ولعلها مزاج أكثر منها مذهبا، تلك الفردية المضخمة المثبتة نفسها بالخروج على كل شريعة، الجاحدة حتى مجالس النواب؛ لأن الشعب بالإنابة والتمثيل إنما يقيم عليه موالي. «وهل يكون الثور حرا إذا هو اختار جزاره؟» فجمعياتها بلا رؤساء وبلا هيئة تنفيذية، ولا يجمع بين الأعضاء سوى وحدة المشرب والمطلب والرغبة في تداول الصحف الفوضوية، والاحتفال حينا بعد حين بأعياد «شهدائهم».
ولقد فحص لمبروزو كثيرين من فوضويي شيكاغو وسواهم، فرأى أن حالة الفوضوي المجاهد حالة عجز وسقام، وما ظهوره بمظهر الجسارة والمفاداة سوى من «وثبات» الضعفاء المتهورين؛ فمنهم المبتلون بالأمراض المزمنة، ومنهم ذوو العريكة الخشنة الوعرة التي يعتاص عليها التطبع بطبائع الوسط، ومنهم ذوو الجمود الأخلاقي غير الشاعرين بهمس الضمير ودبيب الوجدان، ومنهم الجاني حبا بالجناية كالفوضوي الألماني موست الذي يرى فيه لمبروزو المذكور أحط أنواع الجناية، ومنهم أهل الباطنية والروحانية، وأهل الوحي والرفعة مثل باكونين وكروبتكن، ومنهم الفدائي المقتنع بأنه إنما يضحي بنفسه خدمة لبني الإنسان.
وليفسحوا مجال الدخول إلى الفردوس الموعود تراهم يكردسون الجثث على الجثث، ويجندلون الصريع فوق الصريع!
إن الفوضوية مذهب محزن مروع، وهو على حداثة نشأته ذو تاريخ مضرج بالدماء.
الفصل الثامن
العدمية
العدمية
Nihilism
اسم قديم كان وما زال يطلق على المذاهب الفلسفية القائلة بأن لا شيء موجود ولا شيء يمكن أن يعلم - على نحو مذهب غورغياس اليوناني أستاذ ثوسديدس كبير المؤرخين، ومذهب فيختي الألماني تلميذ كنت وأستاذ شلنج. وقد أنالها تورجنيف الروسي معنى جديدا؛ إذ نعت بها في رواياته أشخاصا تناولتهم الحالة الفكرية الشائعة يومئذ في طبقة المتعلمين الروس. ولئن ألف الناس الخلط بين الفوضوية والعدمية والنظر إليهما سويا كمنتهى التطرف والحدة الثوروية، فلأن حكومة القيصر الأوتقراطية أوجدت هذا الخطأ وأذاعته لتبرير ما تأتيه من ضغط ومقاومة، فوحدت في أحكامها جماعة المتنورين الأحرار ودعاة التهويش واللانظام.
على أن العدمية في وجهها الأولي غير الفوضوية وإن أشبهتها. أما وجه الشبه ففي كونهما معا مغالاة في إثبات الفردية وإنكارا لكل سلطة وقيد وشريعة، وأما وجه الاختلاف ففي أن العدمية بدأت مسالمة بعيد جلوس القيصر إسكندر الثاني سنة 1855 وبقيت فكرية معنوية إلى سنة السبعين. وكان القيصر المذكور ارتقى العرش مجاهرا بميله إلى الإصلاح والتسوية بين رعاياه، فما تم له في سنوات حكمه الأولى إخراج بلاده من حروب اشتبكت بها مع الدول حتى تحول إلى الإصلاح الرئيسي الذي طالما نادى به وهيأه كتاب الروس في القرن المنصرم، فجاء لوطنهم أهم حوادث التاريخ في ذلك القرن؛ وهو أن القيصر ألغى نظام الاسترقاق سنة 1861، والثلاثون مليونا الذين كانوا يعملون للموالي ولا أرض لهم ولا حرية أصبحوا مستقلين عن سادتهم، ورأى الأحرار في ذلك فاتحة عهد جديد فبعثت المواهب والقوى، وبرزت العقول الراجحة، وكثر عدد المفكرين وعلماء الاجتماع والاقتصاديين والشعراء والروائيين، وقاموا يحاربون ليس الأثرة السياسية بل الأثرة الأدبية في جميع أنواعها، ويحررون الفرد من قيود الدين وطغيان المجتمع ومزاعم الوسط ، بما فيها المزاعم الثوروية الذائعة يومذاك في أوروبا الغربية. وبعد أن هاجموا العقيدة والاصطلاح هاجموا العيلة مشعرين المرأة التي قضت حياتها أمة بأن جميع صنوف الحرية - ابتداء من حرية الحب - حل لها. •••
Página desconocida