ارتدى معطف النحل، وحمل المعطف الخارجي ومعطف المطر واعتمر القبعة عريضة الحواف القديمة، وأوصد الباب الخلفي وراءه وسلك سبيله بتأن عابرا الممشى الخلفي، ومجتازا الرمال؛ ليصعد العرش. ومن ثم جلس في الموضع المريح الذي أعده لنفسه، مرتديا المعطف الخارجي وباسطا معطف المطر حتى يستطيع أن يضمه حوله، وضم إليه أغطيته بطريقة محكمة بحيث لا يصيبه برد. ثم جلس يشاهد العاصفة المقبلة بشغف شديد.
لم يكن يعلم أنه يضع قوى الطبيعة في مقارنة. لم يكن مدركا أن العاصفة التي من شأنها أن تزلزل روح الإنسان وجسده حتى تدمره ظلت محتدمة طوال سنتين في صدره المصاب، وفي قلبه، وفي عقله. لم يعلم أنه لا يدرك قوتها وعنفها وعدم جدواها. لم يعلم لماذا أراد أن يرى السماء وهي تهبط والبحر وهو يرتفع ثم يصلان إلى أقصى حدود ثورتهما. لم يعلم أنه أراد أن يقارن بين العاصفة التي يمكنها اكتساح قلب إنسان مع العاصفة التي يمكنها اكتساح العالم. لقد حاول بحق أن يحمي نفسه حتى لا يعجل بشيء قد يكون مقدرا له. لم يرد أن يخفق، وقد ائتمنه سيد النحل على منزله وأملاكه وعمله وهي كل ما يملك من حطام الدنيا، ولم يعلم أنه مع اقتراب العاصفة أكثر، واشتداد سواد الغيوم، وتحول موجات الحرارة إلى ومضات واضحة من البرق، ومع هبوط المساء بلونه الأسود مثل المخمل حوله؛ لم يدرك أن عزيمته المعنوية والذهنية كانت ترتفع مع مد العاصفة، وأن كل ما تبقى في جسده المتداعي من بقايا رجولة كانت تحتشد معا لتبلغ قمة من نوع ما، تماما كما كانت العاصفة ستبلغ ذروتها في الحال ثم تتراجع.
من دون أن يحرك ساكنا، وبأنفاس تكاد تنقطع من اللهفة، استلقى في مقعده الصخري وتساءل كم سيبلغ ارتفاع المد على وجه التحديد. لم يتبين إذا ما كان الماء قد يحيط بالنتوء الصخري. اعتقد أنها ستكون عاصفة غير مسبوقة وأنها ستغمره. على أي حال، قرر أن يخوض المغامرة. وربما كان يجدر به أن يسأل مارجريت كاميرون هل غمر الماء ذلك النتوء تماما من قبل. لكنه متأكد أنه أعلى من أي مستوى رأى الإنسان المحيط يرتفع إليه؛ ومن ثم فلا بد أنه آمن.
في اللحظة التي أدرك فيها جيمي أنه يحظى بأفضل وقت مر عليه منذ كانت المدافع تدوي وكان القتال في المعركة محتدما وكان هو قادرا على تسديد ما اعتبره ضربات قليلة مؤثرة، مصاحبا كلا منها بصيحة مدوية قائلا: «باسم فوج المرتفعات الثاني والأربعين!» وحين شعر بدمه يضطرب وروحه تتجاوب مع تكسر الأمواج التي ترش الرذاذ على قدميه، وهزيم الرعد وتألق البرق، بالضبط مثلما سار القتال في صالحه وكان جيمي جندي فوج المرتفعات الثاني والأربعين وبسيف سحري يقطع رءوس عدد لا يحصى من الألمان مع كل ضربة سيف سريعة كالبرق، حدث له أغرب شيء رآه طوال السنوات التي عاشها. إذ انبعثت رائحة غريبة بطيئة وخافتة حتى أحاطت به تماما واكتنفته.
