Selecciones de los Ensayos de Emerson
مختارات من مقالات أمرسن
Géneros
ما أشق عمل في الدنيا؟ أن تفكر! وددت لو استطعت أن أقف الموقف الذي يمكنني من رؤية الحقيقة المطلقة رؤيا العين، ولكني لا أستطيع، فأرخي جفني وأركن إلى هذا الجانب أو ذاك. ويبدو لي أنني عندئذ أدرك ما قصده من قال: لا يستطيع أحد أن يرى الله وجها لوجه ثم يعيش بعد ذلك. ومثال ذلك أن يحاول المرء أن يكشف أساس الحكومة الأهلية. دعه يسلط عقله في اتجاه معين، بغير توقف أو راحة. إن خير ما عنده من التفات مهما طال أمده لا يجديه شيئا. ومع ذلك فإن الأفكار تفلت أمام عينيه. وقد يحدث له أي شيء إلا أن يفهم، ولا يتنبأ بالحقيقة إلا في صورة غامضة. تقول: سوف أمشي خارج بيتي فتتخذ الحقيقة صورتها وتتضح لي. ثم ننطلق ولكننا لا نعثر عليها. ويبدو لنا أننا نحتاج فقط إلى السكون والجلسة الهادئة في المكتبة كي نظفر بالفكرة. ولكننا نلجها، فإذا بنا على بعد منها كما كنا أولا. ثم تظهر لنا الحقيقة في لحظة وعلى غير انتظار. يظهر لنا ضوء شارد معين، وفي وضحه يظهر لنا المبدأ الذي ننشده. يبدو لي أن قانون العقل يشبه قانون الطبيعة الذي نشهق بموجبه الأنفاس ثم نزفرها، ويسحب بمقتضاها القلب الدم ثم يلفظه، أعني قانون التراوح. ولذا فعليك في فترة أن تعمل بذهنك، وعليك في لحظة أخرى أن تكف عن العمل، لترى ما تكشف عنه «الروح» العليا.
إن خلود الإنسان يبشر به التفكير العقلي كما تبشر به إرادة الإنسان المعنوية. كل تفكير في أساسه تطلع إلى المستقبل، وأقل قيمه قيمته الراهنة. أنعم النظر فيما يستهويك في فلوطارخس وشكسبير وسرفانتيس. إن كل حقيقة يحصل عليها كاتب من الكتاب هي مصباح يسلط كل ضوئه على الوقائع والأفكار التي كانت من قبل في عقله، ثم انظر إلى ما يحدث بعد ذلك، تجد أن الحصير والمهملات التي كانت تنتثر في برجه قد أصبحت أشياء ثمينة. كل واقعة تافهة في تاريخ حياته الخاصة تمسي وسيلة لإيضاح هذا المبدأ الجديد، وتعود إلى وضح النهار، وتستهوي الناس جميعا بقوتها وسحرها الجديد. ويتساءل الناس: أنى له هذا؟ ويظنون أن في حياته شيئا مقدسا. كلا، إن لديهم ألوف الوقائع التي لا تقل عن ذلك قيمة، وما عليهم إلا أن يحصلوا على مصباح ينبشون في ضوئه هم كذلك الطبقات العليا من ديارهم.
كلنا عقلاء. والفرق بين فرد وآخر ليس في الحكمة، ولكنه في المهارة. عرفت في ناد علمي شخصا يذعن لي دائما، رأى ميلي إلى الكتابة فتوهم أن تجاربي بها شيء أسمى مما لديه. في حين أني وجدت تجاربه لا تقل شأنا عن تجاربي. أعطني هذه التجارب، ولسوف أفيد منها نفس الفائدة. كان يتمسك بالقديم، ثم يتمسك بالجديد. أما أنا فقد تعودت أن أضم الجديد إلى القديم، وهو ما لم يتعود ممارسته. تجد ذلك في الأمثلة الكبرى. وربما لو أتيح لنا أن نلقى شكسبير لم نشعر بنقص شديد. كلا، بل نحس مساواة كبرى، مع فارق واحد فقط، وهو أنه كانت لديه مهارة غريبة في الإفادة من الحقائق وترتيبها، وهي المهارة التي تنقصنا؛ لأنا برغم عجزنا المطلق عن أن نخرج شيئا مثل هاملت أو عطيل، إلا أن لدينا جميعا استعدادا كاملا نتقبل به هذا الذكاء المفرط، وهذه المعرفة العميقة بشئون الحياة، وهذه الفصاحة الدافقة.
