المكتفى في الوقف والابتدا
أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد بن عثمان
٣٧٢ - ٤٤٤ هـ
حقق نصه وعلق حواشيه
الدكتور محيي الدين عبد الرحمن رمضان
دار عمار
الطبعة الأولى
١٤٢٢ هـ - ٢٠٠١ م
Página desconocida
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يسر برحمتك
قال أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان المقرئ ﵁ قال: الحمد لله المتوحد بالقدرة، المتفرد بالكبرياء والعظمة، الذي استوجب الحمد على خلقه، وجعله فرضًا لتأدية حقه، أحمده شاكرًا لما سلف من آلائه، وملتمسًا المزيد من نعمائه، وأصلي على نبيه محمد خاتم رسله وأنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
هذا كتاب الوقف التام والوقف الكافي [والوقف] الحسن في كتاب الله، ﷿، اقتضبته من أقاويل المفسرين، ومن كتب القراء والنحويين، واجتهدت في جمع مفترقه، وتمييز صحيحه، وإيضاح مشكله، وحذف حشوه، واختصار ألفاظه، وتقريب معانيه، وبينت ذلك كله وأوضحته، ودللت عليه، ورتبت جمعيه على السور نسقًا واحدًا إلى آخر القرآن.
وهذا جهد طاقتي، وانتهاء معرفتي. ولم أخله مع ذلك في المواضع التي يحتاج إليها، من حديث مسند، وتفسير، وقراءة، ومعنى، وإعراب، من غير أن أستغرق في ذلك، وأستقصي جميعه، إذ كان سلفنا، ﵏، قد كفونا ذلك، وشفوا منه في كتبهم وتصنيفهم، ولأن غرضنا في هذا الكتاب القصد إلى الإيجاز، والاختصار دون الاحتفال والإكثار، لكي يخف متناوله، وتقرب فائدته، ويعم نفعه المبتدئ الطالب والمتناهي الثاقب، وبالله ﷿، أستعين على ما أملته وقصدته، وإياه أسأل التوفيق والإلهام للصواب من القول والعمل، وعليه أتوكل. وهو حسبي ونعم الوكيل.
1 / 1
تعليم الوقف التمام باب في الحض على تعليم التمام
(١) من ذلك ما حدثناه أبو الفتح فارس بن أحمد بن موسى المقرئ، قال: حدثنا أحمد بن محمد وعبيد الله بن محمد قالا: حدثنا علي بن الحسين القاضي قال: حدثنا يوسف بن موسى القطان قال: حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا حماد بن سلمة وسمعته منه قال: أخبرنا علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن جبريل ﵇، أتى النبي ﷺ فقال: «اقرأ القرآن على حرف. فقال ميكائيل استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، كل حرف منها شاف كاف ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة أو آية رحمة بآية عذاب» .
(٢) حدثنا خلف بن أحمد القاضي قال: حدثنا زياد بن عبد الرحمن قال: حدثنا محمد بن يحيى بن حميد قال: حدثنا محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي ﷺ مثله إلا أنه قال: «ما لم يختم آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب بمغفرة» .
(٣) حدثنا فارس بن أحمد المقرئ قال: حدثنا أحمد بن محمد وعبيد الله بن محمد قالا: حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا يوسف بن موسى قال: حدثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد الخزاعي عن أبي ابن كعب قال: أتينا رسول الله ﷺ فقال: إن الملك كان معي فقال: «اقرأ القرآن، فعد حتى بلغ سبعة أحرف. فقال: ليس منها إلا شافٍ كافٍ ما لم يختم آية
1 / 2
عذاب برحمة أو يختم رحمة بعذاب» .
قال أبو عمرو: فهذا تعليم التمام من رسول الله ﷺ عن جبريل ﵇، إذ ظاهره دال على أنه ينبغي أن يقطع على الآية التي فيها ذكر النار والعقاب، ويفصل مما بعدها إن كان بعدها ذكر الجنة والثواب، وكذلك يلزم أن يقطع على الآية التي فيها ذكر الجنة والثواب، ويفصل مما بعدها أيضًا إن كان بعدها ذكر النار والعقاب وذلك نحو قوله: ﴿أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ هنا الوقف، ولا يجوز أن يوصل ذلك بقوله: ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾، ويقطع على ذلك، ويختم به الآية.
