La gran apuesta histórica: ¿Qué apuesta Gorbachov?
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Géneros
وفي تصوري أن هذه السمة بالذات كانت جزءا أساسيا من خطة الإصلاح التي وضعها جورباتشوف وحرص على تطبيقها في دول أوروبا الشرقية، ومهد لها بقبول هذه التحولات العنيفة. فلماذا لا تصبح الاشتراكية بدورها نظاما مرنا، يقبل التطور ويتكيف وفقا لمتطلبات العصر؟ ولماذا تحمل الفرنسيون والألمان الغربيون والأميركيون مظاهرات 1968م العارمة، التي شارك فيها الملايين من الطلاب والمهنيين والعمال، وظل نظامهم في أساسياته سليما، بينما تضطر الجيوش السوفياتية إلى التدخل كلما حدث اضطراب واسع الأبعاد في أي بلد اشتراكي؟ لماذا لا تتخذ هذه البلاد لنفسها آليات تسمح لها بامتصاص سخط الجماهير على أنظمتها، إذا ارتكبت أخطاء فادحة، وتتيح لها تصحيح مسارها واكتساب ثقة هذه الجماهير من جديد؟
لماذا يسود دائما هذا البديل الانتحاري: إما بقاء كل شيء على حاله بقوة السلاح، وإما انهيار كل شيء؟ من المؤكد أن إعلان جورباتشوف الصريح أن جيوشه لن تتدخل لمساندة أي نظام يثور عليه شعبه، وإشاراته الواضحة إلى أنه لن يؤيد القيادات الستالينية المتحجرة، بل ومشاركته الإيجابية، على ما يقال - في إزاحة بعض هذه القيادات، مع إدراكه للنتائج الخطيرة التي يمكن أن تترتب على ذلك، وفي المدى القريب على الأقل، بالنسبة إلى وحدة المعسكر الاشتراكي وتماسكه - كل هذا دليل على أن سياسته تسعى إلى أن تضيف إلى التجربة الاشتراكية عنصرا هاما تتفوق عليها فيه الرأسمالية تفوقا ملحوظا؛ وهو عنصر المرونة في اختيار الشعب للجهاز الحاكم، وتبني آليات التغيير السلمي للحكومات، دون حاجة كسر القشرة المتصلبة. وبطبيعة الحال فإن الكثيرين قد هللوا وصفقوا لهذا التحول الذي بدا في ظاهره تراجعا خطيرا، وكان لسان حالهم يقول: ألم نقل لكم إن الاشتراكية بدعة زائلة؟ ها هي ذي تقتبس أهم مبادئ الحكم والسياسة من العالم الرأسمالي، وتتراجع عن طابعها «الشمولي»، الذي كان أهم سماتها المميزة، فماذا يتبقى بعد ذلك من الاشتراكية؟ على أننا سنرجئ مناقشة الشطر الأخير من هذا السؤال، وأعني به: هل يتبقى من الاشتراكية شيء إذا اتبعت آليات التغيير الديمقراطي المعروفة في الرأسمالية - سنرجئ هذه المناقشة حتى الفصل التالي. أما الآن، فلزام علينا أن نناقش الشطر الأول، وأعني به دلالة اقتباس الاشتراكية لمبادئ هامة تنتمي إلى صميم التجربة الرأسمالية.
إن الحكم على موضوع الاقتباس هذا، ينبغي أن ينظر إليه في سياق أوسع، تتأمل فيه مليا تلك العناصر العديدة التي سبق للرأسمالية أن اقتبستها من النظام الاشتراكي؛ ذلك لأن النظام الرأسمالي قد عدل هيكله مرارا، وفي كل مرة كان يدمج في داخله مبدأ من المبادئ التي تنادي بها الاشتراكية، ولكن بعد تعديله بحيث يلائم إطاره العام. ولا شك أننا قرأنا كثيرا عن تلك الفوارق الهائلة بين الرأسمالية المعاصرة، وبين رأسمالية القرن التاسع عشر التي تنبأ كارل ماركس بانهيارها، بوصفها مرحلة في التاريخ أدت مهمتها وأصبح من الضروري تجاوزها إلى مرحلة أرقى. وفي معظم الأحيان يشار إلى هذه الفوارق بوصفها دليلا على إخفاق تنبؤات ماركس عن انهيار الرأسمالية الحتمي من جهة، وعلى قابلية الرأسمالية للتكيف والتطور من جهة أخرى. ولكن السؤال الحاسم في هذا الصدد هو: هل جاءت هذه التطورات الهامة من قلب الرأسمالية نفسها؛ أعني هل من طبيعة هذا النظام أن يطور نفسه بحيث يعطي العمال مزيدا من الحقوق، ويضمن لهم نصيبا - يقل أو يزيد - من التأمينات الاجتماعية والصحية، ويتبع في سياسته الاقتصادية والاجتماعية قدرا - يقل أو يزداد أيضا - من التخطيط ... إلخ؟ الواقع أن التعديلات والتصحيحات التي أدخلها النظام الرأسمالي على مساره، كانت في جوهرها ردود فعل على وجود نظام مضاد ...
