Paso por la tierra de felicidad y noticias del mundo eterno
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
Géneros
وبعد هذا كله ضمد الجرح، وأعاد كل شيء إلى حاله الأصلي، ومنع البنج عن السكير، فأفاق وهو غير شاعر بشيء، إلا أن المأمور أمر بأن تفرك جراحه بالملح قصاصا له على ما أتاه من الذنوب والمعاصي من جرى إدمانه على شرب المسكر.
فنفذ الجنود الحكم على التعيس، وهو يصرخ ويستغيث، ولا من مغيث، ثم حملوه إلى الداخل، وذهب الدكتور شمروخ من حضرة المأمور، وبقي الطبيب المذنب وحده، ففاتحه المأمور بقوله: كيف حال الدكتور بعد هذا الفحص؟ أين شهادتك؟ أين «ب. ع.» و«بلوط»؟ قد حكمت عليك بخمسين حقنة مورفين تحت الجلد، وإن فهت بكلمة واحدة جعلتها مضاعفة.
فعض الدكتور على إصبعه، وبكى بكاء مرا، ثم قال: هذا جزاء الكسل والإهمال، فإني أستحق القصاص، وبعد هنيهة أتوا بالحقن، وابتدءوا بحقنه، فتخدر جسمه وتورم، ولسان حاله يقول: طابخ السم آكله. •••
بعد هذا نظرت إلى حنوش، ذلك الصديق المحبوب، وقلت له: يا أخي حنوش، إن أمثال هذا الطبيب كثيرون على الأرض، فإن الواحد منهم يكتفي بالحصول على شهادة المدرسة التي يتعلم فيها، ولا يعود بعد خروجه منها يتعب نفسه بالدرس والتنقيب والتمرين لاكتشاف المفيد من العلاجات لتخفيف ويلات البشر.
كم كنت أرى الطبيب يدخل إلى بيت العليل بوجه عبوس، وجبهة قاطبة، كأنه ذاهب إلى خصام وقتال، فيسرع حالا إلى جس نبض المريض، ثم يطلب منه مد اللسان، فيراه وقبل أن يحقق جيدا ما هو مرضه يأخذ القلم، ويكتب الوصفة على التخمين، ويذهب غير ملتفت إلى جسم المريض، إذا كان بحاجة إلى غسل وتنظيف، ولا يستفحص عن المأكول والمشروب الذي يأكله، ولا عن المسكن إذا كان صالحا لإقامة المريض فيه، ولا يتحرى الأسباب التي قادت الشخص إلى المرض ويمنعها، ولا يوصي أهل البيت بضرورة تجديد هواء غرفة المريض، ومنع الاجتماعات عنده وكثرة اللغط والتدخين؛ كل هذه الأمور المهمة يهملها الطبيب جانبا، ويتكل على ملعقة الدواء! فماذا تنفع الأدوية إذا كان لا يمنع أسباب الأمراض، ويساعد المصاب على إزالتها؟! فالعقاقير الطبية مهما كانت خالصة من الغش نافعة، فإنها لا تفيد شيئا إذا لم تقرن مع المعيشة «الهيجينية»؛ أي: الاقتصار على المآكل البسيطة المغذية، واستنشاق الهواء النقي، والسكن في الأمكنة الجيدة المناخ، مع نظافة الجسم وإراحة العقل، والرياضة الخفيفة.
