La gran apuesta histórica: ¿Qué apuesta Gorbachov?
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Géneros
ولكن لا بد أن يكون هناك، على المستويات غير المعلنة، خوف شديد من أن تنجح تلك التجربة التي يمكن أن تحقق حلما عجزت البشرية حتى الآن عن تحقيقه، وهو الجمع بين العدل الاجتماعي والحرية الإنسانية في إطار واحد، ومن هنا فإني أومن بأن الرهان المضاد حقيقة واقعة.
إن الجميع يتحدثون الآن عن عصر جديد ستؤدي سياسة جورباتشوف إلى دخول البشرية فيه عصرا تتوقف فيه الصراعات الداخلية بين الأيديولوجيات، لتحل محلها صراعات ضد القوى المعادية للإنسان أينما كان. هذا العصر، كما يقول معظم الكتاب، هو عصر تراجع الأيديولوجيا؛ أعني أنه العصر الذي لن يكون للصراع بين الاشتراكية والرأسمالية فيه تلك الأهمية التي كانت له منذ بداية القرن العشرين على الأقل، وإنما سينصب الاهتمام كله على ما هو أهم: مشكلات البيئة التي يظهر لنا في كل يوم بمزيد من الوضوح أنها لا تحل إلا على نطاق عالمي. ومشكلات السلام العالمي ونزع السلاح، وهي بدورها مشكلات تمس مصير الإنسان على هذا الكوكب، ولا يمكن أن يقتصر تأثيرها على هذا المعسكر أو ذاك. وأخيرا مشكلات التكنولوجيا، التي يتيح التقدم فيها آفاقا لم تكن تحلم بها البشرية من قبل، والتي تبشرنا منذ الآن بعهد ننعم فيه بوفرة في الإنتاج المادي ووفرة في المعلومات الذهنية على نحو كفيل بأن يجعل عصورنا الحالية تبدو عصورا بدائية بحق.
هذه الاحتمالات الممكنة هي حديث الساعة في أيامنا هذه، وهي لم تعد أحلاما خيالية، بل إن تحقيقها بات في متناول أيدينا، وبوادرها أخذت تظهر أمام أعيننا من الآن. ومع ذلك فإنني أجد نفسي في موقع الاختلاف مع أولئك الذين يتصورون أن عصر التعاون من أجل حل المشكلات ذات الطابع الكوني سيحل حتما محل عصر الصراع بين الأيديولوجيات، ففي رأيي أن حلول هذا العصر، الذي هو بغير شك غاية يتمناها كل شخص يحترم إنسانيته، لن يتحقق إلا إذا نجح جورباتشوف في تثبيت دعائم تجربته الجديدة، فما زال أمامنا وقت قبل أن يكون في وسعنا التحدث عن بلوغ البشرية سن الرشد، وانتقالها من صراعات الإخوة الأعداء إلى التكاتف من أجل مواجهة المشكلات الكونية، ولو أخفقت تجربة جورباتشوف، لكانت نتائج النكسة بشعة، ولأصبحنا أبعد عن ذلك التعاون العالمي مما كنا في أي وقت مضى.
وأنا على ثقة من أن القارئ يتساءل الآن: حسنا، ما هي احتمالات النجاح؟ هذا، في رأيي، هو السؤال الصعب حقيقة، فلكي تكون الإجابة ممكنة، ينبغي أن تكون المعطيات كلها أمامنا، وأن تكون معقولة قابلة للحساب. ولكن يكفينا مثال واحد لكي ندرك صعوبة الإجابة عن هذا السؤال: فالاضطرابات بين الأذربيجانيين والأرمن، مثلا، تقوم على رواسب قديمة منها ما هو عرقي، وما هو طائفي، ولكن كلها رواسب لا عقلية يصعب حسابها؛ ومن ثم يصعب التنبؤ بها. ومثل هذه العوامل اللاعقلية يمكن أن تتدخل في أية لحظة وتشكل عقبة خطيرة في وجه التجربة الجديدة، وتثبت أن الطبيعة البشرية التي راهن عليها جورباتشوف ما زالت تنطوي على عناصر ظلامية سوداء يصعب إخضاعها للحساب العقلي.
إن جورباتشوف يبدو لي أحيانا قريب الشبه بأبطال التراجيديات الإغريقية، وكثيرا ما يبدو مهددا بمأساة تحكيها قوى الشر التي لن تتنازل عن عالمها بسهولة. ولكنني أوثر الانحياز إلى جانب التفاؤل في معظم الحالات؛ ذلك لأنه إذا ظل صامدا فسوف يكسب العالم الكثير، وإذا تهاوى فسوف تتهاوى معه آمال عريضة نسجتها البشرية كلها حول عصر جديد تبلغ فيه الإنسانية، لأول مرة، سن الرشد.