وليس معنى ذلك أن الخوف من ذلك النظام المضاد هو وحده الذي دفع الرأسمالية إلى تطوير نفسها، بل إن هذا التطور قد حدث من أجل قطع الطريق على أية دعوة إلى شكل من أشكال الاشتراكية بين عمال البلاد الرأسمالية، ومن أجل تقديم نموذج يبدو في نواح كثيرة، أكثر ازدهارا من النظام البديل. وإذا كنا قد توسعنا من قبل في الحديث عن سباق التسلح بوصفه وسيلة بارعة - وقاتلة - ابتكرها النظام الرأسمالي من أجل إيقاف نمو الاشتراكية، وقلنا إن التنافس في ظل هذا السباق كان أمرا استحال على ماركس أن يعمل له حسابا في نظريته، فإن ما نتحدث عنه الآن، أعني قدرة الرأسمالية على تصحيح مسارها بتبني بعض مبادئ النظام الاشتراكي من أجل إسقاط دعوى الاشتراكية بأنها هي التي تمثل مصالح العمال في كل مكان، كانت بدورها تطورا لم تعمل له النظرية الماركسية حسابا، فقد افترضت هذه النظرية أن الحركة الاشتراكية ستنشط وتنمو وتجتذب مزيدا من عمال البلاد الرأسمالية يوما بعد يوم، بينما تظل الرأسمالية على ما هي عليه، وتسعى إلى امتصاص أكبر قدر من «فائض القيمة» من العمال ؛ لأن الأفعى لا تمتلك إلا أن تكون سامة، غير أن النظام الرأسمالي استطاع أن يواجه هذا الهجوم ببراعة، وأن يطور نفسه في مواجهة أنواع عديدة من الأزمات، وتخلى عن عناصر كثيرة من تلك الرأسمالية التي كتب عنها ماركس، ولكنه كسب في مقابل ذلك قدرة كبيرة على الصمود والبقاء.
والخلاصة إذن أن ما استعارته الرأسمالية من الاشتراكية ربما كان يفوق بكثير، في تنوعه واتساق نطاقه، كل ما يبدو أن الاشتراكية تستعيره الآن من الرأسمالية.
