بعد أن أكسبه الطعام بعض النشاط، ذهب جيمي إلى منتصف الطريق ووقف ينظر إلى المنزل والأرض. كان هناك تفاوت طفيف جدا في عرض الأفاريز وزاوية السطح، حتى إنه يصعب على المرء أن يحدد أين يكمن الفرق بينه وبين المنازل الأخرى الممتدة حتى آخر الشارع.
وبينما ظل واقفا يتفحصه، وجد جيمي صعوبة في تحديد الاختلاف لنفسه. ربما كان الموقع، وسياج الأوتاد الخشبية المطلي بالكلس، والشرفة المنحدرة الأنيقة. ربما كان اللون المميز للطلاء الذي حفظ الخشب. ربما كانت الكروم النادرة، والشجيرات ذات الرائحة العطرة، والزهور المبهجة التي احتشدت في كل مكان من دون أي نظام أو دقة. على أي حال، كان ثمة شيء مميز في المنزل، وقد ظللته أشجار أوكالبتوس باسقة وشجرة جاكرندا رقيقة، أحاط بها غطاء زاه من سحر الزهور الزرقاء، أعطته - لم يجد جيمي تعبيرا آخر - واجهة مرحبة. فقد بدا كأن له طابعا آدميا وبدا كأنه يبتسم ابتسامة ترحيب غاية في الدفء.
ثم نظر جيمي وراءه إلى زرقة البحر المتلألئة وزرقة السماء المشابهة، ثم ارتقى ببصره نحو مستوى أعلى. وقف هناك وقد استغرق في التفكير، وقبل أن يدرك ما كان يفعله كرر بلكنة أبيه العبارة التي استخدمها قبل بضعة أيام: «كم أنت كريم معي، يا رب!»
ثم ابتسم جيمي بعينين حالمتين للمنزل، واتجه إلى داخله، ملاحظا باهتمام المقاعد الجانبية والكروم الرقيقة التي شذبت فوق الشرفة. نظر إلى الأبسطة التي على الأرضيات وخمن أنها فارسية عتيقة وثمينة. فلم يكن ضليعا في أصول عالم الأبسطة. كما أدرك أن الأثاث عتيق وثمين أيضا. حيث مر بأصابعه في إعجاب على قطع من خشب الورد والماهوجني قديمة ولامعة من الاستخدام، وقد صممها حرفيون مهرة منذ زمن بعيد على الجانب الآخر من البحار البعيدة.
استحوذت خزانات الكتب ، الممتدة من الأرض للسقف، في جميع أنحاء الحجرة تقريبا، على انتباهه بضع لحظات، ثم توقف أمام طاولة للكتابة، مفتوحة، حيث كانت ريشة سيد النحل في حامل صغير للحبر مصنوع من قرون الحيوانات، وأوراق خطاب لم يكتمل ملقاة على الدفتر. وبدافع الرقي الأصيل في قلب رجل نبيل من اسكتلندا، التقط جيمي الأوراق، ورفع الدفتر، وقلبها على وجهها على الخشب الماهوجني لطاولة الكتابة، وأعاد الدفتر إلى مكانه. سيظل الخطاب هناك دون أن يمس إلى حين عودة سيد النحل.
بعد ذلك انتقلت عينا جيمي إلى الخزانة فوق طاولة الكتابة. كان من البداية قد قرأ أسماء بارزة في الأدب، لكن بدا أن كل مجلد في تلك الخزانة الصغيرة كان إما خاصا بالنحل كلية أو متعلقا به بطريقة ما. وعلى الفور ارتفعت يد جيمي لفتح أحد المجلدات. قد تكون ضخامة المجلد هي ما نبهه إلى واقع أنه من الأفضل له أن ينعم بالراحة بضعة أيام أخرى قبل أن يشرع في مهمة قد تنتهي سريعا أو تستغرق وقتا طويلا. بعد ذلك تفقد غرفة النوم المجاورة بالتفصيل، ملاحظا تنظيمها، ودقة ترتيبها، وبهاء النقوش والزخارف ودقتها، وندرة الكتب الملقاة هنا وهناك، والأناقة البسيطة للمفروشات.
وعاد من خلال المطبخ والرواق الخلفي وخرج إلى الضوء المنبلج لشمس بعد الظهيرة. كان في حال من الهزال والبرد تجعله يحب دفئها.