الفصل السابع
وأين العرب من هذا كله؟
إن الحقيقة الأساسية التي توصلنا إليها التحليلات السابقة هي أن تجربة جورباتشوف، لو أعطيت الفرصة كيما تحقق إمكاناتها، لا بد أن تؤدي إلى كسر حدة الصراع بين المعسكرين، وزوال الهوس العسكري العالمي وقيام كل طرف من أطراف الاستقطاب الدولي بتنازلات أساسية، وحدوث تغييرات حاسمة على خريطة العالم، لا تقتصر على المعسكر الاشتراكي، كما هو حادث الآن، بل يمتد تأثيرها بعمق في قلب المعسكر الرأسمالي في المدى البعيد. صحيح أن النظامين سيحتفظان بقدر غير قليل من اختلاف فيما بينهما، ولكن الذي سيزول هو ذلك الهدف الذي ظل كل منهما يتخذه غاية قصوى لاستراتيجيته، وهو إزالة النظام الآخر والحلول محله، سواء بالقوة العسكرية أو بالضغط الاقتصادي أو بالتغلغل والتآمر وتأليب الشعوب، فلن تعود هناك علاقة «إما قاتل أو مقتول» بين الرأسمالية والاشتراكية، ولن يكون هناك إصرار على أن يسود العالم نظام واحد هو الذي يتمكن من الانتصار في نهاية الأمر، بل سيسود المجتمع العالمي نوع من التعددية، مشابه لذلك الذي تحرص الدول الديمقراطية على وجوده داخل المجتمع الواحد.
ولا يقتصر معنى هذه التعددية على التعايش بين الأيديولوجيات المتبادلة، بل إنها تعني أيضا تعددا في مراكز القوى العالمية، فمنذ الآن يستطيع المعلقون السياسيون أن يلاحظوا إمكان ظهور مركز قوى في أوروبا، التي يسعى جورباتشوف إلى الاندماج فيها دون حواجز، يقف ندا أمام مركز القوى الأميركي، بينما يقابله في الشرق الأقصى مركز قوى خطير تمثله اليابان ومعها الدول الصغيرة ذات الثقل الاقتصادي المتزايد، مثل كوريا وتايوان وسنغافورة، أما الصين فمن الممكن أن تصبح مركزا قائما بذاته، بفضل وزنها السكاني الهائل، وذلك إذا نجحت في شق طريقها، ولو بقدر محدود، في عالم التقدم التكنولوجي. وكما يلاحظ القارئ، فإن مراكز القوى تقفز من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وتمر على ما بينهما مرور الكرام، «وما بينهما» هذا يشمل، بالطبع، منطقتنا العربية، فأين نحن من هذا كله؟ وما تأثير هذه التحولات الهائلة علينا؟ إن موضوعا كهذا، يمكن أن يعالج من زوايا متعددة، وسوف نختار هنا، عامدين، بعض الزوايا التي نراها أساسية في الموضوع، على أن يتذكر القارئ أن هذا الاختيار تمليه اعتبارات ضيق المكان والزمان، وأن للموضوع أبعادا أخرى عظيمة الأهمية، لا بد أن يتصدى لها المفكرون العرب حتى يعينوا وطنهم على التأهب لمواجهة المتغيرات الهائلة التي سيأتي بها الغد القريب.
إن هناك انزعاجا عاما من تراجع الاهتمامات الخارجية للكتلة الشرقية، وانكفائها إلى الداخل في محاولة لإصلاح ما أفسدته سياسات جامدة، أوقفت نمو هذا المعسكر طوال عشرات السنين. ويمتد هذا الانزعاج إلى سياسات التهدئة والوفاق، التي تسعى إلى تجنب أي احتكاك مع المعسكر الغربي، وتسارع إلى تحقيق التفاهم معه كلما حدثت أزمة في المناطق التي كان المعسكران يتنافسان فيها من قبل. ولقد كان لهذا التنافس فوائده الواضحة بالنسبة إلى العالم الثالث؛ إذ استطاع عدد من زعمائه أن يتقنوا لعبة الحصول على المكاسب من أحد المعسكرين من خلال تهديده بالتقارب مع المعسكر الآخر، بل إن مجرد وجود معسكر اشتراكي مناوئ للمعسكر الرأسمالي، الذي تنتمي إليه جميع الدول الاستعمارية السابقة، كان في حد ذاته مكسبا كبيرا للعالم الثالث؛ إذ إنه لولا وجود هذا المعسكر، ولولا اتخاذه موقف الترقب والمواجهة إزاء المعسكر الرأسمالي، لما كسب العالم الثالث معظم معاركه التحررية، وخاصة في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ففي موقف المواجهة واستعداد كل من المعسكرين لإرسال صواريخه النووية من أجل تدمير المعسكر الآخر، استطاعت دول كثيرة في العالم الثالث أن تنتهز فرصة الشلل المتبادل بين العملاقين لكي تفوز بتحررها واستقلالها، فضلا عن أن المعسكر الاشتراكي ساندها بقوة لكي يحرم المعسكر المنافس من الامتيازات التي كان يجنيها من بسط نفوذه فيها.
Página desconocida