ومع ذلك فإن أجهزة الإعلام الغربية لا تصور ما يحدث الآن على أنه مرحلة تصحح فيها الاشتراكية مسارها، تماثل عشرات المراحل التي سبق للرأسمالية أن صححت فيها مسارها باستعارة عناصر من الماركسية ذاتها، وإنما تصوره على أنه انهيار وسقوط نهائي للاشتراكية. فإذا كانت الأيديولوجية تسقط بمجرد أن تستعير عناصر أساسية من أيديولوجية أخرى، فلماذا إذن لم تسقط الرأسمالية الحالية التي تحمل سمات لن يستطيع آدم سميث، لو بعث حيا من قبره، أن يتعرف على رأسماليته التقليدية في سمة واحدة منها؟
إن الرأسمالية لو كانت قد تركت لنفسها، دون وجود أيديولوجية منافسة تملك تأثيرا دوليا كبيرا، وتمارس تأثيرها أيضا على الطبقات العاملة والمثقفة داخل الدول الرأسمالية ذاتها - لما سار تطورها في اتجاه تحقيق مصالح للعمال، كما يحدث بالفعل في البلاد الصناعية المتقدمة. وأبسط دليل على ذلك ما تمارسه الرأسمالية من استغلال بشع للعمال والفلاحين الفقراء في بلاد العالم الثالث، فحين تفتتح إحدى الشركات متعددة الجنسية مصنعا في بلد فقير، تكون شروط العمل في هذا المصنع، وليس الأجور فحسب، أسوأ بما لا يقاس من نظائرها في مصانع البلاد المتقدمة. وحسبنا أن نشير هنا إلى الفرق بين مصانع شركة «يونيون كاربايد» في أميركا نفسها والمصنع الذي كان تابعا للشركة نفسها في الهند، حيث وقعت حادثة تسرب الغاز السام المشهورة في مدينة «بوبال» منذ سنوات قلائل، وتساقط المئات من العمال وأسرهم كالذباب، ووقف أصحاب الشركة يدافعون عن أنفسهم بوقاحة أمام رأي عام عالمي ساخط، ويستأجرون أبرع المحامين حتى لا يدفعوا إلا أقل القليل من التعويضات لأهل البلدة المنكوبة. وقل مثل هذا عن أية مقارنة يجريها المرء بين أوضاع العامل الزراعي الأبيض في أية مزرعة من مزارع الجنوب الأميركي، وأوضاع العمال التعساء الذين تقوم «شركة الفواكه المتحدة» بتشغيلهم بأبخس الأجور وفي أسوأ الأوضاع، لكي تكسب هي الملايين من مزارعها في جواتيمالا وهندوراس وغيرها من «جمهوريات الموز» التعيسة في أميركا الوسطى.
ولو أمعنا النظر في هذه المقارنة، لتبين لنا أن الفارق الوحيد بين الحالتين هو أن العمال لديهم في الحالة الأولى من الوعي ما يسمح لهم بالكفاح الفعال من أجل حقوقهم، فلا يجد النظام مفرا من إرضاءهم، أما في الحالة الثانية فإن تعاسة العمال وفقرهم وأميتهم، وتعرضهم الدائم لبطش الأنظمة الدكتاتورية التي تفرضها الشركات الأميركية العاملة في أراضيهم، كل ذلك يجعل صوتهم غير مسموع، وما دام خطرهم ضئيلا فلماذا ترهق الرأسمالية نفسها بتحسين أوضاعهم؟
على أن الرأسمالية تعيش من أواخر عام 1989م فترة ترتفع فيها معنويات أنصارها إلى السماء، ويتغزل فيها الكثيرون، وينادي الكتاب، الذين لم يكونوا يجرءون حتى عهد قريب على الدفاع صراحة عنها، بأنها هي النظام الطبيعي للإنسان، أو هي النظام السوي، وكل نظام آخر هو انحراف لا بد - مهما طال الزمن أو قصر - أن تشفى منه المجتمعات التي يشاء سوء حظها أن تقع فريسة له، ولا مفر للمرء، حين يجد أن هذا الغزل المكشوف قد تجاوز حدوده، من أن يعود إلى تذكير الناس بأبسط البديهيات التي يبدو أن انفجارات أوروبا الشرقية قد أفقدتهم الوعي بها.
إن المهللين للرأسمالية، بوصفها النظام الطبيعي الذي منه بدأ عصرنا الحديث وإليه يعود، يصفقون ابتهاجا لسقوط الإمبراطورية الشيوعية، وقد أوضحنا في الفصل السابق أن كثيرا من العناصر التي انتهجتها المجموعة الشيوعية كان يستحق السقوط بالفعل، وأن انهيار ممارستها القمعية أمر لا ينبغي أن يأسف له أي إنسان مستنير، ومع ذلك فإننا حين نتحدث في هذا الصدد عن «إمبراطورية شيوعية » نستخدم الكلمة بمعنى مجازي، على حين أن الرأسمالية كانت لها إمبراطوريات بالمعنى الحقيقي والدموي، وهي إمبراطوريات لم تكتف بإخضاع شعوب العالم الثالث لهيمنتها، وإنما امتصت دماءها طوال قرون عديدة، وقتلت من أبنائها عشرات الملايين، وخاصة في المناطق المجهولة والمنسية كإفريقيا السوداء، وأوقفت نموها، وزرعت التخلف والاعتماد على الغير في مجتمعات كانت لها، قبل العهد الاستعماري، حياة كريمة مكتفية بذاتها إلى حد بعيد.
Página desconocida