El problema de las ciencias humanas: su codificación y la posibilidad de su solución
مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها
Géneros
تبعا لهذا نجد الفيزياء - وفي حوزتها الفلك - على قمة نسق العلم الإخباري، فموضوع الفيزياء مجرد المادة والطاقة في الزمان والمكان. هي إذن الأكثر عمومية، حتى إن موضوعات العلوم الأخرى زوايا في عالم الفيزياء، الذي هو إطار الكون ... مجمل عالم الظواهر، موضوع العلم أو العلوم الإخبارية. قوانين الفيزياء لهذا تنطبق على مجمل موضوعات العلم، فلا بد أن تسلم بمسلماتها كل فروع العلم الأخرى، ولكن العلم ينتقل إلى المجموعة الثانية، مجموعة العلوم الحيوية التي تدرس موضوعا أعقد من مجرد المادة. إنه المادة وقد أضيفت إليها القدرة على القيام بوظائف الحياة. فلا بد أن نضيف الفروض العلمية المختصة بظاهرة الحياة ووظائفها، ثم لكي يحيط العلم بالظواهر الإنسانية - وهي أعقد وأعقد - لن تكفي قوانين الفيزياء والبيولوجيا، وإن كانت بداهة تنطبق على الإنسان حين يسقط من عل وفقا لقانون سقوط الأجسام الفيزيائي، وحين تؤدي أعضاؤه وظائف الحياة وفقا لقوانين البيولوجيا، ومن أجل الإحاطة بالظواهر الإنسانية لا بد أن ينضاف إلى هذا وذاك قوانين، أو فروض، أو نظريات تتناول ظاهرة الوعي الجمعي بسائر تشكلاته وتمثلاته ونواتجه. ويمكن ملاحظة أن ذلك التدرج المنطقي للعلوم تبعا لمستوى تعقيد موضوعها يوازيه تدرج عكسي في مستوى تقدمها، ولعله أيضا تبرير منطقي لتدرج مستوى التقدم، فالفيزياء أكثر العلوم تقدما وموضوعها أبسط، والبيولوجيا درجة تقدمها أقل؛ لأن موضوعها أعقد، والعلوم الإنسانية درجة تقدمها أقل وأقل؛ لأن موضوعها أعقد وأعقد.
والجدير بالذكر الآن أن هذا التصنيف المبدئي مجرد قواعد منطقية صورية لنظام العلاقات النسقية بين فروع العلوم، ولا ينطوي البتة على ضرورة رد العلوم الإنسانية إلى الفيزياء البحتة أو سواها، ومن ثم فإن هذا التصنيف لا يستلزم إطلاقا فكرة العلم الواحد أو الموحد، إن رد العلوم إلى الفيزياء في بناء العلم الموحد هي فكرة مرتهنة بالإبستمولوجيا الكلاسيكية، إبستمولوجية الحتمية الميكانيكية، التي اتفقنا على أن هذا البحث يروم الخلاص، أو الانتقال الجذري منها إلى الإبستمولوجيا المعاصرة، إبستمولوجيا النسبية والكمومية. وفي الفصل السابع من هذا الكتاب سنفند بتفصيل وبراهين أوضح فكرة رد العلوم إلى الفيزياء في بناء العلم الموحد.
ونعود إلى موضوعنا الحالي، إلى ارتباط منطق العلم بنوعية الظاهرة الإنسانية المختصة بعنصر الوعي كثيرة المتغيرات التي تجعل ظواهر العلوم الإنسانية أكثر تعقيدا من ظواهر العلوم الطبيعية، وأيضا الحيوية، لنجد أنه ليس مجرد الدرجة الكمية للتعقيد في الموضوع تبريرا منطقيا كافيا ومحيطا لتخلف العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية، بل إن اللافت حقا في العقد الأخير من السنين أن التعقيد
complexity
في حد ذاته، التعقيد عموما، وتعقيد الظواهر الإنسانية خصوصا، أجل ... عين ومحض التعقيد بأنظمته البنائية، وتفاعلاته الجدلية، وعلاقاته النفسية، ومتطلباته المنهجية قد أصبح موضوعا لعلم ناشئ حديثا، مبحث يتكاتف لتشييده علماء من تخصصات عديدة، لإرساء الأطر النظرية، وأساسيات الممارسات الإجرائية لهذا المبحث أو العلم الذي سيكون بحق درة من درر الإنجازات العلمية في القرن العشرين.