ومثله: ﴿وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار﴾ هنا التمام، ولا يجوز أن يوصل [ذلك] بقوله: ﴿الذي يحملون العرش ومن حوله﴾، ويقطع عليه، ويجعل خاتمًا للآية. وكذلك: ﴿يدخل من يشاء في رحمته﴾ هنا الوقف. ولا يجوز أن يوصل ذلك بقوله: ﴿والظالمين﴾، ويقطع على ذلك. وكذلك ما أشبهه.
(٤) ومما يبين ذلك ويوضحه ما روى تميم الطائي عن عدي بن حاتم قال: جاء رجلان إلى رسول الله ﷺ فتشهد أحدهما فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما: فقال رسول الله ﷺ: «قم أو اذهب، بئس الخطيب [أنت]» .
(٥) قال: حدثنا عبد العزيز بن جعفر بن محمد الفارسي عن الإجازة قال:
1 / 3
حدثنا محمد بن عبد الرزاق قال: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن سفيان بن سعيد قال: حدثنا عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي بن حاتم، فذكره.
قال أبو عمرو: ففي هذا الخبر أذانٌ بكراهية القطع على المستبشع من اللفظ، المتعلق بما يبين حقيقته، ويدل على المراد منه، لأنه، ﵇، إنما أقام الخطيب لما قطع على ما يقبح إذ جمع بقطعه بين حال من أطاع ومن عصى، ولم يفصل بين ذلك، وإنما كان ينبغي له أن يقطع على قوله: «فقد رشد» ثم يستأنف ما بعد ذلك، أو يصل كلامه إلى آخره، فيقول: «ومن يعصهما فقد غوى» . وإذا كان مثل هذا مكروهًا مستبشعًا في الكلام الجاري بين المخلوقين فهو في كتاب الله، ﷿، الذي هو كلام رب العالمين، أشد كراهة واستبشاعًا، وأحق وأولى أن يتجنب.
وقد جاء عن عبد الله بن عمر أنه قال: لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتي الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد ﷺ، فيتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها.
ففي قول ابن عمر دليل على أن تعليم ذلك توقيفٌ من رسول الله ﷺ، وأنه إجماع من الصحابة، رضوان الله عليهم.
(٦) ومما يؤكد ذلك ويحققه ما حدثناه شيخنا أبو الفتح قال: حدثنا بشر بن عبد الله الحافي البغدادي قال: حدثناه أحمد بن موسى قال: حدثنا علي بن عبد الرحمن الرازي قال: حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي قال: حدثنا صالح
1 / 4
الهاشمي قال: حدثنا أبو المليح، يعني الرقي، واسمه الحسن بن عمر عن ميمون بن مهران قال: إني لأقشعر من قراءة أقوام يرى أحدهم حتمًا عليه أن لا يقصر عن العشر. إنما كانت القراء تقرأ القصص إن طالت أو قصرت، يقرأ أحدهم اليوم ﴿وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون﴾: ويقوم في الركعة الثانية فيقرأ: ﴿ألا إنهم هم المفسدون﴾ قال أبو عمرو: فهذا يبين أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتجنبون القطع على الكلام الذي يتصل بعضه ببعض، ويتعلق آخره بأوله، لأن ميمون بن مهران إنما حكى ذلك عنهم، إذ هو من كبار التابعين. ولقد لقي جماعة منهم، فدل جميع ما ذكرناه على وجوب استعمال القطع على التمام، وتجنب القطع على القبيح، وحض على تعليم ذلك وعلى معرفته.
فأما القطع على الكافي الذي هو دون التمام فمستعمل جائز. وقد وردت السنة عن رسول الله ﷺ، به، وثبت التوقيف عنه باستعماله.