إذا جمعت تفاحا في ضوء الشمس، أو جففت الحشائش، أو قلمت الأرض لزراعة القمح، ثم أويت إلى بيتك، وأغمضت عينيك، وضغطت عليهما بيدك، فإنك لا تفتأ ترى التفاح معلقا في الضوء اللامع بين الأغصان والأوراق، كما ترى الحشائش المعشبة، أو سنابل القمح، لمدة خمس أو ست ساعات بعد ذلك. فإن آثار ما رأيت تنطبع في الإرادة الحافظة، حتى إن جهلت ذلك. وهكذا تستقر سلسلة الصور الطبيعية كلها التي عرفتك بها حياتك في ذاكرتك، حتى إن جهلت ذلك، ثم تلقي هزة من هزات العاطفة ضوءا خاطفا على مكانها المظلم، فتستولي القوة العاملة في الحال على الصورة الملائمة، وتجعلها الكلمة التي تفكر فيها في لحظة من اللحظات.
ينقضي زمن طويل قبل أن نكشف عما لدينا من ثراء. إننا على ثقة من أن تاريخنا مألوف جدا؛ فليس لدينا ما نكتبه أو نستخلصه. غير أن أحكم سنواتنا ما برحت تعود القهقرى نحو ذكريات الطفولة المحتقرة، فنتصيد دائما شيئا عجيبا من ذلك المستنقع، حتى نبدأ - بمرور الزمن - في الشك بأن سيرة الرجل الأحمق الواحد الذي نعرفه لا تقل في حقيقتها عن تفسير مختصر ل «تاريخ العالم» الذي يقع في مائة مجلد.
وفي العقل المنشئ، الذي نطلق عليه عادة اسم النبوغ، نلاحظ نفس الاتزان بين العنصرين الذي نلاحظه في العقل القابل. العقل المنشئ ينتج الأفكار والعبارات والقصائد والخطط والرسوم والنظم؛ فهي من توليد العقل، ومن تزاوج الفكر بالطبيعة. ولا بد للنبوغ من هبتين: الفكرة ونشرها، والأولى هي الكشف، وهي معجزة دائما، معجزة لا يجعلها أبدا تكرار الحدوث أو مواصلة الدرس أمرا مألوفا، ولكنها تترك المتسائل دائما في غباوة التعجب. هي إقحام الحقيقة في الدنيا، هي صورة من صور الفكر تنطلق الآن لأول مرة في العالم، هي وليدة الروح الأبدية القديمة، وجانب من العظمة الصادقة التي لا تحاط، وإنها لتبدو لأول مرة كأنها ترث كل ما سبق وجوده، وكأنها تملى على من لم يولد بعد. إنها تؤثر في كل فكرة من أفكار الناس، وتشكل كل نظام. ولكنها - لكي يسهل الحصول عليها - بحاجة إلى وسيلة أو إلى فن تنتقل عن طريقه إلى الناس. ولكي يمكن انتقالها يجب أن تتحول إلى صورة أو شيء محسوس، يجب أن تتكلم لغة الوقائع. إن أشد ضروب الإلهام عجبا ليموت مع الرجل الملهم إذا لم تكن له يد يصور بها إلهامه للحواس. إن شعاع الضوء يمر خلال الفضاء لا يراه أحد، ولا يرى إلا إذا سقط على شيء ما. والطاقة الروحية عندما تتجه إلى شيء خارجها، تصبح عند ذاك فكرة. والعلاقة بينها وبينك تجعلك أولا - أو تجعل قيمتك - تظهر لي. إن القدرة العقلية الفنية المبدعة عند المصور تخمد وتتلاشى إذا افتقد القدرة على التصوير. وفي ساعاتنا السعيدة يجب أن نكون شعراء لا ينضب لنا معين، إذا استطعنا مرة أن نشق الصمت بالنظم الملائم. وكما أن الناس جميعا يستطيعون الوصول بطريقة ما إلى الحقيقة الأولى، فكذلك لهم جميعا نوع من الفن أو القدرة على الاتصال في رءوسهم، ولكن هذه القدرة لا تهبط إلى اليدين إلا عند الفنان وحده. هناك مفارقة لم نعرف قوانينها بعد، بين رجلين وبين الرجل الواحد في لحظتين، بالنسبة لهذه المقدرة. في الساعات العادية تمر بنا الوقائع عينها التي تمر بنا في الساعات غير العادية أو في