قال الطفل: «ولا أنا.» وتابع: «أعتقد أنه الشيء الوحيد في العالم الذي يوجع قلبه حقا ولم يخبرني به. لقد أخبرني بكل الأشياء التي يتألم منها وأقصته عن دياره في الشرق، وحدثني عن الفتاة الصغيرة ذات الشعر الذهبي التي اضطر إلى فراقها فراقا غاية في البشاعة، واطلعت على كل ما في الصندوق الماهوجني المنقوش الكبير ورتبت كل ما فيه من أوراق ورأيت كل ما فيه من صور. أعلم كم أحب ماري، وأعلم بشأن الدار التي فقدها. بل إنني أعلم حتى السر الذي حطم قلبه، وأعرف كل ما استطاع أن يعلمني إياه بشأن النحل.»
أمسك الصغير عن الكلام ثم تحول إلى نبرة اتسمت بالموضوعية الصرفة لمناقشة العمل. «والآن، فلنعد إلى ما يخص النحل. هناك الكثير من الأشياء كي نتعلمها عنه، والتي لم يكتشفها كلها بعد أولئك الرجال الذين ألفوا عنه الكتب، من ثم لم يستطع سيد النحل أن يعلمني كل شيء، بالطبع. لكنني أعرف كل ما تيسر له أن يريني إياه بشأن القفائر وعن خبز النحل ومرض تعفن الحضنة وبشأن الملكات واليرقات والعاملات والذكور والممرضات. أما المعلومات التي عن الممرضات فهي بلا حدود! لم تكن لتتخيل أن يوجد في قفير النحل ممرضات، أليس كذلك؟»
جال في بال جيمي تجارب حديثة العهد، إذ أجاب متمهلا: «إن الممرضات من أروع المخلوقات على وجه الأرض، وقد سمعت أن النحل مخلوقات غاية في الروعة؛ لذلك أعتقد أنه من الوارد أن يكون لديه بالفعل ممرضات.» «أنت محق، تماما!» قال الصغير. ثم أضاف: «من الممكن أن أصطحبك إلى أي من هذه القفائر لأفتحها وأريك ما قد يصل إلى أربعين ألف ممرضة وهي ترعى اليرقات البيضاء.»
وعندئذ، للمرة الثانية، واجه جيمي السؤال: «هل لديك مناعة من النحل؟»
ومرة أخرى أجاب جيمي قائلا: «لا أعلم. لم أختبر الأمر من قبل.»
ضحك الصغير ضحك من تفهم الموقف. «ولا أنا؛ إلى أن حصلت على تجربتي. بعد أن لازمت المكان منذ أول مرة رأيت فيها رأسه الأبيض وظللت أتردد عليه حتى قال إنني من الممكن أن أصبح مساعده وأعاونه في أمور النحل، لم يكن لدي أي خبرة؛ لذلك عدت ذات صباح، إلى الجهة الشرقية هناك، لأرى ما إن كان لدي مناعة من النحل، وقد اعتقدنا دائما فيما بعد أنني قد ارتكبت خطأ. لم تكن رائحتي مناسبة.»