(٧) كما حدثنا محمد بن خليفة الإمام قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا الفريابي قال: حدثنا محمد بن الحسين البلخي قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: حدثنا سفيان عن سليمان، يعني الأعمش، عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله ﷺ، «اقرأ علي» فقلت: له: أأقرأ عليك وعليك أنزل فقال: «إني أحب أن أسمعه من غيري» . قال فافتتحت سورة النساء فلما بلغت: ﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا﴾ قال: فرأيته وعيناه تذرفان دموعًا. فقال لي: «حسبك» .
1 / 5
ألا ترى أن القطع على قوله «شهيدًا» كاف وليس بتام، لأن المعنى: فكيف يكون حالهم إذا كان هذا ﴿يومئذ يود الذين كفروا﴾ فما قبله متعلق بما بعده، والتمام: ﴿ولا يكتمون الله حديثًا﴾ لأنه انقضاء القصة، وهو في الآية الثانية. وقد أمر النبي عبد الله أن يقطع دونه مع تقارب ما بينهما، فدل ذلك دلالة واضحة على جواز القطع على الكافي ووجوب استعماله، وبالله التوفيق.
1 / 6
بيان أقسام الوقف باب ذكر البيان عن أقسام الوقف
اعلم، أيدك الله بتوفيقه، أن علماءنا اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم: الوقف على أربعة أقسام، تام مختار وكاف جائز، وصالح مفهوم، وقبيح متروك. وأنكر آخرون هذا التمييز وقالوا: الوقف على ثلاثة أقسام، قسمان أحدهما مختار وهو التمام، والآخر جائز وهو الكافي الذي ليس بتمام. والقسم الثالث القبيح الذي ليس بتام ولا كاف. وقال آخرون: الوقف على قسمين تام وقبيح لا غير. والقول الأول أعدل عندي وبه أقول، لأن القارئ قد ينقطع نفسه دون التمام والكافي فلا يتهيآن له، وذلك عند طول القصة، وتعلق الكلام بعضه ببعض، فيقطع حينئذ على الحسن المفهوم تيسيرًا وسعة، إذ لا حرج في ذلك ولا ضيق في سنة ولا عربية.
(٨) قال حدثنا أبو الفتح شيخنا قال: حدثنا عبد الله بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن موسى قال: قال قنبل سمعت أحمد بن محمد القواس يقول: نحن نقف حيث انقطع النفس.
قال أبو عمرو: وأنا أفسر الأقسام الأربعة المذكورة قسمًا قسمًا، وأشرح أصولها، وأبين فروعها وأمثل من كل قسم ما تيسر وخف، لكي يوقف بذلك على حقائقها، وتفهم معانيها، ويستدل على ما ورد منها في السور إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.
1 / 7
تفسير الوقف التام باب ذكر تفسير الوقف التام
اعلم أن الوقف التام هو الذي يحسن القطع عليه والابتداء بما بعده، لأنه لا يتعلق بشيء مما بعده. وذلك عند تمام القصص وانقضائهن، وأكثر ما يكون موجودًا في الفواصل ورؤوس الآي كقوله: ﴿وأولئك هم المفلحون﴾ والابتداء بقوله: ﴿إن الذين كفروا﴾ .
