ببطء، وبقدمين مضطربتين، شق جيمي طريقه عابرا الطرف الخلفي من المنزل. تحت شجرة جاكرندا على الجانب الشرقي رأى مقعدا غاية في الجاذبية. فذهب وجلس عليه تحديدا في الموقع الذي ألقت فيه فروع الشجرة فوق رأسه ظلا مخلخلا تاركة جسده النحيل ممدودا في ضوء الشمس. جلس وحاول أن يفكر. ولأن السماء كانت جميلة جدا، والبحر جميل جدا، والحديقة جميلة لكن جمالا يثير القلق، فقد راودته الفكرة القديمة التي ظل يجترها أينما ذهب طوال العامين الماضيين: حتى متى؟ وما الوقت المتاح له، على أي حال؟ متى ستفقد السماء واقعها الأبدي ويتوقف البحر عن الابتسام، ومنظر الزهور وشدو الطيور وطنين النحل وصرير صراصير الليل؛ متى ستصبح في طي الماضي بالنسبة إليه؟
ولأنه قد أجهد نفسه جهدا مؤلما جدا، ولأنه كان منهكا أشد الإنهاك ومتعبا بدرجة مفرطة من رحلته، فهو لم يكن متفائلا جدا. فقد بدا كل شيء يخصه كئيبا أكثر من أي وقت مضى. كانت الضمادات التي نزعها من أجل الاستحمام ملطخة بصديد فاقع، لتخبره مجددا بقصة الجروح الساخطة التي تأبى الاندمال. هكذا بدا لجيمي أن حالته الخاصة في عصر ذلك اليوم ميئوس منها أكثر مما بدت له حين نهض في تمرد محموم وخرج من كنف حكومته. لكن كانت المفارقة في الموقف برمته أنه في الوقت الذي يرى فيه أن الأمور قد بلغت درجة غير مسبوقة من القتامة، كان قد حل بأحد المواقع الأروع جمالا على وجه الأرض.
قليلة هي الأماكن التي يبني فيها الحب والصنعة منزلا صغيرا بواجهة مرحبة. وقليلة هي الأماكن التي يقيم فيها الحب والفطرة السليمة حديقة، نصفها نباتات برية ونصفها الآخر أشياء قديمة ساحرة تطورت من دون مساعدة التهجين والتسميد وغيرهما من البدائل التي تؤدي إلى نمو شديد التفشي والضخامة حتى ليصعب على المرء أن يصدق أن الزهور كائنات حية. قليلة هي الأماكن التي ينخفض فيها ارتفاع جانب جبل ما سيرا وانزلاقا وقفزا، ويتعرج في مسارات ملتفة مزدانة بالزهور حتى يصل إلى الرمال البيضاء لبحر أزرق متلألئ، ويسهل تصديق أن مكانا كهذا بالطبع يصبح مأوى لبيوت صغيرة مستديرة بيضاء ذات أسقف مستديرة حيث تصنع ملايين النحلات العسل لتحلية الطعام لعالم بأكمله.
ومن الطبيعي توقع أن يجذب طنين النحل وأريج الزهور الطيور إلى مكان كهذا، فلا بد عبر أي مساحة من شاطئ المحيط أن تجد مساحات شاسعة ممتلئة بطيور البجع الرمادية الكبيرة والزقة الأمريكية سوداء الجناح، والبط البري، وطيور النوارس ناصعة البياض وسنونو البحر معقوفة الأجنحة، كأنها طيور من العاج المنحوت، تحلق وتطوف فوق المياه مدفوعة بالحب الخالص للسماء الزرقاء والمياه الزرقاء، وللاستمتاع بقدرتها على الطيران. ولا بد أن ترى طيور النوء وطيور الطيطوي الصغيرة طويلة السيقان وطيور الزقزاق وهي تميل على امتداد الشاطئ، ولا بد من وجود أطفال صغار يحفرون في الرمال، وأشخاص كبار ينعمون بساعة من البهجة ممددين في أشعة الشمس، سائلين الأرض أن تبرئ أجسادهم وخالق الشمس أن يشفي قلوبهم.
حين جلس جيمي على المقعد تحت شجرة الجاكرندا شاعرا بسقم شديد حتى إن دموع رثائه لحاله راحت تلهب عينيه الرماديتين النجلاوين، تساءل تساؤلا مبهما عما قد يحدث له إن نزل إلى البحر ونقع جسده في المياه الباردة المالحة وترك الشمس تنفذ داخل جسده كل الخواص الطبية التي تحتوي عليها مياه البحر. لقد ظل عاما يجرب الاستشفاء بالمياه الساخنة القادمة من أحشاء الأرض المستعرة. فكيف سيكون الأمر إن جرب عاما من الاستشفاء بالمياه الباردة القادمة من بحار سطح الأرض مع شمس السماء؟
التوت شفتا جيمي في أسى. ربما هو الآن أقرب ما يمكن له على الإطلاق من النعيم إلى أن يحين وقت خروجه من هذه الجنة، وربما تنتهي مدة توليه مهام المنزل الأبيض الصغير والحديقة الجبلية بعد بضعة أيام فحسب، ويصبح نصيبه أن يواصل الترحال إلى أن تزداد حالته بؤسا حتى عما كانت في تلك اللحظة.
الفصل الخامس
الكشافة الصغير
في اليوم التالي، بينما كان جيمي جالسا على المقعد نفسه، وذهنه مشغول بالموضوع نفسه، قفز طفل رشيق نوعا ما عاليا من فوق السياج وحط بمهارة على ممشى الحديقة المغطى بالرمال. حين استعاد الجسد الضئيل توازنه، قبضت إحدى يديه على حزام سروال قصير غاية في القذارة ودست فيه اليد الأخرى إمعانا في تثبيته طرف قميص لم يكن بالغ النظافة. وبينما يقف على قدم واحدة، خلع الفتى حذاء قماشيا من القدم الأخرى، ونفض عنه الرمل، ثم ارتدى الحذاء مرة أخرى على قدم حافية. أخذ الطفل نفسا عميقا ووقف للحظة بلا حراك يجول بنظره متفحصا الحديقة.
خلال لحظة الثبات تلك، راح جيمي يتأمل في ذهنه هذا الجسم النحيف المسطح. حيث ربطت إحدى ساقي السروال عند الركبة. بينما فقدت الساق الأخرى ربطتها وتدلت حتى منتصف الكاحل بحزام سائب ومشبك متخبط. وكان كما القميص الأخضر الكاكي ممزقين عند المرفقين وقد شق أحدهما بالطول حتى المنكب. كما كشفت اليدان والذراعان والساقان عن آثار تسلق وأنشطة عنيفة. وكان الوجه الصغير مسطحا بعض الشيء؛ فالأنف أفطس صغير، والفم واسع. ولم تبد العينان بالغتي الاتساع. لم يستطع جيمي أن يحدد وهو على ذلك البعد ماذا كان لونهما. ربما كان الشعر سيصبح بنيا لو لم تبهته شمس كاليفورنيا الحارة حتى صارت الطبقة الخارجية ذات لون أصفر باهت؛ أما المواضع التي افترق فيها شعره فقد ظهرت فيها خصلات داكنة أكثر. كان مقصوصا بطول واحد على شكل دائرة عند الأذنين مع غرة بامتداد الجبهة. «إنه من أصول هولندية» هكذا افترض جيمي، وبينما هو جالس يشاهده، شرع الطفل يدور بحركة غاية في الرشاقة والخفة، ويرقص تحت أشعة الشمس.
Página desconocida