Reyes de las Taifas y reflexiones sobre la historia del Islam
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
Géneros
وحين جثا أبو الفتوح أمام باديس قال له أبو الفتوح: «مولاي، حنانيك ورحمة بعبدك الجاني أمامك، وأنا أحقق لك ما تقطع معه أني بريء مما عزي إلي.»
فكاد باديس يتميز غيظا وحنقا، وصرخ في وجهه وعيناه يتطاير منهما الشرر : «كيف استطعت يا هذا - مع شناعة جرمك - أن تمثل أمامي؟ لقد بذرت بذور الشقاق بين أفراد أسرتي، ثم جئتني الآن تزعم أنك بريء مما جنته يداك! أتحسب أنه من السهل عليك أن تخدعني؟»
فقال له: «مولاي، أقسم عليك إلا ما رحمتني. ولا تنس أنك غمرتني بإحسانك وشملتني بحسن رعايتك، وهذه البلاد التي أنا ربيب نعمتها من العسر الشاق علي أن أفارقها. وفي الوقت الذي أبعد فيه عنها أكون تعسا شقيا. ولا أكذب مولاي الحديث فإني ما فررت حين فررت مع ابن عمك، إلا لما تأكد بيننا من صلات يعرفها مولاي، وأخشى أن يحل بي العقاب كشريك له في الجرم، وها أنا ذا بين يدي مولاي أعترف بالفرار وأكرر أن الذي ألجأني إليه محض الصداقة، وأؤكد أني بريء، وأطمع في عفو مولاي وصفحه، وأنتظر أن يعاملني كملك عظيم ومولى كريم لا تحمل نفسه الكبيرة حقدا على صغير مثلي، فارحم لهفتي، ورد إلي أسرتي، وعاملني بما أنت أهله.»
فقال له: «سأعاملك - إن شاء الله - كما تحب، وبما أنت خليق به، فارجع إلى أهلك بغرناطة، وسأنظر في شأنك عند عودتي إليها.» •••
واطمأن أبو الفتوح إلى هذا الكلام الذي لم يدرك مراميه لأول وهلة، وسار إلى غرناطة يحرسه فارسان. ولما كان بظاهر المدينة أرسل «قوادم» الزنجي - تنفيذا لأمر مولاه - بعض غلمانه، فألقوا القبض عليه، وحلقوا رأسه ولحيته وأركبوه جملا، وأردفوه زنجيا جلدا استمر يصفعه على التتابع، والجمل يطوف به أحياء المدينة ويجوس به خلال ديارها حتى أفضوا به إلى السجن حيث أودعوه في غرفة من غرفه ضيقة لبث فيها هو وجندي من البربر أسر في معركة «أستيجة» وكان أحد شركائه في المؤامرة. •••
وعاد باديس بعد أيام إلى غرناطة ولم يكن قد بت في أمر أبي الفتوح بشيء، ولم يستطع أن يصنع به كما صنع بابن عباس لأن أخاه بلقين حال دون ذلك، ولم يعرف السبب الذي جعله يهتم بشأن هذا الفيلسوف إلى هذا الحد، إذ عمد إلى إظهار براءته، ودافع عنه بكل قوة حتى خيف أن يفضي ذلك إلى الاستياء. ولهذا تردد باديس في الفصل في أمر أبي الفتوح إلى أن حدث أن سكر مرة بلقين كما يقع ذلك كثيرا مع أخيه باديس فأمر أخوه بلقين - وهو في غفوة الشراب - بإحضار أبي الفتوح وزميله المرافق له في السجن، وحين وقع عليه نظره أشبعه سبا شنيعا وإيلاما وتقريعا، وقال له: «وهل صدقتك كواذب الطوالع أيها المنجم الخائن الكاذب، وما هي الفائدة التي عادت عليك الآن؟
ألم تعد أميرك ذلك السافل المغرور الذي خدعته، ومنيته الأماني الكواذب المعسولة أني سأكون تحت سلطانه؟ وأنه سيظل في الحكم ثلاثين عاما، فلماذا لم تر نحس طالعك حين بدا لك سعد طالع أميرك، حتى كان يتسنى لك أن تتفادى ما حل بك من هذه المصائب الأليمة؟ إن حياتك الآن أيها الأفاك الأثيم رهن يميني.» •••
فلم ينبس أبو الفتوح بكلمة لأنه ما غامر بحياته إلا طمعا في لقاء زوجته المعبودة، وطفله وبنتيه المحبوبتين، ولأن عاطفته الملتهبة نحو أهله هي التي أكرهته على المغامرة بحياته والاستشفاع والتوسل إلى باديس واختراع الحيل والأكاذيب. أما الآن وقد صار على يقين من أن ذلك الطاغية الجبار لا محالة قاتله، فقد استعاد إليه حواسه، وتلقى زئير باديس وزمجرته بهدوء ورباطة جأش.
واستعاد إلى نفسه عزتها وكرامتها، وظهر طبعه المتين، وخلقه الرصين بالمظهر الحقيقي، فأطرق مليا، وشاعت على شفتيه ابتسامة مطمئنة ساخرة، وصمت صمت من يشعر بكرامة نفسه وعزتها. وقد زاد هذا الموقف الشريف الهادئ من استعار نار الغضب عند باديس فأرغى وأزبد، وكاد يتميز من الغيظ، فأسرع إلى سيفه فاستله من غمده، وأغمده في صدر ضحيته، فتلقى الضربة دون أن يبدي حراكا أو يظهر أنينا مما جعل باديس يصيح صيحة المتعجب من هذا الرجل، وهو يلفظ النفس الأخير، ويستقبل الموت بصمت عميق، ورباطة جأش، ونادى الجلاد أن اقطع رأسه، وارفعه على رمح عبرة لغيره، وادفن جثته إلى جانب ابن عباس كي يرقد عدواي كلاهما في مرقدهما الأخير جنبا لجنب إلى أن تقوم الساعة. •••
والتفت إلى الجندي الأسير بعد أن فرغ من ضحيته الأولى، وقال له: «والآن جاء دورك فاقترب أيها الجندي.» فجزع البربري، واضطرب اضطرابا شديدا، وجعل يصيح ويستشفع، ويستغيث، وجثا على ركبتيه يستغفر باديس بكل ما في استطاعته ليبقي على حياته، ولكن باديس قال له: «هل ذهب منك الحياء أيها الشقي؟ ألم تر إلى ذلك المنجم الحكيم، كيف تلقى الموت - بكل ثبات - فمات كريما عزيزا، لم تبدر منه كلمة تشف عن جبن، فكيف وأنت جندي قديم معدود في عداد الجند البواسل تصل إلى هذا الحد من الجبن؟ إنك إذن لا تستحق رحمة ولا هوادة.»
Página desconocida