وكذلك: ﴿بكل شيء عليم﴾ والابتداء بقوله: ﴿وإذ قال ربك للملائكة﴾ وكذلك: ﴿وأنهم إليه راجعون﴾ والابتداء بقوله: ﴿يا بني إسرائيل﴾ وكذلك: ﴿وأفئدتهم هواء﴾ والابتداء بقوله: ﴿وأنذر الناس﴾ وكذلك ﴿ولو ألقى معاذيره﴾ والابتداء بقوله: ﴿لا تحرك به لسانك﴾ . وكذلك ما أشبهه مما تنقضي القصة عنده، ويوجد في أخرى. وقد يوجد قبل انقضاء الفاصلة كقوله ﴿وجعلوا أعزة أهلها أذلة﴾ هذا هو التمام، لأنه انقضاء كلام بلقيس ثم قال ﷿: ﴿وكذلك يفعلون﴾ وهو رأس الآية. وكذلك: ﴿لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني﴾ هذا التمام أيضًا لأنه انقضاء كلام الظالم الذي هو أبي بن خلف ثم قال ﵎: ﴿وكان الشيطان للإنسان خذولا﴾ وهو رأس الآية وقد يوجد بعد انقضاء الفاصلة بكلمة كقوله: ﴿وإنكم لتمرون عليهم مصبحين. وبالليل﴾، رأس الآية «مصبحين» والتمام: «وبالليل» لأنه معطوف على المعنى، أي: في الصبح وبالليل. وكذلك: ﴿عليها يتكئون. وزخرفًا﴾ رأس الآية «يتكئون» والتمام «وزخرفًا» لأنه معطوف على ما قبله من قوله: ﴿سقفًا﴾ . وكذلك ﴿لم نجعل لهم من دونها سترًا. كذلك﴾ رأس الآية «سترًا» والتمام «كذلك»، لأن المعنى: كذلك كان خبرهم. وقد يوجد أيضًا بعد آية أو آيتين أو أكثر.
1 / 8
وسيأتي ذلك كله مفسرًا في مواضعه من السور إن شاء الله. وقد يكون التام أيضًا في درجة الكافي من جهة تعلق الكلام من طريق المعنى، لا من طريق اللفظ، وذلك نحو قوله: ﴿وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدًا﴾ هذا تام ثم يبدأ بقوله: ﴿ما لهم بذلك من علم﴾ لأن ما بعده مستغن عنه. وكذلك الوقف على قوله: ﴿ولا لآبائهم﴾ أيضًا ثم يبدأ بقوله: ﴿كبرت كلمة تخرج من أفواههم﴾ وهي مقالتهم: «اتخذ الله ولدا» وكذلك ما أشبهه مما يتم الوقف عليه بإجماع من أهل التأويل وأصحاب التمام لانقضاء الكلام عنده واستغناء ما بعده عنه، وما بعده منه، أو من سببه من جهة المعنى فهو في ذلك في درجة الكافي، وبالله التوفيق.
1 / 9
تفسير الوقف الكافي باب ذكر تفسير الوقف الكافي
واعلم أن الوقف الكافي هو الذي يحسن الوقف عليه أيضًا والابتداء بما بعده، غير أن الذي بعده متعلق به من جهة المعنى دون اللفظ كما ذكرنا، وذلك نحو الوقف على قوله: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم﴾ والابتداء [بما] بعد ذلك في الآية كلها. وكذلك الوقف على قوله: ﴿ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم﴾ والابتداء بما بعد ذلك إلى قوله: ﴿أو أشتاتًا﴾ وما أشبهه. وكذلك الوقف على قوله: ﴿اليوم أحل لكم الطيبات﴾ والابتداء بما بعد ذلك، لأن ذلك كله معطوف بعضه على بعض. وكذلك القطع على الفواصل في سورة الجن والمدثر والتكوير والانفطار والانشقاق وما أشبههن، والابتداء بما بعدهن. وكذلك ما أشبهه لأن ذلك كله معطوف بعضه على بعض، فما بعده متعلق بما قبله وكذلك كل كلام قائم بنفسه يفيد معنى يكتفى به. فالقطع عليه كاف، ويسمى أيضًا هذا الضرب مفهومًا، وتفاضله في الكفاية كتفاضل التام سواء. وما ورد منهما ومن الحسن في الفواصل فهو أتم وأكفى وأحسن مما يرد من ذلك في حشوهن. وسترى ما جاء من ذلك في كل سورة مفصلًا إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.