11
أما إذا كانت مجرد الدرجة الكمية للتعقيد هي ببساطة معامل الارتباط القياسي لدرجة التقدم العلمي للزم عن ذلك منطقيا أن بذل جهد أكثر كما، ومن قبل عدد أكبر من الباحثين، كفيل تماما كي تحرز العلوم الإنسانية درجة التقدم المنشودة، وتتجاوز مشكلتها. وليس هذا هو الأمر الواقع ولا المتوقع.
وتفسير هذا فيما أوضحناه في الفصل الأول من الكتاب، من أن اطراد التقدم العلمي ليس مجرد تراكم كمي رأسي، بل يعني تضاعف القوى المعرفية للنظريات في متوالية منطقية، وتبعا لمبدأ الطرح المنطقي يمكن ملاحظة أن هذا يطرح أيضا على موضوع العلم، ليصبح تعقيد الموضوع بدوره مسألة متوالية منطقية، وليس مجرد دالة كمية بسيطة. ومواجهة التعقيد بدورها لا بد أن تتم على هذا الوجه، وتغدو النسقية المنطقية هي الأسلوب القادر على الإحاطة الصورية بالموقف شديد التركيب والتعقيد، وتتبع تمثلاته ونواتجه: فالعلم - كل علم سواء طبيعيا أو إنسانيا - يتناسب ما يحرزه من اطراد التقدم مع درجة تقنينه المنطقي ونسقيته. ولئن كانت الفيزياء قد فاقت كل فروع العلم في درجة تقدمها، فذلك ببساطة؛ لأنها تفوق كل فروع العلم في درجة نسقيتها وتقنينها المنطقي، في مقابل العلوم الإنسانية التي أوجزنا منطق مشكلتها في «افتقاد المشروع العلمي للإحكام والتقنين المنطقي».
وقبل تحديد كيفية تحقيق هذا الإحكام المفتقد، لا بد قبلا من طرح السؤال: لماذا هذا الافتقاد؟ وسبيلنا الآن إلى الإجابة عنه. •••
تجرى العلوم الطبيعية في طرق حددت معالمها ممارسات عريقة وراسخة متفق عليها، فتسير عبر تخوم واضحة، وتصاغ قوانينها وفروضها ونظرياتها في حدود منطقية مقننة بدقة. فقدر لها - كما أوضحنا - أن يتوالى تقدمها وتتجاوز سرعة تقدم العلوم الإنسانية. وكان ذلك لعوامل متعددة أفضت إلى نسقيتها التامة، وهي عوامل تتبلور أخيرا في بساطة وحياد موضوعها، ومن ثم إمكانية انفصالها واستقلالها عن مختلف مجالات النشاط الإنساني الحضارية والروحية، فكان انتصارها على منافساتها من بني ثقافية أخرى أمرا ميسرا، وتمكنت من فرض ذاتها أو نسقها المحكوم بمنطقها «حكم ذاتي» يبلغ منتهى الشرعية والدستورية بما أوضحناه آنفا من منطق «تصحيح ذاتي». وأصبحت العلوم الطبيعية كيانا مستقلا تماما فلا تبعية، ولا وصاية، ولا اقتحام لقوى دخيلة على بناء العلم. إنه تحرر العلوم الطبيعية من الأوضاع أو المؤثرات الخارجية الذي بات جليا في عصرنا هذا. أما العلوم الإنسانية فيعود افتقارها لدرجة أعلى من التقنين المنطقي الدقيق إلى أنها لا تستطيع مثل هذا التحرر التام من مؤثرات خارجية دخيلة على العلم.
Página desconocida