوار الحديثة جميلة، وأخص بالذكر من الأدوار القديمة - ولا أعني العريقة في القدم: «أسير العشق ياما يشوف»، فإن في هذا الدور من البراعة الفنية وقوة التطريب ما يجعله في المنزلة الأولى بين الأدوار الجميلة. ولست في مقام تعداد الأدوار الجميلة وإلا لذكرت عشرات منها، وإنما غرضي أن أقول: إن الدور الجميل لا يخفى على السامعين، كما أن الدور البارد أو الجامد أو الممل لا يخفى عليهم أيضا، ولا أتذكر من هذه الأدوار إلا ما ندر؛ لأني كسائر الناس لا أتذكر ما لا أحب، وإنما أستشهد بدور سمعته حديثا قد أظلمه إذا طعنت فيه؛ لأنه لا يعد قبيحا على الإطلاق وإنما يعد في الدرجة الثانية، وهو: «ياللي جرحت القلب داويه» فهو جميل التلحين إذا جزأته ونظرت لكل قطعة منه وحدها، وإنما عيبه أن قطعه كلها تسير على وتيرة واحدة من أوله إلى آخره، ولا أظنه يخرج عن (هوى) أي: «نغم واحد».

ولكن هناك من الأدوار ما لا يطاق سماعه لما فيه من وحدة الوتيرة المملة، والقاتلة لعاطفة الطرب في النفس البشرية، كدور «الحب سلطانه قاسي»، أجل إن الأدوار الباردة المملة الجافية الذوق الغنائي تموت بحكم الطبع، اللهم إذا كان المغنون يتفقون مع السامعين على تجافيها، ولكن ما قولك إذا كان المغنون والمغنيات يريدون أن يثبتوا للملأ أنهم يحسنون غناء كل دور على الإطلاق فيمرون على جميع الأدوار في ليالي غنائهم - دورا بعد آخر - بقطع النظر عن كون الدور مطربا أو غير مطرب، كأنهم يريدون أن يحيوا ما يجب أن يموت.

والغريب من أمر السامعين أنهم إذا سمعوا دورا جميلا عظموا مغنيه، وغفلوا عن براعة ملحنه وسلامة ذوقه، ولا يخفى ما في ذلك من غمط فضل الملحن.

ووالله ما سمعت دورا جميلا إلا لاح في ذهني قدر الملحن لا المغني، وكذلك إذا سمعوا دورا باردا قبحوا صوت المغني وشنعوا بكفاءته، ولا يخفى ما في ذلك من الظلم للمغني، وإنما الحق عليه في سوء الاختيار. (3) عيوب التلحين

بقيت كلمة عن التلحين، ولا يخفى أن التلحين كنظم الشعر بل هو أدق منه وأسمى، وكما أن الشعراء يتفاوتون في الإجادة يتفاوت الملحنون فيها أيضا، وكما أن الشاعر يقع أحيانا تحت خطر الغرور، كذلك الملحن؛ ولذلك إذا اكتفى الملحن بحكمه الشخصي وحده على الدور الذي يلحنه لا يضمن سلامة دوره من العيوب، ولعل هذا هو السر في أن بعض الأدوار مشوبة بعيوب تشوهها وتحط من منزلتها، ومن شواهد ذلك دور «خلي الفكر» فإنه لولا قطعة فيه تزهق الأرواح لعد في مقدمة الأدوار العصرية أبهة وجمالا وإطرابا.

ولا بأس أن نذكر هنا هذه القطعة وهي أواخر مكررات «ياريت الحب لم شفته ولا رأيتو» ... السابقة لقوله: «صحيح الحب يهنالي»، فهذه القطعة تمثل لك «الحب» في دور النزع أو الاحتضار، وبسببها فقد الدور كثيرا من جماله ورونقه، فإذا كان الملحن ينقح هذه القطعة، أو إذا كان المغني يحذفها استعاد الدور مكانته التي يستحقها.

وفي كثير من الأدوار الجميلة مثل هذه العيوب، الأمر الذي يدلك على أن الملحن لا يعتمد على أحد في الحكم على جمال تلحينه ، بل يستبد برأيه وحكمه، فلا يأمن الشوهة في ألحانه.