كل هذا يا حبيبي حنوش هين بجانب مداواة الأطباء للفقراء، قد يداوونهم ويطببونهم، ويكتبون في الجرائد وعلى أبواب بيوتهم أنهم يداوون الفقراء مجانا. نعم، يداوونهم مجانا ولا أنكر ذلك، ولكن كيف تكون هذه المداواة وأين؟ هل يذهبون إلى بيوتهم كما يذهبون إلى بيوت الأغنياء؟ كلا، بل يجب على المريض الفقير - مهما كان مرضه - أن يذهب إلى محل عيادة الطبيب، مسكين ذلك الفقير المصاب بذات الرئة أو بالحمى، فإنه يلتزم أن يترك فراشه، ويذهب ماشيا على قدميه المائتين والهواء البارد، ينشر عليه عباءة من القشعريرة فتزيد في مرضه، مسكين الفقير المصاب بداء المفاصل المضطر إلى المداواة، فإنه يذهب متوكيا على عصاه، تسنده أمه أو امرأته أو ولده، ويذهبون به إلى المداوي الذي يكتب له الوصفة من غير أن يعزيه بكلمة أو يطمنه بابتسامة، فيأخذ المسكين زجاجة الدواء معه ظانا أنه أتى بترياق الحياة، فيصل إلى بيته منهوك القوى ، لا يقوى على الكلام، ثم يأتوه بملعقة ربما تكون بيد الأولاد يلعبون بها في الأرض، أو تكون من نحاس وعليها الصداء المسم، فيتناول بها الدواء لجهله، ويتركها على كرسي أو يرمي بها على طاولة قذرة فتتلوث بالجراثيم؛ فيزيد بذلك مصاب العليل بزيادة العلل، وقد لا يكون عنده قدح من الزجاج ليشرب به، فيستعمل الوعاء الذي تستعمله العائلة، ويكون مع هذا كله نائما على فراش ناشف في غرفة مظلمة، يوقدون فيها النار ويشعلون في الليل قنديلا من زيت البترول، وينام فيها أكثر من أربعة أو خمسة أنفس.
مسكين الفقير الذي يصاب بألم الأضراس، فإنه لا يجد من يداويه ويخفف عنه أوجاعه المرة؛ لأن أطباء الأسنان لا يداوون الفقراء مجانا، فبعد أن تنكد عيشه الأوجاع يذهب إلى أحد الحلاقين، فينزع له ضرسا أو ضرسين في وقت واحد، فيخسر بذلك أهم عضو في جسمه، ويفرط عقد أسنانه الذي عليها تتوقف لذة الحياة، وجمال الوجه، وراحة المعدة، وحسن التغذية.
تصور يا عزيزي حنوش هذه الحالة المحزنة، وقل: مسكين الفقير الجاهل، مسكين؛ ما أشقاه عند حلول المرض على جسمه، مسكين الفقير الذي يكون في بلاد ليس في رؤسائها وحكامها وأطبائها رحمة ولا شفقة، فقد يداس ويسحق.
هذا، ولا أنكر أنه يوجد بعض الأطباء ذوي عواطف شريفة، تطفح الرحمة من قلوبهم، برعوا في مهنتهم، فلا يصفون الدواء قبل تحقيق الداء، فيطببون الفقير بعناية كما لو كانوا يطببون الغني، وكثيرا ما أنفقوا من جيوبهم ثمن الدواء، وسعوا في ترغيب الفقراء الذين يخافون من المستشفيات وذكرها - لاعتقادهم أن من يدخل إليها لا يخرج منها إلا مائتا - إلى الذهاب إليها؛ لأنها أصلح للمعالجة من البيوت، ولكن هؤلاء الأطباء الرحماء قليلون. •••
بعد أن حملوا الطبيب إلى الداخل، أمر المأمور بإحضار المحامي الذي تجاسر على الكلام في أثناء محاكمة الطبيب، فذهب بعض الجنود لإحضاره، وبعد هنيهة عادوا وهم يقولون: إن المحامي عاص، لا يريد أن يحضر إلى هنا، فقد تطاول على مقامكم بالكلام، ونسب إليكم الظلم والاستبداد والإخلال بالحكم. فأمر بإحضاره بالقوة الجبرية إذا تمنع ثانيا عن الحضور، فدخل الجنود ثانيا، وكان قد اجتمع حول المحامي أكثر رصفائه المحامين، وتعصبوا ضد الجنود، ولما وجد الجنود ذلك استعملوا القوة، وأتوا بالمحامي وهو يصرخ ويصخب، ويقول: إنني لا أقبل بحكم المأمور؛ لأنه ظالم شرير مستبد، أريد أن أميز الدعوى إلى المحكمة العليا.
Página desconocida