عض جيمي على شفته وازدرد لعابه بصعوبة، حيث تفوح من الشخص الصغير قبالته، في واقع الأمر، رائحة خيل أشد مما سواها من روائح، يليها بالضبط رائحة كلاب، وقد اختلط بروائح الخيل والكلاب رائحة نفاذة لزنابق مادونا وكذلك البصل. وقد أثار المزيج بطريقة خاصة حاسة الشم المرهفة لدى جيمي. ورغم أنه لم يكن قد مضى وقت طويل منذ ألهبت عينيه دموع الشفقة على نفسه، فقد انتابته رغبة في تلك اللحظة بالذات في التهليل. ولم يكن ثمة سبب وجيه مطلقا يمنعه من ذلك. ومن دون أن يدرك البتة ما يدور في ذهنه، استأنف الشخص الصغير حديثه بجدية. «لم تكن رائحتي مناسبة. أتعلم، إن للنحل تجاويف للشم بدلا من الأنوف. إنها موجودة في أنبوبين صغيرين ناتئين حيث مكان الأنف في الكائنات الأخرى بخلاف النحل، وكل واحدة من النحلات العاملات (وهي النحلات التي تؤدي الأعمال في أنحاء الخلية)، كل واحدة من النحلات العاملات لديها خمسة آلاف تجويف للشم. ورغم ذلك فالنحلة العاملة لا تقارن بالذكر. إذ إن الذكر لديه سبعة وثلاثون ألفا وثمانمائة تجويف للشم، بحيث يضمن ألا يضل عن رائحة الملكة حين يخرج للتزاوج معها. وهكذا، حين اقترب مني أحد الذكور، كنت غالبا مغطى تماما برائحة الخيل والكلاب. تلك كانت المشكلة برمتها؛ لم تكن رائحتي مناسبة. قال سيد النحل إنه كان عدوانيا جدا. كنت قد امتطيت الحصان كوين ولهوت مع كلب أمي، وعندما أدخل في عراك مع الكلب تشام، يكون فوقي نصف الوقت وأكون فوقه النصف الآخر؛ لذا كنت ملطخا تماما برائحة كلب وحصان وأشياء من هذا القبيل، وهي روائح لا يحبها النحل. وقد ظل سيد النحل يقول إنه لو كان قد احتكم لأي منطق لما حدث ذلك. فطالما شعر بالذنب حيال الأمر، لكنني لم أكترث كثيرا. فمن الجيد أن تعلم بالضبط ما أنت موشك عليه، وحينئذ، إذا اعتقدت أنك تستطيع احتماله، فبالقطع ستستطيع. على أي حال، قلت إنني سوف أذهب قبالة القفائر التي في الصف الشرقي بينما ذهب سيد النحل لملء أحواض المياه وللتأكد من عدم وقوع سرقات وللاطمئنان من أن الملكات كلهن على ما يرام ويضعن بعض الملايين من البيض أو نحو ذلك، وقد مضيت إلى هناك متسكعا، ومن ثم أول شيء أدركته، هو خروج نحلة عاملة كبيرة لتؤز فوق رأسي مباشرة، وجاء خلفها اثنتان أو ثلاث أخريات، وكانت تطير بيني وبين السيد، ولم أرد أنا المرور وسط زهوره - فهو أشد خلق الله حرصا على الزهور - ولم أدر بالضبط كيف يمكنني إبعادها؛ لأنني ليس لدي سوى عينين بينما كل منها لديها ربما ستة آلاف عين في كل ناحية من رأسها.
هنا صاح بي سيد النحل وقال: «سر في خط متعرج!» وكان أجدر به أن يقول ذلك بالإسبانية أو بالفرنسية أو أي شيء، فلم يكن هناك أي جدوى من التحدث بالإنجليزية أمام نحلاته؛ لأنها فهمته كما فهمته تماما! وقد حاولت قدر جهدي أن أفعل ما أخبرني به، لكنني كلما انحرفت فإن النحلة اللعينة تنحرف خلفي كذلك، وكلما وثبت إلى ناحية وحاولت أن أميل إليها، فإن النحلة تميل قبل أن أفعل بقليل، وبالطبع، لما سار الأمر على ذلك المنوال، فقد تصادمنا. أخبرني، هل سبق أن لاحقتك نحلة من السلاسة الألمانية السوداء؟»
اسود وجه جيمي للحظة، ثم نظر إلى الوجه الصغير المتحمس أمامه وترك الموقف يمر وهو يقول بهدوء: «لم أجرب لسع النحل . كلا. لكنني جربت بضع مرات لسع الدبابير والزنابير في الوديان والغابات حين كنت صبيا. أي لدي فكرة عامة عن الأمر.»
قال الصغير: «لا أعتقد ذلك.» وتابع: «لا أعتقد أن هناك، في عالم الحشرات اللاسعة، أي شيء له ست أرجل، بها إبر حادة وطويلة وجاهزة للاستخدام مثل التي لدى النحلة الألمانية السوداء. أقسم إنها تستطيع اختراقك حتى تصل لأحشائك، وحين يهاجمك نحو ثلاث منها من مؤخرة عنقك وحول أذنيك وعضلات ذراعيك؛ ويحي!»
Página desconocida