1 / 10
تفسير الوقف الحسن باب ذكر تفسير الوقف الحسن
واعلم أن الوقف الحسن هو الذي يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده لتعلقه به من جهة اللفظ والمعنى جميعًا، وذلك نحو قوله: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ و﴿الرحمن الرحيم﴾ الوقف على ذلك وشبهه حسن، لأن المراد مفهوم، والابتداء بقوله: ﴿رب العالمين﴾ و: ﴿الرحمن الرحيم﴾ و: ﴿مالك يوم الدين﴾ لا يحسن، لأن ذلك مجرور، والابتداء بالمجرور قبيح [لأنه] تابع لما قبله. ويسمى هذا الضرب صالحًا إذ لا يتمكن القارئ أن يقف في كل موضع على تام، ولا كاف، لأن نفسه ينقطع دون ذلك. ومما ينبغي له أن يقطع عليه رؤوس الآي، لأنهن في أنفسهن مقاطع. وأكثر ما يوجد التام فيهن لاقتضائهن تمام الجمل، واستيفاء أكثرهن انقضاء القصص، وقد كان جماعة من الأئمة السالفين والقراء الماضين يستحبون القطع عليهن، وإن تعلق كلام بعضهن ببعض، لما ذكرناه من كونهن مقاطع، ولسن بمشبهات لما كان من الكلام التام في أنفسهن دون نهاياتهن.
(٩) حدثنا فارس بن أحمد المقرئ قال: حدثنا جعفر بن محمد الدقاق قال: حدثنا عمر بن يوسف قال: حدثنا الحسين بن شريك قال: حدثنا أبو حمدون قال: حدثنا اليزيدي عن أبي عمرو أنه كان يسكت عند رأس كل آية، وكان يقول: إنه أحب إلي أنه إذا كان [رأس] آية أن يسكت عندها.
وقد وردت السنة أيضًا بذلك عن رسول الله ﷺ عند استعمال التقطيع، كما حدثنا خلف بن إبراهيم بن محمد المقرئ قال: حدثنا أحمد بن محمد المكي قال: حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا أبو عبيد قال: وحدثني يحيى بن
1 / 11
سعيد الأموي عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة قالت: «كان رسول الله ﷺ يقطع قراءته: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. ملك يوم الدين» .
(١١) وحدثنا محمد بن أحمد بن علي البغدادي قال: حدثنا محمد بن القاسم النحوي قال: حدثنا سليمان بن يحيى قال: حدثنا محمد بن سعدان قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عن أم سلمة أن النبي ﷺ كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية، يقول: بسم الله الرحمن الرحيم [ثم يقف] ثم يقول: الحمد لله رب العالمين. ثم يقف ثم يقول: الرحمن الرحيم [ثم يقف ثم يقول] ملك يوم الدين» . ولهذا الحديث طرق كثيرة، وهو أصل في هذا الباب، وبالله التوفيق.
1 / 12
تفسير الوقف القبيح باب [ذكر] تفسير الوقف القبيح
واعلم أن الوقف القبيح هو الذي لا يعرف المراد منه، وذلك نحو الوقف على قوله: «بسم» و«ملك» و«رب» و«رسل» وشبهه والابتداء بقوله «الله» و«يوم الدين» و«العالمين» و«السماوات» و(الله» لأنه إذا وقف على ذلك لم يعلم إلى أي شيء أضيف. وهذا يسمى وقف الضرورة، لتمكن انقطاع النفس عنده. والجلة من القراء وأهل الأداء ينهون عن الوقف على هذا الضرب، وينكرونه، ويستحبون لمن انقطع نفسه عليه أن يرجع إلى ما قبله حتى يصله بما بعده، فإن لم يفعل فلا حرج عليه.
(١٢) حدثنا الخاقاني خلف بن إبراهيم قال: حدثنا أحمد بن أسامة قال: حدثنا أبي قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قال علي بن كبشة: لا يحسن الوقف على مضاف إلا بتمام الحرف.