ومن ذلك نرى أن فن التلحين يحتاج إلى هيئة تحكيم، فإذا كان الملحن يستثقل نقد زميله للحنه، ويستنكف أن يأخذ رأي غيره في لحنه، فلا يثقل على طبعه حكم فئة من أهل الفن إذا نقدوا لحنه، بل يفتخر كل الفخر إذا حكموا له بجمال لحنه.

ولكن أين هذه الفئة وكيف يمكن تأليفها بطريقة نظامية؟ فإذا كان «نادي الموسيقى الشرقي»

1

يضم إليه جميع أهل الفن من ملحنين، ومغنين ويختار الفئة المحكمة منهم؛ ساغ لهذه الفئة أن تنقد الأدوار الجديدة وتشهد للجيد منها فتكون شهادته حجة، ولا ندري سببا لعدم توسع النادي على هذا النحو إلا تخاذلنا نحن الشرقيين في أعمالنا.

إن الموسيقى الشرقية، ولا سيما المصرية، راقية الروح جدا، ولكنها لم تزل في فوضى بلا نظام ولا قاعدة، لا أعني فوضاها من قبيل الفن البحت بل من قبيل العمل فيها، وربما كانت تحتاج إلى تهذيب أيضا لتنقيتها وتطهيرها من الشوائب العارضة.

وإنما بالإجمال يقال: إنها مهملة ومتروكة بين أيدي فئة عاجزة عن رفعها إلى مقامها الحقيقي، ولا أدري من يلام بهذا الإهمال، ومن هو المطالب بالاهتمام في تنظيم هذا الفن الجميل؟ ولعل سبب هذا الإهمال عدم تقدير أهمية الموسيقى في حياة الأمة، وجهل تأثيرها في التهذيب والرقي، والغريب أن تكون هذه منزلتها عندنا، مع أنها في مقدمة ملذات الجنس البشري الصالحة والمجردة من الشر، وهي عند غيرنا عنوان ذوق الأمة، والعامل الفعال في تدميث الأخلاق ورفع النفس من درك الصغارة والبلادة والخمول إلى قمة العزة، فضلا عن أنها أول مصدر من مصادر السرور، الذي هو الغرض الأخير من مساعي الإنسان وجهاده في هذه الحياة.

وأغرب ضروب هذا الإهمال أن الصحافة التي من واجباتها أن تلم بكل شيء من أشياء الاجتماع، لا تقرب إلى حوادث الغناء والموسيقى، لا من قبيل الخبر المجرد، ولا من قبيل التقريظ أو الانتقاد. فإذا كان الكتاب لا يدرون شيئا بهذا الشأن، فهناك اختصاصيون يقدرون أن يكتبوا فيه كل يوم شيئا جديدا، وما دام كل يوم من أيام الزمان يرينا أغنية جديدة ومغنيا جديدا وعازفا جديدا وحفلة موسيقى جديدة، فباب الكتابة بهذا الموضوع يكون مفتوحا على الدوام، والكلام فيه يلذ للجمهور عموما، ويهم المغنين من محترفين أو هواة على الخصوص.

وقد أنشئ نادي الموسيقى كوطن معين للحضارة الموسيقية، فما رأينا الصحافة أعطته حقه من اهتمامها، مع أنه يضم نخبة من نبلاء الفنيين الذين يشرف الفن بعنايتهم به، فالصحافة مقصرة في واجب كبير من واجباتها إذا كانت تدعي أن ما تفعله إنما هو خدمات واجبة للأمة ولقرائها.