بينما كان واقفا هناك يجول ببصره في المساحة الممتدة من الحديقة إلى البحر، أحس أنها ضمت أجمل صورة رآها على الإطلاق. كانت تغطي فدانين من جبال سييرا مادري حيث تلتقي بالمحيط الهادئ. ويمتد عبرها ممشى وعر، مرصوف بأحجار جمعت من جانب الجبل، وبه درجات تهبط حتى الشاطئ بالأسفل. كما توجد عريشة عامرة بالأعناب مثل تلك الموجودة في حدائق الشرق، لكن ينمو بينها بوفرة زهور الوستريا والياسمين البري، والورود والكروم، وهي كروم لم يكن يعلم بأسمائها ولا عاداتها ولا أوان إزهارها. ونبتت على الجانبين، أحيانا على ما نتأ من صخور كبيرة منحدرة، وأحيانا على هضاب صغيرة خصبة، وأحيانا أخرى على منحدرات سهلة، كل أشجار الفاكهة التي يحلو لها الازدهار في تربة كاليفورنيا وشمسها - البشملة والتين، والبرتقال والليمون، والبرقوق والخوخ، والكمثرى والنكتارين، والتمر والجريب فروت - شجرة أو شجرتان فقط من كل نوع، وقد زرع بينها وأسفلها أحواض صغيرة للخضراوات.
ثم استرعى انتباه جيمي وهج أحمر أرجواني حيث نبتت بوفرة، على أوتاد لافتة للنظر، بمحاذاة الممشى حتى منتصف الطريق الهابط على جانب الجبل سيقان الطماطم حاملة ثمارا ضخمة، منها ما نضج حتى امتلأ عن آخره، وانتشرت في كل ناحية الأشجار القصيرة والشجيرات والكروم والزهور، والمزيد من الزهور، ولما تعرف جيمي على كل منها تقريبا، أدرك أنها كانت الزهور الساحرة القديمة التي كانت أمه وجدته تزرعانها. كما وجد هناك زنابق مادونا، التي تفتحت مزدهرة في التربة الدافئة وأشعة الشمس المغرية، بارتفاع أقل قدمين أو ثلاثة عن ارتفاعها في حدائق الشرق الباردة. افترش الأرض حولها أحواض زهور القرنفل، التي مست الهواء المالح المنعش بحلاوتها النفاذة، وزهور البليحاء ورقيب الشمس، وزهور أذن الفأر وزهور الآس الزرقاء الرائعة التي لم ير جيمي مثيلا لها قط؛ عالم كامل من الزهور والفاكهة.
وتصاعد من كل جهة، باطراد وبطء، طنين منخفض من ملايين النحلات العاملات؛ نحلات تسكن في قفائر، ليست مثل البيوت المسطحة القبيحة المستخدمة في عدد لا حصر له من المناحل التي مر بها أثناء رحلته، وإنما قفائر وضع كل منها في بقعة منفصلة ارتفعت فوق الأرض على منصة منخفضة ولها سقف مستدير مدبب أعطاها جمالا وجاذبية وانسجاما مع المكان. عند إمعان النظر اكتشف جيمي أن كل قفير وضع في حوض من زهور الآس الزرقاء مثل زرقة السماء. ثم رأى أن السياج القائم خلف القفائر كان جدارا من نبات البلمباجو الأزرق، صفوف رقيقة منها. وبالأعلى، توجد أشجار جاكرندا الرقيقة الرائعة، واحدة تلو الأخرى، حاملة سحبا من الزهور الزرقاء امتدت إلى عنان السماء. ثم أدرك أن هناك عالما من اللون الأزرق، في مواجهة القفائر وحولها وقربها: بنفسج أزرق ورقيب الشمس وأذن الفأر والفيربينا الزرقاء والزنابق الزرقاء وزهور العائق وزهور عشبة الجريس والفلوكس ورعي الحمام الأزرق، وأيضا المزيد من اللون الأزرق؛ إذ مرت فوق رأسه ووجهه طيور الطنان المزدانة رقابها والمتوجة رءوسها، وقد اجتذبتها الألوان الحمراء والزاهية حول المنزل، أما النحل فقد عاش في عالم كامل من اللون الأزرق. حيث بدا كأن الزهور الزرقاء تحب بشدة أن تتسلق هذه القفائر البيضاء، لتعترش حولها، وتتشبث بها، وتزدهر فوقها. ولما اقترب جيمي من الممشى الخلفي وحيدا، لاحظ عدة قفائر كبيرة قائمة بمفردها على مساحة عدة أقدام كان عليه أن يمر بها في أول رحلة له بامتداد الحديقة؛ ليخرج من البوابة، ويعبر شريط الرمال حيث كان المحيط يأتي متوثبا على الشاطئ، في خليج فسيح، لينزلق متراجعا مرة أخرى، على مهل وبرقة، ناشدا أغنية هامسة خفيضة فحسب هي أفضل شيء في العالم لتهدهد رجلا متعبا حتى ينام.
Página desconocida