وأقبح من هذا النوع الوقف على قوله: ﴿لقد سمع الله قول الذين قالوا﴾ و﴿لقد كفر الذين قالوا﴾ و﴿قالت اليهود﴾ و﴿قالت النصارى﴾ و﴿فاعبدون. وقالوا﴾ و﴿من إفكهم ليقولون﴾ ﴿وهم مهتدون. ومالي﴾، و﴿من يقل منهم﴾ و﴿من الخاسرين. فبعث﴾، و﴿إلا أن قالوا أبعث﴾ والابتداء بما بعد ذلك من قوله ﴿إن الله فقير﴾ و﴿إن الله هو المسيح ابن مريم﴾ و﴿إن الله ثالث ثلاثة﴾ و﴿يد الله مغلولة﴾ و﴿عزير ابن الله﴾ و﴿المسيح ابن الله﴾ و﴿اتخذ الرحمن ولدا﴾ و﴿ولد الله﴾ ﴿وإني إله من دونه﴾ و﴿لا أعبد الذي فطرني﴾ و﴿الله غرابًا﴾ و﴿الله بشرًا رسولا﴾ لأن المعنى يستحيل بفصل ذلك مما قبله، ومثله في القبح الوقف على قوله:
1 / 13
﴿فبهت الذي كفر والله﴾ و﴿للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله﴾ و﴿الله لا يستحيي﴾ و﴿إن الله لا يهدي﴾ و﴿إن الله لا يحب﴾ و﴿لا يبعث الله﴾ وشبهه، لأن المعنى يفسد بفصل ذلك مما بعده من قوله لا يهدي القوم الظالمين والمثل الأعلى وأن يضرب مثلًا ومن هو مسرف ومن كان مختالًا فخورًا ومن يموت. فمن انقطع نفسه على ذلك وجب عليه أن يرجع إلى ما قبله، ويصل الكلام بعضه ببعض. فإن لم يفعل أثم وكان ذلك من الخطأ العظيم، الذي لو تعمده متعمد لخرج بذلك من دين الإسلام، لإفراده من القرآن ما هو متعلق بما قبله، أو بما بعده، وكون إفراد ذلك افتراء على الله ﷿، وجهلًا به.
ومن هذا الضرب الوقف على الكلام المنفصل الخارج عن حكم ما وصل به كقوله: ﴿وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه﴾ إن وقف على ذلك، لأن «النصف» كله إنما يجب للابنة دون الأبوين، و«الأبوان» مستأنفان بما يجب لهما مع الولد ذكرًا أو أنثى، واحدًا كان أو جمعًا. وكذلك قوله ﴿إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى﴾ إن وقف على «الموتى» لأن «الموتى» لا يسمعون ولا يستجيبون وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم يبعثون، وهم يستأنفون بحالهم. وكذلك قوله ﴿لكل امرئٍ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم﴾ إن وقف على ذلك، لأن من كنى عنهم أولًا مؤمنون، و«متولي الكبر» منافق، هو عبد الله بن أبي بن سلول، فهو مستأنف لما يلحقه خاصة في الآخرة من عظيم العذاب. وكذلك قوله ﴿أخاف أن يقتلون. وأخي هارون﴾ إن وقف على ذلك، لأن «موسى» ﵇، إنما خاف القتل على نفسه دون أخيه، وأخوه مستأنف بحاله وصفته. وكذلك ما كان مثله وفي معناه.
1 / 14
ومن هذا النوع من القبح أيضًا الوقف على الأسماء التي تبين نعوتها حقوقها، نحو قوله ﴿فويلٌ للمصلين﴾ وشبهه، لأن «المصلين» اسم ممدوح محمود لا يليق به «ويل» . وإنما خرج من جملة الممدوحين بنعته المتصل به وهو قوله ﴿الذين هم عن صلاتهم ساهون﴾ .
وأقبح من هذا وأشنع الوقف على المنفي الذي يأتي بعده حرف الإيجاب نحو قوله ﴿لا إله إلا الله﴾ و﴿ما من إله إلا الله﴾ و﴿لا إله إلا أنا﴾ وشبهه. لو وقف واقف على ما قبل حرف الإيجاب من غير عارض لكان ذنبًا عظيمًا، لأن المنفي في ذلك كل ما عبد غير الله ﷿، ومثله ﴿وما أرسلناك إلا مبشرًا ونذيرا﴾ و﴿ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ إن وقف واقف على ما قبل حرف الإيجاب في ذلك آل إلى نفي إرسال محمد [وإلى نفي] خلق الجن والإنس. وكذلك ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو﴾ و﴿قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله﴾ وما كان مثله، وذلك من عظيم القول.