محاولات لتطوير الموسيقى

كان لمؤتمر الموسيقى العربية الذي عقد في مصر سنة 1932 أثر كبير؛ إذ يهدف الغرض منه إلى استحداث انتقال بموسيقانا من طور قديم إلى طور جديد، وكان بعض الناس بلا شك غير مطمئنين إلى ذلك الغرض؛ لأنهم يظنون أن في تهذيب الموسيقى العربية القضاء عليها، كما أنهم يعدون أيضا الاستحداث فيها أمرا فوق الإمكان فيجعلونها وراء سنة التحول، ولا يخفى على البصير أن الموسيقى العربية تحولت منذ منشئها، وداخلها من العناصر الغربية عنها ما داخلها، وكلنا يعلم ذلك، اللهم إلا إذا ركنا إلى نظريات المتصوفة وإلى أن التقاليد العربية تجعل «الحداء» أصل الغناء أيام الجاهلية، وما الحداء إلا لحن بسيط متشابه الأصوات، وزنه الرجز فيما يقول أبو الفرج الأصفهاني، ولربما ناسب أهل ذلك العهد بين النغمات مناسبة بسيطة، فأتوا بالسناد على قول ابن رشيق.

ثم إن «الأبشيهي» يسوق في «المستطرف» (ج2، ص204) أن للعرب الأولين نوعا آخر من الغناء يقال له «النصب»، وقد كان يعمد إليه الفتيان والركبان.

ولما أشرق الإسلام انزوى أهل الله عن الرفاهية، وشغلوا ساعات فراغهم عن وجوه اللذات بالعبادات، فكان الأذان وترجيع القراءة.

ولما انقلبت الأمة العربية إلى حالة أقرب إلى الجاهلية منها إلى الإسلام وهى أمر الدين، وهبط الترف قصور بني أمية حاملا بين أعطافه كماليات الحياة، فجل قدر الموسيقى، لكنها أمست وشأنها غير ما كان بالأمس.

أفلم يرو لنا صاحب كتاب «الأغاني» (ج10، ص250) أن «أبا محرز» أقبل على تلاحين الروم والفرس، وأخذ منها ما تستريح إليه الآذان العربية ، ثم مزج هذه التلاحين بعضها ببعض فجاء بشيء حسن.

ثم إن الموسيقى الفارسية أثرت في الغناء العربي إلى حد بعيد، فهذا «سائب خاثر» أول من عمل العود بالمدينة وأول من يغني بصوت عربي متقن الصنعة، حذا فيه حذو «نشيط» الفارسي، وهذا «ابن سريج» قد رأى مع العجم الذين أتى بهم ابن الزبير لبناء الكعبة عودا من صنعة عيدان الفرس، فضرب به على طريقة الغناء العربي ضربا اهتز له أهل مكة وطربوا.

لقد كان فن الموسيقى في عهد بني أمية وقفا على غناء القصائد، والمساوقة بالعود والطنبور وبالدف وغيرها، ولكن المغنين افتنوا في صناعتهم من طول ما تنافسوا فيها وتناقضوا وتنافروا، فأحدثوا فن النوح، ومالوا عن الوزن الثقيل بعض الميل؛ إذ جاءوا بالهزج والرمل فقصروا بهما الغناء، وما زالوا بالألحان حتى انتهوا بها إلى جودة أوشك الخلفاء والناس من ورائهم أن يجنوا بها.

ثم كان عهد بني العباس، فنزلت الموسيقى منزل العلوم، وانتظمت بسلكها، فدون رواة الألحان الأغاني، وألف الحكماء في أساليب الغناء والعزف، فكان من المدونين «يونس، وأحمد بن المكي، وعمرو بن بانه، وبذل المغنية، وإسحاق الموصلي، وأبو الفرج»، وتصانيفهم من الأصول التي عول عليها الناس وإليها رجعوا.

وكان من المؤلفين: «أبو يعقوب بن إسحاق الكندي، وأبو نصر الفارابي، وأبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، وصفي الدين، وإخوان الصفا».

إلا أن تقدم الموسيقى لم يكن مقصورا على العلم دون العمل، فهذا اللحن الرقصي التمثيلي، وهذه آلات الرقص، وهذه «الكرج» التي يذكرها ابن خلدون في مقدمته ثم يشرحها فيقول: إنها تماثيل خيل من الخشب يمتطيها النساء ويقلدن بها الكر والفر والطعن والضرب ... والغالب على الظن أن «الكرج» يرجع عهدها إلى الأمويين، أفلم يقل جرير:

لبست سلاحي والفرزدق لعبة

عليها وشاحا كرج وجلاجله

ولا ننسى أن نذكر في عهد بني العباس، ما طرأ على الموسيقى العربية من وراء ما صنع «إبراهيم بن المهدي» حين خرج على الغناء القديم فأنشأ مدرسة جديدة عبثت بقواعد الفن وحذفت منه الكثير؛ إذ غنت غناء قليل الصنعة سهل المأخذ، ثم قامت تناضل مدرسة إسحاق الموصلي وتعيرها باستمساكها بالقديم.