ساعات الوحي، ولكن هذه الوقائع لا تتأهب لتصويرها، ولا تنعزل، وإنما تشتبك في نسيج كنسيج العنكبوت. إن الفكرة النابغة تلقائية، ولكن القدرة على التصوير أو التعبير، في أغنى صوره وأكثرها فيضا، تتطلب مزيجا من الإرادة، وشيئا من السيطرة على الحالات التلقائية، وبدون ذلك لا يمكن الإنتاج. هذه القدرة هي تحول الطبيعة كلها إلى التعمق المفصح عن الفكرة، بالتوجيه الحكيم وبالتدريب العنيف على الاختيار. ومع ذلك فإن الألفاظ الخيالية تبدو كأنها تلقائية كذلك. إنها لا تتدفق من الخبرة وحدها أو أساسا، ولكنها تتدفق من ينبوع أغنى. إن الخطوط العظيمة للمصور لا ترسم بالتقليد المقصود لأشكال معينة، ولكنها ترسم بالرجوع إلى المصدر الرئيسي لجميع الأشكال في عقله. ومن ذا يكون أول أستاذ للرسم؟ إننا بغير تعليم نعرف فكرة الصور البشرية معرفة جيدة. يعرف الطفل إذا كان الذراع أو الساق شائهة في الصورة، وإذا كان الموقف طبيعيا أو عظيما، أو وضيعا، مع أنه لم يتلق أي درس في الرسم، أو استمع إلى أي حديث في الموضوع، ولا يستطيع هو نفسه أن يرسم بدقة لمحة واحدة. إن الصورة الحسنة تسر جميع العيون، قبل أن يبلغها أي علم بالموضوع بزمان طويل، والوجه الجميل يبعث النبض في عشرات القلوب، قبل أية معرفة بالنسب الآلية للرأس والملامح. وقد نكون مدينين للأحلام ببعض الضوء على مصدر هذه المهارة؛ لأننا بمجرد ما نبعد الإرادة، ونحل محلها حالة من حالات عدم الوعي، نرى كيف نمسي مصورين ماهرين! إننا نخيل لأنفسنا صورا عجيبة من الرجال والنساء والحيوان والبساتين والغابات والوحوش، والقلم الساحر الذي نرسم به بعد ذلك لا تلمس فيه انحرافا أو جهلا، أو ضعفا أو فقرا، إنه يحسن التصميم كما يحسن التنفيذ، وتأليفه مليء بالفن، وألوانه منسجمة متسقة، وقطعة الخيش كلها التي يصور عليها تكاد تنبض بالحياة، وهي قمينة بأن تبعث فينا الرعب أو الرقة أو التشوق أو الأسى. وليس ما ينقله الفنان من خبرته مجرد صور منقولة، ولكنها صور تتأثر وتتزين بألوان يستمدها من هذا المجال المثالي.
إن الشروط الضرورية للعقل المنشئ لا تظهر غالبا متحدة، ولكن العبارة الحسنة أو البيت الشعري الجميل يبقى جديدا ومذكورا مدة طويلة من الزمان. ومع ذلك فإننا عندما نكتب بسهولة، ونخرج إلى هواء الفكر الطلق، نبدو كأننا على ثقة من أنه ليس هناك ما هو أيسر من الاستمرار في هذا الاتصال حسبما شئنا. إن دولة الفكر ليست لها حدود في أعلاها أو أسفلها أو حولها، ولكن آلهة الفن تطلق لنا الحرية في ميدانها؛ ففي العالم ألف ألف كاتب. وإذن فقد يحسب المرء أن الفكرة الحسنة مألوفة كالماء والهواء، وأن هبات كل ساعة جديدة تستبعد الهبات الماضية. ولكنا مع ذلك نستطيع أن نعد كل ما لدينا من كتب جيدة. كلا، بل إني لأتذكر كل بيت جميل من الشعر مدى عشرين عاما. ومن الحق أن نقول إن العقل المدرك في الدنيا يتقدم دائما العقل المبدع بكثير؛ ولذا فهناك كثير من نقاد خير الكتب الأكفاء، وقليل من كتاب الكتب القيمة. غير أن بعض شروط الإنشاء العقلي نادر الحدوث. والعقل كل، يتطلب الكمال في كل عمل. ويقابل ذلك ويقف في سبيله تعلق المرء بفكرة واحدة، وطموحه إلى توحيد أفكار عديدة لا تحتمل التوحيد.