هبط جيمي من المعركة التي في خياله إلى واقع يومه والتفت برأسه إلى اليمين. متحريا الرفق كما كان يفعل حين يزحف على بطنه نحو الألمان في الأرض المتنازع عليها، باحثا عن رفيق مفقود أو مستكشفا مواقع العدو، راح يتشمم هواء الليل. وأول معلومة مؤكدة شعر أنه يستطيع الاعتماد عليها من المعلومات التي أرسلها أنفه إلى دماغه كانت رائحة «المريمية». وتشمم مرة أخرى فأدرك زهرة خزامى الشواطئ؛ «رعي الحمام الرملي»، واحدة من أرق وأروع الروائح الخفيفة في الطبيعة بأسرها، ثم تسللت نفحة من زهور الربيع. وعندئذ، بالضبط حين أعقب الصدع الذي بدا كأنه شق السماء هزيم الرعد المدوي، بلغ أذني جيمي بكاء ملتاع كان أكثر ما قد سمعه في حياته إثارة للشفقة. وبينما هو ساكن سكون الموت وجالس بين أغطيته، التفت رأسه، وتيقظ أنفه وأذناه، وبعد برهة، وهو ما زال يتشمم وينصت، توصل إلى استنتاج: إن العرش الذي كان يظنه غاية في الروعة، الذي سابق إلى الاستحواذ عليه، الذي انتوى أن يشغله في عدة ليال من التواصل الوجداني في سعيه للتقرب إلى الله، لم يكن عرشه الشخصي. لقد كان متطفلا عليه. إذ كان هناك شخص آخر على معرفة بالطريق المتعرج المؤدي إلى القمة من الخلف. شخص يخوض صراعا وبحاجة إلى أن يداويه الله من خلال الطبيعة ليقوى على خوضه. حيث وقف بجانبه شخص تفوح منه رائحة مريمية الجبال، رائحة الخزامى وزهور الشاطئ الذهبية، وكان لهذا الشخص صوت امرأة، ليس بالصوت المبحوح، وليس بالصوت اللاهث لامرأة عجوز. يعلم الله أن جيمي قد سمع نساء كثيرات يبكين؛ نساء من فرنسا، ونساء من بلجيكا، ونساء من إنجلترا. لقد كان خبيرا بكل أنواع وألوان نشيج الأسى الذي قد يعتصر جسد الأم، الزوجة، الأخت، الحبيبة.
على مهل، وبرفق، من دون أن يحدث صوتا بقدر ما استطاع، التفت ليواجه هذه المرأة. كانت قد وصلت إلى مقعدها حيث جلس هو في البداية. من الجائز أنها لم تعلم أن مقعدا آخر قد صنع، وراء المكان الذي لا بد أنها قد اعتادت عليه، وإلا ما كان من الممكن أبدا أن تجده في ظلمة العاصفة. لا بد أنها اعتادت الجلوس في ذلك الموقع خلال عواصف أخرى، وإلا ما كانت سعت إليه وقد بلغت تلك العاصفة أشدها.
وبعد أن تمكن الإجهاد من الطبيعة وبدأت تخف من حدة العاصفة التي شنتها، حدث لجيمي شيء عجيب آخر. إذ راحت الريح الهائجة التي كانت تهب من الغرب تتحول تدريجيا إلى الشمال وبدأت تطير شيئا على وجهه، وهو شيء ناعم، شيء حريري، شيء راح ينسحب وينشد، ويلتصق به مع الرذاذ المتدافع والمطر الغزير. ووسط ارتباك مشوب بذهول أخرج يده ولمس وجنتيه برفق، فوجد عليهما خصلة حريرية من شعر امرأة. أدرك جيمي أنه إذا علمت المرأة بوجود رجل هناك، فقد تذعر ذعرا شديدا حتى إنها ربما تلقي بنفسها إلى البحر الهائج تحتهما على بعد بضع أقدام. لذا تخوف من أن يتكلم، من أن يتحرك، ولم يخطر له أنه قد يكون بجانبه أنف في مثل حساسية أنفه، وأنه قد تفوح منه في التو واللحظة رائحة يميزها شخص آخر.
لم يعلم جيمي قط كيف ستتوالى الأحداث؛ لأنه في اللحظة التي تسللت فيها يده لتزيح عن عينيه الشعر الذي حجب عنهما الرؤية، ضرب وميض ممتد ومنخفض من البرق قلب المحيط وأضاء الصخرة للحظة بنور كالنهار. في تلك اللحظة رأى جيمي وجها أبيض وعينين كبيرتين نجلاوين لامرأة، وجها سيظل يتذكره ما دامت له ذاكرة، وجها لا يمكن بحال من الأحوال أن ينساه أبدا. التقطت أذنه المرهفة شهقة الدهشة الحادة من وجوده هناك، حيث يجوز جدا لأي شخص معتاد على الصخرة أن يفترض أنه لا يجد أحدا، فعرف أنها صادرة عن امرأة معتادة على ضبط النفس. فهي لم تصرخ. ولم تقفز. إنما التقطت أنفاسها فقط.
كان جيمي مستعدا إلى حد ما. فقد حاول تدبر أمره. ولم يؤخذ على حين غرة مثلها. أما ما كان قد انتوى أن يقوله، وما ظن أنه سيكون قولا عاقلا، فلم ينطق به قط.
لكنه وجد نفسه يقول: «لا تجزعي! ما الذي يؤلمك؟ دعيني أساعدك.»
Página desconocida