ثم لنذكر أيضا كيف استقام فن القراءة على أيدي «الأباضي، وسعيد العلاف، وغيرهما»، وكيف دس القوم في تلك القراءة بعض ألحان الغناء والحداء والرهبانية،

1

ثم لنذكر كذلك ما ابتكره «زرياب» في منهج التعليم؛ إذ كان يبدأ بالصوت البسيط حتى يتدرج إلى الصوت المركب، ثم يجزئ الصوت نفسه فيأخذ يطارح تلاميذه الوزن، ثم اللحن مجردا، ثم يلحق باللحن من المدات والليات والعطفات.

ولقد عمد الأندلسيون إلى الموشحات فابتدعوا فيها ما شاء الله أن يبتدعوا، ثم جمدوا في مكانهم فلم تتقدم موسيقاهم شيئا، وفي الأمر ما فيه من غرابة.

والتاريخ يسوق لنا أن موسيقى نصارى الإسبان ارتقت ارتقاء حسنا قبل سقوط غرناطة؛ إذ لحن القوم «قداديس» ذوات أربعة أصوات مختلفة، وكان هذا النوع من التلحين بادئ أمر التأليف والموسيقى (هارموني)

Harmonie ، فكيف تغافل العرب عن هذه الموسيقى الرائعة مع رقيهم واستعداد عقولهم للفهم والاقتباس ومع لطف آذانهم؟

وقد علل بعض المستشرقين إعراض العرب عن الموسيقى المؤلفة بعجزهم عن التأليف الجمعي، ولكنا لا نرى رأيه لأن فلاسفة العرب نظروا إلى مناحي الحكمة نظرة شاملة، والشمول أس التأليف الجمعي.

ثم إن الإخباريين والمؤرخين يروون لنا أن الخلفاء كانوا يقيمون حفلات موسيقية، يشترك فيها مائة من العازفين والمغنين، فلا سبيل لنا أن نتهم العرب بأنهم لم يعمدوا إلى الموسيقى المؤلفة، حتى تقع إلينا أصواتهم وتلاحينهم مدونة فنتبصر فيها. ومما يؤسف عليه أن العرب لم يدونوا تلاحينهم، ولا سيما إذا علمنا أن الفرس كانوا يدونون ترانيمهم، وأن حكماء الإغريق أثبتوا ضبطا موسيقيا

notes

في مؤلفاتهم التي اعتمد عليها المعلم الثاني وابن سينا.

ولقد حاول بعض المستشرقين أن يعلل ذلك النقص بأقوال لا نراها سديدة؛ منها أن العرب كانوا يعدون صناعة الغناء منقصة؛ فلم يحملوا على ضبط تلاحينهم، وكيف لهذا القول أن يثبت على النقد إذا ذكرنا لطف مكان المغنين عند الخلفاء والوزراء والعمال؟!

تلك حال الموسيقى العربية منذ منشئها حتى اليوم، وإنك لترى أنها صبغت بصبغات غريبة عن جوهرها مرارا، وانتقلت من طور إلى طور، وزيد فيها وحذف منها، فكيف لا يرضى الناس بأن تظل مطردة السعي في طريقها؟

إن الموسيقى تنقسم إلى قسمين: أحدهما فني، والآخر ابتداعي، أما القسم الفني فعلم يشمل قياس الأبعاد والمسافات والمقادير، وتحديد طبقات الآلات، وتعيين طريقة العزف عليها أو النفخ فيها أو النقر بها.

وأما القسم الابتداعي فخاص بالتلحين بين تأليف الأصوات بعضها إلى بعض، وبين تركيب النغمات بعضها في بعض.

Página desconocida