قلت لها بصوت لطيف وبدون تعمد: «أريحي أعصابك وجربي أن تتحدثي عن أي شيء يطرأ على بالك.»
إن اللقاء الثالث والجلسة الثانية من تلقي العلاج؛ وحتى وإن لم يصل الأمر إلى أن تكون مفترق طرق يفصل بين النجاح والفشل في طريقة العلاج بأسلوب تداعي الأفكار الحر، فإنها في حالات غير قليلة تضع خطا فاصلا وهاما جدا في نقطة تحول في منتهى الأهمية؛ لأن رد الفعل العصبي للمريض يضعف ، والأهم أن المريض نفسه يبدأ في الإحساس أنه شخصيا لا يعلم ما مشكلته حقا. ولأن مسألة «لا يعلم» تلك في غاية الأهمية، فالمريض في جلسة العلاج الأولى يظن أنه يعلم بوضوح السبب الذي من أجله أتى إلى هنا، وأنه يعلم مشكلته التي أدت به إلى ذلك. إن المريض يكون مخدوعا بواسطة «الإرادة» الشجاعة جدا التي جعلته يأتي إلى هنا، وفي جلسة العلاج الثانية بالذات، تكون الفرصة لكي يدرك أن إرادته تلك ذات طبيعة غامضة وذات قيمة عكسية لما تنوء بحمله «الإرادة» الطبيعية في المجتمع.
كنت آمل خيرا في حدوث ذلك، فاجتهدت في أن أزيل وجودي تماما من ذهن ريكو بقدر المستطاع، وانتظرت وأنا أضع طرف القلم الرصاص المسنون بعناية على الورقة. كنت دائما أحرص على أن أخفي هذا القلم الرصاص - المحبب إلي والمسنون بعصبية - عن عيون أي مريض مصاب برهاب الأطراف الحادة.
وسط إضاءة رقيقة، أو ربما هي إضاءة معتمة قليلا، بدأت شفتا ريكو تحكي شيئا ما. وكلما رأيت ذلك المنظر لا يسعني إلا أن أفكر في غرابة الإنسان. تبرز تلك الشفاه في هذه الغرفة القليلة الألوان وكأنها زهرة صغيرة زاهية، ولكن تحتوي الكلمات التي تحكيها تلك الشفاه، في داخلها، ذاكرة الأرض الرحبة. ويمكن فهم ومعرفة أن جميع القضايا المتعلقة بتاريخ الإنسان وأمراضه النفسية تتزاحم وتحتشد ليساعد بعضها بعضا - حتى وإن كان ذلك بكمية ضئيلة جدا - من أجل إزهار تلك الزهرة الواحدة. ويجب علينا نحن معشر أطباء التحليل النفسي، عبر تلك الزهرة الصغيرة الجميلة، أن تكون لنا علاقة بذاكرة الأرض والبحار كلها.
بدأت «ريكو» الحديث وهي مغمضة العينين: «لقد أحسست بالوحدة بسبب عدم ذهابي للعمل في الشركة. فجاءت لي رغبة في الذهاب إلى أمام الشركة ورؤية الوضع من الخارج. فركبت القطار كالمعتاد. وعندها اكتشفت أنه ما من راكب واحد في القطار، ولم أدر السبب. وعندما نظرت من النافذة كانت كل لوحات الإعلانات الكبرى بيضاء تماما بلا حرف واحد ولا رسم واحد. نزلت من القطار، وأثناء المسافة حتى مبنى الشركة - ومع أن الوقت صباحا والجو جيد - لم أقابل إنسانا واحدا في الطريق. وأخيرا انتبهت إلى أنني في حلم. ولم أمانع أن يكون حلما. وقررت الذهاب إلى أقصى ما أستطيع، فبقيت أمشي قدما. فبدا لي مبنى الشركة على الجانب الآخر من طريق ليس به سيارة واحدة.
وبالطبع ما من أثر لإنسان في محيط المبنى، ولا يبدو في أي نافذة - من نوافذ الطوابق الثمانية - أن هناك من يعمل داخل المبنى. ووقتها لمع زجاج إحدى نوافذ الطابق الثامن. كانت، حتى الآن، نافذة غائمة كأنها ميتة، ولا شك أن سبب لمعانها فجأة هكذا، أنها فتحت من الداخل صدفة ليعكس زجاجها أشعة الشمس.
عندما حاولت أن أنطق بسبب الفرحة والاشتياق لرؤية إنسان: [هناك أحد.]
ظهر ظل أسود لإنسان. وعرفت على الفور بالحدس أنه السيد ريوئتشي، وعندها وضع ذلك الشخص قدمه على حافة النافذة ودفع بجسمه للخارج. صرخت باستماتة: [لا تفعل! لا تفعل!] ولكن ذلك الشخص ألقى بجسده للخارج أكثر وأكثر، ثم سقط فورا ورأسه لأسفل ورجلاه لأعلى.
وعندما انتبهت، كان بحر من الدماء قد ملأ الطريق الهادئ والمشرق تماما، ويرقد وسط تلك الدماء شاب غارق فيها، وجسده يرتعش ارتعاشات طفيفة. اقتربت منه لا إراديا واحتضنته. كان وجهه محطما تماما ولكنني عرفت أنه السيد ريوئتشي بالتأكيد. وعندها صرخت صرخة أيقظتني من النوم. كان وقت استيقاظي في منتصف الليل تماما، وصوت عقارب الساعة المجاورة للفراش، يسبب لي الرعب بحيويته وشدته. ولم أستطع بعدها النوم حتى الصباح. وهذا هو سبب مجيئي إلى هنا بمثل هذا الوجه المرهق من قلة النوم.»
كتبت ذلك الحلم مثل الكاتب المخلص الأمين، ولكن بغض النظر عن كونه رأيته ليلة أمس أم لا، فقد كان رأيي أنه ليس كذبا على إطلاقه. ومن خلال النظر إلى الأوضاع المحيطة، فليس غريبا أن تتمنى «ريكو» انتحار ريوئتشي. ولكنني لم يكن أمامي - وأنا أستمع لها وهي تفرض بقوة تفسيرها لذلك الحلم - إلا أن أفقد اهتمامي بما تقول.
Página desconocida