ومن الوقف القبيح أيضًا، الذي ورد التوقيف بالنهي عنه، الوقف على قوله ﴿وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا﴾ و﴿الذي كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم. والذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ و﴿الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ . و﴿للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له﴾ و﴿أنهم أصحاب النار. الذين يحملون العرش ومن حوله﴾ و﴿من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل﴾ و﴿فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا﴾ و﴿إن ينتهوا
1 / 15
يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا﴾ و﴿فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني﴾ و﴿لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم﴾ وشبه ذلك مما هو خارج عن حكم الأول من جهة المعنى، لأنه متى قطع عليه دون ما يبين حقيقته ويوضح مراده لم يكن شيء أقبح منه لاستواء حال من آمن ومن كفر، ومن اهتدى ومن ضل، وفي ذلك بطلان الشريعة والخروج من الملة فيلزم من انقطع نفسه عند ذلك أن يرجع حتى يصل [و] الكلام بعضه ببعض أو يقطع على آخر القصتين، أو على آخر القصة الثانية إن شاء. ومن لم يفعل ذلك فقد أثم واعتدى، وجهل وافترى.
(١٣) حدثنا محمد بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم قال: كان حمزة وغيره يستقبحون الوقف على هذا، يعني على ما تقدم ذكره من القبيح لأن القارئ يقدر على تفقده وتجنبه.
قال أبو عمرو فهذه أقسام الوقف وقد فسرتها ولخصتها بأصولها وفروعها فاعلمه، وبالله التوفيق.
1 / 16
أم القرآن سورة أم القرآن
الوقف على آخر التعوذ تام، وعلى آخر التسمية أتم. وعلى قوله ﴿مالك يوم الدين﴾ تام، لأن ما بعده مستغن. وعلى ﴿إياك نستعين﴾ تام، لأنه انقضاء الثناء على الله ﷿. وعلى ﴿أنعمت عليهم﴾ حسن، وليس بتام ولا كاف، سواء قرئ ﴿غير المغضوب عليهم﴾ بالخفض على النعت لـ «الذين» في قوله ﴿صراط الذين﴾ أو على البدل منه، أو قرئ ذلك بالنصب على الحال بتقدير: لا مغضوبًا عليهم، أو على الاستثناء بتقدير: إلا المغضوب عليهم. فهو متعلق بما قبله في الوجهين جميعًا فلا يقطع منه إلا على غير الاختيار أو على جعل الاستثناء منقطعًا والوقف على ﴿ولا الضالين﴾ تام.
وإن وقف على رأس كل آية من هذه السورة على مراد التقطيع والترتيل فحسن، وقد وردت السنة بذلك عن رسول الله.
(١٤) حدثنا محمد بن أحمد بن علي الكاتب [قال]: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عن أم سلمة أن النبي ﷺ كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية، يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف ثم يقول: الحمد لله رب العالمين ثم يقف ثم يقول: الرحمن الرحيم [ثم يقف ثم يقول] ملك يوم الدين.
قال أبو عمرو: وقد ذكرت ما يكره الوقف عليه من المبدل منه دون البدل ومن المنعوت دون النعت، ومن المعطوف عليه دون العطف ومن المؤكد دون التأكيد وشبه ذلك في كتاب الوقف والابتداء ممثلًا مشروحًا، فأغنى عن إعادته ههنا، وبالله التوفيق.