الحق عنصرنا في الحياة. وعلى ذلك فإن المرء إذا وجه انتباهه إلى وجه واحد من أوجه الحق، وحصر نفسه في هذا الجانب وحده مدة طويلة، فإن الحق يتشوه ولا يصبح حقا، بل باطلا. وهو في هذا يشبه الهواء، وهو عنصرنا الطبيعي، والأنفاس التي نستنشقها، ولكن إذا اتجه منه تيار على الجسم مدة طويلة، فإنه يسبب البرد، والحمى، بل والموت. ما أشقى النحوي ، والعالم بفراسة الرأس، والمتعصب السياسي أو الديني، أو - في الواقع - أي مخلوق تتملكه فكرة واحدة، فيفقد اتزانه بالمبالغة في موضوع واحد. إن ذلك إلا جنون في بدايته. وكل فكرة سجن كذلك. لا أستطيع أن أرى ما ترى؛ لأن ريحا شديدة قد أدركتني وقذفت بي في اتجاه واحد حتى أصبحت خارج نطاق أفقك.
وهل خير من هذا أن يحاول الطالب - كي يتحاشى هذا الخطأ وكي يحرر نفسه - أن يهدف إلى إيجاد كل آلي في التاريخ، أو العلم، أو الفلسفة، بإضافة عددية لجميع الوقائع التي تقع تحت بصره؟ إن العالم يرفض أن يحلل بالجمع أو بالطرح. كم من الوقت ننفق وكم من الآلام ما نعاني في شبابنا في ملء كراساتنا بجميع تعاريف الدين، والحب، والشعر، والسياسة، والفن، آملين في خلال سنوات قلائل أن نلخص في موسوعتنا ما يصفو من قيمة جميع النظريات التي بلغها العالم. ولكن قوائمنا لا تصل إلى الكمال برغم مرور الأعوام، ونكتشف أخيرا، أن منحنانا قطع مخروطي، لا يلتقي قوساه.
إن كمال العقل لا ينتقل إلى عمله بالفصل أو بالوصل، ولكنه ينتقل بالملاحظة التي تحرك العقل وهو في عظمته وخير حالاته إلى العمل في كل لحظة. ولا بد أن تكون له الكلية ذاتها التي للطبيعة. ومع أن الاجتهاد لا يمكنه أن يعيد إنشاء الدنيا في نموذج، بجمع التفصيلات أو التصرف فيها على خير وجه، إلا أن الدنيا تظهر في صورة مصغرة في كل حادث بحيث تمكن مطالعة جميع قوانين الطبيعة في أصغر واقعة. ويجب أن يكون للعقل نفس هذا الكمال في إدراكه وفي أعماله. من أجل هذا كان أساس الكفاية العقلية أو مركز قوتها هو إدراك هذا التطابق. إننا نتحدث إلى أشخاص مهذبين يظهرون غرباء في الطبيعة؛ فالسحابة، والشجرة، والعشب، والطير، ليست لهم، وليس بها شيء منهم. وليست الدنيا لهم سوى مسكن ومائدة. ولكن الشاعر الذي تكون أبياته شاملة كاملة رجل لا تستطيع الطبيعة أن تخدعه، أيا كان وجه الغرابة الذي تتخذه. إنه يحس قرابتها الشديدة، ويكتشف في تقلباتها تشابها أكثر مما يكتشف فيها تنوعا. إن شهوة الفكرة الجديدة توخزنا، غير أننا بعدما نستقبل الفكرة الجديدة نجد أنها ليست سوى الفكرة القديمة اتخذت وجها جديدا، وبالرغم من امتلاكنا لها، إلا أننا نشتهي غيرها في الحال؛ فنحن في الواقع لا تزداد ثروتنا؛ لأن الحق كان كامنا فينا قبل أن تنعكس هذه الفكرة من الأشياء الطبيعية. وصاحب النبوغ النافذ يصب تشابه المخلوقات جميعا في كل عمل ينتجه عقله.
Página desconocida