1 / 17
سورة البقرة
الوقف على: ﴿الم﴾ حيث وقع تام إذا جعل اسمًا للسورة. والتقدير: اقرأ الم. أو جعل على تأويل: أنا الله أعلم. وذلك الاختيار. قال أبو حاتم هو كاف. وقال غيره: ليس بتام ولا كاف، لأن معناه: يا محمد ذلك الكتاب. وقيل: هو قسم. وقيل تنبيه. فهو على هذه الوجوه الثلاثة متعلق بما بعده لحصول الفائدة فيه، فلا يفصل منه لذلك. وهو حيث أتى رأس آية في الكوفي. وذلك من حيث كان جملة مستقلة وكلامًا تامًا.
﴿لا ريب فيه﴾ كاف. ويرتفع ﴿هدى للمتقين﴾ بإضمار «هو» . وقال نافع: لا ريب فيه، تام فيرتفع «هدى» على قوله «فيه» . ويكون [معنى]: لا ريب، لا شك. ويضمر العائد على الكتاب لاتضاح المعنى. ولو ظهر لقيل: لا ريب فيه فيه هدى. وحكى البصريون: إن فعلت فلا بأس. وحكى الكوفيون: إن زرتني فلا براح، أي لا بأس عليك ولا براح لك. فأضمروا خبر التبرئة.
﴿هدى للمتقين﴾ تام إذا رفع «الذين» بالابتداء، وجعل الخبر في قوله: ﴿أولئك على هدى من ربهم﴾ فإن رفع على المدح بتقدير: هم الذين، أو نصب ذلك بتقدير: أعني الذين، فالوقف على «المتقين» كاف. وإن خفض على النعت لـ «المتقين» فالوقف عليه حسن. وهذه الوجوه جائزة في كل ما يرد من نحو: الذين والذي، نعتًا كقوله: ﴿لعلكم تتقون. الذي جعل﴾ و﴿إلا الفاسقين الذين ينقضون﴾ و﴿بصير بالعباد. الذين يقولون﴾ و﴿فبشر عباد. الذين يستمعون﴾
1 / 18
وشبهه. ﴿ينفقون﴾ كاف. وقيل تام، لأنه انقضاء صفة مؤمني العرب. ثم ابتدأ [بذكر] صفة مؤمني أهل الكتاب.
﴿وما أنزل من قبلك﴾ كاف، ﴿هم يوقنون﴾ أكفى منه.
﴿المفلحون﴾ تام. ﴿لا يؤمنون﴾ كاف.
﴿وعلى سمعهم﴾ كاف، وقيل: تام. وروى المفضل عن عاصم ﴿وعلى أبصارهم غشاوةً﴾ بالنصب. فعلى هذا لا يوقف على «سمعهم» لأن «الغشاوة» منصوبة بفعل دل عليه «ختم»، إذ الختم في المعنى «جعل» فكأنه قال: وجعل على أبصارهم غشاوة. والوقف على «غشاوة» كاف على القراءتين، ﴿ولهم عذابٌ عظيم﴾ تام.
﴿وما هم بمؤمنين﴾ كاف. «والذين آمنوا» كاف، «إلا أنفسهم» كاف، «وما يشعرون» أكفى منه.
﴿في قلوبهم مرض﴾ كاف، أي: شك، ﴿فزادهم الله مرضًا﴾ أكفى منه، «يكذبون» كاف. وقيل: تام، لأنه آخر القصة.
﴿مصلحون﴾ كاف. ﴿ولكن لا يشعرون﴾ كاف. وقيل تام. ﴿كما آمن السفهاء﴾ كاف، ﴿ولكن لا يعلمون﴾ أكفى منه.
﴿مستهزئون﴾ كاف. وكان أبو حاتم يكره الابتداء بقوله: ﴿الله يستهزئ بهم﴾ وبقوله ﴿والله خير الماكرين﴾ وما أشبههما، والابتداء بذلك عندنا حسنٌ، والقطع قبله كاف، لأن معنى الاستهزاء والمكر من الله تعالى المثوبة والجزاء، أي: يجازيهم جزاء استهزائهم ومكرهم. وقيل: المعنى بأن يأتيهم بالعذاب الذي
1 / 19